أمل الكردفاني - البحث.. قصة قصيرة

وصلت إلى مكتبي مبكراً، كان المشوار بالأقدام من المنزل وحتى العمل حوالى ثلاثة كيلومترات. وفي هذا الصباح الشتوي، كان يغمرني شعور عدمي، لكنني على كل حال وصلت إلى العمل، وجلست لألتقط أفكاري المبعثرة، محاولاً وضع خارطة نجاة من هذا اليوم كعادتي. خارطة النجاة هي أن أغرق في العمل، أو أن أفعل أي شيء جاد، لأشعر بأن هناك جدوى من هذا النهار. مع ذلك فالزمن يتدفق ببطء، وأرى باقي الموظفين يدخلون الواحد بعد الآخر. كان ذلك مشهداً عبثياً بكل ما تعنيه الكلمة. إذ يتوحد البشر في رؤيتهم للحياة كاسراب الطيور. العمل من أجل حياة لا يحيونها، ومن أجل عيش لا يعيشونه كما يجب.
في منتصف النهار، أرى العصافير تحط على شجرة منبثقة وسط الأسفلت. تزقزق، وترتعش ثم تتقافز قبل أن تطير. حينها يأتي السناري، الموظف شبه الأعمى ليحدثني عن أخبار اليوم، ولكنه اليوم مر بي عابراً وهو يقول:
- لقد انتحر شاقاي الاريتري.
ومضى دون أن يتوقف.
علمت بعدها أن شاقاي الأريتري قد انتحر بالفعل. فابتسمت مندهشاً من جرأته تلك. وأما الزملاء فكانوا مندهشين من انتحار شاقاي لأنه لم يعطهم أي انطباع باي سوداوية تعتمل في أعماقه.
لقد انتحر شاقاي وكفى.
لكن لا.. ليس هكذا آخذ الأمور، فلا بد من أن أعرف كيف واتته الشجاعة لاتخاذ ذلك القرار الخطير بالمقاومة. وبالفعل ذهبت إلى منزله، ورأيت جموع المعزين وهم يجلسون في كل مكان، وكانت شقيقته تكفكف دمعها بصعوبة، وتتلقى التعازي. حينها قررت العودة في وقت لاحق لاستكشف عالم شاقاي الخفي.
بعد اسبوع توجهت مرة أخرى إلى منزل شاقاي، وطرقت الباب لتتلقاني شقيقته وتطلب مني الدخول.
- أشكرك على قدومك مرة أخرى..
- شاقاي كان زميلي في العمل..
- نعم..
وبصعوبة تمكنت من تجميع الكلمات المناسبة:
- هل كانت تبدو عليه علامات اكتآب؟
هزت رأسها نفياً..
قلت:
- لا يمكن تصديق ما حدث.. أريد فقط أن أفهم السبب.. أن أجد ولو إشارة تدلني على شيء!
قالت بصوت خفيض:
- لا أحد يعرف.. لقد أطل من سطح المنزل، وطلب من صاحب المنزل الواقف في الأسفل أن يبتعد قليلاً.. طلب ذلك مبتسماً ثم قفز.. قال صاحب المنزل بأنه لم يفهم ما قاله شاقاي ثم لم يفهم شيئاً حين رأى شاقاي يقفز من السطح وجثته تسقط بقوة نحوه، لكنها توقفت فجاء ما بين السماء والأرض متدلية من أنشوطة المشنقة. كان ذلك مشهداً مسرحياً لأن شاقاي مات مبتسماً ولسانه يتدلى من جانب فمه الأيمن..
- ألم تلاحظوا أي علامات قبل انتحاره..
- لا
قلت بإصرار:
- أريد أن أرى غرفته..
نهضت وأشارت لي بأن أتبعها:
- لقد فتشت الشرطة كل شيء ولم تجد أثراً..
كانت الغرفة مرتبة، وكل شيء يبدو في مكانه الصحيح..
- هل كان يرسم؟
نفت ذلك بهزة من رأسها.
- هل كان يكتب شعراً أو قصصاً أو حتى مجرد خواطر..
- لا.. كان يذهب إلى العمل ويعود منه كالمعتاد.. يأكل ويرتاح قليلاً ثم يشاهد التلفاز قبل أن ينام.. لم يكن لديه أي هوايات ولا حتى سماع الأغاني..
- شيء غريب..
غادرتُ منزل شاقاي، دون أن أصل إلى نتيجة تذكر.. وحين قصصت ذلك على العم خيري في المساء نظر إلى الأفق وقال:
- لن تجد شيئاً..
قلت:
- لماذا؟
قال وهو يدس الصعوط بين لثته وشفته اليسرى:
- لقد اتخذ قراره فقط.
قلت:
- ولكن كيف؟..
قال:
- هكذا فقط.. اتخذ القرار بكل تجريد ودون أن يضع أي اعتبارات أخرى.. كان يدرك بأنه لو فكر قليلاً فسوف تخونه شجاعته..
- ولكنه لم يكن سوداوياً ولا مكتئباً..
- ولذلك فقراره كان عقلانيا وحاسماً.. قرر ونفذ..
عندما رقدت على سريري بدأت أفكر في ما قاله العم خيري.. ماذا لو فكرت أنا كذلك في الانتحار؟ نعم.. سأنجز الأمر بسرعة.. ولكنني سأخلف ألما بالغاً لمن يعرفونني، أهلي وأحبائي، وسيشمت الشامتون من أعدائي.. كنت كلما فكرت في الأمر كلما أصبح قتل نفسي أكثر صعوبة.. بالفعل.. إن أردت شيئاً فافعله ثم فكر بعد ذلك.. ولكن كيف سأفكر وأنا ميت.. عند هذه النقطة بدأت أضحك.
في اليوم التالي؛ وصلت إلى مكتبي مبكراً، كان المشوار بالأقدام من المنزل وحتى العمل حوالى ثلاثة كيلومترات. وفي هذا الصباح الشتوي، كان يغمرني شعور عدمي. لكنني على كل حال وصلت إلى العمل، وجلس لألتقط أفكاري المبعثرة، محاولاً وضع خارطة نجاة من هذا اليوم كعادتي.
(تمت)
التفاعلات: آدم بشير تاور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...