رانية المهدي - جردل بلاستيك..

تجلس على الأرض بالجلباب الأسود المفروش بالزهور الباهتة.. تمد قدمها المتورمة من آن لآخر مع ترديد صوت الآه بتقطيع بطيء.. تُملس عليها بيدها مع الضغط الخفيف تارة والضغط الطويل تارة أخرى ربما غادرتها آلام الروماتيزم العنيدة.
أمامها قفص مصنوع من الجِريد تضع عليه بضاعتها الخضراء المبهجة.. ترش عليه قطرات الماء من آن لآخر حتى تكون ندية في عيون الزبائن.
نصحها البعض أن تزيد على الجرجير والكسبرة والشبت البنجر الأحمر والخس والخيار والطماطم حتى يتشجع الزبون ويشتري محتويات السلطة كلها من مكان واحد.. تعللت بعدم قدرتها على إجادة الحساب والأخذ والرد على الزبائن.. لكنها في الحقيقة كانت تعاني من ضيق ذات اليد ولا تحب أن تدان لأحد حتى لو بمليم أحمر كما تقول دائما.
تتحين فرصة انشغال الجميع وتزيح غطاء رأسها للخلف قليلا وتهرش عدة مرات.. فهى لم تستحم هذا الأسبوع لانكسار الجردل البلاستيكي الكبير الذي كانت تملأه بالمياه من الحنفية العمومية.. عندما تتذكر ذلك تلعن هذا الذي أخذ أصواتهم في الانتخابات الماضية ووعدهم بدخول المياه الحلوة للمنازل لكنه نكس بوعده بمجرد جلوسه على الكرسي وحصوله على لقب سيادة النائب.
تسبه وتلعنه ثم تضع يدها في صدرها وتخرج كيسة طويلة مربوطة بحبل في ملابسها الداخلية وتبدأ في عد النقود على مهل لترى كم ينقصها لتشتري جردلا جديدا.. لأنها لا تطيق هذا الوضع الصعب.
تشعر بالجوع عندما تشم رائحة الطعمية الساخنة التي تنطلق من المطعم على الناصية.. فتتوقف عن العد وتنادي على طفل صغير يجري أمامها مسرعا وهو يأكل قطعة من الخيار.
_يا واد.. أنت يا والا.. خذ تعالى هنا.. أنت ابن سعاد بتاعة البلبلة صح؟
_آه
_ طيب خد هات قرص فلافل ورغيف عيش.
_ قرص فلافل! واحد بس؟!
_ أيوة يا ولا.. ما أنا هاكل لوحدي.. هجيب ليا وللجيران يعني.
_ عايزاني أتهز وأقول للرجل هات قرص فلافل.. شوفي لك حد غيري يا حاجة.
ينصرف من أمامها مسرعا وهى تنادي عليه بصوت مرتفع.
_ يا ولا.. خد يا واد.. يخربيتك إنت وأمك.. إيه العيال دي.. يخربيت ده زمن.
ثم تعود للعد مره أخري بعد أن تسبب حديثها مع هذا المزعج الصغير على النسيان.
_ الله واحد وملوش تاني.
كادت تنتهي فوجدت الجميع ينهض ويجري بهمة غريبة حتى الشحاذ مقطوع القدم أخذ يدفع عكازه ليتسابق معهم.. فأطالت رقبتها لتعلم وجهتهم.. ثم عادت للعد من البداية وهي تستنكر ما يحدث.
_ يختي بيجروا على ايه دول؟ ده لو قالوا لهم يوم القيامة جه مش هيجروا كده.. ما علينا نعد من الأول.. الله واحد.. ملوش تاني.
ثم ترى بائعة الذرة تجري من أمامها لتلحق بالجميع فتوقفها.
_ خدي يا بت يا عزيزة.. فيه إيه يابت.
_ الحاج صالح دابح عجلين.. قومي الحقي قبل ما يخلصوا.
_هو إبن زبيده بقا حج؟
_ امال ايه.. ربنا يزيده.
_هى الإنتخابات جت تاني ولا إيه يا بت؟
_ أنا اش عرفني بقا.. سبيني خليني الحق حته لحمة العيال.
_ جتك خيبة على خيبتك.. اجري يا ختي اجري.. يا دي النيلة.. نعد تاني.. الله واحد.. ملوش تاني.
ليقاطعها هذا الظل الضخم والرائحة العطرة النفاذة فترفع نظرها إليه وتبتسم.
_ وشك ولا وش القمر يا حاج.. أمال يا خويا البيه بتاعك اللي خلتنا انتخبناه وبيطلع في التلفزيون معملش ليه اللي قال عليه؟ ها.. ولا هو كلام مواسم وخلاص.
_ مواسم إيه يا حاجة؟
_ حاجة.. يسمع من بقك ربنا.. بس أنا لما أحج هحج بجد مش كده وكده.
_ كده وكده إزاي يعني؟ وبعدين مواسم إيه اللي بتقولي عليها دي؟
_مواسم الكلام يا سيدي.. ما هو الكلام ببلاش.. لكن الجردل بفلوس.
_ كلام ايه وجردل إيه؟
_ ما تخدش فبالك.. ها عايز جرجير ولا خضرة؟
_ ولا ده ولا ده.. لقيتك ما قمتيش معاهم جيتلك بنفسي.. خدي نصيبك أهو.
_ نصيبك الهنا يارب يا حج.. إيه ده؟
_ كيس لحمة.
_ كيس لحمة.. مليش فيها والنبي.. شوف حد غلبان إديها له.
فيبتسم بسخرية:
_ هو انت مش غلبانة يا حاجة؟!
_لله. يا سيدي.. غلبانة لله بس.. مش ليك ولا لحد من عباده.. ولو ليا فيها كنت قمت وجريت مع اللي بيجروا.
_هو أنت متعنطظة على إيه.. خدي اللحمة يا ست.
_مش كنت حاجة من شوية.. دلوقتي بقيت ست.. عموما أنا مش متعنطظة يا.. حاج.. بس مش محتاجة حاجة من حد.. واللي بيقف هنا بيقف علشان يشتري خضرة وبس.
يلوي شفتيه ويبتسم ابتسامة خفيفة.
_ماشي.. هشتري خضرة.. وهاخد القفص كله كمان.
_ وأنا مش هبيع لك من أصله.. إيه قولك بقى.. ووسع كده علشان الزباين.
ينظر إليها ثم يلقي بكيس اللحم للكلب الممدد أمامها.
وقبل أن ينصرف توقفه كلماتها.
_ابقا قول للبيه بتاعك يوفي بالوعد علشان اللي يوعد ويخلف يبقا منافق يابن زبيده العايقة.
يغمض عينيه غيظا ويجز على شفتيه وينصرف فتعود للعد مرة أخرى وهى تتأفف لأنها ستبدأ من جديد.
_ الله واحد.. ملوش تاني.. الله يحرقك يابن زبيدة.

رانية المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...