عبدالفتاح كيليطو، وهو الشخصية المميّزة والمثيرة للإعجاب في العالم العربي، شقّ العديد من المسارات الجديدة في قراءة الإرث الكلاسيكي منذ اشتغاله على المقامات في بداية الثمانينيات، ولاحقا على ألف ليلة وليلة، إلاّ أنّه، مع ذلك، لم يدرّس في الجامعة المغربية سوى الرواية الفرنسية، بينما قدّم حلقات بحث حول الأدب العربي في هارفارد، برينستون وفي الكوليج دوفرانس. كما أنّه عاود النّظر في مسألة اللغات والألسن في "لسان آدم" و"أتكلّم جميع اللغات، لكن بالعربية".
حفريات : اثنتا عشرة منمنمة هو، من دون شكّ، الكتاب الأكثر وجازة من بين كتب عبد الفتاح كيليطو الوجيزة في الأصل، وهو لذلك مثال نموذجي لكتابة هذا الرجل واسع الاطّلاع والمهذّب الذي يقرأ ويفكّر وهو يبتسم أكثر بكثير ممّا يتحدّث ويكتب بلا أيّة قيود. صدر كتاب حفريات في بروكسيل عام 2012 بمناسبة الاحتفاء بالآداب المغربية. هو كتيّب أكثر منه كتابا، يتألّف من اثني عشر نصّا مقتضبا تشكّل نوعا من الأدب. ليس لـحفريات Archéologie ذيوع كبير بين أوساط قرّاء كيليطو المعهودين إلاّ أنّه، مع ذلك، الكتاب الذي يقحمه الآن ضمن جمهور جديد، ذلك أنّ ترجمته إلى اللغة اليونانية قد ظهرت في أثينا (منشورات Antipodes). ثمّة طموح أن تخصّص له تتمّة بترجمة La querelle des images مادام هذان العنوانان الفرنسيان يعثران، في كلّ مرّة، على مرادفهما في كلمة يونانية واحدة ووحيدة لها صدى وذات حمولة تاريخية : Archeologἰa (Archologie) تحيل على طبقات مطمورة، بعضها فوق بعض لأرض شهدت تتابع حضارات فوقها منذ زمن سحيق؛ Iconomachἰa (La querelle des images) تتعلّق بالمشاجرات والخصومات البيزنطية الشهيرة ــ إبّان مرحلة تاريخية من مراحل تطوّر الامبراطورية البيزنطية ــ حول صور القدّيسين وأيقوناتهم والتي تجدّدها "خصومة الصور" من خلال قضايا مماثلة متصّلة بالعالم العربي.
لنتوقّفْ عند حفريات. إنّ منمنمات الحفريات لا تتعلّق بلحظات آنية يومية. هي ليست لا انطباعات خاطفة ولا تجارب شخصية، إنّما هي ورقات ذات تشابك معقّد وتنظيم محكم تجد منطلقها ومنشأ استلهامها في الميثولوجيا بكلّ صورها. يعود المؤلّف إلى الأساطير الإغريقية؛ يقرأ الإنجيل، السير المعظّمة المقدّسة والقرآن؛ يستثمر ببراعة النصوص العربية للقرون الوسطى، الأخبار والتواريخ؛ يسرح بخياله في ماضي القصيدة العربية ويجيل فكره في مستقبلها ؛ يعود إلى الأدب الأوروبي أو الأمريكي عبر مناح غير متوقّعة؛ يفيد من التحليل النفسي؛ دون نسيان واحدة من قراءاته اللّذيذة "مغامرات تان تان". بتسليطه الضوء على مقتطفات وعلى إثارات وبواعث منتقاة، يقوم بالربط بين توريات وتلميحات، ينسج أفكارا فيما بينها، يركّب معاني بعضها فوق بعض ويحيك ألغازا. تغدو الأسطورة ذريعة كي يتقنّع المؤلّف بأحد أقنعته العديدة مغترفا من منابع شتى : روايات، أشعار، شروح على الهامش، مرويات، أمثال، أخبار، محكيات السّفر أوالرحلة بما فيها بحوث مرهقة ورسائل. مبتغاه أن يسحب قارئه في مغامرة اقتناص المعنى حيث الطعم الغريب يصير معرفة، والمعرفة محرّضة، مشتهية لبحث، لتحرّ جديد.
المنمنمة عمل كتابي موجز، متكامل. الأسطورة هي بداية، بمثابة باعث أوحافز يتمّ التعرّف عليه بصورة مباشرة (تفاحة آدم، تقطيع أوصال أوزيريس، صخرة سيزيف، صحائف الحسنات والسيّئات، المتاهة). ثمّ إنّه بعد ذلك مجتزأ من نص معروف أو غير معروف، اكتشفه المؤلّف أثناء قراءاته أو عثر عليه مصادفة في تنقيباته. إنّه أيضا، وكما يمكن القول، خبر (أطروفة أو نادرة)، بسيط، عبارة عن تقليد أوعرف شفهي انتقل إلى التدوين فيما بعد، هو مفارقة، بل جملة تحوّلت إلى مثل يستخرجه الكاتب من مكمنه كقطعة آنية خزفية أو شذرة من معدن الذّهب (كما الأركيولوجي في تنقيبه)، يعيد بناءه من جديد، يعيد ترميمه أو يعيد تأليفه، وعندئذ فقط يقترحه على قارئه. اكتسبت الآنية الخزفية رائحة، ملمسا، نبض حياة، كُنها، صارت شهيّة لك أن تأكل منها بنهم.
من أيّ مصدر جاء هذا العمل الكتابي، فهو دائما ما يكثّف في أسطر قليلة حكاية وجيزة تذكّر بالحكايات الرمزية لروبرت لويس ستڤنسون، كتاب مؤلّف من قصص صغيرة أو بالأحرى من أنوية قصصية. غير أنّ ستڤنسون يؤثر الأساطير ذات الحمولة الأخلاقية أو الخارقة والقصص المبنية على أساس من موضوعتي الموت والزّمن. بالمقابل، تتحدّد منمنة كيليطو كلحظة متفرّدة، متولّدة من قراءات عديدة. تتوافق غالب الأحيان مع صور مكثّفة ( ليس صدفة أن تكون الأولى تحمل عنوان "لوحة") حتى ولو تعلّق الأمر بفكرة عابرة. يدعو كيليطو منمنماته "نصوصا مستلهمة بدون أن يكون الاصطلاح يحيل على قيمتها"، مبتغيا القول من هذا الجانب إنّ مشهدا، شخصية، كتابا، جميعها تفرض نفسها على الكاتب بكلّ قوّة الاستحواذ، تخصب كتاباته وتستولي على عمله، لا تتركه في سلام. بعض من هذه الأفكار شديدة الكثافة هي جدّ وجيزة، جدّ مقطّرة حتى أنّها تبدو أكثر فأكثر كمشروع تأليف (على شاكلة بعض حكايات ستڤنسون الرمزية)، مع ما تمثّله من تحريض شديد على تنشيط التفكير أوالتخييل.
على أساس من هذه الأنوية، يؤلّف كيليطو أسطورته الخصوصية الفردية. يبسط مطويات حكايته تارة متكهّنا، تارة مؤوّلا، تارة مقلّبا إيّاها بصورة مفاجئة حتى يضع لها نهاية غير منتظرة. تسمح له الإحالات المتعاقبة بإثارة موضوعات مشتركة وبإقامة تماثلات مثيرة. يغترف من التقليد العربي، الإغريقي والغربي ملفتا الانتباه إلى القرابة الوثيقة بين الحكايات. يسجّل المفارقات والطّرف في لوحة مشتركة مهتديا إلى لغز أو سرّ مباراة شطرنج فوق بشرية أو بشرية من دون الكشف عنه. يفتح، على هذا النحو، باب السرّ أو اللغز قليلا ويتركه مواربا. على الرغم من أنّ منمنماته تمثّل جزءا صميما من كتابته الإبداعية، إلاّ أنّها لا تخصّه فقط، إنّها تعكس في مراياها أعمالا وكتبا داعيا القارئ أن يلج المنمنة بدوره، مستحضرا قراءاته الخصوصية حتى يساهم فيها بأيّ تفصيل أو جزئية جديدة وفق شرط وحيد هو البراعة في الرّبط والسيطرة على حاسة ذوق اللغة.
عماد المنمنة هو الحاشية، والهامش الشارح أو الناقد. توضّح منمنمة "عبء الشعراء" إلى أيّ حدّ يمتلك التعليق بُعد أو شكل السينوغرافيا : يتيح فرصة تدارس أشعار تدور حول موضوعة النحالة/ البدانة المثيرة للهزء وحول الإلهام الخلاّق. هذا ما يفسّر الأسلوب الغنيّ بالتعابير العالمة وإن كانت تبدو خالية من الزّهو. يستدعي كيليطو في هذه الحالة مؤلّفي الأساطير المجهولين، الشرّاح الذين وشّوا حواشي الإليادة والأوديسا بتغييرات وتحويرات وبنصوص أخرى. حشد من النّسخ المتناقضة، من الطبعات ومن الشروح والتآويل يتكاثر بفضل ما تتيحه الحواشي. يستثمر المنمنمة بإغنائها بالمعرفة العالمة، لكنّه يدسّ فيها غالبا ــ مدّعيا أنّ الأمر يحدث من تلقاء نفسه ــ دعابة هازئة. خلف أسلوبه الجدّي، يكمن الضّحك كما في الفصل الدراسي، وفي لحظة شرح بارع وغير متوقّع لقصيدة ذات معنى مستتر ومحجوب، يسمح تلميذ لنفسه بمزحة أو نكتة غير منتظرة. هكذا يتدبّر الكاتب عمله كلعب : إنّه قارئ وكاتب، وكما هو ناسخ، محبّ أبدي للأدب، هو أيضا لاعب. بالكلمات والعبارات التي تلقّاها كإرث، يلعب لعبتي النرد والورق.
تشكّل منمنمات الحفريات مكتبة حقيقية يمثّل النص الأخير لمحة عنها. مقابل الكابوس البورخيسي لمكتبة بابل، يردّ كيليطو برموز، (اثنتا عشرة منمنمة)، بسيناريوهات بديلة ذات دعابة ملتبسة. موضوع المكتبة يتردّد كثيرا في عمله. المكتبة في "حصان نيتشه" هي بلد العجائب (تسمّى المكتبة أليس). لكن هي كذلك دعوة موجّهة للقارئ حتى ينصرف عن اليوميّ، مثل الرياضي الذي يستقرّ، إلى الأبد، فوق رفوف المكتبة، لكن بالمقلوب، ينتصب على اليدين بينما القدمان إلى الأعلى. عكس ذلك، ففي النص الأخير من حفريات، "صحيفة الغفران"، المستوحى من "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، تظهر المكتبة كفضاء مخيف، ما بعد الممات حيث يُتلف المرء ذاته في ذروة جنون القراءة. تصوّر "صحيفة الغفران" المكتبة في الآخرة، لها كبطل القارئ الأبدي اللاّنهائي، الزّائر الذي يتردّد بين قاعات القراءة، ربّما هو الكاتب نفسه ومن يشبهونه.
تتضمّن الطبعة اليونانية لـحفريات نصا غير منشور هو "ورع"، موضوع كخاتمة. في هذا النص، يمكن للامتداد اللاّنهائي للسّماء والذي حيّر الطفل، بصورة عميقة، ظهيرة يوم من أيّام رمضان، أن يمثّل حقّا الأفق متعذّر البلوغ للعمل المتخيّل. وهو، مثل بحار السندباد التي لا قعر لها، يجسّد الغاية بالنسبة للكاتب. يأخذنا كيليطو في تجوال بين لوحاته، مدوّنا روايات، آخذا بالاعتبار التفاصيل التي تنكشف له بصورة غير منتظرة مثل طائر الخطّاف بالنسبة للطفل الصّغير. يحبّ البساتين القصيّة، والمساحات الصغيرة، والأماكن التي تذكّر بحكايات ونوادر. ذلك أنّ الحكايات المقتضبة التي فرضت نفسها عليه تشبه أماكن خاصّة تستحثّ الاكتشاف والتأمّل العميق على خلاف الساحات الفسيحة والجادات العريضة المشابهة للرواية.
دون فاعلين محدّدين، وحتى وإن امتلكت أبطالا معيّنين، فإنّ هذه المنمنمات يلفّها الغموض. يلتمس القارئ عبثا إزالته. انقلب المنطق العمومي. ينبثق مكانه اللّغز أو السرّ ويغلب الصّمت. تبدو المتاهة ذات قوّة عظيمة أكثر من الموت نفسه، لا يجرؤ ثاناتوس النّفاذ إليها ولا السّير فيها. هل ثمّة من أماكن تكون مصيدة حتى للآلهة؟ لهذا السبب تحدث العودة إلى الميثولوجيا. لا نبحث في الحكايات الرمزية الاثنتي عشرة لـحفريات عن نموّ، عن تطوّر. سنتعقّب خطيئة آدم الأولى، ذهابا وإيّابا، من خلال قراءة الرواية التي لا تنقطع لآثام البشر. وربّما مع كيليطو كمرشد ودليل، سنصل من جديد إلى مكان نعتقد أنّنا نعرفه، لكنّه يدّخر لنا بعض المفاجآت.
• Evanghelia Stead أستاذة الأدب المقارن، جامعة ڤرساي، سان كونتن، فرنسا..
حفريات : اثنتا عشرة منمنمة هو، من دون شكّ، الكتاب الأكثر وجازة من بين كتب عبد الفتاح كيليطو الوجيزة في الأصل، وهو لذلك مثال نموذجي لكتابة هذا الرجل واسع الاطّلاع والمهذّب الذي يقرأ ويفكّر وهو يبتسم أكثر بكثير ممّا يتحدّث ويكتب بلا أيّة قيود. صدر كتاب حفريات في بروكسيل عام 2012 بمناسبة الاحتفاء بالآداب المغربية. هو كتيّب أكثر منه كتابا، يتألّف من اثني عشر نصّا مقتضبا تشكّل نوعا من الأدب. ليس لـحفريات Archéologie ذيوع كبير بين أوساط قرّاء كيليطو المعهودين إلاّ أنّه، مع ذلك، الكتاب الذي يقحمه الآن ضمن جمهور جديد، ذلك أنّ ترجمته إلى اللغة اليونانية قد ظهرت في أثينا (منشورات Antipodes). ثمّة طموح أن تخصّص له تتمّة بترجمة La querelle des images مادام هذان العنوانان الفرنسيان يعثران، في كلّ مرّة، على مرادفهما في كلمة يونانية واحدة ووحيدة لها صدى وذات حمولة تاريخية : Archeologἰa (Archologie) تحيل على طبقات مطمورة، بعضها فوق بعض لأرض شهدت تتابع حضارات فوقها منذ زمن سحيق؛ Iconomachἰa (La querelle des images) تتعلّق بالمشاجرات والخصومات البيزنطية الشهيرة ــ إبّان مرحلة تاريخية من مراحل تطوّر الامبراطورية البيزنطية ــ حول صور القدّيسين وأيقوناتهم والتي تجدّدها "خصومة الصور" من خلال قضايا مماثلة متصّلة بالعالم العربي.
لنتوقّفْ عند حفريات. إنّ منمنمات الحفريات لا تتعلّق بلحظات آنية يومية. هي ليست لا انطباعات خاطفة ولا تجارب شخصية، إنّما هي ورقات ذات تشابك معقّد وتنظيم محكم تجد منطلقها ومنشأ استلهامها في الميثولوجيا بكلّ صورها. يعود المؤلّف إلى الأساطير الإغريقية؛ يقرأ الإنجيل، السير المعظّمة المقدّسة والقرآن؛ يستثمر ببراعة النصوص العربية للقرون الوسطى، الأخبار والتواريخ؛ يسرح بخياله في ماضي القصيدة العربية ويجيل فكره في مستقبلها ؛ يعود إلى الأدب الأوروبي أو الأمريكي عبر مناح غير متوقّعة؛ يفيد من التحليل النفسي؛ دون نسيان واحدة من قراءاته اللّذيذة "مغامرات تان تان". بتسليطه الضوء على مقتطفات وعلى إثارات وبواعث منتقاة، يقوم بالربط بين توريات وتلميحات، ينسج أفكارا فيما بينها، يركّب معاني بعضها فوق بعض ويحيك ألغازا. تغدو الأسطورة ذريعة كي يتقنّع المؤلّف بأحد أقنعته العديدة مغترفا من منابع شتى : روايات، أشعار، شروح على الهامش، مرويات، أمثال، أخبار، محكيات السّفر أوالرحلة بما فيها بحوث مرهقة ورسائل. مبتغاه أن يسحب قارئه في مغامرة اقتناص المعنى حيث الطعم الغريب يصير معرفة، والمعرفة محرّضة، مشتهية لبحث، لتحرّ جديد.
المنمنمة عمل كتابي موجز، متكامل. الأسطورة هي بداية، بمثابة باعث أوحافز يتمّ التعرّف عليه بصورة مباشرة (تفاحة آدم، تقطيع أوصال أوزيريس، صخرة سيزيف، صحائف الحسنات والسيّئات، المتاهة). ثمّ إنّه بعد ذلك مجتزأ من نص معروف أو غير معروف، اكتشفه المؤلّف أثناء قراءاته أو عثر عليه مصادفة في تنقيباته. إنّه أيضا، وكما يمكن القول، خبر (أطروفة أو نادرة)، بسيط، عبارة عن تقليد أوعرف شفهي انتقل إلى التدوين فيما بعد، هو مفارقة، بل جملة تحوّلت إلى مثل يستخرجه الكاتب من مكمنه كقطعة آنية خزفية أو شذرة من معدن الذّهب (كما الأركيولوجي في تنقيبه)، يعيد بناءه من جديد، يعيد ترميمه أو يعيد تأليفه، وعندئذ فقط يقترحه على قارئه. اكتسبت الآنية الخزفية رائحة، ملمسا، نبض حياة، كُنها، صارت شهيّة لك أن تأكل منها بنهم.
من أيّ مصدر جاء هذا العمل الكتابي، فهو دائما ما يكثّف في أسطر قليلة حكاية وجيزة تذكّر بالحكايات الرمزية لروبرت لويس ستڤنسون، كتاب مؤلّف من قصص صغيرة أو بالأحرى من أنوية قصصية. غير أنّ ستڤنسون يؤثر الأساطير ذات الحمولة الأخلاقية أو الخارقة والقصص المبنية على أساس من موضوعتي الموت والزّمن. بالمقابل، تتحدّد منمنة كيليطو كلحظة متفرّدة، متولّدة من قراءات عديدة. تتوافق غالب الأحيان مع صور مكثّفة ( ليس صدفة أن تكون الأولى تحمل عنوان "لوحة") حتى ولو تعلّق الأمر بفكرة عابرة. يدعو كيليطو منمنماته "نصوصا مستلهمة بدون أن يكون الاصطلاح يحيل على قيمتها"، مبتغيا القول من هذا الجانب إنّ مشهدا، شخصية، كتابا، جميعها تفرض نفسها على الكاتب بكلّ قوّة الاستحواذ، تخصب كتاباته وتستولي على عمله، لا تتركه في سلام. بعض من هذه الأفكار شديدة الكثافة هي جدّ وجيزة، جدّ مقطّرة حتى أنّها تبدو أكثر فأكثر كمشروع تأليف (على شاكلة بعض حكايات ستڤنسون الرمزية)، مع ما تمثّله من تحريض شديد على تنشيط التفكير أوالتخييل.
على أساس من هذه الأنوية، يؤلّف كيليطو أسطورته الخصوصية الفردية. يبسط مطويات حكايته تارة متكهّنا، تارة مؤوّلا، تارة مقلّبا إيّاها بصورة مفاجئة حتى يضع لها نهاية غير منتظرة. تسمح له الإحالات المتعاقبة بإثارة موضوعات مشتركة وبإقامة تماثلات مثيرة. يغترف من التقليد العربي، الإغريقي والغربي ملفتا الانتباه إلى القرابة الوثيقة بين الحكايات. يسجّل المفارقات والطّرف في لوحة مشتركة مهتديا إلى لغز أو سرّ مباراة شطرنج فوق بشرية أو بشرية من دون الكشف عنه. يفتح، على هذا النحو، باب السرّ أو اللغز قليلا ويتركه مواربا. على الرغم من أنّ منمنماته تمثّل جزءا صميما من كتابته الإبداعية، إلاّ أنّها لا تخصّه فقط، إنّها تعكس في مراياها أعمالا وكتبا داعيا القارئ أن يلج المنمنة بدوره، مستحضرا قراءاته الخصوصية حتى يساهم فيها بأيّ تفصيل أو جزئية جديدة وفق شرط وحيد هو البراعة في الرّبط والسيطرة على حاسة ذوق اللغة.
عماد المنمنة هو الحاشية، والهامش الشارح أو الناقد. توضّح منمنمة "عبء الشعراء" إلى أيّ حدّ يمتلك التعليق بُعد أو شكل السينوغرافيا : يتيح فرصة تدارس أشعار تدور حول موضوعة النحالة/ البدانة المثيرة للهزء وحول الإلهام الخلاّق. هذا ما يفسّر الأسلوب الغنيّ بالتعابير العالمة وإن كانت تبدو خالية من الزّهو. يستدعي كيليطو في هذه الحالة مؤلّفي الأساطير المجهولين، الشرّاح الذين وشّوا حواشي الإليادة والأوديسا بتغييرات وتحويرات وبنصوص أخرى. حشد من النّسخ المتناقضة، من الطبعات ومن الشروح والتآويل يتكاثر بفضل ما تتيحه الحواشي. يستثمر المنمنمة بإغنائها بالمعرفة العالمة، لكنّه يدسّ فيها غالبا ــ مدّعيا أنّ الأمر يحدث من تلقاء نفسه ــ دعابة هازئة. خلف أسلوبه الجدّي، يكمن الضّحك كما في الفصل الدراسي، وفي لحظة شرح بارع وغير متوقّع لقصيدة ذات معنى مستتر ومحجوب، يسمح تلميذ لنفسه بمزحة أو نكتة غير منتظرة. هكذا يتدبّر الكاتب عمله كلعب : إنّه قارئ وكاتب، وكما هو ناسخ، محبّ أبدي للأدب، هو أيضا لاعب. بالكلمات والعبارات التي تلقّاها كإرث، يلعب لعبتي النرد والورق.
تشكّل منمنمات الحفريات مكتبة حقيقية يمثّل النص الأخير لمحة عنها. مقابل الكابوس البورخيسي لمكتبة بابل، يردّ كيليطو برموز، (اثنتا عشرة منمنمة)، بسيناريوهات بديلة ذات دعابة ملتبسة. موضوع المكتبة يتردّد كثيرا في عمله. المكتبة في "حصان نيتشه" هي بلد العجائب (تسمّى المكتبة أليس). لكن هي كذلك دعوة موجّهة للقارئ حتى ينصرف عن اليوميّ، مثل الرياضي الذي يستقرّ، إلى الأبد، فوق رفوف المكتبة، لكن بالمقلوب، ينتصب على اليدين بينما القدمان إلى الأعلى. عكس ذلك، ففي النص الأخير من حفريات، "صحيفة الغفران"، المستوحى من "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، تظهر المكتبة كفضاء مخيف، ما بعد الممات حيث يُتلف المرء ذاته في ذروة جنون القراءة. تصوّر "صحيفة الغفران" المكتبة في الآخرة، لها كبطل القارئ الأبدي اللاّنهائي، الزّائر الذي يتردّد بين قاعات القراءة، ربّما هو الكاتب نفسه ومن يشبهونه.
تتضمّن الطبعة اليونانية لـحفريات نصا غير منشور هو "ورع"، موضوع كخاتمة. في هذا النص، يمكن للامتداد اللاّنهائي للسّماء والذي حيّر الطفل، بصورة عميقة، ظهيرة يوم من أيّام رمضان، أن يمثّل حقّا الأفق متعذّر البلوغ للعمل المتخيّل. وهو، مثل بحار السندباد التي لا قعر لها، يجسّد الغاية بالنسبة للكاتب. يأخذنا كيليطو في تجوال بين لوحاته، مدوّنا روايات، آخذا بالاعتبار التفاصيل التي تنكشف له بصورة غير منتظرة مثل طائر الخطّاف بالنسبة للطفل الصّغير. يحبّ البساتين القصيّة، والمساحات الصغيرة، والأماكن التي تذكّر بحكايات ونوادر. ذلك أنّ الحكايات المقتضبة التي فرضت نفسها عليه تشبه أماكن خاصّة تستحثّ الاكتشاف والتأمّل العميق على خلاف الساحات الفسيحة والجادات العريضة المشابهة للرواية.
دون فاعلين محدّدين، وحتى وإن امتلكت أبطالا معيّنين، فإنّ هذه المنمنمات يلفّها الغموض. يلتمس القارئ عبثا إزالته. انقلب المنطق العمومي. ينبثق مكانه اللّغز أو السرّ ويغلب الصّمت. تبدو المتاهة ذات قوّة عظيمة أكثر من الموت نفسه، لا يجرؤ ثاناتوس النّفاذ إليها ولا السّير فيها. هل ثمّة من أماكن تكون مصيدة حتى للآلهة؟ لهذا السبب تحدث العودة إلى الميثولوجيا. لا نبحث في الحكايات الرمزية الاثنتي عشرة لـحفريات عن نموّ، عن تطوّر. سنتعقّب خطيئة آدم الأولى، ذهابا وإيّابا، من خلال قراءة الرواية التي لا تنقطع لآثام البشر. وربّما مع كيليطو كمرشد ودليل، سنصل من جديد إلى مكان نعتقد أنّنا نعرفه، لكنّه يدّخر لنا بعض المفاجآت.
• Evanghelia Stead أستاذة الأدب المقارن، جامعة ڤرساي، سان كونتن، فرنسا..