كل الناس يتحدثون عني هذه الأيام.. لكن لا أحد يعرف من أين جئت، وكيف كبرت بسرعة.
قلبي أبيض وطيب. كل ما تسمعون عني من الكلام الساقط مجرد باطل لتلويث صورتي، والحط من كرامتي..
والدي مثلكم مواطن بسيط من القاع الشعبي.. يعمل بيديه لنأكل.. كان يقول لنا دائما:
ـ يا أولاد.. البطنة تُذهب الفطنة.. الطعام ليس كل شيء في الحياة.. يمكن أن نأكل القليل، ونعيش بكرامة.. اللقمة الحلال تُشبع البطن الجوعان.. ولو هبطت إلى مستوى الخبز والشاي، فإنها تصنع الكرامة..
علمنا حب بعضنا البعض.. علمنا أن نقف بجانب بعضنا.. كان دائما يقول:
ـ عمر الدم ما يصير مية.. العائلة هي الحضن الدافئ الذي تلجؤون إليه إذا ضاقت بكم الحياة..
زرع فينا الحب وأخلاق الكبار، ثم رحل في صمت.. لم يترك لأمي لا قسيمة تقاعد، ولا رصيدا في البنك.. بيت صغير، ودكان في السوق تعود ملكيته للأحباس..
حل الأخ الأكبر محله.. قال:
ـ أنا أخوكم وأبوكم.. لا شيء سيتغير
سرنا على نفس الدرب.. بدأت أكبر.. حصلت على الباك، ثم الإجازة بميزة حسن جدا.. كنت أطمع في الماستر، وبعدها الدكتوراه.. جاءني أخي الأكبر.. خرجنا في جولة.. قال:
ـ اسمع يا سعد.. الحياة تعقدت.. صرنا ثمانية أنفس.. الأفواه تحتاج إلى طعام لتعيش.. دخل الصنعة يتراجع.. الحمل ثقُل علي.. أحتاج إلى مساعدتك.. أقترح أن تبحث عن عمل، وتتابع دراستك بشكل مستقل إن شئت.. لو كان أبوك حيا لقال لك نفس الكلام.. فكر في الأمر!
لم أنم ليلتها.. كنت آكل وأشرب وأنام من غير أن أفكر كيف؟ أحمد تحمل ما لا يُطاق.. أحمد كان دولة داخل الأسرة عليه أن يعمل، ويُعيل أسرته الصغيرة، ويُعيلنا نحن الاربعة.. يؤدي عنا مصاريف الغذاء واللباس والتمدرس والتطبيب. ويسأل في المساء عندما يعود إلى البيت، كيف مر يومنا في المدرسة؟ أمي وأختي تعلمتا الخياطة والطرز..
كنا خمسة قبل أن يتزوج أحمد وينجب طفلين، فأصبحنا ثمانية..
اجتزت امتحان مدرسة المعلمين، ونجحت بتفوق.. قضيت سنتين في مركز التكوين.. عندما نشرت الوزارة تعيينات الخريجين الجدد، طوحت بي بعض الأيادي الخفية إلى أعلى نقطة في جبال الأطلس..
أمي أقامت حفلا صغيرا لجاراتها.. حضرته حليمة بنت جارنا سي العربي، الطفلة التي أحببت في صغري.. كانت أمي دائما تهمس في أذني:
ـ اقرأ يا سعد، وانجح بسرعة، وعندما تكبر سأخطبها لك..
كتبت لها عشرات الرسائل، لكن لم أبعث بأي منها.. عثر أحمد أخي الأكبر على واحدة.. واخذني معه في جولة خارج الحي، وشرح لي بأنه لا زالت أمامي مسؤوليات جسام، وأن الحب سيصرفني ويشغلني عن الدراسة.. قطعت له وعدا بأن أكف عن هذه الحماقات.. أحرقت الرسائل، وأحرقت معها قلبي.. لم تسمح لنا الظروف أن نحب مثل بقية المراهقين والمراهقات..
ذهبت في بداية الموسم إلى الجبل.. كان أخي الأكبر يقترض لي من أصدقائه مبلغا من المال أعيش به حتى تصرف لي الوزارة أجرتي..
بدأت أدرك كم هي صعبة الحياة، مثلها مثل طريق الجبل.. توقفت الحافلة عند الكيلومتر 90 . قال مساعد السائق:
ـ انزل وانتظر، قد يأتي فلاح من هناك، ويأخذك معه إلى القرية، سمعت أنها تبعد بعشر كيلومترات، والطريق وعرة لا تمر منها سيارات..
انتظرت ثلاث ساعات في الخلاء.. أخيرا ظهر لي مواطن يركب بغلا.. المصيبة أنه لا يتكلم العربية، وأنا لا أتكلم الأمازيغية.. تواصلنا بلغة الإشارة.. أظن أنه فهم بأني المعلم الجديد الذي عينته الوزارة بالقرية.. أخذ عني المتاع، وحمله على البغل، وسرت خلفه.. التضاريس وعرة.. قلبي يخفق بشدة.. لم أألف صعود العقبات بهذا الشكل.. تجلّدت.. أبي علمني ألا أشكو من الصعاب.. الرجل يلتفت إلي بين الفينة والأخرى.. ننظر أحيانا إلى بعضنا، ولا نتكلم.. عندما وصلنا منعرجا خطيرا في الأعلى، نزل من على ظهر البغل، وطلب مني أن أركب، وأغمض عيني.. قاد البغل، وسار أمامي.. نظرت خلسة إلى الأسفل، شعرت برأسي يدور.. تعجبت كيف يعيش الناس في هذا العالم الذي يدور فيه الرأس عندما تصعد، أو تنزل منحدرا بهذا الشكل.. لا شيء سهل في الحياة.. حمدت الله أني كنت أعيش في المدينة، وأسير في طريق مستو، لا أشعر لا بصداع ولا بدوخة..
هبطنا منحدرا آخر، فلاحت لنا القرية من بعيد.. وصلنا قبل غروب الشمس بقليل.. كم مر من الوقت؟ الوقت هنا غير مهم.. المهم أن تصل إلى المكان الذي تريد قبل أن يحل الظلام.. عند المدخل قدم الأطفال يجرون نحونا.. الشياطين حدسوا من بعيد بأني المعلم الجديد.. استقبلوني بالابتسام والضحك، وبعضهم مد يده لي.. تكلموا مع الرجل بالأمازيغية..
طلبت التسليم من أهل المكان.. كان والدي دائما يفعل ذلك عندما يدخل مكانا لم تطأه قدماه من قبل.. ربما كان يعتقد بأن الأمكنة تسكنها أرواح الناس الذين رحلوا إلى العالم الآخر.. وضعت متاعي في غرفة مظلمة بجانب القسم.. طلب الرجل الذي اصطحبني من أحد الأطفال أن يترجم لي ما سيقوله:
ـ مرحبا بك.. اعتبر نفسك بين أهلك.. اترك متاعك في الغرفة.. لا تخف، لا لصوص لدينا هنا.. سأعود بعد قليل لآخذك قصد تناول العشاء معي في البيت..
كانت ليلة رهيبة.. لأول مرة أبيت وحيدا في مكان غريب، بعيدا عن أمي وإخوتي، وبين ناس لا أتكلم لغتهم، ولا يتكلمون لغتي..
نمت في غرفة عند الرجل الذي قادني إلى القرية.. أيقظني صياح الديكة مع الفجر.. بقيت تحت الغطاء أنتظر أن ينهض مضيفي.. في الصباح بعد تناول وجبة الفطور، أمر ابنته بأن تنظف الغرفة التي سأسكن فيها، أما أنا فقد دخلت إلى القسم، ونظفته رفقة الأطفال.. مسحنا النوافذ بقطع مُبللة من الثياب، وغسلنا الطاولات والكراسي، وأخرجناها إلى ساحة صغيرة أمام باب القسم لتنشفها الشمس.. جففنا القاعة.. لحسن الحظ المدرسة لا تبعد عن الوادي إلا ببضعة أمتار.. الوادي تحيط به أحجار بيضاء تلمع، تتوسط أشجارا باسقة.. سأعرف فيما بعد بأنها أشجار الجوز.. في النصف الثاني من اليوم طلبت من الأطفال أن يلتحقوا بالدراسة..
بدأت العمل.. وبدأت الحياة الجديدة..
عندما أنتهي من العمل داخل الفصل في المساء، أوقد شمعة في الغرفة، وأشعل المذياع، وأهيئ براد شاي، وأتناول كسرة خبز مع قليل من زيت الزيتون.. أراجع دفاتر التلاميذ وأصححها، وأهيء درس الغد.. ما تبقى من الوقت أقضيه إما في المطالعة، أو التفكير في أمي وإخوتي.. كل وقت يمر بي أتذكر ماذا كنت أفعل؟ وأين؟ ومع من قبل أن أنتقل إلى هذا المكان المقدس الذي سترتبط به حياتي وحياة أكثر من ثمانية أنفس؟!..
أمي كانت تجلس في وسط المنزل في المساء.. تهيئ القهوة بالحليب، وتضع الصينية أمام أحمد ابنها البكر.. كنا ننتظر بشغف أن يُفرغ أحمد القهوة في الكؤوس، ويوزعها علينا.. والأم تقطع كسر الخبز الساخنة، وتضع فيها الزبدة التي تذوب بسرعة، وتترك مذاقا لذيذا مع القهوة بالحليب والعطور التقليدية..
بعد خمسة أشهر توصلت بأجرتي.. مبلغ كبير لم يقع مثله في يدي من قبل.. اعدت القروض التي استلفتها، وقدمت ثلث ما تبقى لأمي ومثله لأحمد واحتفظت بالثلث.. خرجت مع أخي الأصغر اشتريت له بذلة، وحذاء رياضيا، وقدمت لأختي فاطمة مبلغا لتشتري جلبابا، أو كسوة جديدة.. ذاب المبلغ الكبير في رمشة عين..
الأيام تمر بسرعة.. تحولت إلى دولة داخل الأسرة.. أخذت مكان أحمد أخي الأكبر.. أصبح علي أن أطعم، وأكسي، وأهتم بصحة أفراد الأسرة والأقارب والمعارف..
تخلف مرة تلميذ نجيب كان يدرس عندي بالقسم.. زرته في البيت لأسأل عنه.. كان يوم عطلة.. وجدته مريضا.. أخذته للطبيب.. المستوصف بالمركز يبعد بعشرين كيلومترا عن القرية.. لحسن الحظ استلفت بغلا من أحد السكان، واضطررت أن أؤدي عنه مصارف الوصفة الطبية وطعام الغذاء.. أشتري لبعض التلاميذ المعوزين الدفاتر والأقلام واللُّعب أيضا.. في منتصف الشهر أصبح ربنا خلقتنا.. أتحايل على الطعام.. أصبحت مثل المتصوفة.. أعمل بنصيحة والدي على أن البطنة تُذهب الفطنة، فلا أتناول إلا ما يسُدّ الرمق..
عندما أعود إلى المدينة أرى الأغبياء من أبناء شعبي يحتلون المناصب العليا، ويعبثون بالمال العام، قلت:
ـ لا يا سعد!
ـ أنت أولى منهم..
ـ انت تُعلم الأطفال، وتصنع منهم رجال الغد..
ـ أنت لا تملك غير القليل، ورغم ذلك تقتسمه مع المحتاجين من أقاربك ومعارفك..
ـ أنت غدا سيصبح لك زوجة وأبناء.. العائلة ستكبر، وستكبر معها المسؤولية..
ـ أنت الدعم الاجتماعي..
ـ أنت الدعم الصحي..
ـ أنت الدعم النفسي ..
ـ أنت تحل للدولة أكثر المشاكل تعقيدا..
ـ أنت ضمر المجتمع..
ـ أنت أولى بأن تُكرّم، وأن تُخصص لك الدولة أجرا يوازي ما تقوم به..
ـ أنت الدولة يا سعد؟!..
مراكش 15 نونبر 2023
قلبي أبيض وطيب. كل ما تسمعون عني من الكلام الساقط مجرد باطل لتلويث صورتي، والحط من كرامتي..
والدي مثلكم مواطن بسيط من القاع الشعبي.. يعمل بيديه لنأكل.. كان يقول لنا دائما:
ـ يا أولاد.. البطنة تُذهب الفطنة.. الطعام ليس كل شيء في الحياة.. يمكن أن نأكل القليل، ونعيش بكرامة.. اللقمة الحلال تُشبع البطن الجوعان.. ولو هبطت إلى مستوى الخبز والشاي، فإنها تصنع الكرامة..
علمنا حب بعضنا البعض.. علمنا أن نقف بجانب بعضنا.. كان دائما يقول:
ـ عمر الدم ما يصير مية.. العائلة هي الحضن الدافئ الذي تلجؤون إليه إذا ضاقت بكم الحياة..
زرع فينا الحب وأخلاق الكبار، ثم رحل في صمت.. لم يترك لأمي لا قسيمة تقاعد، ولا رصيدا في البنك.. بيت صغير، ودكان في السوق تعود ملكيته للأحباس..
حل الأخ الأكبر محله.. قال:
ـ أنا أخوكم وأبوكم.. لا شيء سيتغير
سرنا على نفس الدرب.. بدأت أكبر.. حصلت على الباك، ثم الإجازة بميزة حسن جدا.. كنت أطمع في الماستر، وبعدها الدكتوراه.. جاءني أخي الأكبر.. خرجنا في جولة.. قال:
ـ اسمع يا سعد.. الحياة تعقدت.. صرنا ثمانية أنفس.. الأفواه تحتاج إلى طعام لتعيش.. دخل الصنعة يتراجع.. الحمل ثقُل علي.. أحتاج إلى مساعدتك.. أقترح أن تبحث عن عمل، وتتابع دراستك بشكل مستقل إن شئت.. لو كان أبوك حيا لقال لك نفس الكلام.. فكر في الأمر!
لم أنم ليلتها.. كنت آكل وأشرب وأنام من غير أن أفكر كيف؟ أحمد تحمل ما لا يُطاق.. أحمد كان دولة داخل الأسرة عليه أن يعمل، ويُعيل أسرته الصغيرة، ويُعيلنا نحن الاربعة.. يؤدي عنا مصاريف الغذاء واللباس والتمدرس والتطبيب. ويسأل في المساء عندما يعود إلى البيت، كيف مر يومنا في المدرسة؟ أمي وأختي تعلمتا الخياطة والطرز..
كنا خمسة قبل أن يتزوج أحمد وينجب طفلين، فأصبحنا ثمانية..
اجتزت امتحان مدرسة المعلمين، ونجحت بتفوق.. قضيت سنتين في مركز التكوين.. عندما نشرت الوزارة تعيينات الخريجين الجدد، طوحت بي بعض الأيادي الخفية إلى أعلى نقطة في جبال الأطلس..
أمي أقامت حفلا صغيرا لجاراتها.. حضرته حليمة بنت جارنا سي العربي، الطفلة التي أحببت في صغري.. كانت أمي دائما تهمس في أذني:
ـ اقرأ يا سعد، وانجح بسرعة، وعندما تكبر سأخطبها لك..
كتبت لها عشرات الرسائل، لكن لم أبعث بأي منها.. عثر أحمد أخي الأكبر على واحدة.. واخذني معه في جولة خارج الحي، وشرح لي بأنه لا زالت أمامي مسؤوليات جسام، وأن الحب سيصرفني ويشغلني عن الدراسة.. قطعت له وعدا بأن أكف عن هذه الحماقات.. أحرقت الرسائل، وأحرقت معها قلبي.. لم تسمح لنا الظروف أن نحب مثل بقية المراهقين والمراهقات..
ذهبت في بداية الموسم إلى الجبل.. كان أخي الأكبر يقترض لي من أصدقائه مبلغا من المال أعيش به حتى تصرف لي الوزارة أجرتي..
بدأت أدرك كم هي صعبة الحياة، مثلها مثل طريق الجبل.. توقفت الحافلة عند الكيلومتر 90 . قال مساعد السائق:
ـ انزل وانتظر، قد يأتي فلاح من هناك، ويأخذك معه إلى القرية، سمعت أنها تبعد بعشر كيلومترات، والطريق وعرة لا تمر منها سيارات..
انتظرت ثلاث ساعات في الخلاء.. أخيرا ظهر لي مواطن يركب بغلا.. المصيبة أنه لا يتكلم العربية، وأنا لا أتكلم الأمازيغية.. تواصلنا بلغة الإشارة.. أظن أنه فهم بأني المعلم الجديد الذي عينته الوزارة بالقرية.. أخذ عني المتاع، وحمله على البغل، وسرت خلفه.. التضاريس وعرة.. قلبي يخفق بشدة.. لم أألف صعود العقبات بهذا الشكل.. تجلّدت.. أبي علمني ألا أشكو من الصعاب.. الرجل يلتفت إلي بين الفينة والأخرى.. ننظر أحيانا إلى بعضنا، ولا نتكلم.. عندما وصلنا منعرجا خطيرا في الأعلى، نزل من على ظهر البغل، وطلب مني أن أركب، وأغمض عيني.. قاد البغل، وسار أمامي.. نظرت خلسة إلى الأسفل، شعرت برأسي يدور.. تعجبت كيف يعيش الناس في هذا العالم الذي يدور فيه الرأس عندما تصعد، أو تنزل منحدرا بهذا الشكل.. لا شيء سهل في الحياة.. حمدت الله أني كنت أعيش في المدينة، وأسير في طريق مستو، لا أشعر لا بصداع ولا بدوخة..
هبطنا منحدرا آخر، فلاحت لنا القرية من بعيد.. وصلنا قبل غروب الشمس بقليل.. كم مر من الوقت؟ الوقت هنا غير مهم.. المهم أن تصل إلى المكان الذي تريد قبل أن يحل الظلام.. عند المدخل قدم الأطفال يجرون نحونا.. الشياطين حدسوا من بعيد بأني المعلم الجديد.. استقبلوني بالابتسام والضحك، وبعضهم مد يده لي.. تكلموا مع الرجل بالأمازيغية..
طلبت التسليم من أهل المكان.. كان والدي دائما يفعل ذلك عندما يدخل مكانا لم تطأه قدماه من قبل.. ربما كان يعتقد بأن الأمكنة تسكنها أرواح الناس الذين رحلوا إلى العالم الآخر.. وضعت متاعي في غرفة مظلمة بجانب القسم.. طلب الرجل الذي اصطحبني من أحد الأطفال أن يترجم لي ما سيقوله:
ـ مرحبا بك.. اعتبر نفسك بين أهلك.. اترك متاعك في الغرفة.. لا تخف، لا لصوص لدينا هنا.. سأعود بعد قليل لآخذك قصد تناول العشاء معي في البيت..
كانت ليلة رهيبة.. لأول مرة أبيت وحيدا في مكان غريب، بعيدا عن أمي وإخوتي، وبين ناس لا أتكلم لغتهم، ولا يتكلمون لغتي..
نمت في غرفة عند الرجل الذي قادني إلى القرية.. أيقظني صياح الديكة مع الفجر.. بقيت تحت الغطاء أنتظر أن ينهض مضيفي.. في الصباح بعد تناول وجبة الفطور، أمر ابنته بأن تنظف الغرفة التي سأسكن فيها، أما أنا فقد دخلت إلى القسم، ونظفته رفقة الأطفال.. مسحنا النوافذ بقطع مُبللة من الثياب، وغسلنا الطاولات والكراسي، وأخرجناها إلى ساحة صغيرة أمام باب القسم لتنشفها الشمس.. جففنا القاعة.. لحسن الحظ المدرسة لا تبعد عن الوادي إلا ببضعة أمتار.. الوادي تحيط به أحجار بيضاء تلمع، تتوسط أشجارا باسقة.. سأعرف فيما بعد بأنها أشجار الجوز.. في النصف الثاني من اليوم طلبت من الأطفال أن يلتحقوا بالدراسة..
بدأت العمل.. وبدأت الحياة الجديدة..
عندما أنتهي من العمل داخل الفصل في المساء، أوقد شمعة في الغرفة، وأشعل المذياع، وأهيئ براد شاي، وأتناول كسرة خبز مع قليل من زيت الزيتون.. أراجع دفاتر التلاميذ وأصححها، وأهيء درس الغد.. ما تبقى من الوقت أقضيه إما في المطالعة، أو التفكير في أمي وإخوتي.. كل وقت يمر بي أتذكر ماذا كنت أفعل؟ وأين؟ ومع من قبل أن أنتقل إلى هذا المكان المقدس الذي سترتبط به حياتي وحياة أكثر من ثمانية أنفس؟!..
أمي كانت تجلس في وسط المنزل في المساء.. تهيئ القهوة بالحليب، وتضع الصينية أمام أحمد ابنها البكر.. كنا ننتظر بشغف أن يُفرغ أحمد القهوة في الكؤوس، ويوزعها علينا.. والأم تقطع كسر الخبز الساخنة، وتضع فيها الزبدة التي تذوب بسرعة، وتترك مذاقا لذيذا مع القهوة بالحليب والعطور التقليدية..
بعد خمسة أشهر توصلت بأجرتي.. مبلغ كبير لم يقع مثله في يدي من قبل.. اعدت القروض التي استلفتها، وقدمت ثلث ما تبقى لأمي ومثله لأحمد واحتفظت بالثلث.. خرجت مع أخي الأصغر اشتريت له بذلة، وحذاء رياضيا، وقدمت لأختي فاطمة مبلغا لتشتري جلبابا، أو كسوة جديدة.. ذاب المبلغ الكبير في رمشة عين..
الأيام تمر بسرعة.. تحولت إلى دولة داخل الأسرة.. أخذت مكان أحمد أخي الأكبر.. أصبح علي أن أطعم، وأكسي، وأهتم بصحة أفراد الأسرة والأقارب والمعارف..
تخلف مرة تلميذ نجيب كان يدرس عندي بالقسم.. زرته في البيت لأسأل عنه.. كان يوم عطلة.. وجدته مريضا.. أخذته للطبيب.. المستوصف بالمركز يبعد بعشرين كيلومترا عن القرية.. لحسن الحظ استلفت بغلا من أحد السكان، واضطررت أن أؤدي عنه مصارف الوصفة الطبية وطعام الغذاء.. أشتري لبعض التلاميذ المعوزين الدفاتر والأقلام واللُّعب أيضا.. في منتصف الشهر أصبح ربنا خلقتنا.. أتحايل على الطعام.. أصبحت مثل المتصوفة.. أعمل بنصيحة والدي على أن البطنة تُذهب الفطنة، فلا أتناول إلا ما يسُدّ الرمق..
عندما أعود إلى المدينة أرى الأغبياء من أبناء شعبي يحتلون المناصب العليا، ويعبثون بالمال العام، قلت:
ـ لا يا سعد!
ـ أنت أولى منهم..
ـ انت تُعلم الأطفال، وتصنع منهم رجال الغد..
ـ أنت لا تملك غير القليل، ورغم ذلك تقتسمه مع المحتاجين من أقاربك ومعارفك..
ـ أنت غدا سيصبح لك زوجة وأبناء.. العائلة ستكبر، وستكبر معها المسؤولية..
ـ أنت الدعم الاجتماعي..
ـ أنت الدعم الصحي..
ـ أنت الدعم النفسي ..
ـ أنت تحل للدولة أكثر المشاكل تعقيدا..
ـ أنت ضمر المجتمع..
ـ أنت أولى بأن تُكرّم، وأن تُخصص لك الدولة أجرا يوازي ما تقوم به..
ـ أنت الدولة يا سعد؟!..
مراكش 15 نونبر 2023