عبد الله بن المقفع فارسي الأصل، وولد بحوز في فارس، وكان اسمه أولاً روزبه بن ذاذويه، وكان يكنى بأبي عمرو. فلما أسلم تكنى بأبي محمد، ويقال: إن أباه لقب بالمقفع لكونه اختلس بعض مال الخراج في إمارة الحجاج على العراق، فضربت يداه حتى تقفعتا. وقد حرص أبوه على تعليمه من صغره، فأحضر له لتعليمه أبا الجاموش وأبا الغول الأعرابي، وأخذ عنهما الفصاحة إلى جانب أنه كان يتقن الفارسية لغة أجداده من الفرس، وعاش طوال حياته في رغد من العيش لثراء والده، ويحكى أنه كانت له أراضٍ في فارس تأتيه منها غلة دائمة.
وبدأ حياته العملية كاتبًا لعامر بن ضبارة في العصر الأموي. ولما جاءت الدولة العباسية صحب بني علي بن عبد الله، وكان أكثر ميله لعيسى بن علي. وعلَّم ابن المقفع بعض أبناء إسماعيل بن علي.
وعاش ابن المقفع أكثر حياته على المجوسية، ثم نوى الإسلام، فأخبر عيسى بن علي برغبته في الدخول في الإسلام، فقال له: أعلنه غدًا أمام إخوتي وغيرهم من الأعيان، وفي هذه الليلة شارك عيسى عشاءه، فزمزم على عادة المجوس عند تناولهم الطعام، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت تنوي الإسلام غدًا؟ قال: إني أكره أن أبيت على غير دين.
وأنا أميل لتصديق صحة إسلام ابن المقفع الذي شكك الكثيرون قديمًا وحديثًا في صحة إسلامه، فهو رجل يقدس الفضيلة، كما يبدو من أخباره، ومستبعد – في رأيي – أن يكون أسلم نفاقًا باختياره، والرواية السابقة التي تشير لكونه زمزم وهو ينوي الإسلام أميل لتكذيبها، وهي كنصوص أخرى كثيرة شنعت على ابن المقفع، ورمته بالنفاق في إسلامه.
وكانت نهاية ابن المقفع مأساوية، فقد قتله سفيان بن معاوية بتحريض من الخليفة أبي جعفر المنصور، وقد كان سفيان يسعى في قتله؛ لأن ابن المقفع سخر من شكله وكلامه كثيرًا، واستجاب لطلب المنصور بشغف حين أمره بقتل ابن المقفع.
وقيل إن المنصور أمر بقتله لكونه تشدد في كتابة عقد الأمان الذي كتبه لعم المنصور عبد الله بن علي بعد أن خرج عليه، وطلب الأمان بوساطة إخوته لدى المنصور، وقيل أيضًا إن المنصور قتله؛ لأنه أدرك ما وراء كتاب "كليلة ودمنة" من رموز للحاكم الظالم، عنى بها المنصور نفسه، وقال البعض: بل قتله المنصور لأن رسالته "الصحابة" ذكر فيها ما يجرئ جنود المنصور عليه، ولما فيها من رسم سياسة للحكم لا يوافق عليها المنصور، وأيضًا قيل إن المنصور أمر بقتله بتحريض من وزيره أبي أيوب المورياني الذي كان يخشى أن يعين ابن المقفع في الوزارة مكانه، فسعى في قتله، وأخيرا قيل إنه قتله لرميه بالزندقة.
وكان قتل ابن المقفع سنة 142 هجرية بصورة بشعة، فقد مُثِّل بجسده، وكان يقطع منه أجزاء وهو حي، ويصيح في قاتليه: يا أعوان الظلمة. وحاول بنو عيسى بن علي أن يبحثوا قضية قتله، ولكنهم حين علموا أن قتله كان برضى المنصور كفوا عن الطلب بثأره.
وقد ظن بعض الكتاب والباحثين أن ابن المقفع عاش نحو 36 سنة، ولكن ابن المقفع عاش أكثر من هذا في واقع الأمر، فله أخبار مع أناس عاشوا قبل التاريخ المزعوم الذي قيل إنه ولد فيه، ثم إنه قد ترجم وألف العديد من الكتب، ويستحيل على من عاش حياة قصيرة كالتي قيل إنه عاشها أن ينجز كل هذه المؤلفات والمترجمات، وأغلب الظن أن ابن المقفع قد تجاوز الستين من عمره.
وعن أخلاق ابن المقفع فقد كان – كما قال الجاحظ عنه – جميلاً فارسًا جوادًا نبيلاً، وتروى أخبار كثيرة عن جوده لا سيما على أصدقائه، وكان عفيف النفس نبيل الخلق قبل إسلامه وبعد إسلامه، ولا شك أن إسلامه زاد في حسن خلقه، وقد سئل قبل إسلامه من أدبك؟ قال: نفسي، إذا رأيت من غيري حسنًا أتيته، وإن رأيت عيبًا اجتنبته. وفي كتابه "الأدب الصغير" تكثر دعوته لحسن الخلق، وأن يؤدب الإنسان نفسه بمعرفة عيوبها ويصححها، ويراجع نفسه فيما أصلح من نفسه فيها، فيمسحه، وما لم يصلح نفسه منها فيثبته، ويحاول إصلاحه.
وكان ابن المقفع يحب الاستمتاع بالحياة باقتصاد، فيأتي أحيانًا بعض مجالس اللهو، ويسمع لغناء بعض المغنيات، ومن ذلك حضوره دار ابن رامين وسماعه بعض المغنيات به، ومن هذه الأغاني ما كان من تأليفه.
وكان ابن المقفع كثير التقدير لرابطة الصداقة، ويراها أقوى من علاقة الزوجية، وهو يقول: ابذل لصديقك دمك ومالك. ويرى أن الأخ نسيب الدم والصديق نسيب الروح، وعلاقة الروح أقوى من علاقة الدم.
وقد وُصِف ابن المقفع بخفة الظل في بعض الأخبار، وأنه كان يميل للمزاح، ولكننا لا نرى في كتبه التي وصلتنا إلا آثار الجد باستثناء كتاب "كليلة ودمنة"، ففيه قصص كثيرة طريفة.
وعن مكانة ابن المقفع فقد كان من كبار بلغاء عصره، بل هو أبلغ بلغاء عصره، ومع ذلك فقد شكك الدكتور طه حسين في بلاغته، وقال: إنه كالمستشرقين يفهم العربية فإذا أراد التعبير بها وجد بعض القصور في تعبيره؛ ولهذا قال طه حسين: إننا نرى بعض الغموض في أسلوبه. وقد دافع شوقي ضيف عن أسلوب ابن المقفع، ونفى التهمة التي رماه بها طه حسين من أنه كالمستشرقين في استخدامه اللغة العربية.
وقد جرى العرف قديمًا وحديثًا على أن يعد ابن المقفع من كبار البلغاء، ويتميز أسلوبه بالسهولة والوضوح، واستخدام الترسل، وقد وصف أسلوبه قديمًا بالسهل الممتنع. فما أسهل أن تفهم أسلوبه، ولكن يتعذر عليك محاكاته، وهو في كتاباته المؤلفة كثير النقل عن جدوده من الفرس خاصة قبل إسلامه، ويشير إليهم بالقدماء والحكماء، ويرى أنهم قد أتوا بالمعرفة كلها، وليس بوسع أحد أن يضيف إليهم شيئًا سوى أن يفسر ويشرح ما قالوه، فهو بهذا يقول: لا جديد تحت الشمس، ويعد بهذا أديبًا محافظًا تقليديًّا – وإن كنت لا أراه محافظا تقليديًّا في بعض كتبه "ككليلة ودمنة" – بخلاف الجاحظ المجدد المبتكر الذي كان يقول كثيرًا: إذا رأيت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح.
ويكثر في كتب ابن المقفع – كما قلنا – النقول عن جدوده من الفرس في مؤلفاته، "كالأدب الصغير" و"الأدب الكبير".
وقد وصف كتابه "الدرة اليتيمة" بأنه من أبلغ الكتب، ولم يصلنا هذا الكتاب، ولكن وصلنا فقرات منه ذكرها ابن قتيبة في كتابه "عيون الأخبار".
ووصف الجاحظ ابن المقفع بأنه جمع بين بلاغة القلم واللسان والترجمة، وأنه إذا أراد أن يقول الشعر قاله. ولم يصل إلينا من شعر ابن المقفع غير أبيات قليلة أكثرها في غرض الحكمة التي تناسب شخصيته كحكيم، وبعض أبياته عن الصداقة وأصدقائه. وقد سئل ابن المقفع: لماذا لا يقول الشعر؟ – أي يكثر منه – فقال: أنا كالمسن أشحذ ولا أقطع. وحينما سأل شخص ابن المقفع: لماذا لا يتجاوز البيت والبيتين؟ قال: أخشى أن يعرف صاحبهما، فقال له ذلك الشخص: وما عليك أن يعرف صاحبهما؟ فلم يجبه ابن المقفع؛ لأنه لم يفهم مقصوده، فهو يقصد أنه لو تجاوز البيتين سيعرف نقاد الشعر أن قائل هذه الأبيات ليس شاعرًا كبيرًا، وما كان له وهو الكاتب البليغ أن يرضى بأن ينسب إليه أنه شاعر وسط أو شاعر ضعيف. وفي كل الأحوال فقد كان ما قاله من شعر لا يتجاوز البيتين أو الأبيات القليلة.
وقد رأى بعض الباحثين المعاصرين كالدكتور عبد اللطيف حمزة أن ابن المقفع كان فيلسوفًا، وذكر الدكتور أحمد كمال زكي أن ابن المقفع عالم من علماء الاجتماع. وأرى أن هذه الأحكام فيها مبالغات، فليس عند ابن المقفع نظرة في الكون تماثل ما نراه عند الفلاسفة، وذكر ابن خلدون في مقدمته أن ابن المقفع تعرض لبعض قضايا علم الاجتماع
أو العمران، ولكن بأسلوب خطابي ليس فيه التعليل لقيام المجتمعات، وذكر الأسباب التي تؤدي لضعفها.
أما عن شعوبية ابن المقفع فهي قضية شائكة، وكثر من اتهمه من القدماء والمحدثين بها، بل اتهم أكثر من هذا بالزندقة، ونسب للخليفة المهدي أنه قال: ما رأيت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع. ونُسِبَ له كتاب قيل إنه عارض فيه القرآن الكريم، ولكن أحمد أمين نفى أن يكون هذا الكتاب الممتلئ بالسجع لابن المقفع؛ لأنه يخالف أسلوبه المرسل.
والحقيقة أن عصبية ابن المقفع لقومه من الفرس حقيقة لا يمكن إنكارها، وربما كان يعبر عنها قبل إسلامه بكثرة نقوله عنهم في مؤلفاته، وبكثرة ترجماته لكتبهم ككتاب "مزدك" وكتاب "خداي نامه" وكتاب "آيين نامه"، وأيضًا لم يكن يستشهد في كتبه قبل إسلامه بأي شواهد عربية من شعر ونثر، ومع ذلك فالأثر الإسلامي واضح في بعضها من خلال استلهام بعض معاني آيات من القرآن الكريم، ولكنه بعد أن أسلم استشهد في رسائله الإخوانية ببعض آيات القرآن الكريم، وببعض الشعر العربي، كما نرى في رسائله التي نشرها أحمد زكي صفوت في "جمهرة رسائل العرب".
وبدأ حياته العملية كاتبًا لعامر بن ضبارة في العصر الأموي. ولما جاءت الدولة العباسية صحب بني علي بن عبد الله، وكان أكثر ميله لعيسى بن علي. وعلَّم ابن المقفع بعض أبناء إسماعيل بن علي.
وعاش ابن المقفع أكثر حياته على المجوسية، ثم نوى الإسلام، فأخبر عيسى بن علي برغبته في الدخول في الإسلام، فقال له: أعلنه غدًا أمام إخوتي وغيرهم من الأعيان، وفي هذه الليلة شارك عيسى عشاءه، فزمزم على عادة المجوس عند تناولهم الطعام، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت تنوي الإسلام غدًا؟ قال: إني أكره أن أبيت على غير دين.
وأنا أميل لتصديق صحة إسلام ابن المقفع الذي شكك الكثيرون قديمًا وحديثًا في صحة إسلامه، فهو رجل يقدس الفضيلة، كما يبدو من أخباره، ومستبعد – في رأيي – أن يكون أسلم نفاقًا باختياره، والرواية السابقة التي تشير لكونه زمزم وهو ينوي الإسلام أميل لتكذيبها، وهي كنصوص أخرى كثيرة شنعت على ابن المقفع، ورمته بالنفاق في إسلامه.
وكانت نهاية ابن المقفع مأساوية، فقد قتله سفيان بن معاوية بتحريض من الخليفة أبي جعفر المنصور، وقد كان سفيان يسعى في قتله؛ لأن ابن المقفع سخر من شكله وكلامه كثيرًا، واستجاب لطلب المنصور بشغف حين أمره بقتل ابن المقفع.
وقيل إن المنصور أمر بقتله لكونه تشدد في كتابة عقد الأمان الذي كتبه لعم المنصور عبد الله بن علي بعد أن خرج عليه، وطلب الأمان بوساطة إخوته لدى المنصور، وقيل أيضًا إن المنصور قتله؛ لأنه أدرك ما وراء كتاب "كليلة ودمنة" من رموز للحاكم الظالم، عنى بها المنصور نفسه، وقال البعض: بل قتله المنصور لأن رسالته "الصحابة" ذكر فيها ما يجرئ جنود المنصور عليه، ولما فيها من رسم سياسة للحكم لا يوافق عليها المنصور، وأيضًا قيل إن المنصور أمر بقتله بتحريض من وزيره أبي أيوب المورياني الذي كان يخشى أن يعين ابن المقفع في الوزارة مكانه، فسعى في قتله، وأخيرا قيل إنه قتله لرميه بالزندقة.
وكان قتل ابن المقفع سنة 142 هجرية بصورة بشعة، فقد مُثِّل بجسده، وكان يقطع منه أجزاء وهو حي، ويصيح في قاتليه: يا أعوان الظلمة. وحاول بنو عيسى بن علي أن يبحثوا قضية قتله، ولكنهم حين علموا أن قتله كان برضى المنصور كفوا عن الطلب بثأره.
وقد ظن بعض الكتاب والباحثين أن ابن المقفع عاش نحو 36 سنة، ولكن ابن المقفع عاش أكثر من هذا في واقع الأمر، فله أخبار مع أناس عاشوا قبل التاريخ المزعوم الذي قيل إنه ولد فيه، ثم إنه قد ترجم وألف العديد من الكتب، ويستحيل على من عاش حياة قصيرة كالتي قيل إنه عاشها أن ينجز كل هذه المؤلفات والمترجمات، وأغلب الظن أن ابن المقفع قد تجاوز الستين من عمره.
وعن أخلاق ابن المقفع فقد كان – كما قال الجاحظ عنه – جميلاً فارسًا جوادًا نبيلاً، وتروى أخبار كثيرة عن جوده لا سيما على أصدقائه، وكان عفيف النفس نبيل الخلق قبل إسلامه وبعد إسلامه، ولا شك أن إسلامه زاد في حسن خلقه، وقد سئل قبل إسلامه من أدبك؟ قال: نفسي، إذا رأيت من غيري حسنًا أتيته، وإن رأيت عيبًا اجتنبته. وفي كتابه "الأدب الصغير" تكثر دعوته لحسن الخلق، وأن يؤدب الإنسان نفسه بمعرفة عيوبها ويصححها، ويراجع نفسه فيما أصلح من نفسه فيها، فيمسحه، وما لم يصلح نفسه منها فيثبته، ويحاول إصلاحه.
وكان ابن المقفع يحب الاستمتاع بالحياة باقتصاد، فيأتي أحيانًا بعض مجالس اللهو، ويسمع لغناء بعض المغنيات، ومن ذلك حضوره دار ابن رامين وسماعه بعض المغنيات به، ومن هذه الأغاني ما كان من تأليفه.
وكان ابن المقفع كثير التقدير لرابطة الصداقة، ويراها أقوى من علاقة الزوجية، وهو يقول: ابذل لصديقك دمك ومالك. ويرى أن الأخ نسيب الدم والصديق نسيب الروح، وعلاقة الروح أقوى من علاقة الدم.
وقد وُصِف ابن المقفع بخفة الظل في بعض الأخبار، وأنه كان يميل للمزاح، ولكننا لا نرى في كتبه التي وصلتنا إلا آثار الجد باستثناء كتاب "كليلة ودمنة"، ففيه قصص كثيرة طريفة.
وعن مكانة ابن المقفع فقد كان من كبار بلغاء عصره، بل هو أبلغ بلغاء عصره، ومع ذلك فقد شكك الدكتور طه حسين في بلاغته، وقال: إنه كالمستشرقين يفهم العربية فإذا أراد التعبير بها وجد بعض القصور في تعبيره؛ ولهذا قال طه حسين: إننا نرى بعض الغموض في أسلوبه. وقد دافع شوقي ضيف عن أسلوب ابن المقفع، ونفى التهمة التي رماه بها طه حسين من أنه كالمستشرقين في استخدامه اللغة العربية.
وقد جرى العرف قديمًا وحديثًا على أن يعد ابن المقفع من كبار البلغاء، ويتميز أسلوبه بالسهولة والوضوح، واستخدام الترسل، وقد وصف أسلوبه قديمًا بالسهل الممتنع. فما أسهل أن تفهم أسلوبه، ولكن يتعذر عليك محاكاته، وهو في كتاباته المؤلفة كثير النقل عن جدوده من الفرس خاصة قبل إسلامه، ويشير إليهم بالقدماء والحكماء، ويرى أنهم قد أتوا بالمعرفة كلها، وليس بوسع أحد أن يضيف إليهم شيئًا سوى أن يفسر ويشرح ما قالوه، فهو بهذا يقول: لا جديد تحت الشمس، ويعد بهذا أديبًا محافظًا تقليديًّا – وإن كنت لا أراه محافظا تقليديًّا في بعض كتبه "ككليلة ودمنة" – بخلاف الجاحظ المجدد المبتكر الذي كان يقول كثيرًا: إذا رأيت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح.
ويكثر في كتب ابن المقفع – كما قلنا – النقول عن جدوده من الفرس في مؤلفاته، "كالأدب الصغير" و"الأدب الكبير".
وقد وصف كتابه "الدرة اليتيمة" بأنه من أبلغ الكتب، ولم يصلنا هذا الكتاب، ولكن وصلنا فقرات منه ذكرها ابن قتيبة في كتابه "عيون الأخبار".
ووصف الجاحظ ابن المقفع بأنه جمع بين بلاغة القلم واللسان والترجمة، وأنه إذا أراد أن يقول الشعر قاله. ولم يصل إلينا من شعر ابن المقفع غير أبيات قليلة أكثرها في غرض الحكمة التي تناسب شخصيته كحكيم، وبعض أبياته عن الصداقة وأصدقائه. وقد سئل ابن المقفع: لماذا لا يقول الشعر؟ – أي يكثر منه – فقال: أنا كالمسن أشحذ ولا أقطع. وحينما سأل شخص ابن المقفع: لماذا لا يتجاوز البيت والبيتين؟ قال: أخشى أن يعرف صاحبهما، فقال له ذلك الشخص: وما عليك أن يعرف صاحبهما؟ فلم يجبه ابن المقفع؛ لأنه لم يفهم مقصوده، فهو يقصد أنه لو تجاوز البيتين سيعرف نقاد الشعر أن قائل هذه الأبيات ليس شاعرًا كبيرًا، وما كان له وهو الكاتب البليغ أن يرضى بأن ينسب إليه أنه شاعر وسط أو شاعر ضعيف. وفي كل الأحوال فقد كان ما قاله من شعر لا يتجاوز البيتين أو الأبيات القليلة.
وقد رأى بعض الباحثين المعاصرين كالدكتور عبد اللطيف حمزة أن ابن المقفع كان فيلسوفًا، وذكر الدكتور أحمد كمال زكي أن ابن المقفع عالم من علماء الاجتماع. وأرى أن هذه الأحكام فيها مبالغات، فليس عند ابن المقفع نظرة في الكون تماثل ما نراه عند الفلاسفة، وذكر ابن خلدون في مقدمته أن ابن المقفع تعرض لبعض قضايا علم الاجتماع
أو العمران، ولكن بأسلوب خطابي ليس فيه التعليل لقيام المجتمعات، وذكر الأسباب التي تؤدي لضعفها.
أما عن شعوبية ابن المقفع فهي قضية شائكة، وكثر من اتهمه من القدماء والمحدثين بها، بل اتهم أكثر من هذا بالزندقة، ونسب للخليفة المهدي أنه قال: ما رأيت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع. ونُسِبَ له كتاب قيل إنه عارض فيه القرآن الكريم، ولكن أحمد أمين نفى أن يكون هذا الكتاب الممتلئ بالسجع لابن المقفع؛ لأنه يخالف أسلوبه المرسل.
والحقيقة أن عصبية ابن المقفع لقومه من الفرس حقيقة لا يمكن إنكارها، وربما كان يعبر عنها قبل إسلامه بكثرة نقوله عنهم في مؤلفاته، وبكثرة ترجماته لكتبهم ككتاب "مزدك" وكتاب "خداي نامه" وكتاب "آيين نامه"، وأيضًا لم يكن يستشهد في كتبه قبل إسلامه بأي شواهد عربية من شعر ونثر، ومع ذلك فالأثر الإسلامي واضح في بعضها من خلال استلهام بعض معاني آيات من القرآن الكريم، ولكنه بعد أن أسلم استشهد في رسائله الإخوانية ببعض آيات القرآن الكريم، وببعض الشعر العربي، كما نرى في رسائله التي نشرها أحمد زكي صفوت في "جمهرة رسائل العرب".