على ضفاف النهر جمّع يوسف النجّار جذوع أشجار متنوعة الثمر، عازمًا أن تكون هي مركبته التي تنقله على طوفها إلى العالم هرباً من طوفان الشرّ من حوله . ولذا فقد أسماه العسس بنوح العصر، رغم اختلافات في التفاصيل، فالرجل أطرش، وأولاده السبعة خرس، وزوجته عمياء، وقد اعتنى يوسف هنا بتجميع ما يحتاجه لرحلته من العائلة النباتية بدلاً عن العائلة الحيوانية، عكس ما فعل نوح التأريخ، وحرص أن تكون من سبعة أنواع على الأقل، وفي مقدمتها شجرة من عائلة اللوزيات لكي تكون مصدراً هاماً لتقوية العظام، ومعالجة المعدة، وزيادة الدهون عند الحاجة، وأخرى من عائلة العفصيات لعلاجات كثيرة أهمها المعدة، وثالثة من عائلة المشمشيات لإغناء الدم، وشجرة زيتون، وشجرة تين، وشجرة رمّان، وأخيراً، وليس آخرًا شجرة من عائلة الكروم التي لا يمكن الاستغناء عنها في أية مائدة، ولقد تساءل بعض المتحذلقين : لماذا يجمع يوسف النجار فقط هذه الأشجار، بينما هناك أشجار كثيرة في العالم لم ينبه إليها . وأهمها النخيل، لكن يوسف لا يمكن له أن يجمع شيء خارج بيته، ولا تطاله يديه في بيئته حتى ولو كان النخيل نفسه، لإذ ربما يلقاها هي أول شجرة في أول تطوافه، وعند أولى محطات غربته .
لهذا لم يبن يوسف فلكاً، وإنما عمل على وسيلة أسهل للانحدار جنوباً باتجاه التيار، ألا وهو الطوف “الكلكك*” العائم، ولم يكن الرجل بحاجة لنقل هذه العائلة النباتية إلا لأن عائلته التي تتشكّل من امرأته وسبعة بنين وجنين في الشهر الخامس نباتيون مثله، وكل منهم عائلة نباتية سوف يختص بتنمية عائلة منها . وقد قام الرجل بجمع الجذوع سراً بحجة استنباتها في مزرعة جديدة للحاكم الصارم، لهذا بنى سوراً وهمياً حول الطوف من بقايا الأشجار التي لن يأخذها معه، بينما حرص على تقليم الأشجار الهامة، ولم ينس أن يحتفظ ببراعم من عدة أصناف للعائلة النباتية الواحدة، وزّعها على الأولاد كل حسب رغبته، فما إن تستقر بهم أرض، ويزرع الأشجار، ويقوم بتطعيم كل شجرة بعدة أصناف من نفس العائلة التي يحملها كل ولد من أولاده، وبذلك يختصر الكثير من الجهد، والثقل . ولكن التوأم اللذين كانا يقلدان أباهما في كل شيء يقوم به حاولا عمل نموذج مصغّر على الأرض للطوف الذي يبنيه أبوهما . فقد كان التوأم الكبير يؤشر على الأرض والآخر يقوم بالحفر بفأس “القدّوم*” الذي يستخدمه الكّل حتى أمهما، وفيما هما منهمكان باللعبة المسلّية، يهوي الصغير بضربة غير موفقة على رأس توأمه الأكبر فيجرح رأسه عرضياً، وتتطاير نافورة من الدماء، ولا يعرف أن التوأم الأكبر قد فعل بأخيه نفس ما حدث له لا إرادياً . ويخاف كلاهما من العقاب، فيهربان في عمق البستان، وقد تجردا من هوجسهما، وخوفهما من غيلان البساتين، غير أن المضمّد يجدهما صدفة فيقوم بمداوتهما ويعجب من كيفية جرح أحدهما للآخر في نفس المكان . ولم يعرف المضمّد وقتها أن الجرح قد تفجّر لدى التوأم الصغير لحاله تلقائياً من فعل تصّور شدة الألم والذنب غير المقصود، لتماثل التوأم في ردود أفعالهما، وحركاتهما . وتقلق الأم وهي تقوم بسلق وجبة القرع الأحمر الطازج، وقد جهزّت العسل لتضعه فوق القرع المسلوق حالما يطلبانه . لكن رائحة دم ساخن فاحت في مناخيرها، فسمعت حفيف قدوم التوأم مع زائر علقت روائح الضماد، واليود الحارق بثيابه، فتسارع الأم بالوقوف أمام أقرب شانة نحل، وتملأ طاسة فخارية بما يجود به النحل لأولادها غير مبالية ولا خائفة من لسعات محتملة من إبر النحل ويبدو أن النحل نفسه لا يبالي هو الآخر بالتعدي على قوت اليرقات ما دام بستان يوسف النجّار تحت تصرفه . وتجلس الأم لتسمع كلام المضمّد المتعجّب، ومسعاه لتضميد التوأم وهي تضّيفه مسلوق القرع الأحمر المطبوخ بالعسل، وهي تسمع بعينيها إشارات المضمد وهو يصف الجرحين .
وكم تعجب العسس من تفاهم يوسف النجّار الأطرش مع أبنائه الخرس، وزوجته العمياء، وكانوا يعزون ذلك لتوحد العاهات، على قاسم مشترك . أما ما كان يعيق يوسف أكثر من التفاهم مع عائلته، هو كيفية جمع الأجواد التي سوف تحمل الطوف الذي سينحدر به فوق أمواج النهر العظيم في موسم الفيضان الكبير، فكل جود يمثّل دابة تسلخ بعناية، وعليه أن يوصي القصّاب* بذلك مسبقًا، وعليه أن يكون حذراً، ويلّح على شراء الأجواد خارج الاستعمال الضروري للحياة اليومية، فعيون العسس ترصد كل شيء، حتى أن كل فرد كان يشعر بأن عيوناً جوانية من عيون العسس قد نبتت بداخله، وخاف أن يبوح بهذا الشعور لأي مخلوق خوفاً من أن يتصوره معتوهاً . أو مغرماً بالعيون العسسية، “لكن يوسف فهم بعد فوات الآوان أن امرأته هي الآخرى قد نبتت لها عيون مشابهة، رغم أنها بصيرة، وربما تكون قد عزت ذلك لعيون العميان الداخلية، لكنها عجبت هي الأخرى بشكل يثير الاستغراب لأن جاراتها كلهن كنّ يتباهين باختلاف مواصفات عيون العسس الجوّانية التي نبتت لهنّ وفيهن، فصرن عسسيات بعضهن على بعض من دون داع، ولا إرادة، يراقبن الأنا بالهي فيهن من دون داعٍ، مما يخلق لهن مشاكل كثيرة في تفهّم كثير من الأمور التي لا تستعصي على طفل بريء .
وقد علم يوسف بإشاعات عسسية أشاعها بعض المتشككين الذين يؤكدون على أن عائلة يوسف النجّار تتصّنع وجود العاهات لديها . أو ربما افتعلت العائلة لبس هذه العاهات هروباً من الأسئلة العسسية، والتحقيقات السرية التي تطال الكثيرين من قريب أو بعيد . ولا غرابة في حصول هذه الحالة في بيئة تمركزت فيها العيون العسسية داخل الناس، وصاروا يحصون حركات أنفسهم على أنفسهم، وكم من تقرير سريّ رُفع عن يوسف وعائلته، يبين بشتى التلميحات، والتأكيدات على عكس ما هي عليه عاهات أفراد عائلة يوسف النجّار . فمن الناس من يحكي بأن العائلة عندما تجتمع في الليل، تحت سقف بيتها، فإنهم يسمعون ضحكات الأولاد، وهم يهمسون لوالدهم الذي يجيب في الحال من غير إعاقة يصطنعها أمام الناس في الرد، والسمع . أما الأم فإنها تتباهى في وصف ألوان ملابس أوردها التي غسلتها في النهار، ونشرتها تحت أشعة الشمس التي تتخلل أشجار التوت لداكنة الخضرة، وقد طارت النحلات النشيطة، والفراشات الزاهية لتحط على أزهار النرجس الصفراء، وزهور الليلك البنفسجية، وورد الجوري بألوانه المختلفة .
لهذا كله لم يكن من صالح يوسف الانتظار، إلا لانتهاز الوقت المناسب لأمور يستوجبها التحضير، فالأجواد ستكون أقوى على التحمل في موسم الربيع هذا، بعد أن يكون قد مرّ عليها أكثر من ربيع، فصارت مساماتها أضيق لامتصاصها الماء والرطوبة في الخريف والشتاء . وصارت قادرة على مقاومة التنفيس تحت ثقل الجذوع النباتية، إضافة للجذوع الإنسانية التسعة والنصف من عائلة يوسف النجّار، إذا ما حسب الجنين في بطن زوجته . أما جذوع الأشجار فقد نمت في نهاياتها جذور تشرّبت بالمياه، يمكن أن تنمو في أية أرض تستنبت فيها .
لكن الخوف هو من انكشاف سّر الهرب الكبير .. وأعين العسس السريّة في كل مكان حتى في داخل قلوب الناس، وأحلامهم . وفجأة لمعت فكرة في بال يوسف النجّار، استوحاها من محصول القرع “الصلاحي” شبيه الجرّة”، الذي كان قد قطفه يومها ليبيعه قبل رحيله، هذا القرع الذي يقوم أبناء منطقته بتجفيف المتبقي من محصوله، وفتحه من العنق لكي يُستخدم كجرار لجلب المياه . أو خزن الغلال فيها . أما لو تركت القرعة الجافة من غير فتح العنق، فإنها لو غمرت في الماء فإنها تطفو كما يطفو الزورق، والقفّة، والجود، فما كان من يوسف إلا أن جمع أكبر عدد ممكن من هذا القرع ليعوض النقص في الأجواد، وبسرعة لم يتصورها أحد . ولم يدر أحد حتى يوسف النجّار نفسه كيف تهيأ له حلّ ربطة الطوف، والانحدار مع التيار بعائلته الذكورية المتشكلة منه ومن أبنائه السبعة . وزوجة هي أم أولاده تحمل لهم في أحشائها جنين يتمناه الجميعأن يكون أختاً .
وبما أن موسم الفيضان يجعل النهر العظيم يجرف غرائب الأمور فإن العسس أنفسهم قد اعتادوا على تلك المناظر، ولم يبالوا عندما مرّ طوف يوسف النجّار، وعائلته من أمامهم، فتصوروها إحدى الكتل الغريبة التي تجرفها تيارات فيضان النهر . ولكن الغرائب التي يجلبها فيضان النهر في كل ربيع هائج، لم تكن هذه المرّة لتساعد يوسف من التمويه الابتدائي للهرب . إن الغرائب التي يجرفها تيار الفيضان تجري بعنفوان وحشي .. فتحطّم بعضها بعضاً، وتتراكم فوق بعضها، حتى أنها تتجمع ككتل ضخمة في بعض المعابر الضيقة، وتكون في هذه الحالة أخطر، لأنه ما أن يزداد ضغط المياه الجارفة حتى تخرّب المضايق . أو تهوي من أعلى منحدر لتحطّم ما تحتها، وما فيه من أشياء هّشة تعلقت به . لهذا وبخبرته العميقة كان يوسف يتحاشى هذه الكتل، ويتلاعب مع التيارات بحرص وفطنة، يسعى لأن يكون كل أولاده متعاونين في رسم الجهات، وبخاصة الأربعة الكبار منهم . أما الثلاثة الآخرون فقد حرص على أن يكونوا في الوسط لحماية أمهم الحامل، وكم تمنى يوسف أن يكون الخامس فيهم على الأقل بنتاً، لكانت الآن خير عون لأمها، وسنداً لأخويها الصغيرين .. واستبعد شراً تطيّره في ذاته، أن تكون البنت ضريرة مثل أمها، لا يهم إن كانت خرساء أو طرشاء فالأمر أهون . ولكنه عاد ليؤكد قدرات زوجته الخارقة، أليست هي القائمة على إدارة أمور ثمانية من الذكور بكل ما يطلبونه ..
وفطن لأولاده السبعة فما كان له وللعدد سبعة لولا إلحاحه المستديم في في كل حمل أن تأتيه بنت تعين زوجته لهذا جاء أحدهم في أول السنة، والثاني في نهاية السنة . ولم يطل الوقت بيوسف وطوفه في الانحدار حتى حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ فاجأت الطوف كتلة ضخمة من الركام المتدفق بسرعة فخضّته بعنف، في لمح بصر، ولم ينتبه يوسف إلى أن الكتلة اقتلعت كالمغناطيس ولديه المراقبين على الجهة اليمنى للطوف، فيراهما ويسمع إشارات الاستغاثة في عينيهما وهما يطلقانها بتلويحاتهما، وقد ابتعد الطوف عنهما بسرعة هائلة، بينما تعلقا بالكتلة وكأنهما طيور مهاجرة ترحل بعيداً ولكنها مسلوبة الارادة . فيحار يوسف بين إدارة أمور الدّفة، لتفادي اختلال الطوف، وبين القيام بأية محاولة لانقاذهما مهما فكرّ بعدم الجدوى، لفوات الآوان، ولكن جريان النهر أسرع من الوقت، أسرع من مرور تيارات النجوم، ونيازكها فابتعدت المسافة، واختفت الكتلة بما فيها، وتلاشت تلويحات الولدين .. وليس على الأم التي ترى بعينها الجوانية، إلا أن تهدأ، وتصبر وهي تفقد أول اثنين من أطفالها ..
وفي هذا الخضم ليس هناك وقت للتفكير، فعلى الجهة اليمنى للطوف مأزق، فإما أن يذهب أحد الولدين إلى الجهة اليسرى للتعويض أو يستعين بالابنين الآخرين للمحافظة على توازن الطوف، ولكنهما أصغر من أن يستطيعا ذلك، لهذا قام الثلاثة بمقام المفقودين الكبيرين بسرعة البرق، ودونما تردد، وكأنما زرعت فيهم قوى ثلاثة رجال . وتبقى الأم لوحدها في الوسط تلوب، ولا تعلم ما الجهة التي عليها مراقبتها بأذنيها وعينها الجوانية، للتأكد من وجود أطفالها عليها، ودموعها تغطي وجهها، في قلق، وهياج، وحيوية مسلوبة . وتتنصت الأم بكل ما فيها من سمع إلى كل ما يمرّ حولها لعلها تحس بأحد ولديها المخطوفين . أو كليهما، فربما يمر الطوف على مكان يكون الصبيان قد تعلقا فيه بحافة لها نتوء بارز من الأشجار، وفروعها . لكن ما حدث هو العكس فقد فاجأ الطوف تيار جارف من جهة اليسار، وبغتة لم تطل حتى اختفى الصبيان الكبيران الآخران، دون أن يكون هناك وقت للانتباه . أو اتخاذ قرار للمضي وراءهما لمساعدتهما . أو حتى للبكاء، والعويل، وإنما صار الأمر متعلّقاً بما بقي هنا على الطوف ممن لا حول لهم، وهم الأم والصبية الثلاثة الصغار . و لم تفسح المحنة فرصة كبيرة للتحسّر على الفقيدين الجديدين، وبدا الصغار في هذا الرعب أكبر عمراً، وأشد بأساً وصلابة . وكأنهم درسوا فنون البحار السبعة . أما يوسف فقد صار مثل المعتوه . أو كمن لا يبالي بكل ما يجري من حوله،شغله الدّفة فقط . والأم مطروحة من هول المصيبة بين زهور الأغصان التي صارت مثل جنة تطفو بين السماء والأرض .. بلا قرار .. وتبدو الأغصان هي الأخرى كروح الرجل مقطوعة من أرضها ولا تعرف في أي أرض ستنبت ثانية، وما ظهورها الآن إلا نوع من النزاع على البقاء من جديد .
وفي محاولتها تنهض الأم لتعوض جهد المفقودين الأربعة، ولكنها ما أن تنهض حتى يدور الطوف بكل ما هو موجود عليه، ولا تجد الأم نفسها إلا وقد تشبثت بجذع، ولا تدري هل ستبقى سالمة معه أم لا، من أجل الحمل الذي في بطنها، ولا من سيبقى معها . ومن هول المعاناة تغيب عن الوعي.. ولا ترى إلا أحلام يقظة حولها : تحلم مرّة بأنها جنية مسحورة ترعب غيلان المياه السبعة، فتبزّها كلها، لتنتقم من هياجها، وتثويرها للمياه، في سيول عارمة . وتدور كجنية ماء عظيمة البأس بين الأمواج وقد أحدثت دوّامات هائلة، تبصر ما حولها بكل وضوح . بل وتميّز الألوان السبعة .. وترى غضب الشر في كل مكان، فتدور وكأنها روح حائرة تلوب لتبتلع ما حرمت منه طوال حياتها، وتتعجب من القدرة التي تملكتها فجأة . والرغبة النهمة بالابتلاع، ولكنها لا تبتلع أي شيء يقابلها . بل تلك الأرواح الهائمة، بعيدة عن أجسادها، أرواح شريرة، انتقمت من البشر، وعذّبت الكثيرين بالغرق الخاطف، وتعليق الغارق من أجفانه . وكأن الزوجة التي صارت جنية ماء على شكل دوّامة، تريد بذلك أن تصهر هذه الأرواح في بوتقتها التي تشبعّت بالحرمان والاضطهاد، لأنها تخشى أن تعود تلك الأرواح للتجسّد من جديد بأشكال تريد الانتقام من بني البشر مجددًا، وترى الأم الجنية أنها قد أصبحت الأم الكبيرة للدوّامات كلها . ويتصادف أن تقوم بافتراس مارد ضخم، بثلاث عيون، تتوسط الثالثة موقع الأنف ..
لهذا شخّصت الأم المارد بأنه فاقد لحاسة الشمّ . لا تضيره الروائح مهما كانت، ولا يميّز بين زكيها، وكريهها . لهذا اشمأزت الأم الدوّامة منه، ولم تستسغ طعمه رغم أنها لم تمضغه، أو تطحنه كما تفعل الدوّامات، كان قصدها أن تعلّقه من آذانه ليكون عبرة لغيره، ولكن آذان المارد هذا هي زعانف تمتد على طول جسده بألوان قاتمة كالحقد المظلم، شائكة كإبر الشيليك البري اليابس، مستعصية مثل رأس الشص، إذا انعرز في جسم لدن كاللحم، لا تخرج منه إلا وقد خلعت معها جزء من لحم الجسم .
وتحاول الأم الجنية بعدها أن تتخلّص من لا إنسيتها لتعود إلى أولادها السبعة فقد نسيت منذ البداية أن غايتها في أن تنقلب جنية كانت لتبحث عنهم في هذا الخضّم . ويتوسّل المارد إليها أن تعفيه هذه المرّة، وتدعه لحاله، لأنه في مهمة خاصة، بعثه بها ملك الشّر، وإن لم يقم بمهمته في وقتها المناسب نال أهله الويل والثبور، من جلاوزة ملك الشّر هذا .
وعندما تستفسر منه بسرّها عن بغيته، لا يستطيع اجابتها، ما لم تعده لحاله . وبينما تحار الزوجة الجنية بأمرها من هذه الحالة التي لم تمرّ عليها آنفاً، تعجب من وقوفها بوجه مارد وسيط لملك الشّر، وكيف لها أن تدعه لحاله، ما دام هو عملاق المهمات الشريرة التي قد تكون مأساتها واحدة منها، وربما يكون هو من أجهز على أولادها . ويفهم المارد بسرّه مغزى تساؤلها، فلا يستطيع الإجابة، ويتمنى ألا تسأله عنهم . فهي لا تعرف حتى الآن أن الثلاثة الآخرين من أولادها قد لحقوا بالأربعة الأوائل، هؤلاء الذين ذوبهم لتوه في أعماق مياه المحيط، وجاء لكي يجهز عليها، وعلى جنينها ساندريلا العصر، ولن يبقى لديه فيما بعد سوى مهمة تعذيب الزوج يوسف النجّار بجعله يتوه في العالم .
وتنتبه الزوجة الجنية لأفكار المارد، المحتدمة، وهواجسه الداخلية، فتلتقط منها معنى التيه، وعذاباته التي لا تقاس بأي عذاب آخر، فأن يموت الإنسان أسهل كثيراً من التيه، وفقدان الاتجاه . وتكون الزوجة الجنية هنا قد ابتلعت نصف المارد، بلا وعي منها، وقد بقي النصف الآخر في فمها . فما الحلّ يا ترى فهي تلوب هنا في حيرة من أمرها وتتشبث بمنجد لحالتها، وترى أنها عطشى لا ترتوي رغم أنها عنصر لا يتجزأ من الماء، مالح كان أو حلو . فكيف للماء أن يعطش، وكيف للماء أن يروي نفسه بنفسه . هذه المعادلة وضعتها في كابوس شديد التوتر، وهي على حالها متضايقة من وقوف المارد بين فمها ومبلعها، محشوراً بحيث لا يستطيع أحدهما التخلّص، أو التملّص من الآخر .
وتفيق الزوجة الأم فترى نفسها ما تزال متشبثة بما تبقى من الطوف، وما عليه من أشجار، وقد تشنج فكّها الذي فتحته إلى أقصاه، فلاذت بزير الماء تبغي الارتواء منه . ولكن لا أثر للزير الذي كانت قد طوحت به العواصف، والأعاصير التي صارعها الطوف ومن عليه من عائلتها، فلم تعرف الزوجة الأم في أي مستقر صار الزير . وبانصاتة غائمة تستعرض أركان الطوف فتجده بلاحراسة، وقد تكالبت الأمواج من حوله، تعلو، وتهبط في هياج فتتشبث بالجذع من جديد .
ومن هلعها تغيب ثانية ليعاودها حلم من نوع آخر، فترى بأنها أم لمجموعة الأشجار التي جمعّها زوجها يوسف بعناء، وقد نمت في غابة سحرية، تمثل أطراف الكون . كا ربما خليط من كل العوالم الخفية، وصارت هي الأم أعتق شجرة فيها . وعلى الأشجار شانات لخلايا نحل عسل الجنّة، مدلاة كأنها مسابح، أو قلائد بأحجام تتراوح ما بين كبر، وقدم الشجرة، لكن شانة خلية نحل الشجرة الأم التي تقمصتها الزوجة هي الأكبر، والأقدم، والأجمل، تشكلّت بسبعة شواهد * يكبر أحدها الآخر بعام . أو عامين . إلا الأخيرين، فيبدوان وكأنهما قد تشكلا في نفس اليوم، وربما الساعة، ويشبه أحدهما الآخر حتى في التشكيلة الزخرفية، وكأنهما توأمان، وتقول الزوجة أم الأشجار في سرّها الذي مازال يعي الواقع الذي هربت منه، بأن التوأم سادس بطن حملته . وتتباهى الزوجة الشجرة بقلادتها النحلية، وتسمي كل هذه الشانات أبناءها الذين يزينون صدرها، ويحرسونها من كل غادر، أو متطّفل .
وتدخل الزوجة الشجرة في بعض المرّات في حالة كونها نصف شجرة ونصفها الآخر آدمية لها سيقان، وأذرع، وصدر، ولكن بلا رأس، إنها تمثل نفسها بروؤس سبعة، والثامن لم يبق له غير أيام لينبت بشعر طويل . ويبدو كأن الرأس الذي سينبثق قد تشكلّ من جوفها، وترى بنفسها مرارًا أن الرأس قد خرج من تحتها . وتسمع حولها تقاليد عرس، يبدو أن الأشجار الأخرى قد أقامته لها . أو للرأس الجديدة، ليس ككل عرس، إنه نوع من الابتهاج بمولود مهما كان جنسه .
ويأتي رجل مخيف لكنه مسن كالتاريخ ليحدّثها وليذكّرها بأنها تعيش شخصية الحالم ، فتتفرّس في وجهه، وتحس أنها تبصر في الحلم، ويعرف كلاهما بأنهما يعرفان بعضهما منذ الأزل، فتدرك اشجرة الأم، بأنه قد جاء ليأخذها بعيداً، فتريد أن تفيق طالبة مهلة لكي تكمل واجباتها . على الأقل عملية الانجاب، ولكن الرجل على عجل، ولديه واجبات، ومسافرون على الدرب في محطات أخرى نتظرونه .
وعلى الساحل بعد أن رسى الطوف على فوهة الخليج بين الماء الحلو البارد، والماء المالح الحار، يتفقّد الزوج يوسف النجّار أشياءه على الطوف فلا يجد أثرًا لبقية الصبيان الثلاثة . سبعة صبيان ضحية رحلة العمر، وأمله في الثامن في جوف زوجته … لكنه وما أن ينزل للساحل لكي يشّد الطوف بشيء ما حتى لا يجرف التيار الطوف بما فيه، يرى أنه يشد حبل الطوف من غير عناء، وأن الطرف الآخر منه راخٍ، منفلت .. فيحس بأن شيئاً ما قد حدث .
وما يلتفت باتجاه الطوف حتى يراه منسرح، وقد ابتعد عنه بمسافة تكبر شيئاً فشيئاً، وزوجته، أم أولاده الذين رحلوا هاهي الأخرى تتركه . وبما أن الزوجة المنصاعة لقدرها لا بد إلا أن تسافر، وهي تنظر إلى المولدة التي خرجت لتوها، فقد تناولها الرجل الشنيع بيديه الهائلتين، ووضعها فوق قفة مطلية بقار هيتي*، وقذفها باتجاه الجرف، فلا يكون من يوسف النجّار إلا أن يتناولها بأحضانه، وقد سالت دموعه دون إرادة منه، وقد تقاذفته الهموم .. ومتناقضات الحالة .. فهو بين نارين : أيلحق بالطوف والزوجة المسافرة إلى مصيرها ؟ أم يتقبّل الأمر، وقد منحته الزوجة الوليدة الجنين ؟ وداخ من الارهاق وكثرة الهموم، وفقدان كل ما لديه، إلا الجوهرة التي صارت الآن بين يديه، وهي الابنة التي انتظرها الثمانية الذين رحلوا عنه، في هذه الرحلة المريعة .
ويغيب يوسف عن الوعي، ولا يصحو إلا على بكاء الطفلة في حضنه، وهي ترضع من ثمرة تمر سقطت فوقها، ويحس للوهلة الأولى بأنه قد استند بظهره إلى جذع نخلة باسقة وارفة الظل، تفيأ هو وابنته بظلالها، وقد تدلّت منها عذوق الرطب الذهبية .
وينتبه يوسف النجّار إلى أن البنت تنظر إلى الأفق بابتسامة ذات معاني، وتتكلم بلسان الكبار . فهدأ روعه بعد الانهاك، والقهر المهولين، وأحس أنه بحاجة لمهلة يسترد أنفاسه ما دام ما يحتاجان إليه هو والطفلة من غذاء، ودواء فوق رأسهما، فناما بهدوء معاً، ريثما يتعرفان على الأرض الجديدة .
هوامش :
* القصّاب = اللحّام .
* الكلك . أو الجلج = الطوف .
* القدّوم = هي الفأس العريضة لحفر السواقي .
* الشواهد = جمع شاهود المسبحة .
* القار الهيتي = ربما يكون أقدم قار مستخدم في الدنيا .. وجد في مدينة أعلى الفرات العراقي .
لهذا لم يبن يوسف فلكاً، وإنما عمل على وسيلة أسهل للانحدار جنوباً باتجاه التيار، ألا وهو الطوف “الكلكك*” العائم، ولم يكن الرجل بحاجة لنقل هذه العائلة النباتية إلا لأن عائلته التي تتشكّل من امرأته وسبعة بنين وجنين في الشهر الخامس نباتيون مثله، وكل منهم عائلة نباتية سوف يختص بتنمية عائلة منها . وقد قام الرجل بجمع الجذوع سراً بحجة استنباتها في مزرعة جديدة للحاكم الصارم، لهذا بنى سوراً وهمياً حول الطوف من بقايا الأشجار التي لن يأخذها معه، بينما حرص على تقليم الأشجار الهامة، ولم ينس أن يحتفظ ببراعم من عدة أصناف للعائلة النباتية الواحدة، وزّعها على الأولاد كل حسب رغبته، فما إن تستقر بهم أرض، ويزرع الأشجار، ويقوم بتطعيم كل شجرة بعدة أصناف من نفس العائلة التي يحملها كل ولد من أولاده، وبذلك يختصر الكثير من الجهد، والثقل . ولكن التوأم اللذين كانا يقلدان أباهما في كل شيء يقوم به حاولا عمل نموذج مصغّر على الأرض للطوف الذي يبنيه أبوهما . فقد كان التوأم الكبير يؤشر على الأرض والآخر يقوم بالحفر بفأس “القدّوم*” الذي يستخدمه الكّل حتى أمهما، وفيما هما منهمكان باللعبة المسلّية، يهوي الصغير بضربة غير موفقة على رأس توأمه الأكبر فيجرح رأسه عرضياً، وتتطاير نافورة من الدماء، ولا يعرف أن التوأم الأكبر قد فعل بأخيه نفس ما حدث له لا إرادياً . ويخاف كلاهما من العقاب، فيهربان في عمق البستان، وقد تجردا من هوجسهما، وخوفهما من غيلان البساتين، غير أن المضمّد يجدهما صدفة فيقوم بمداوتهما ويعجب من كيفية جرح أحدهما للآخر في نفس المكان . ولم يعرف المضمّد وقتها أن الجرح قد تفجّر لدى التوأم الصغير لحاله تلقائياً من فعل تصّور شدة الألم والذنب غير المقصود، لتماثل التوأم في ردود أفعالهما، وحركاتهما . وتقلق الأم وهي تقوم بسلق وجبة القرع الأحمر الطازج، وقد جهزّت العسل لتضعه فوق القرع المسلوق حالما يطلبانه . لكن رائحة دم ساخن فاحت في مناخيرها، فسمعت حفيف قدوم التوأم مع زائر علقت روائح الضماد، واليود الحارق بثيابه، فتسارع الأم بالوقوف أمام أقرب شانة نحل، وتملأ طاسة فخارية بما يجود به النحل لأولادها غير مبالية ولا خائفة من لسعات محتملة من إبر النحل ويبدو أن النحل نفسه لا يبالي هو الآخر بالتعدي على قوت اليرقات ما دام بستان يوسف النجّار تحت تصرفه . وتجلس الأم لتسمع كلام المضمّد المتعجّب، ومسعاه لتضميد التوأم وهي تضّيفه مسلوق القرع الأحمر المطبوخ بالعسل، وهي تسمع بعينيها إشارات المضمد وهو يصف الجرحين .
وكم تعجب العسس من تفاهم يوسف النجّار الأطرش مع أبنائه الخرس، وزوجته العمياء، وكانوا يعزون ذلك لتوحد العاهات، على قاسم مشترك . أما ما كان يعيق يوسف أكثر من التفاهم مع عائلته، هو كيفية جمع الأجواد التي سوف تحمل الطوف الذي سينحدر به فوق أمواج النهر العظيم في موسم الفيضان الكبير، فكل جود يمثّل دابة تسلخ بعناية، وعليه أن يوصي القصّاب* بذلك مسبقًا، وعليه أن يكون حذراً، ويلّح على شراء الأجواد خارج الاستعمال الضروري للحياة اليومية، فعيون العسس ترصد كل شيء، حتى أن كل فرد كان يشعر بأن عيوناً جوانية من عيون العسس قد نبتت بداخله، وخاف أن يبوح بهذا الشعور لأي مخلوق خوفاً من أن يتصوره معتوهاً . أو مغرماً بالعيون العسسية، “لكن يوسف فهم بعد فوات الآوان أن امرأته هي الآخرى قد نبتت لها عيون مشابهة، رغم أنها بصيرة، وربما تكون قد عزت ذلك لعيون العميان الداخلية، لكنها عجبت هي الأخرى بشكل يثير الاستغراب لأن جاراتها كلهن كنّ يتباهين باختلاف مواصفات عيون العسس الجوّانية التي نبتت لهنّ وفيهن، فصرن عسسيات بعضهن على بعض من دون داع، ولا إرادة، يراقبن الأنا بالهي فيهن من دون داعٍ، مما يخلق لهن مشاكل كثيرة في تفهّم كثير من الأمور التي لا تستعصي على طفل بريء .
وقد علم يوسف بإشاعات عسسية أشاعها بعض المتشككين الذين يؤكدون على أن عائلة يوسف النجّار تتصّنع وجود العاهات لديها . أو ربما افتعلت العائلة لبس هذه العاهات هروباً من الأسئلة العسسية، والتحقيقات السرية التي تطال الكثيرين من قريب أو بعيد . ولا غرابة في حصول هذه الحالة في بيئة تمركزت فيها العيون العسسية داخل الناس، وصاروا يحصون حركات أنفسهم على أنفسهم، وكم من تقرير سريّ رُفع عن يوسف وعائلته، يبين بشتى التلميحات، والتأكيدات على عكس ما هي عليه عاهات أفراد عائلة يوسف النجّار . فمن الناس من يحكي بأن العائلة عندما تجتمع في الليل، تحت سقف بيتها، فإنهم يسمعون ضحكات الأولاد، وهم يهمسون لوالدهم الذي يجيب في الحال من غير إعاقة يصطنعها أمام الناس في الرد، والسمع . أما الأم فإنها تتباهى في وصف ألوان ملابس أوردها التي غسلتها في النهار، ونشرتها تحت أشعة الشمس التي تتخلل أشجار التوت لداكنة الخضرة، وقد طارت النحلات النشيطة، والفراشات الزاهية لتحط على أزهار النرجس الصفراء، وزهور الليلك البنفسجية، وورد الجوري بألوانه المختلفة .
لهذا كله لم يكن من صالح يوسف الانتظار، إلا لانتهاز الوقت المناسب لأمور يستوجبها التحضير، فالأجواد ستكون أقوى على التحمل في موسم الربيع هذا، بعد أن يكون قد مرّ عليها أكثر من ربيع، فصارت مساماتها أضيق لامتصاصها الماء والرطوبة في الخريف والشتاء . وصارت قادرة على مقاومة التنفيس تحت ثقل الجذوع النباتية، إضافة للجذوع الإنسانية التسعة والنصف من عائلة يوسف النجّار، إذا ما حسب الجنين في بطن زوجته . أما جذوع الأشجار فقد نمت في نهاياتها جذور تشرّبت بالمياه، يمكن أن تنمو في أية أرض تستنبت فيها .
لكن الخوف هو من انكشاف سّر الهرب الكبير .. وأعين العسس السريّة في كل مكان حتى في داخل قلوب الناس، وأحلامهم . وفجأة لمعت فكرة في بال يوسف النجّار، استوحاها من محصول القرع “الصلاحي” شبيه الجرّة”، الذي كان قد قطفه يومها ليبيعه قبل رحيله، هذا القرع الذي يقوم أبناء منطقته بتجفيف المتبقي من محصوله، وفتحه من العنق لكي يُستخدم كجرار لجلب المياه . أو خزن الغلال فيها . أما لو تركت القرعة الجافة من غير فتح العنق، فإنها لو غمرت في الماء فإنها تطفو كما يطفو الزورق، والقفّة، والجود، فما كان من يوسف إلا أن جمع أكبر عدد ممكن من هذا القرع ليعوض النقص في الأجواد، وبسرعة لم يتصورها أحد . ولم يدر أحد حتى يوسف النجّار نفسه كيف تهيأ له حلّ ربطة الطوف، والانحدار مع التيار بعائلته الذكورية المتشكلة منه ومن أبنائه السبعة . وزوجة هي أم أولاده تحمل لهم في أحشائها جنين يتمناه الجميعأن يكون أختاً .
وبما أن موسم الفيضان يجعل النهر العظيم يجرف غرائب الأمور فإن العسس أنفسهم قد اعتادوا على تلك المناظر، ولم يبالوا عندما مرّ طوف يوسف النجّار، وعائلته من أمامهم، فتصوروها إحدى الكتل الغريبة التي تجرفها تيارات فيضان النهر . ولكن الغرائب التي يجلبها فيضان النهر في كل ربيع هائج، لم تكن هذه المرّة لتساعد يوسف من التمويه الابتدائي للهرب . إن الغرائب التي يجرفها تيار الفيضان تجري بعنفوان وحشي .. فتحطّم بعضها بعضاً، وتتراكم فوق بعضها، حتى أنها تتجمع ككتل ضخمة في بعض المعابر الضيقة، وتكون في هذه الحالة أخطر، لأنه ما أن يزداد ضغط المياه الجارفة حتى تخرّب المضايق . أو تهوي من أعلى منحدر لتحطّم ما تحتها، وما فيه من أشياء هّشة تعلقت به . لهذا وبخبرته العميقة كان يوسف يتحاشى هذه الكتل، ويتلاعب مع التيارات بحرص وفطنة، يسعى لأن يكون كل أولاده متعاونين في رسم الجهات، وبخاصة الأربعة الكبار منهم . أما الثلاثة الآخرون فقد حرص على أن يكونوا في الوسط لحماية أمهم الحامل، وكم تمنى يوسف أن يكون الخامس فيهم على الأقل بنتاً، لكانت الآن خير عون لأمها، وسنداً لأخويها الصغيرين .. واستبعد شراً تطيّره في ذاته، أن تكون البنت ضريرة مثل أمها، لا يهم إن كانت خرساء أو طرشاء فالأمر أهون . ولكنه عاد ليؤكد قدرات زوجته الخارقة، أليست هي القائمة على إدارة أمور ثمانية من الذكور بكل ما يطلبونه ..
وفطن لأولاده السبعة فما كان له وللعدد سبعة لولا إلحاحه المستديم في في كل حمل أن تأتيه بنت تعين زوجته لهذا جاء أحدهم في أول السنة، والثاني في نهاية السنة . ولم يطل الوقت بيوسف وطوفه في الانحدار حتى حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ فاجأت الطوف كتلة ضخمة من الركام المتدفق بسرعة فخضّته بعنف، في لمح بصر، ولم ينتبه يوسف إلى أن الكتلة اقتلعت كالمغناطيس ولديه المراقبين على الجهة اليمنى للطوف، فيراهما ويسمع إشارات الاستغاثة في عينيهما وهما يطلقانها بتلويحاتهما، وقد ابتعد الطوف عنهما بسرعة هائلة، بينما تعلقا بالكتلة وكأنهما طيور مهاجرة ترحل بعيداً ولكنها مسلوبة الارادة . فيحار يوسف بين إدارة أمور الدّفة، لتفادي اختلال الطوف، وبين القيام بأية محاولة لانقاذهما مهما فكرّ بعدم الجدوى، لفوات الآوان، ولكن جريان النهر أسرع من الوقت، أسرع من مرور تيارات النجوم، ونيازكها فابتعدت المسافة، واختفت الكتلة بما فيها، وتلاشت تلويحات الولدين .. وليس على الأم التي ترى بعينها الجوانية، إلا أن تهدأ، وتصبر وهي تفقد أول اثنين من أطفالها ..
وفي هذا الخضم ليس هناك وقت للتفكير، فعلى الجهة اليمنى للطوف مأزق، فإما أن يذهب أحد الولدين إلى الجهة اليسرى للتعويض أو يستعين بالابنين الآخرين للمحافظة على توازن الطوف، ولكنهما أصغر من أن يستطيعا ذلك، لهذا قام الثلاثة بمقام المفقودين الكبيرين بسرعة البرق، ودونما تردد، وكأنما زرعت فيهم قوى ثلاثة رجال . وتبقى الأم لوحدها في الوسط تلوب، ولا تعلم ما الجهة التي عليها مراقبتها بأذنيها وعينها الجوانية، للتأكد من وجود أطفالها عليها، ودموعها تغطي وجهها، في قلق، وهياج، وحيوية مسلوبة . وتتنصت الأم بكل ما فيها من سمع إلى كل ما يمرّ حولها لعلها تحس بأحد ولديها المخطوفين . أو كليهما، فربما يمر الطوف على مكان يكون الصبيان قد تعلقا فيه بحافة لها نتوء بارز من الأشجار، وفروعها . لكن ما حدث هو العكس فقد فاجأ الطوف تيار جارف من جهة اليسار، وبغتة لم تطل حتى اختفى الصبيان الكبيران الآخران، دون أن يكون هناك وقت للانتباه . أو اتخاذ قرار للمضي وراءهما لمساعدتهما . أو حتى للبكاء، والعويل، وإنما صار الأمر متعلّقاً بما بقي هنا على الطوف ممن لا حول لهم، وهم الأم والصبية الثلاثة الصغار . و لم تفسح المحنة فرصة كبيرة للتحسّر على الفقيدين الجديدين، وبدا الصغار في هذا الرعب أكبر عمراً، وأشد بأساً وصلابة . وكأنهم درسوا فنون البحار السبعة . أما يوسف فقد صار مثل المعتوه . أو كمن لا يبالي بكل ما يجري من حوله،شغله الدّفة فقط . والأم مطروحة من هول المصيبة بين زهور الأغصان التي صارت مثل جنة تطفو بين السماء والأرض .. بلا قرار .. وتبدو الأغصان هي الأخرى كروح الرجل مقطوعة من أرضها ولا تعرف في أي أرض ستنبت ثانية، وما ظهورها الآن إلا نوع من النزاع على البقاء من جديد .
وفي محاولتها تنهض الأم لتعوض جهد المفقودين الأربعة، ولكنها ما أن تنهض حتى يدور الطوف بكل ما هو موجود عليه، ولا تجد الأم نفسها إلا وقد تشبثت بجذع، ولا تدري هل ستبقى سالمة معه أم لا، من أجل الحمل الذي في بطنها، ولا من سيبقى معها . ومن هول المعاناة تغيب عن الوعي.. ولا ترى إلا أحلام يقظة حولها : تحلم مرّة بأنها جنية مسحورة ترعب غيلان المياه السبعة، فتبزّها كلها، لتنتقم من هياجها، وتثويرها للمياه، في سيول عارمة . وتدور كجنية ماء عظيمة البأس بين الأمواج وقد أحدثت دوّامات هائلة، تبصر ما حولها بكل وضوح . بل وتميّز الألوان السبعة .. وترى غضب الشر في كل مكان، فتدور وكأنها روح حائرة تلوب لتبتلع ما حرمت منه طوال حياتها، وتتعجب من القدرة التي تملكتها فجأة . والرغبة النهمة بالابتلاع، ولكنها لا تبتلع أي شيء يقابلها . بل تلك الأرواح الهائمة، بعيدة عن أجسادها، أرواح شريرة، انتقمت من البشر، وعذّبت الكثيرين بالغرق الخاطف، وتعليق الغارق من أجفانه . وكأن الزوجة التي صارت جنية ماء على شكل دوّامة، تريد بذلك أن تصهر هذه الأرواح في بوتقتها التي تشبعّت بالحرمان والاضطهاد، لأنها تخشى أن تعود تلك الأرواح للتجسّد من جديد بأشكال تريد الانتقام من بني البشر مجددًا، وترى الأم الجنية أنها قد أصبحت الأم الكبيرة للدوّامات كلها . ويتصادف أن تقوم بافتراس مارد ضخم، بثلاث عيون، تتوسط الثالثة موقع الأنف ..
لهذا شخّصت الأم المارد بأنه فاقد لحاسة الشمّ . لا تضيره الروائح مهما كانت، ولا يميّز بين زكيها، وكريهها . لهذا اشمأزت الأم الدوّامة منه، ولم تستسغ طعمه رغم أنها لم تمضغه، أو تطحنه كما تفعل الدوّامات، كان قصدها أن تعلّقه من آذانه ليكون عبرة لغيره، ولكن آذان المارد هذا هي زعانف تمتد على طول جسده بألوان قاتمة كالحقد المظلم، شائكة كإبر الشيليك البري اليابس، مستعصية مثل رأس الشص، إذا انعرز في جسم لدن كاللحم، لا تخرج منه إلا وقد خلعت معها جزء من لحم الجسم .
وتحاول الأم الجنية بعدها أن تتخلّص من لا إنسيتها لتعود إلى أولادها السبعة فقد نسيت منذ البداية أن غايتها في أن تنقلب جنية كانت لتبحث عنهم في هذا الخضّم . ويتوسّل المارد إليها أن تعفيه هذه المرّة، وتدعه لحاله، لأنه في مهمة خاصة، بعثه بها ملك الشّر، وإن لم يقم بمهمته في وقتها المناسب نال أهله الويل والثبور، من جلاوزة ملك الشّر هذا .
وعندما تستفسر منه بسرّها عن بغيته، لا يستطيع اجابتها، ما لم تعده لحاله . وبينما تحار الزوجة الجنية بأمرها من هذه الحالة التي لم تمرّ عليها آنفاً، تعجب من وقوفها بوجه مارد وسيط لملك الشّر، وكيف لها أن تدعه لحاله، ما دام هو عملاق المهمات الشريرة التي قد تكون مأساتها واحدة منها، وربما يكون هو من أجهز على أولادها . ويفهم المارد بسرّه مغزى تساؤلها، فلا يستطيع الإجابة، ويتمنى ألا تسأله عنهم . فهي لا تعرف حتى الآن أن الثلاثة الآخرين من أولادها قد لحقوا بالأربعة الأوائل، هؤلاء الذين ذوبهم لتوه في أعماق مياه المحيط، وجاء لكي يجهز عليها، وعلى جنينها ساندريلا العصر، ولن يبقى لديه فيما بعد سوى مهمة تعذيب الزوج يوسف النجّار بجعله يتوه في العالم .
وتنتبه الزوجة الجنية لأفكار المارد، المحتدمة، وهواجسه الداخلية، فتلتقط منها معنى التيه، وعذاباته التي لا تقاس بأي عذاب آخر، فأن يموت الإنسان أسهل كثيراً من التيه، وفقدان الاتجاه . وتكون الزوجة الجنية هنا قد ابتلعت نصف المارد، بلا وعي منها، وقد بقي النصف الآخر في فمها . فما الحلّ يا ترى فهي تلوب هنا في حيرة من أمرها وتتشبث بمنجد لحالتها، وترى أنها عطشى لا ترتوي رغم أنها عنصر لا يتجزأ من الماء، مالح كان أو حلو . فكيف للماء أن يعطش، وكيف للماء أن يروي نفسه بنفسه . هذه المعادلة وضعتها في كابوس شديد التوتر، وهي على حالها متضايقة من وقوف المارد بين فمها ومبلعها، محشوراً بحيث لا يستطيع أحدهما التخلّص، أو التملّص من الآخر .
وتفيق الزوجة الأم فترى نفسها ما تزال متشبثة بما تبقى من الطوف، وما عليه من أشجار، وقد تشنج فكّها الذي فتحته إلى أقصاه، فلاذت بزير الماء تبغي الارتواء منه . ولكن لا أثر للزير الذي كانت قد طوحت به العواصف، والأعاصير التي صارعها الطوف ومن عليه من عائلتها، فلم تعرف الزوجة الأم في أي مستقر صار الزير . وبانصاتة غائمة تستعرض أركان الطوف فتجده بلاحراسة، وقد تكالبت الأمواج من حوله، تعلو، وتهبط في هياج فتتشبث بالجذع من جديد .
ومن هلعها تغيب ثانية ليعاودها حلم من نوع آخر، فترى بأنها أم لمجموعة الأشجار التي جمعّها زوجها يوسف بعناء، وقد نمت في غابة سحرية، تمثل أطراف الكون . كا ربما خليط من كل العوالم الخفية، وصارت هي الأم أعتق شجرة فيها . وعلى الأشجار شانات لخلايا نحل عسل الجنّة، مدلاة كأنها مسابح، أو قلائد بأحجام تتراوح ما بين كبر، وقدم الشجرة، لكن شانة خلية نحل الشجرة الأم التي تقمصتها الزوجة هي الأكبر، والأقدم، والأجمل، تشكلّت بسبعة شواهد * يكبر أحدها الآخر بعام . أو عامين . إلا الأخيرين، فيبدوان وكأنهما قد تشكلا في نفس اليوم، وربما الساعة، ويشبه أحدهما الآخر حتى في التشكيلة الزخرفية، وكأنهما توأمان، وتقول الزوجة أم الأشجار في سرّها الذي مازال يعي الواقع الذي هربت منه، بأن التوأم سادس بطن حملته . وتتباهى الزوجة الشجرة بقلادتها النحلية، وتسمي كل هذه الشانات أبناءها الذين يزينون صدرها، ويحرسونها من كل غادر، أو متطّفل .
وتدخل الزوجة الشجرة في بعض المرّات في حالة كونها نصف شجرة ونصفها الآخر آدمية لها سيقان، وأذرع، وصدر، ولكن بلا رأس، إنها تمثل نفسها بروؤس سبعة، والثامن لم يبق له غير أيام لينبت بشعر طويل . ويبدو كأن الرأس الذي سينبثق قد تشكلّ من جوفها، وترى بنفسها مرارًا أن الرأس قد خرج من تحتها . وتسمع حولها تقاليد عرس، يبدو أن الأشجار الأخرى قد أقامته لها . أو للرأس الجديدة، ليس ككل عرس، إنه نوع من الابتهاج بمولود مهما كان جنسه .
ويأتي رجل مخيف لكنه مسن كالتاريخ ليحدّثها وليذكّرها بأنها تعيش شخصية الحالم ، فتتفرّس في وجهه، وتحس أنها تبصر في الحلم، ويعرف كلاهما بأنهما يعرفان بعضهما منذ الأزل، فتدرك اشجرة الأم، بأنه قد جاء ليأخذها بعيداً، فتريد أن تفيق طالبة مهلة لكي تكمل واجباتها . على الأقل عملية الانجاب، ولكن الرجل على عجل، ولديه واجبات، ومسافرون على الدرب في محطات أخرى نتظرونه .
وعلى الساحل بعد أن رسى الطوف على فوهة الخليج بين الماء الحلو البارد، والماء المالح الحار، يتفقّد الزوج يوسف النجّار أشياءه على الطوف فلا يجد أثرًا لبقية الصبيان الثلاثة . سبعة صبيان ضحية رحلة العمر، وأمله في الثامن في جوف زوجته … لكنه وما أن ينزل للساحل لكي يشّد الطوف بشيء ما حتى لا يجرف التيار الطوف بما فيه، يرى أنه يشد حبل الطوف من غير عناء، وأن الطرف الآخر منه راخٍ، منفلت .. فيحس بأن شيئاً ما قد حدث .
وما يلتفت باتجاه الطوف حتى يراه منسرح، وقد ابتعد عنه بمسافة تكبر شيئاً فشيئاً، وزوجته، أم أولاده الذين رحلوا هاهي الأخرى تتركه . وبما أن الزوجة المنصاعة لقدرها لا بد إلا أن تسافر، وهي تنظر إلى المولدة التي خرجت لتوها، فقد تناولها الرجل الشنيع بيديه الهائلتين، ووضعها فوق قفة مطلية بقار هيتي*، وقذفها باتجاه الجرف، فلا يكون من يوسف النجّار إلا أن يتناولها بأحضانه، وقد سالت دموعه دون إرادة منه، وقد تقاذفته الهموم .. ومتناقضات الحالة .. فهو بين نارين : أيلحق بالطوف والزوجة المسافرة إلى مصيرها ؟ أم يتقبّل الأمر، وقد منحته الزوجة الوليدة الجنين ؟ وداخ من الارهاق وكثرة الهموم، وفقدان كل ما لديه، إلا الجوهرة التي صارت الآن بين يديه، وهي الابنة التي انتظرها الثمانية الذين رحلوا عنه، في هذه الرحلة المريعة .
ويغيب يوسف عن الوعي، ولا يصحو إلا على بكاء الطفلة في حضنه، وهي ترضع من ثمرة تمر سقطت فوقها، ويحس للوهلة الأولى بأنه قد استند بظهره إلى جذع نخلة باسقة وارفة الظل، تفيأ هو وابنته بظلالها، وقد تدلّت منها عذوق الرطب الذهبية .
وينتبه يوسف النجّار إلى أن البنت تنظر إلى الأفق بابتسامة ذات معاني، وتتكلم بلسان الكبار . فهدأ روعه بعد الانهاك، والقهر المهولين، وأحس أنه بحاجة لمهلة يسترد أنفاسه ما دام ما يحتاجان إليه هو والطفلة من غذاء، ودواء فوق رأسهما، فناما بهدوء معاً، ريثما يتعرفان على الأرض الجديدة .
هوامش :
* القصّاب = اللحّام .
* الكلك . أو الجلج = الطوف .
* القدّوم = هي الفأس العريضة لحفر السواقي .
* الشواهد = جمع شاهود المسبحة .
* القار الهيتي = ربما يكون أقدم قار مستخدم في الدنيا .. وجد في مدينة أعلى الفرات العراقي .