يهاجم جيل دولوز بعنف ساخر أولئك الذين يجعلون من الكتابة استعادة لذكرياتهم الشخصية. وهو يعتقد أن الكتابة ليست هي أن تحكي ذكرياتك وأسفارك ومغامراتك العاطفية وأمراضك وأحزانك وأحلامك وأوهامك. "أن تبالغ في الواقعية أو التخييل، فالأمر سيّان: في الحالتين كلتيهما، يتعلق الأمر بحكاية بابا-ماما، والبنية الأوديبية التي نُسقطها على الواقع، أو التي نستبطنها في الخيال. ففي نهاية المسار سيتعلق الأمر بالبحث عن أب، كما في الحلم، وذلك ضمن مفهوم عن الأدب يحيل إلى الطفولة. أكتبُ من أجل بابا-ماما".
لا علاقة للكتابة بما هو شخصي، بل إن لها علاقة بالحياة. لكن الحياة أمر يتعدّى الأشخاص، والانكباب على ما هو شخصي يحُول بين الكاتب وبين "أن يَرى". أنت تكتب لأن شيئا من الحياة يمرّ عبرك. ليست الكتابة قضية أرشيفات وتوثيق. وليست مهمة الكاتب أن ينقّب في أرشيفه. فأن يقتصر الأديب على طفولته وذكرياته الشخصية أمر لا يعني أحدا، بل قد لا تكون هناك جدوى من ورائهعلى الإطلاق. الكتابة شهادة للحياة ومن أجلها. ليست الكتابة تسجيلَ ذكريات، ولعلها، بالأولى، تفجيرٌ لها وللّغة التي سُطرت بها. إنّها أساسا نسيان.
عن هذا النسيان وعن دور الذاكرة ووظيفتها في الكتابة كان المفكّر نفسه قد قرأ في الأبجدية نصّا لشاعر روسي: "وقَع بين يديّ كتاب لشاعر روسي لم أكن أعرفه وهو مانديلستام يقول فيه: "أجدني عاجزا تمام العجز عن فهم كُتّاب مثل تولستوي، عاشق الوثائق العائلية بملحماتها القائمة على ذكريات مألوفة. أصرّ على القول: ذاكرتي ليست من حُبّ، وإنّما من عداء. وهي تعمل، لا على إعادة إنتاج الماضي، وإنّما على استبْعاده. بالنسبة إلى مثقف ينحدر من أصول وضيعة، الذاكرة لا يُعوَّل عليها. يكفي هذا المثقفَ أن يتحدّث عن الكتب التي قرأها، كي تكون سيرة حياته قد تمّت كتابتها. بينما تتخذ الملحمة عند الأجيال المحظوظة، شكل حكايات، ففيما يخصّني هناك علامة فجوة. بيني وبين القرن تقوم هوة ممتلئة زمناً يعجّ صخبا. ماذا تعني الأسرة بالنسبة لي؟ لست أدري. لقد وُلدَت متلعثمة، ومع ذلك كان لها ما تقوله. فيما يخصّني، وما يخصّ معاصريّ، فإن تلعثم الموْلد يُثقل علينا. لقد تعلّمنا لا أن نتكلم وإنّما أن نتلعثم. وبفضل إصغاء السمع للضوضاء المتصاعدة للقرن، تَمكنّا من أن نكتسب لغة".
أمران يمكن استخلاصهما من هذا النصّ القويّ: أوّلهما أنّ الذاكرة ليست قدرة على الإحياء والاستعادة بقدر ما هي قدرة على الاستبعاد، وأن الأدب ليس انشغالا وثائقيا. والأمر الثاني، أن لغة الكتابة الأدبية ليست ترديدا لماض مخزّن، ليست ذخيرة.الأدب يتجلّى في مظهرين، من حيث إنه يحدث شرخا في اللغة الأم، وأيضا من حيث إنّه يبدع لغة في اللغة. إنه تلعثم في اللغة.
قبل أن نفصّل النقطة الثانية لا بأس أن نشير إلى أنّ ما يقوله مانديلستام من كون الذاكرة قدرة على استبعاد الماضي هو ما كان نيتشه كتبه حول النسيان في الجزء الثاني من "اعتبارات في غير أوانها" حيث قال: "لنتصوّر إنسانا لا يملك القدرة على النسيان، إنسانا حُكم عليه بأن يرى في كل شيء صيرورة متواصلة، إنّ هذا الإنسان لن يؤمن حتى بوجوده الخاص، لن يؤمن بذاته. إنه سيرى كل شيء قد انحلّ إلى ما لانهاية له من النقط المتحرّكة، وسينتهي بأن يَضيع في هذه الصّيرورة الجارفة، وكتلميذ وفيّ لهيرقليطس، فإنّه لن يجرؤ على رفع أدنى صوت احتجاج ضدّ ذلك. كلُّ فعل يقتضي النسيان، مثلما أن كلّ حياة عضوية لا تتطلّب النّور وحده، وإنما تقتضي الظلمة. إنّ الإنسان الذي يريد أن ينظر إلى الأشياء فقط نظرة تاريخية، هو مثل إنسان مُنِع من النّوم، أو مثل حيوان لا يعمل طيلة الوقت إلا على اجترار الطّعام ذاته. من الممكن للمرء أن يعيش سعيدا من دون حاجة إلى ذاكرة على وجه التقريب، شأنه شأن الحيوان. إلاّ أنّه من المستحيل عليه أن يعيش من غير نسيان. "
ما يضيفه نصّ نيتشه هنا هو أنّ الذّاكرة، والحضور المفرط للماضي يجعل الإنسان "لا يشعر حتّى بوجوده الخاص، ولن يؤمن بذاته، فينحلّ إلى نقط متحركة ويضيع في الصيرورة الجارفة." فكأنّ الاستحضار المفرط للماضي يشتت الهوية بدل أن يبنيها. هذا بالضبط ما كان بورخيس قد أوضحه في قصته "فونيس والذاكرة" موظفا فكرة نيتشه هذه.
لنعد إلى النقطة الثانية التي يقول فيها ماندلستام إنّ الكتابة تتجلى في مظهرين، من حيث إنّها تُحدث شرخا في اللغة الأم، وأيضا من حيث إنّها تبدع لغة في اللغة. فهي أساسا تلعثم في اللغة. "ما يقوم به الأدب في اللغة يتجلى بكيفية أكثر وضوحا: فالأدب، كما يقول بروست، يرسم في اللغة نوعا من اللغة الأجنبية، التي ليست لغة أخرى، ولا لهجة مستعادة، وإنّما صيرورة اللغة آخرَ، سعي أقلّي لهذه اللغة الأغلبية، هذيان يفرض ذاته، خط عجيب ينفلت من المنظومة المهيمنة". عندما يدفع الكاتب اللغة حتى درجة التلعثم، فإنّه لا يستعيد طفولته، وإنّما يولّد لغة، لا يستعيد طفولته، وإنما يصير طفلا. إنه لا يقول كنت الطفل الفلاني، وإنّما كنت طفلا من غير تعريف. لا يعني ذلك أنه يحيي طفولته الشخصية، وإنّما يصير طفولةَ عالم.
يفتتن دولوز بما أنجزه الأدب الأميركي في هذا المضمار، وبما تميَّز به من قدرة على إنتاج كتَّاب تمكّنوا من أن يحكوا عن ذكرياتهم الخاصّة، لك كأنها ذكريات شعب كوني يتكون من مهاجري البلدان جميعها. تلك، على سبيل المثال، حال توماس وولف الذي "يدوّن كل أميركا من حيث يمكنها أن توجد في تجربة إنسان واحد بعينه". عن طريق الكتابة تصير تجربة إنسان واحد تجربة عالم، كما تغدو اللغة الأمّ لغة أجنبية.
لا علاقة للكتابة بما هو شخصي، بل إن لها علاقة بالحياة. لكن الحياة أمر يتعدّى الأشخاص، والانكباب على ما هو شخصي يحُول بين الكاتب وبين "أن يَرى". أنت تكتب لأن شيئا من الحياة يمرّ عبرك. ليست الكتابة قضية أرشيفات وتوثيق. وليست مهمة الكاتب أن ينقّب في أرشيفه. فأن يقتصر الأديب على طفولته وذكرياته الشخصية أمر لا يعني أحدا، بل قد لا تكون هناك جدوى من ورائهعلى الإطلاق. الكتابة شهادة للحياة ومن أجلها. ليست الكتابة تسجيلَ ذكريات، ولعلها، بالأولى، تفجيرٌ لها وللّغة التي سُطرت بها. إنّها أساسا نسيان.
عن هذا النسيان وعن دور الذاكرة ووظيفتها في الكتابة كان المفكّر نفسه قد قرأ في الأبجدية نصّا لشاعر روسي: "وقَع بين يديّ كتاب لشاعر روسي لم أكن أعرفه وهو مانديلستام يقول فيه: "أجدني عاجزا تمام العجز عن فهم كُتّاب مثل تولستوي، عاشق الوثائق العائلية بملحماتها القائمة على ذكريات مألوفة. أصرّ على القول: ذاكرتي ليست من حُبّ، وإنّما من عداء. وهي تعمل، لا على إعادة إنتاج الماضي، وإنّما على استبْعاده. بالنسبة إلى مثقف ينحدر من أصول وضيعة، الذاكرة لا يُعوَّل عليها. يكفي هذا المثقفَ أن يتحدّث عن الكتب التي قرأها، كي تكون سيرة حياته قد تمّت كتابتها. بينما تتخذ الملحمة عند الأجيال المحظوظة، شكل حكايات، ففيما يخصّني هناك علامة فجوة. بيني وبين القرن تقوم هوة ممتلئة زمناً يعجّ صخبا. ماذا تعني الأسرة بالنسبة لي؟ لست أدري. لقد وُلدَت متلعثمة، ومع ذلك كان لها ما تقوله. فيما يخصّني، وما يخصّ معاصريّ، فإن تلعثم الموْلد يُثقل علينا. لقد تعلّمنا لا أن نتكلم وإنّما أن نتلعثم. وبفضل إصغاء السمع للضوضاء المتصاعدة للقرن، تَمكنّا من أن نكتسب لغة".
أمران يمكن استخلاصهما من هذا النصّ القويّ: أوّلهما أنّ الذاكرة ليست قدرة على الإحياء والاستعادة بقدر ما هي قدرة على الاستبعاد، وأن الأدب ليس انشغالا وثائقيا. والأمر الثاني، أن لغة الكتابة الأدبية ليست ترديدا لماض مخزّن، ليست ذخيرة.الأدب يتجلّى في مظهرين، من حيث إنه يحدث شرخا في اللغة الأم، وأيضا من حيث إنّه يبدع لغة في اللغة. إنه تلعثم في اللغة.
قبل أن نفصّل النقطة الثانية لا بأس أن نشير إلى أنّ ما يقوله مانديلستام من كون الذاكرة قدرة على استبعاد الماضي هو ما كان نيتشه كتبه حول النسيان في الجزء الثاني من "اعتبارات في غير أوانها" حيث قال: "لنتصوّر إنسانا لا يملك القدرة على النسيان، إنسانا حُكم عليه بأن يرى في كل شيء صيرورة متواصلة، إنّ هذا الإنسان لن يؤمن حتى بوجوده الخاص، لن يؤمن بذاته. إنه سيرى كل شيء قد انحلّ إلى ما لانهاية له من النقط المتحرّكة، وسينتهي بأن يَضيع في هذه الصّيرورة الجارفة، وكتلميذ وفيّ لهيرقليطس، فإنّه لن يجرؤ على رفع أدنى صوت احتجاج ضدّ ذلك. كلُّ فعل يقتضي النسيان، مثلما أن كلّ حياة عضوية لا تتطلّب النّور وحده، وإنما تقتضي الظلمة. إنّ الإنسان الذي يريد أن ينظر إلى الأشياء فقط نظرة تاريخية، هو مثل إنسان مُنِع من النّوم، أو مثل حيوان لا يعمل طيلة الوقت إلا على اجترار الطّعام ذاته. من الممكن للمرء أن يعيش سعيدا من دون حاجة إلى ذاكرة على وجه التقريب، شأنه شأن الحيوان. إلاّ أنّه من المستحيل عليه أن يعيش من غير نسيان. "
ما يضيفه نصّ نيتشه هنا هو أنّ الذّاكرة، والحضور المفرط للماضي يجعل الإنسان "لا يشعر حتّى بوجوده الخاص، ولن يؤمن بذاته، فينحلّ إلى نقط متحركة ويضيع في الصيرورة الجارفة." فكأنّ الاستحضار المفرط للماضي يشتت الهوية بدل أن يبنيها. هذا بالضبط ما كان بورخيس قد أوضحه في قصته "فونيس والذاكرة" موظفا فكرة نيتشه هذه.
لنعد إلى النقطة الثانية التي يقول فيها ماندلستام إنّ الكتابة تتجلى في مظهرين، من حيث إنّها تُحدث شرخا في اللغة الأم، وأيضا من حيث إنّها تبدع لغة في اللغة. فهي أساسا تلعثم في اللغة. "ما يقوم به الأدب في اللغة يتجلى بكيفية أكثر وضوحا: فالأدب، كما يقول بروست، يرسم في اللغة نوعا من اللغة الأجنبية، التي ليست لغة أخرى، ولا لهجة مستعادة، وإنّما صيرورة اللغة آخرَ، سعي أقلّي لهذه اللغة الأغلبية، هذيان يفرض ذاته، خط عجيب ينفلت من المنظومة المهيمنة". عندما يدفع الكاتب اللغة حتى درجة التلعثم، فإنّه لا يستعيد طفولته، وإنّما يولّد لغة، لا يستعيد طفولته، وإنما يصير طفلا. إنه لا يقول كنت الطفل الفلاني، وإنّما كنت طفلا من غير تعريف. لا يعني ذلك أنه يحيي طفولته الشخصية، وإنّما يصير طفولةَ عالم.
يفتتن دولوز بما أنجزه الأدب الأميركي في هذا المضمار، وبما تميَّز به من قدرة على إنتاج كتَّاب تمكّنوا من أن يحكوا عن ذكرياتهم الخاصّة، لك كأنها ذكريات شعب كوني يتكون من مهاجري البلدان جميعها. تلك، على سبيل المثال، حال توماس وولف الذي "يدوّن كل أميركا من حيث يمكنها أن توجد في تجربة إنسان واحد بعينه". عن طريق الكتابة تصير تجربة إنسان واحد تجربة عالم، كما تغدو اللغة الأمّ لغة أجنبية.