مصطفى الحاج حسين.
مجموعة قصص: (الإنزلاق)
* الإنزلاق..
ما إن وصلت الحافلة، حتّى تدفقت جموع الركاب للصعود من كلا البابين، ثمّة عدد من الفتيان الأشقياء، تسلٌقوا أطرافها وتسلّلوا من نوافذها.
اتخدت مكاني في المنتصف، وقد أمسكت يسراي الكرسي، المشغول بامرأة ورجلين، و كانت يمنايّ تحمل كتاباً وجريدة، بالقرب منّي كانت تقف فتاة شقراء، تشبه الشّقراوات اللواتي يظهرن في أحلامي بكثرة.
مذهلة القوام، لم أتبيّن ملامح وجهها بسبب وقفتها الجانبية، تمنيت أن أرى عينيها، فتاة مثلها ذات شعر أشقر مسدل، لابدّ أن تكون صاحبة أجمل عينين.. توقفت الحافلة عدّة مرات، وفي كلّ مرّة كان عدد الركاب يتزايد، ورائحة الحموضة تشتد وتتزاحم الأنفاس والأجساد، حتى وصلتُ إلى ظهر تلك الفتاة، وبات جسدي ملتصقاً بها، وخصلات شعرها أخذت تحطّ على وجهي، كلّما استطاعت نفحة هواء أن تصل إليه.
خطر لي أن أبتعد عنها، فقد تسرّبت
إلى نفسي رائحة الأنوثة، التي حرمت منها، تلفّت حولي لعلّي أجد مكاناً أوسع لي، ولكن إلى أين؟.. وهذه الوقفة المريحة، وهذا الجسد اللدن يدعوانك للاقتراب أكثر.
الحافلة تهتز وتفرمل وتمشي، وعلى هذه الأنغام، كنتُ أنعمُ بالالتصاق خلف تلك الساحرة وأتلفّت حولي بين اللحظة والأخرى، خوفاً من أن يكون قد أحسّ بحركاتي أحد الركاب.
وفكرت:
- لماذا لا أتخذ موضعاً أكثر اثارة، ولن يلحظني أحد؟!.. وهي لن تمانع.. يبدو أنها معتادة على مثل هذا الزّحام، لكن هاجساً بداخلي أجابني:
- ماذا تقول يا أستاذ؟! .. أتعود مراهقاً من جديد؟ ألا تخجل!؟.
لم أعثر حولي على مكان غير مكاني،
الازدحام يزداد.. والمسافة إلى محطة الوصول بعيدة، و فاتنتي تقف ساكنة لا تلتفت، كانت سارحة خلف الزجاج.
- لا تكن جباناً وأحمق، لماذا لا تنعم بهذه اللحظات الدافئة!!.. ليت الطريق يطول أكثر، وليت هذه الغادة الشقراء لا تنزل أبداً.. طوال عمرك وأنت تحلم بالشقراوات، والحياة تضنّ عليكَ بامرأة
مجرد امرأة، فكيف شقراء؟!.. إذاً اغتنم هذه اللحظات، شدّ عليها، اجذبها إليك، ولا تدعها تفلت.. أمامك سنوات ستقضيها وحيداً دون امرأة تشاركك فراشك.. تزوّد بالدفء الآن، بالأنوثة.. بنعومة الشعر.. بنضارة العنق الذي تكاد شفتاك تنقضان عليه.. تزود بلمسة، فأمامك ليل طويل، بمكنك عندها، أن تتذكر هذه اللمسات، وتستحضر هذه الناعمة، وتبدأ بممارسة عادتك الجهنّمية
وحيداً ستكون، تتلوّى في فراشك، تزأر عروقك بالشّهوة، تستعر أنفاسك، ونبض قلبك محترقاً.. خذ لمسة من عجيزتها
لمسة واحدة.. تكفيك طوال العمر.
أمر زواجك مستحيل، ربما بعد خمس
سنوات.. وأنت تشارف على الأربعين، تستطيع أن تفكر.. أنت فقير وراتبك تتلقفه أمك وشقيقاتك، منذ أول الشهر.. لولا فقرك هذا لما وافقت أمك على طلب يد "فطوم" ابنة أخيها.. آهٍ فطوم
سمراء بلون الصدأ، قصيرة مثل برميل
وعيناها ثقبان بجفون مبطّنة، وشعرها كأسلاك شائكة، فمها واسع التكشيرة، وأنفها ضخم مكتنز.
قلتَ حينها في نفسك:
- فطوم.. أفضل من لا امرأة، والنساء على أية حال متساويات فوق السّرير في الظّلام، وهكذا ذهبت مع أمك وأخواتك العوانس الخمس، لطلب يد
"فطوم".. وكم كانت المفاجأة قاسية عليك، إذ طلب خالك منكم، أن يكون سكنك وحدك،بعيداً عن أمك وشقيقاتك
العوانس، وعليك أن تدفع مئة ألف ليرة للمقدم، ومثلها للمؤخر، عدا ثمن الذهب خمسين ألف ليرة.. إذا كنت فعلاً راغباً بفطوم.
انعم إذاً بهذه الشقراء.. اقترب أكثر..
التصق، حرّك فخذيك قليلاً، وتحسّس بيدك عجيزتها المكتنزة، تحسّس ولا تخف، فالكتاب والجريدة كفيلان بالتمويه.. اقترب واياك أن تحدثني عن الأخلاق، أما يكفيك أنّك كلٌ يوم لا يتوقف لسانك عن ذكر الأخلاق الحميدة والفاضلة أمام طلابك؟ ماذا جنيت من كلّ ذلك؟ هل نفعتك؟.. كل ما تستطيع فعله هو أن تحترق، أمام وسحر وجمال طالباتك.. إذا كنت تعدّ نفسك إنسانا مثقفاً وموضوعياً فعليك أن تعترف بأنك رجل مكبوت، والجنس ضروري في حياة الإنسان، فلماذا تمنع نفسك عن اللذة؟.. بالأمس تهربت من الآذنة أم "محمود" بحجة أنها كبيرة، وتعمل آذنة في الثانوية، إذاً ماذا تفعل وقد ثبت فشلك مع زميلاتك المدرسات
عجزت عن اقامة أي علاقة باحداهن
والسبب هو أخلاقك الفاضلة.. إنك لا تعرف الخداع، كلما تعرفت إلى واحدة صارحتها بحقيقة وضعك المادي.. وتهرب منك.
في هذه اللحظة وجدتني ضعيفاً مستسلماً لشهوتي الحقيرة، وها أنا أمدّ يدي الراعشة، لتتحسّس ما تصبو إليه، وبسرعة غير متوقعة، التفتت فاتنتي إلى الخلف، والصرخة ملء فيها.. وياللهول!!.. كم كانت المفاجأة عنيفة وقاسية، كظمت صرختها والدهشة المتجمدة على قسمات وجهها وعينيها الجزعتين:
- لا.. لا هذا ليس معقولاً.. شيء لا يصدق، مستحيل.. لا يعقل أن تكون هذه الشقراء احدى طالباتي، في الصف
الحادي عشر؟! رباه لا بدّ أني في حلم
هذه الشقراء أعرفها جيداً، إنها "نوران"
أكثر الطالبات اجتهاداً، تعتني دوماً بجمالها الآخاذ وذكاؤها عال وبديهتها سريعة، أعرف أنها تكن لي فائق الاحترام، وهي تحبّ مادة الفلسفة.. ومرّة سألتني:
- لماذا يا أستاذ يكون مدرسوا الفلسفة إنسانيّن وطيّبين كثيراً؟.
في تلك اللحظة سررت كثيراً من سؤالها، اعتبرت كلاًمها مغازلة غير مباشرة، ألستُ أحد مدرسي الفلسفة؟.. إنها تقصدني إذاً، تمنيتُ أن أتقدم
وأطلب يدها..لكنّ فقري سرعان ما قفز ومزّق فارق السّن الأحلام.
في احدى المرات أخبرتني بأنّها تتمنّى أن تختص في الفلسفة، فهي معجبة بسقراط الحكيم وبحكمته، ولكنها كانت تفكر بالطريقة التي تقنع أهلها، ففرع الفلسفة غير موجود في جامعة حلب، عليها أن تذهب إلى جامعة دمشق وهذا ماسوف يمانعه والدها.
عندما التفتت، كان ذلك الشعور الذي ارتكبني أكبر من الخجل، إنه شعور بالعار والاثم والفضيحة، شعور جعلني أنكر ذاتي، لقد سقط القناع عنّي أخيراً، واكتشفت مدى ما آلت إليه قدرات الشهوانية عندي، إنّي بكل بساطة أنقسم إلى إثنين: مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق والفضيلة، وحيوان شهواني عبد وضيع لشهواتي. تمنيت لو تنشق أرضية الحافلة فأسقط وأضيع.. أموت.. لعلي أنتهي وتنتهي "نوران" أيضاً.
ابتعدت عنها، تراجعت عن نظرة الاشمئزاز التي قذفتني بها، اندفعت بقوة نحو الباب، أخذت طريقي بصعوبة بالغة، ومن شدّة توتري وشعوري بالخزي، دهست قدم طفلة تمسك بأذيال أمها، التي تحمل رضيعها، فانبعث صراخ الطفلة فاغرة ببكاء حاد، تابعت انهزامي غير عابئ بالنظرات الشذراء.. وقفزت عند أول موقف.
غداً كيف سأواجهها في الصّف؟.. لابدّ أنها ستبلغ عني زميلاتها الطالبات
.. وسيتبرّعن بدورهنّ لنشر الخبر، وربما تسّربت الفضيحة إلى بقية الثانويات الموزعة ساعاتي فيها. ثمّ ماذا لو ذهبت "نوران" وأخبرت والدها؟
حتماً سأجده غداً بانتظاري عند المدير
الذي يعتبرني أفضل المدرسين عنده، يا للفضيحة.. سيخبر المدرسين والمدرسات، بما اقترفته.
سرت في الطريق ساهماً، قلبي بنزف ألماً وخجلاً، ودمعتي تكاد تقفز من
عيوني، كان عليّ أن أعرفها منذ النظرة الأولى، فهي من أحبّ الطالبات إلى قلبي، فكم من مرة حلمت بها، وعرّيتها من" بدلة الفتوة". كيف لم أعرفها!؟.. ألأنها كانت ترتدي كنزة صفراء وبنطال الجنز!!.. أم لأني لم أر وجهها؟؟.. كان غباء منّي.. ولكن ما حصل قد حصل.
عليّ أن أطلب نقلي من الثانوية منذ الغد، وإذا وجدت الخبر منتشراً في الثانويات، سأطلب نقلي إلى الريف، أو ربما قدمت استقالتي.
وعندما عدّت إلى منزلي متأخراً.. كانت المفاجأة تنتظرني، نعم لقد وافق خالي أن يزوجني "فطوم" مقابل أن أسجّل لها نصف دارنا.. وسيكتب المقدّم عليّ مئة ألف غير مقبوضة، ومثلها للمؤخر.
وما كان بمقدوري إلّا أن أوافق.. فأنا فقير ومسؤول عن أسرة، وليس من حقي أن أحلم بفتاة شقراء، يجب أن أتخلى عن الرومانسية، فالفقر والجمال عدوان لا بجتمعان... سأتزوج من "فطوم".. وعندها أنام معها سأطفئ النور، وفي الظلام كل شيء متساو ومتشابه، فالظلام نعمة يجب أن نحافظ عليه.
حلب
* حفّار قبور..
في مقالٍ نقديّ للأستاذ النّاقد
"حسني أبو خليل" نشره في مجلةِ" لسان الأدباء"،العدد /000/ تاريخ /1988/م.
تحت عنوان "خريف البيادر وتزييف المشاعر". وتجدر الإشارة إلى أنّ "خريف البيادر" هو عنوان مجموعة شعرية صدرت لي منذ أيام قليلة، عن دار "الصمت" للطباعة والنشر، وهي المجموعة التّاسعة لي على ما أعتقد، لأنّني بصراحةٍ لا أملكُ نسخة واحدة من مجموعاتي السّابقة، فقد نفدت كلّها من المكتبات.
لعلكم اطلعتم على مقالة الأستاذ
"حسني" الذي راح من مطلعها، يؤكد تزييف مشاعري في جميع قصائد المجموعة الأخيرة، ومجموعتي كما تعلمون، تتألّف من خمسة وأربعين قصيدة غزلية عذرية، وهي مهداة
"إلى صاحبة أجمل خصر في هذا
العصر".
وهو في اتهامه لي بتزييف مشاعري، يكون قد حكم بالإعدام على قصائد مجموعتي، التي أعتبرُها من أجمل مجموعاتي، وأنتم تعرفون الصداقة المتينة التي تربطني بالأستاذ أبو خليل
ولا بدّ أنّكم اطّلعتم على دراساته القيّمة عن مجموعاتي الثمانية السّابقة، وعلى كتابه النقديّ الرائع والشهر الذي ألّفه عنّي ، تحت عنوان "أنور عبد العليم، شاعر الجزالة العظيم"، ولكي لا يقع في التناقض، حاول أن يبرّر امتداحاته وتعظيماته لي، عن مجموعاتي السّابقة بقوله:
- أنا مازلت مصرّاً على أنّ المجموعات السابقة للشاعر /أنور عبد العليم/ عظيمة في صياغتها ونظمها ومشاعرها
ولكنّي مندهش تماماً لهذا التراجع الكبير، للشاعر في مجموعته /خريف البيادر/!، فجميع قصائد المجموعة، لا ترتقي إلى مستوى الشعر، وكم أنا آسف لأنّ صديقي الشاعر /أنور/ قد أعلن افلاسه الشعريّ، في وقت. نحن بحاجةٍ ماسّة إلى شعر عظيم/.
ذلك مقتطف من مقالته المنشورة، والتي تنضح بالعداء من مطلعها حتى آخر مفردة فيها، وأنا لا أستغرب أن يكتب الأستاذ "حسني" مثل هذه المقالة، وبمثل هذا العداء، لأنّي أعرف دوافعه الدنيئة، وغير الإنسانية لكتابته اللئيمة عنّي.
ولكن مايحزّ في نفسي، هو أنّكم أيّها القراء الأعزاء، لا تعرفون الأسباب الكامنة وراء مهاجمة هذا الناقد، الذي كنت أعدّه صديقاً عزيزاً ذات يوم. لذلك قررت أن أكتب هذه المقالة لا للردّ عليه فهو لم يعد يعنيني على الإطلاق، بل لأبرهن لكم بأنٌ هذا الناقد قد تجنّى على مجموعتي إلى درجة وحشيّة.
في الأيام القليلة لقراءتي مقالته، اعتقدت أن يحمل أحد النقاد النزيهين قلمه ليصفعه بمقالة عظيمة تدافع عن مجموعتي الأخيرة، لذلك لم أكتب مباشرة، وعندما يئستُ من الانتظار وأنا أهرع كلّ يوم إلى الجرائد والمجلات الصّادرة، أتصفّحها بشغفٍ علّي أعثر على ما يشفي غليلي، أدركت مدى جبن النقاد، فهم لا يجرؤون على مهاجمة الناقد "حسني أبو خليل" لخوفهم من قلمه اللأخلاقي، والذي لا يرحم، حينها قررت أن أكتب بنفسي، وأكشف لكم عن الأسباب التي دعته لكتابة مقالته السّخيفة تلك.
جميع قصائد المجموعة مهداة إلى حبيبتي"بيانكا"التي أحببتها منذ التقينا أوّل مرّة، ومنذ أن عرّفته إليها، أي الأستاذ "حسني"، وجدته قد فتن بها وبمفاتنها السّاحرة الجمال، كانت عيناه لا تفارقانها، من وراء نظارته، طوال الجلسة.
كانت عيناه تلتهمان عينيها الخضراوي ذاتَ الرّموش الملائكية، وشعرها المسترسل، والذي كان بتطاير مع أخفّ نسمة، وفمها المتدفق الابتسامة.
أقول:
- كاد يفترسها من رأسها الذي يشتهي المرء أن يضمّه إلى صدره حتّى قدميها العاجيتين.. كنتُ أراقبه وأنا نادم لأنّي عرّفتهما إلى بعض.. وأدركت أنّه سيحاول أخذها منّي، كما فعل منذ سنتين، عندما طلب منّي أن أتخلّى له عن "نجاة"،مقابل تأليفه للكتاب النّقدي" أنور عبد العليم، شاعر الجزالة العظيم" حينها وافقت لأنني لم أكن أحبّها، بقدر حبّي"بيانكا"، وأيضاً كنت بحاجة إلى مثل هذا الكتاب الهام عنّي، إذ لم تكن شهرتي كما الآن.
عندما بدأ يحاول احراجي أمام
"بيانكا" أيقنت أنّه قرر أن يستأثر بها، سألني بخبثه المعهود:
- أستاذ أنور.. أنت في جميع قصائدك، تتغنّى بالسمراوات.. فكيف لك أن تحبّ فتاة شقراء وتتغزّل بها مثل"بيانكا"؟!.
اضطربت ابتسامتي على شفتيّ، وأنا أقول في داخلي:
- هل تريد احراجي يا وغد؟!. قلت:
- الحبّ يصنع المعجزات، وحبّي لبيانكا فاق جميع الألوان.
تألّقت الابتسامة السّاحرة على شفة
بيانكا القرمزيّة، ولكنٌ "حسني" كان مصمماً على المتابعة:
- أنتَ كلّما أحببتَ واحدةً تقول مثل هذا الكلام، وعندما تتركها تأخذُ بشتمها.
رمقتني "بيانكا" بنظرة استنكار واستغرب، وقالت:
- هل صحيح ما يقوله الأستاذ حسني !؟.
- بيانكا.. لقد مررت بتجارب فاشلة.. هذا كلّ مافي الأمر.. ولكنّي أحبّكِ من كلّ قلبي.
دوت ضحكتهُ التي صارت مقيتةً لي منذ ذلك اليوم:
- أنور.. اطلع من تمثيل دور البراءة هذا! أنتَ صديقي وأنا أعرفك جيداً.. زير نساء.
لم أعد أتمالك، وانفلتت أعصابي، رغم أنّي أعرف مسبقاً، مدى حجم الخسارة، إن عاديته، فهو الناقد الوحيد الذي يكتب عنّي:
- "حسني" لماذا تحاول أن تفتن بيني وبين حبيبتي "بيانكا"؟!.
- لأنّي أريدك ألاّ تخدعها.. من الجريمة أن تدمر هذا الملاك الرائع، مقابل متعتكَ الفارغة.
- ولكنّني أحبها "يا حسني".. فلماذا تحكم عليّ بالكذب؟!.
- لأنّي أعرفك حقّ المعرفة.
صرخت بأعلى صوتي، بينما كانت "بيانكا" مدهوشة من هذا الحوار:
- "حسني".. لا تكن أنانياً.. أنا أعرف مرماك.
- إذاً عليك أن تفهم.
وفجأة.. نهضت "بيانكا"، واعتذرت عن متابعة حوارنا، حملت حقيبتها ومضت، بعد أن رمقتني بنظرة غضب وعتب.
وحين أصبحنا وحدنا، قلت:
- ما كنت أحسبك أنانياً ولئيماً إلى هذا الحدّ؟!.
ضحك ضحكته المجلجلة :
- أنا معجب "ببيانكا" يا"أنور".
- ولكنّي أحبها يا "حسني".هل جننت؟!.
- من يتخلّى عن "نجاة" يتخلّى عنها أيضاً.
صرخت بحدّة، بعد أن ضربت بقبضتي الطاولة:
- أنت "يا حسني" إنسان حقير.. وأنا أعتذر عن صداقتك.
نهض "حسني" عن كرسيه، عدّل نطارته فوق أرنبة أنفه الضخم، وقال:
- على كلّ حال سوف تدفع الثمن.. أنا الذي خلقتُ منكَ شاعراً، وأنا الذي سيحطّمك.
هتفت :
- اذهب إلى جهنّم، أنا شاعر رغماً عن أنفك، وأنف كلّ النقاد.
ذهب "حسني أبو خليل" وانقطعت
بيننا كلّ الصلات، وعندما أصدرت ذات المجموعة "خريف البيادر"، جاء دوره لينتقم. فهاجمني بمقالته اللئيمة. وسمعت. من أحد الأصدقاء أنّه الآن يقوم بتأليف كتاب نقديّ ضخم، عن سرقاتي الأدبية..
بهذه الطريقة المنحطّة حاول أن يقنع "بيانكا" أنّ مشاعري نحوها مزيّفة.. فابتعدت عنّي، وذهبت إليه.
حلب
* اللصقة..
كان زملاؤه في الجامعة، يسمونه "اللصقة".
فما من مرّة رأوه مقبلاً نحوهم، إلاّ وسارع أحدهم لتنبيههم، قائلاً في حذر:
- جاء اللصقة!.
فينسحب بعضهم قبل وصولهِ، بطريقة ذكيّة قائلين:
- لنهرب.. قبل أن يحلّ بلاؤهُ علينا.
وسبب هذا يعود إلى ظروف"عبد الله" القادم من الريف، ليتابع دراسته في كليّةِ الآداب.
جاء إلى حلب من قرية "عامودا" الواقعة على الحدود الشرقية، محمّلاً بآمال عظيمة وطموحات عالية، وأحلام غزيرة، وموهبة متقدةٍ، مخلّفاً وراءه أباً طاعناً في الشيخوخة، لا يقدر على فعل شيء، سوى تحدّي "عزرائيل"، فكثيراً ما شاهد والده، يعارك ملك الموت ويرغمه على التقهقر، في حين يبقى العجوز متمسكاً بروحه المهترئة.. ولولا عمل أمّه وشقيقاته في حقول الآخرين، لما تمكنت العائلة من العيش.
كان "عبد الله" في كثير من الأحيان يندم لأنّه لم يسمع كلام والدته ويترك الدّراسة، فهو بشكل دائم في حاجة وعوز ، ولو لم يكن ينزل إلى "باب أنطاكيا" حيث معرض العمال، للبحث عن رزقه، لما تمكن من اجتياز السّنوات الثلاثة الماضية بسلام.. وخاصة بعد أن حرم من القرض الجامعي، بسبب رسوبه في السنة الماضية. في كلّ عام وخلال فصل الشتاء، كان يمرّ بمثل هذه الضائقة، فالعمال المختصون لا يجدون عملاً في هذه الأيام الباردة والماطرة ، لولا طموحاته وأحلامه القوية، لترك الجامعة منذ أمدٍ بعيد.
ومن حُسنِ حظّهِ أنّه يقيم في بيت زوج شقيقته الذي يعملُ في الخليج، كان يضطر إلى الاستدانة من أصدقائه ريثما يجد عملاً فيردّ إليهم دينهُم، وكانت ظروفه السيئة ترغمه على فرضِ نفسه ضيفاً مكسور الخاطر ليتناول الطعام في منازل أصدقائه، جاهلاً أن أصدقاءه يطلقون عليه لقب "اللصقة"، ولكنّهم رغم كلّ سخرياتهم التي يطلقونها وراءه، يعاملونه باحترام وودّ ، وذلك بسبب شاعريّتِهِ الكبيرة..
" فعبد الله" شاعر موهوب، له حضوره في الملتقيات الأدبية التي ترعاها الجامعة، وكان معظم زملائه يشاركونه ذات الميول، لذلك هم يحسدونه لتفوقه عليهم ّفي الشهرة، وامتداح النقاد والتفاف المعجبات حوله.
ولمّا كانوا عاجزين عن النيل من شاعريته.. أخذوا يسخرون من نقطة ضعفه الوحيدة، ألا وهي سوء حالته المالية، وعوزه الدائم إليهم، لذلك وصفوه بال "الّصقة".
وفي هذا الصباح الممطر، استيقظ "عبد الله" مهموماً مكروباً... فهو في حالة إفلاسٍ لا مثيل لها.
مضى عليه أكثر من عشرين يوماً دون أن يتمكّن من العمل.. فالأمطار لا تنقطع، والعمل في ورشات البناء معدوم.. و "عبد الله" يقتصد.. في كلّ شيء يقتصد.. في عدد وجباته القميئة في نوعية وكمية سكائره.. في حلاقة ذقنه.. وشرائه لتذاكر باصات النقل الداخلي.. في الصحف والمجلات.. وتردده إلى المقصف المركزيّ..و مرافقة صديقاته اللواتي اضطر أخيراً أن يستدين منهنّ رغم شعوره بالخجل. وعاد أيضاً لبيع الكتب التي تمكن من جمعها خلال الصيف.. فهو في كلّ شتاء، يضطّر لبيعها من جديد، حتّى أنّه في الأونة الأخيرة، اضطّر إلى بيع ساعة يده التي هو بأمسّ الحاج إليها. ومع هذا فقد وقع يوم أمس بين فكّي الإفلاس، ونام ليلته وأمعاؤه نتضوّر من الجوع.
نهض من سريره المنحني والمزعج في صريره، واتّجه نحو المطبخ النتن الرائحة، وراح يبحث عن لقمة يسدّ بها رمقه، رغم علمه بأنّه يبحث عن لا شيء.. عنده زيتوناً ولا يوجد خبز، ولديه سكّر ولا وجود للشاي.. ويملك قليلاً من البرغل في حين أن السّمن والزيت غير متوفرين ، فكيف له أن يتدبّر أمره؟!.. فكرة أن يستدين من الجيران خبزاً ليست واردة، لأنّه استدان منهم في مرات سابقة وكثيرة وعجز عن ردّ ما استدان لدرجة أن رفض جميع جواره أن يعطوه رغيفاً واحداً يوم أمس. وتساءل:
- (ماذا أفعل؟.. أمعائي تزقزق طوال الليل، صرت أخجل من طلب الاستدانة أنا مدان للجميع، مامن شخص أعرفه إلاّ واستدنت منه، ديوني لسبعة وثلاثين شخصاً، بمبلغ / 4645/ ليرة سورية.. فإلى متى سأظلّ معتمداً على الدين؟!.. أخذ أصدقائي يتهربون منّي، "يطنشون" إذا ما شكوت لهم سوء حالتي المادية حتّى أنّ صديقاتي اللواتي كنتُ أخجل أن أظهر فقري أمامهنّ، أصبحت مداناً لتسعٍ منهنّ، بما فيهنّ "انتصار" التي تحوّل حبّها لي إلى دروسٍ في الاقتصاد، والاعتماد على الذات).
ولأنّ "عبد الله" جائع ولا يملك حلّاً لمشكله سوى اللجوء إلى أصدقائه، فقد قرر أن يذهب إلى صديقه "بشير"، الأكثر رفاهيةً من الجميع، سيداهمه في بيته قبل أن يغادره، ويتناول معه فطوره، ويطلب منه بضع ليرات.
أسرع بارتداء بذّته الجامعية العتيقة
وخرج مسرعاً، فكان المطر بانتظاره، ولأنّه لا يملك نقوداً ولأنّ باصات النقل الدّاخلي تتأخر في المجيء، قرر أن يذهب سيراً على قدميه، من منطقة "الأعظمية" إلى حيّ
"الجميلية" غير عابئ بسقوط المطر فوق رأسه الأصلع بعض الشيء.
في تمام السابعة والنصف ضغط على زر الجرس، وهو يأمل ألاً يكون"بشير" قد تناول فطوره، وانتظر برهة والحياء يلسعه، كم مرّةً يفرض نفسه.
ما من أسبوع إلاّ ويحلّ عليه ضيفاً ثقيلاً، اللعنة على الجوع، لو لم يكن
"بشير" أفضل أصدقائه لما زاره هكذا.. عاود الرنين مرّةً ومرّتين، وقلبه ينبض من شدّة توتره وخجله، وسمع وقع أقدام تقف خلف الباب،واختفى بصيص الضوء المنبعث من العين السحرية، فغضّ بصره حتى لا تلتقي عينيه بعين الناظر، وفجأة سمع صوتاً أنثوياً يسأل:
- مين؟؟.
تنحنح "عبد الله".. وقال:
- أنا صديق بشير، هل هو موجود؟.
لم بأته الجواب.. بل أبصر الضوء ينبعثُ من حدقة العين السحرية،
فأدرك أنّها دخلت لتنادي أخاها "بشير".. مضت لحظات اعتقد أنها توقظه، ولهذا عذرهم عن التأخر، سمع وقع الخطا من جديد، أبصر العين السّحرية تظلم، وعاد صوت الأنثى يخاطبه:
- مين حضرتُكَ؟.
بادر يُجيبها على الفور، والحرج بادٍ في نبرات صوته:
- أنا صديقه.. عبد الله الحجي.
وابتعدت عن الباب مرّة أخرى، وانبعث الشّعاع من العين السّحرية.. غابت في هذه المرّة مايزيد عن الدقائق الثلاث، لدرجة أنّه شعر بالضجر والندم على مجيئه في هذا الوقت المبكر، فكّر أن ينسحب ولكن فات الأوان، فها هو يسمع وقع الخطى، ولابدّ أنّ "بشيراً" استيقظ، وتفاجأ من زيارته غير
المتوقعة.
لكنّ الباب لم يفتح، كلّ ماحدث أنّه سمع ذات الصوت الأنثوي:
- بشير غير موجود، لقد خرج في السادسة والنصف.
لعن نفسه لأنّه فكّر في هذه الزيارة وتيقّن أنّ صديقه موجود في الداخل، أحسّ أنّه أهان كرامته، ليس من المعقول أن يبقى متطفلاً على أصدقائه لدرجة أنّهم باتوا يسدّون أبوابهم في وجههه، داهمته موجة من الانفعال، فامتزجت دمعته التي طفرت من عينيه بحبّات المطر، المنسابة على وجهه الشّاحب.
سار في الطرقات حاملاً خيبته في صدره، ومعدته تتقطّعُ من شدّة الجوع ولمّا كان لا يملك سوى سيجارتين، قرر أن يدخّن واحدة منهما.. وتساءل:
- (أين أذهب؟.. هل أتوجّهُ إلى عبد الناصر، الذي استدنت منه خمسين ليرة منذ أكثر من شهرين، ولم أردٌها إليه حتّى الآن؟).
ولأنّه لا يملك إلاّ هذا السبيل، فقد عزم على زيارته، فمنزله قريب بعض الشيء، يقع في "الحميديّة".
لحسن حظّه لم يعتذر سكان البيت عن عدم وجود صديقه، فها هو "عبد الناصر"أمامه بشحمه ولحمه يفتح الباب، بينما يمضغ شيئاً ما.
استقبله "عبد الناصر" وأدخله غرفته الخاصّة، وقبل أن يتّخذ مكانه على الأريكة، بادره "عبد الناصر" قائلاً:
- أشعل مدفأة الكهرباء وتدفأ، ريثما أكمل فطوري مع أهلي.
كم ودّ أن يسأله صديقه، إن كان قد تناول فطوره. وأخذ يقارن بين عادات المدينة والريف، هناك ما إن يحلّ الضيف، حتّى يهرع أصحاب البيت لإحضار الطعام.
وبعد أن أشعل المدفأة وأخذ يدفء جسده الهزيل، تناهى إلى سمعه، صوت "عبد الناصر" من الداخل.. قائلاً:
- أرجوك يا أمّي دعيني أقدم له الفطور.
وجاءه صوت امرأة منفعلة تزعق:
- والله أنا ما عندي مطعم لك ولأصدقائك، قلت لك افطر معنا، وإلاّ ستبقى جائعاً.
انصعق "عبد الله"، دارت به الغرفة،
وكأنّ صفعة قوية باغتته فجأة على رقبته، هل بلغ الأمر إلى هذه الدرجة
؟!.. هل أصبح مزعجاً لأسر أصدقائه دون أن يدري ؟!..ينبغي عليه أن يخرج من هذا المنزل، وبأقصى سرعة، لقد بات يقرف من نفسه، كان يجب أن يسافر إلى أهله، قبل أن ينفق أجرة المواصلات فالامتحان لا يهم، فليرسب هذه السّنة كما رسب في السّنة السّابقة، كرامته أهمّ من دراسته.. اللعنة عليه يوم فكّر أن يتحدّى ظروفه، ويتابع إقامته في حلب، حتّى يتقدّم لامتحان الفصل الأول.. إنّه غبي عديم الإحساس
كان على والده أن يوافق على بيع قطعة الأرض البور التي يملكها، فهو رجل عجوز لا يقدر على العمل بها، و
"عبد الله" يطمح أن يكون أستاذاً كبيراً، فمن سيعمل في الأرض؟ وتمنّى أن يقصف الله عمر والده، الذي طالت حياته أكثر ممّا ينبغي. وحيداً كان في الغرفة مع أفكاره، في حين كانت أمعاؤه تنهشه بعنف وجنون، وشعر بالدوّار، وأحسّ أنّه يوشك على التقيّئ.
وفتح عليه "عبد الناصر" حاملاً صينية عليها كأسان من الشّاي السّاخن..في حين كان يبتسم ويردد:
- أهلاً وسهلاً.
وضغط على نفسه، أجبر ذاته على الجلوس، وتظاهر بعدم سماعه بما دار من حوار، فهو على كلّ حال ممتن من "عبد الناصر". ودّع صديقه فور انتهائه من احتساء الشاي، كان عليه أن يمشي تحت وابل المطر الذي تضاعف انهماره.. بينما كانت النار في أعماقه تغلي من مرارة القهر والشعور بالذلّ والإهانة، راح يحدّث نفسه:
- (هل كان عليّ أن أشارك "حمود" في بيع الدخان المهرّب؟!.. حتّى أتمكّن من العيش دون أن أحتاج الآخرين.).
سيتخذ قراره بعد أن يسدّ رمقه، آلام الجوع تمنع عنه القدرة على التفكير، سيذهب إلى "عماد" يطلب منه عدّة ليرات تكفيه للسفر إلى أهله، لا حلّ أمامه إلاّ هذه الطريقة.. أصدقاؤه منقطعون عن الدّوام، بسبب اقتراب موعد الامتحانات.
قبل أن يدخل باب العمارة، برز
"عماد"أمامه حاملاً مظلّة سوداء.
فرحّب به ودعاه أن يصل معه إلى الفرن ليشتريا خبزاً ويعودا إلى البيت.
ساعة ونصف و "عبد الله وعماد" يقفان تحت المطر وسط هذا الازدحام، حتّى تمكّنا أخيراً من الحصول على أربعة كيلو من الخبز.. من شدّة تلهفه على قطعة من الخبز السّاخن، أسرع ليتناول الخبز عن "عماد"، وقبل أن يصله ليلتقط قطعة ويلتهمها، وقف أمامهم والد "عماد" وبعد السلام.. قال الأب:
- هات الخبز، واذهب لتسديد فاتورة الكهرباء، ثمّ عودا إلى البيت.
أحسّ بخيبة كبيرة، فأخذ يردد في طيات نفسه الجائعة:
- (كم كان حظي سيئاً، لماذا لم يتأخر والد"عماد" دقيقة عن الوصول إلينا؟!).
لقد خطر له أن يتناول رغيفاً، لكنه في النهاية خجل، لو كان "عماد"بمفرده لكان الأمر أسهل.
في الطريق راودته فكرة أن يستدين من "عماد" مبلغاً بسيطاً يكفيه لشراء"صندويشة"، وتذكّر أنه مدان "لعماد" بأكثر من ثلاثمئة ليرة، فأحجم عن الكلام، لأنّه خجول.
تابع طريقه مع "عماد" آملاً أن يتناول عنده وجبة الغداء، بعد أن يسددا فاتورة الكهرباء، لم يكن يتصوّر أنّ تسديد الفاتورة، سيحتاج لكلّ هذا الوقت.. الازدحام كان هائلاً.. ومن جديد كان عليهما أن ينتظرا الدّور، ولم ينتهيا من أداء المهمة حتّى انتصف النّهار.
أخيراً سيعود مع "عماد" إلى بيته ليتناولا الغداء.. كان يمشي ولسان حاله يقول:
- (يا الله.. متى سنصل؟.. ريقي فرط، أمعائي تتمزّق، أمّا أقدامي فلم تعد قادرةعلى حملي.).
انتبه "عماد" إلى حالة صديقه، تفحّص
وجهه، ثمّ سأله:
- ما بك يا "عبد الله".. ولم وجهك مصفر؟!.
وكاد أن يصارحه بحقيقة جوعه، فهو يتوقّع أن يغمى عليه..لكنّه فضّل الصمت:
-(لماذا أفضح نفسي، طالما أنا ذاهب معه، لأتناول الغداء.. هل من الضروري أن أطلعه على حقيقة وضعي التعس، لا لن أتكلم.).
وعند المنعطف.. أي بالتحديد، عند تقاطع الطرق الأربعة الرئيسية، أذهله "عماد" عندما مدّ له يده مودعاً، وابتسامة الحرج على شفتيه:
- أنا آسف يا "عبد الله"، عندي موعد هام وضروري مع خطيبتي، لن أستطيع أن أدعوك إلى زيارتي الآن.
امتقع لون وجهه أكثر، واضطربت شفتاها حينما رددّ:
- بسيطة.. أزورك في وقت آخر.
وبعد أن تصافحا ومضى كلّ في سبيله.
خطر له أن يتشجّع فينادي "عماداً" ليستدين منه بعض الليرات، أسرع خلفه مهرولاً غير عابئ بأنظار المارة:
- عماد.. يا عماد.
استدار "عماد"، توقف حينما شاهد
"عبد الله" يتبعه، ويناديه.. واقترب
"عبد الله" والاضطراب والخجل
يسيطران عليه:
- عماد.. أريد منك أن تقرضني بعض النقود.
ابتسم "عماد"، أطلق زفرة قويّة خرجت من أعماقه، راح يتأمل أنامله في حيرة.. ثمّ قال:
- والله يا "عبد الله" لا أعرف ماذا أقول لك، أنا جد آسف، وأقسم لك أنّي لا أحمل معي سوى بضعة ليرات، لن تكفيني لو دعوت خطيبتي إلى فنجان قهوة.
أحسّ بندم شديد، وبانفعال مرير، وأخذ يلوم نفسه لأنّه عرّض حاله لمثل هذا الموقف المهين:
- (غبيّ أنا، كان عليّ أن أوافق
"حموداً" وأشاركه في تهريب الدّخان.. "حمود" أصبح مهرباً كبيراً.. جيوبه امتلأت خلال فترة قصيرة.. أمّي تقارن بيني وبينه بشكل دائم، تلومني بدون رحمة، تقول:
- انظر إلى حمود.. يدرس ويصرف على نفسه وعلى أهله، إنّه رجل.. أنت يا فرحتي عليك لحظة تريني صورتك منشورة في الجريدة، وكأن الشعر سيمنع عنّا الجوع؟!).
سار بمفرده، واجهات المحلات تتحدى فقره، وتفقأ عينيه ببريقِها الأخاذ، ومرّ بالقرب من مطعم.. شاهد الفروج المشوي يتلوّى فوق النار، فرددّ:
- (أنا لا أطمع بتناول الفروج، صندوشة فلافل تكفيني.. اللعنة عليّ يوم أغضبت "حمود"، لقد أخطأت يوم شبهته بالجرادة، كان أكثر ذكاء منّي. ولكن كيف لي أن أكون شاعراً، ومهرّب دخان في آن واحد؟!.. كان يجب أن أرفض عرضه المغري.. فأنا لا أقدر أن أكتب قصيدة، إن لم أكن راضياً عن نفسي.).
شعر بشيء يشبه الغصّة في أعماق تقهقه وتسأل:
- وهل أنت راض عن نفسك الآن أيها الشاعر المبجّل؟!.
- ليتني أعرف عنوان "حمود"، سأبحث عنه لا شك. أمّا الآن عليّ أن أذهب إلى المدينة الجامعية، سأطلب "انتصار" وأصارحها بحقيقة وضعي.. إنّ أحشائي تتقطع.. تتمزقُ.. تتعاركُ.. تقرقرُ.. تعوي.. تنهشني.).
وتوقف، تحيّر.. وتساءل:
- (هل أعاود الكَرّةَ من جديد؟.. وأذهب إلى "انتصار" التي أحبّها أستجديها بذلٍ وانكسار؟!.. وهل ستتكرر نفسُ المسألة.).
توجّه إلى "المنشيّة"، انتظر طويلاً،
وهو يرتعش من شدّة البرد والجوع على السواء..بعد زمن جاء باص المدينة الجامعيّة، اكتظّ بالركاب، ولأنّه لا يملك تذكرة في هذه المرّة، حدث أن توقف الباص، وصعد إليه المفتشون، أخذوا يطلبون التذاكر من الركاب، حاول أن يختفي، أن يتملّص، أن تنشق الأرض وتبتلعه، أن يقذف بنفسه من النافذة المكسورة، فلم يفلح. ها هو المفتّشُ ببذته الزّرقاء يقف أمامه ويطالبه بالتذكرة
.. وحتّى ينقذ نفسهُ من هذه الورطة السّخيفة، بادر على الفور وناول المفتش هويته الشّخصية، ليقوم بحجزها ريثما يذهب إلى الصندوق ويسددّ الغرامة.
ودمدم في سرّه:
- (أنا لا أصدّقُ الذي يحصل معي، هل هذا اليومُ يومُ النّحس؟!.).
لم يجد "انتصار" في غرفتها، أخبرته إحدى زميلاتها في الوحدة الرابعة، أنّها خرجت منذ ساعتين، ولا تدري إلى أين؟.
تسمّر في مكانه، واقفاً ينتظر مجيء صديقته "انتصار"، مضت أكثر من نصف ساعة، فأدرك أنّها لن تأتي.. فجرّ قدميه المنهكتين وابتعد.
رفع رأسه المبلل بكامل صلعته، نحو شرفات الوحدة الرابعة، فتلاقت عيناه الغائرتان بالفتاة التي أبلغته بخروج "انتصار"، تقف مع ثلاث فتيات في الطابق الثالث يتغامزن ويضحكن بشدّة
فانتفض قلبه كسمكة قذفها الصياد فوق الرّمل، وغصّت حَنجرتهُ بألمه فأراد أن يبصق، وإذ به يجهش في بكاء مرّ.
عاد أدراجه من المدينة الجامعية، سيراً على الأقدام المنهكة والمتورمة والدنيا مظلمة في عينيه الزائغتين، من شدّة الجوع:
- الموت أهون من أن أصبح سخرية، كان يجب أن أسافر، اللعنة على الجامعة، كنت أطمح بالشهرة والمجد، وها أنا تحوّلت إلى سخرية.. بنبغي لي أن أجد "حمود" سأعمل معه، صدق "حمود" في قوله:
- معك قرش تساوي قرش.
ولأنه لا خيار له إلاّ بالبحث عن صديق يطعمه وينقذه من جوع هذا اليوم، قرر أن يعود إلى منزل صديقه
"بشير" الذي ذهب إليه صباح هذا اليوم.. فما أدراه.. لعلّ "بشيراً" كان بالفعل غير موجود في البيت، أو ربما كان نائماً فلم يشأ أن يستيقظ باكراً.
على أي حال "بشير" أفضل من جميع أصدقائه.
استطاع أن يلتقي "ببشير"، وما إن استقبله حتى ضحك، وقال:
- أنا آسف لأني لم استقبلك صباحاً ة.. كنت نائماً حقاً.
ابتسم بينما كان الأمل ينبعث من أعماقه في حصوله على الطعام:
- كنت واثقاً أنّك موجود في البيت.
دخل إلى غرفة الاستقبال الفخمة، وإذ به يصطدم بعدّة أشخاص موجودين. فرمى السّلام وجلس شاعراً بالحنق من حظه السيء. قال "بشير":
- أعرّفك على شركائي في التجارة.
- ابتسم مندهشاً:
- هل أنت تعمل إلى جانب دراستك يا بشير؟.
قهقه "بشير" وأجاب:
- بالطبع.. أتريدني أن أكون مدرساً في المستقبل؟!.
اتّسعت دهشته.. وسأل:
- إذاً لماذا تتابع دراستك؟!.
- حتّى أرضي غرور بابا وماما، هم متمسكون بالشكليات، الشهادة الجامعية ضرورية في تقاليد عائلتنا.
واستطاع "عبد الله" أن يرسم على شفتيه، ابتسامة المجاملة في حين كان يسأل:
- وبماذا تتاجر "يا بشير"، شغلني معك إن كنت أنفع.
وانفجر "بشير" بضحكة مجلجلة
صارخاً في هياج:
- أنت لا تنفع ياصديقي في شيء، سوى في الشعر، لأنّك رومانسي.
احتج "عبد الله" وأراد أن يقنع صديقه بأنه ليس رومانسياً ويصلح للعمل:
- قل لي بماذا تتاجر، لأبرهن لك أنّي إنسان عملي.
احمر وجه "بشير" وقطّب وجهه وأشار بيده إلى الرجل البدين، الجالس قرب التلفزيون الملون:
- اسأل "أبا درغام" عن نوع تجارتنا.
فما كان من" أبي درغام" إلاّ أن ابتسم، وتكلم بصوته المتهدّج:
- نحن يا أستاذ نتاجر بشراء البطاقات التموينية فما رأيك؟.
انصعق "عبد الله" وأراد أن يتكلم، لكنّ صوت "بشير" أوقفه:
- ما رأيك ياصديقي؟.. أنا مستعد أن أدفع لك خمسمئة ليرة، على كلّ بطاقةٍ تشتريها لي.
وسأل "عبد الله" في حيرة:
- وكم تدفع ثمن بطاقة الشّخص الواحد؟.
- بألفين وخمسمئة ليرة، باستثناء ما ستتقاضاه أنت.
وجم "عبد الله" برهة، ثمّ رددّ:
- هذا حرام.. أنا بالفعل لا أصلح لمثل هذا العمل.
وضجّ المجلس بالضحك، في حين كان "بشير" يرددّ:
- ألم أقل لك، أنت لا تصلح إلاّ لكتابة الشعر.
قدّم "بشير" لضيوفه الشّاي ثمّ القهوة، وسجائر أجنبية فاخرة، و "عبد الله" في حالة يرثى لها.. وكلّما همّ بالانصراف راودته فكرة أن ينصرف شركاء صديقه قبله، وبالتالي سيطلب الطعام من "بشير" حتى وإن تقاعس عن إحضاره.
من خلال الجلسة علم أن شركاء
"بشير" كانوا مدعويين على تناول الغداء، ولقد تناولوا غداءهم قبل مجيئه بلحظات، وعرف أيضاً أن
"بشير" قدّم لضيوفه(لحم بعجين)..
فقال حتى يحرّض "بشيراً" على إحضار بعض الأقراص له:
- والله ياأخي (اللحم بعجين) لذيذ، أنا أفضله عن سائر المأكولات.
فابتسم الجميع دون أن يحرّك "بشير" ساكناً.
وبعد فترة شعر بالدوار.. وبالغثيان..
وبلعابٍ شديدٍ، يملأ فمه، وازداد شحوب وجهه، أخذ جسده النحيل برتجف.. وانتبه الحضور إلى حالته، فأسرع"بشير" لإحضار كأسِ الماءِ لهُ، وسألهُ شريكُ "بشير" الضخم الجثة:
- لعلّكَ جائع؟!.
أراد أن يغتنم الفرصة الذّهبية، ويرغم "بشيراً" على إحضار الطعام:
- والله أنا لم أفطر.. ولم أتناول الغداء.
وأخذ الجميع يلومونه.. حتّى "بشير" دون أن يتحرّك:
- هذا لا يجوز.. الجوع كافر.. عليك أن تعتني بصحّتك.
ولم يبادر "بشير" لتقديم لقمة لصديقه.
حان وقت الغروب، وأخذ القوم
يتململون، وينظرون في ساعاتهم. قال شريك بشير:
- متى وعدتَ الجماعة بحضورنا إليهم؟
رد "بشير":
- في تمام السّادسة.
أدرك "عبد الله" أنّ القوم، ينبهونه إلى ضرورة الانصراف.. نهض مستأذناً.. وما إن خرج حتّى صفعته الأمطار الهاطلة بغزارة لا مثيل لها.. حاول أن يحمي صلعته بيديه، وانحنى راكضاً ومحتمياً بالشرفات.. وحين دوى الرّعد بقوة هزّت الأرض، كان على "عبد الله" أن يقرفص فوق الرصيف ليتقيأ فوق جداول الماء المتدفقة.
الشوارع خالية، مرعبة، وعليه أن يجتاز طريقه من "الجميلية" إلى
"حيّ الأعظمية" وهذه المسافة ستستغرق نصف ساعة معه بالتأكيد.
- (سأترك الجامعة.. وأرجع إلى أهلي.. أعمل في أرضنا.. إن فشلتُ في تحقيق حلمي، فهذا لا يعني أن أشارك "حموداً" أو "بشيراً".. سأبقى إنساناً نظيفاً.).
وفور أن دخل بيته، وجفّف نفسه بعض الشيء.. هرع إلى المطبخ ليلتهم حبّات الزيتون. وبدرت في ذهنه فكرة.. جعلت الأمل يستيقظ في أعماق الجائعة:
- (نعم.. سأنزل وأبيع للسمّان كتبي الجامعية.. بالكيلو.).
أحضر حقيبة جلديّة يستعملها عند سفره لأهله، ملأها بالكتب بسرعة جنونية.. لم يعد قادراً على الاحتمال، إنّه مهدّد بالسقوط.
وبينما كان يهبطُ الدرجَ المعتمَ، فجأةً توقفَ عن النّزول، والدّهشةُ تقفزُ من عينيهِ الغائرتينِ، هذا غيرُ معقولٍ.. إنّه لا يصدّق ما يراه، إنّه العجوزُ والده!!!.. يتوكّأُ على عكّازِهِ، بينما يحملُ في يدِهِ الأخرى سلّةَ قَشٍ مليئةً لا شكّ بالأطعمة.
لا.. لا يقدر أن يصدّقَ أنّ هذا المقوسَ الظهّرِ أبوه.. فوالدهُ مريضٌ لا يقدرُ على النّزولِ إلى المدينة.. تأمّلَهُ جيداً..اقتربَ منّهُ أكثرَ، والدّمعُ ينفرُ من عينيهِ.. وانبعثَ صوتُهُ المخنوقُ من أعماقِهِ:
- أبي؟؟؟!!!.
كان الكهلُ رافعاً رأسَهُ الملفّعَ "بالجمدانة" السّوداءِ، نحو "عبد الله" وفوقَ وجهِهِ المكسوّ بالتّجاعيدِ ترتسمُ على فمهِ الذي خلا من الأسنان منذ أمدٍ بعيدٍ، ابتسامةً عذبةً، دافئة. في حين كان يَلهثُ بعنفٍ وصعوبة:
- منذ الصباح وأنا أبحث عنكَ يا ولدي.
اندفَعَ نحوَ والدِهِ.. أحتضنُ بشدّةٍ
بعنفٍ.. بقوّةٍ.. بشوقٍ.. بحنانٍ.. برقّةٍ.. بحُرقةٍ.. انحنى على يدِهِ التي تتمسّكُ بعكّازِها، قبّلَها بحرارةٍ بالغةٍ، أحسّ بدفئها، بنبضها، بخلجاتِها، بحنانِها، فلم يكن يدرُكُ مدى حبّهِ وتعلقِهِ بأبيه، قبل هذهِ اللحظة.
وفجأةً.. تحوّلت يدُ والدِهِ المعروقةُ، والراعشةُ، والمتشققةُ، أمام عينيهِ الدّامعتين إلى واحةٍ خضراءَ، تشبه الرّيف بخيراتِهِ وعطاءاتِهِ، وعاداتِهِ.
في حين كان "عبد الله" يصرخ، بصوت شبيه بالنباح:
- آهٍ يا أبي.. لو تدري كم المدينة ابنة كلب؟!.
حلب
* (دستور من خاطره)..
استدعى الشّيخ (حمزة) حفيده (لطّوف)، وطلبَ أن يجتمعَ بهِ على انفرادٍ، وقفَ (لطّوف) أمامَ جدّهِ منقبضاً، فلجدّه هيبة عالية.
تمعّنَ الجّدُّ بحفيدهِ بدقٌةٍ، فأحسَّ (لطّوف) بالعريّ أمامَ نظراتِ الكهلِ الثّاقبة، واعتقد أنّ الجّدّ سوف يحاسبهُ على أفعالهِ السّيّئةِ، الّتي ذاعَ صيتها في كلّ مكان، لكنّه قرّر أن يكذّب كلّ التّهم الّتي سيواجهه بها جدّهُ. قال الجّدّ:
- أَمَا آنَ لكَ أن تعقلَ يا (لطّوف)؟.
أطرقَ الحفيد برهةً، ثمّ همس بصوتٍ مرتعشٍ:
- جدّي.. كلّ ماسمعته عنّي كذب وافتراء.
رمقهُ المسنُّ بنظرةٍ صارمةٍ، وصاحَ:
- أنا أعرف كلّ شيءٍ عنكَ يا مقصوف العمر.. فلا داعي للكذب.
تقدّمَ (لطّوف) خطوة من جدّهِ، دمدمَ:
- صدّقني يا جدّي... أنا تبتُ منذ زمنٍ عن ارتكاب المعاصي.
غابت الحدّة عن كلامِ المسنِّ، تحوّلَ صوتهُ إلى ما يشبه الهمس:
- أنا أريد مصلحتكَ يا (لطّوف)... إنّ ساعتي اقتربت، ويجب أن تأخذ عنّي الوكالةَ، عليكَ أن لا تضيّع هذا الجّاه،كلّ النّاس سيكونونَ تحتَ إمرتكَ، فقط تعقّل، وتطيلَ لحيتكَ، وتبدأ بالتّردّدِ على الجّامع.
قال (لطّوف) الذي أدهشه هذا القول:
- ولكن يا جدّي... أنا لا أصلح لها، كلّ النّاس فقدوا ثقتهم بي.
قذفَ المسنُّ سبحته من يدهِ، وصفعَ (لطّوف) بنظرةٍ غاضبة:
- أنتَ لماذا لا تريد أن تفهمني؟!.. قلتُ لكَ أطِل لحيتكَ، وتردّد على الجّامع، وسرعانَ ما تعودَ إليكَ ثقة أهل البلدة، فأنتَ ابن أسياد، من اليوم عليكَ أن تجالسني كلّ يوم، حتّى تتعلّم منّي كلّ شيء.
جلسَ قبالة جدّه الهرم.. وهتفَ:
- جدّي..أنا أفكّر أن أعمل في التّجارة
حملقَ الجّد بحفيدهِ ، ثمّ أشاح وجهه المتجعّد، ذا اللحية البيضاء:
- أنتَ غبيّ.. عملنا يدرّ علينا ذهباً، والتّجارة قابلة للخسارة.
***
عندما ماتَ الشّيخ (حمزة)، كانَ جميع أهل بلدة (الباب)، يعرفونَ أنَّ حفيده (لطّوف) هو خليفته، فقد منحه جدّهُ الوكالة، أمام كلّ النّاس، في الجّامع (الكبير)، بعد صلاة الجمعة.
***
تماثلَ وجه (مريم) للشفاء، من الحروق التي سبّبها إبريق الشّاي السّاخن يوم سقط فوقها، لكنّ الصّداع الهائل لم يفارقها، بل كان يتضاعف ويزداد كلّ يوم، و (مريم) تشكو من الألم الفظيع تبكي، وحين حازت على اشفاق الجّميع، قالت جدّتها (الحاجّة ربّوع):
- علينا أن نعرضها على سيدي (لطّوف) فهو من أولياء الله الصّالحين.
فوافق الأهل على كلام (الحاجة)، وهكذا أمر الأبّ ابنه (رضوان) أن يذهب إليه، ويرجوه الحضور.
منذ اللحظة الأولى لدخول صاحب
الكرامة (لطّوف)،وبعد أن رمقَ (مريم) بنظرة مستعجلة أمر الجّميع بالخروج من الغرفة، فتركوه مع (مريم).
طلبَ منها الاقتراب منه،امتثلت
لأمره، وضع يده على جبينها، حدّق في عينيها الجزعتينِ، ثمّ حوّلَ يده إلى خدّها، راحَ يتمتم بتراتيل مبهمة، عادت يده لتمسحَ رأسها، طلبَ أن تخلعَ عنها غطاء الرّأس، ففعلت، راحت يده تمسّد شعرها الفاحم، أخذت عيناه تشعّانِ، زحفت كفّهُ إلى عنقها، تأوّهت(مريم) إذ ما زالت آثار الحروق تؤلمها، أخذت أصابعه تجسّ كتفيها، تصاعدت دمدماته:
- هل يؤلمكِ رأسكِ؟.
هزّت(مريم)رأسها. عاد يسأل:
- هل ما زالت الحروق توجعكِ؟.
كرّرت هزّ رأسها، لكنّ دموعاً حبيسة من عينيها بدأت تنسكب.
- إذاً مرّغي خدّيكِ بلحيتي.
دهشت (مريم)، تراجعت، فصاح:
- مرّغي خدّيكِ بلحيتي، فلحيتي مباركة.
اقتربت الصّبية، لصقت خدّها
بلحيته الضّخمة،ألصق لحيته بخدّها
أكثر، امتدّت يداه تحتضنانها بعنفٍ، اشتعلت النّار داخل عينيهِ، دمدم:
- هل يؤلمانكِ نهديكِ؟.
بهزّةٍ من رأسها نفت هذه المرّة.
- هل أنتِ متأكّدة؟.
- نعم.
ارتفع صوته المبحوح أكثر:
- هل أنتِ متأكدة، أم أنّكِ لا تعرفين؟.
همست (مريم) والخوف قد سيطر على كامل وعيها:
- لا أعرف.
امتدّت يده إلى نهدها، تكوّرت كفّه فوقَ النّهد، راحت أصابعه تهرس الحلمة، كان النّهد ليّناً، دمدمَ لاهثاً:
- افتحي أزرارك.
تطلّعت إلى عينيهِ الجّمريتين:
- قلتُ لكِ افتحي الأزرار.
برزَ الصّدر الأسمر، هرعت أصابعه
المتوقّدة لترفع الحمّالتينِ، تأرجح النّهدان، قبضت يداه الحارتانِ الرّاعشتانِ عليهما، اندلعَ اللهب من عينيهِ وسرت رجفة في أوصالِ (مريم) حينَ أبصرت وجهه يستطيل، همهمَ وقد اتّسعَت بُحّة صوته:
- هل توجعكِ بطنكِ؟.
- لا.
رفعَ يديهِ عن النّهدينِ ، قال بحزمٍ :
- تمدّدي أمامي.
تجرّأت (مريم) لتهتفَ:
- قلتُ لكَ بطني لا توجعني.
تراجعَ قليلاً.. تجهّمَ وجههُ، تقلّصت لحيته وهو يصيح:
- قلتُ لكِ تمدّدي.
تمدّدت كالميّتةِ، أسرعت يداه لتكشفانِ الثّوب عن بطنها:
- لماذا ترتدينَ هذا البنطال ونحنُ في عزِّ الصّيف؟!.
لم تردّ عليه، لم ينتظر جواباً، تابع رفع الثّوب، ظهرت البطّن، تسابقت أصابعه لترفعَ القميص الدّاخلي، يده تتمرّغ على البطن وتعصرها، عَلَت دمدماتهِ:
- اللهمّ أرح هذه البطن من الألمِ، اللهمّ أرفق بهذه النّعومةِ، بهذهِ الفتنةِ والسّرّةِ، اللهمَّ مكّني من مساعدتها فهي عزيزة على قلبي، اطرد عنها الجّنّ والعفاريتَ والشّياطينَ والأبالسة أولاد الكلب، اللهمّ أرحني، فأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ.
***
عندما سمحَ صاحب الكرامة لأهلِ (مريم) بالدّخولِ كانَ قد تربّعَ فوقَ اللبّاد وأمسكَ بسبحتهِ.
سارعت(نجوى) أمّ (مريم) لتسأله:
- خير يا سيدي الشّيخ .. طمّني؟.
ابتسم صاحب الكرامة، نظر صوب (مريم) المصفرّة الوجه، دمدمَ بعد أن مسّدَ بأصابعهِ على لحيتهِ المشوبةِ بالاحمرار:
- إن شاء الله خير، لا تقلقي، أريد فقط أن أبيّت لها حتّى أتأكّدَ، لهذا أريد شيئاً من أثرها ،كي أضعه تحت مخدّتي عند نومي.
قالت (الحاجّة ربّوع):
- أعطهِ غطاء رأسكِ يا (مريم).
هتفَ صاحب الكرامة بسرعةٍ:
- غطاء الرّأس لا يصلح ياحاجّة.
سألَ (أبو رضوان) باستغراب:
- لماذا لا يصلح يا سيدي؟!.
- لأنّني أريد قطعة من ثيابها تكون ملتصقة بجسدها أكثر، ويجب أن تكون هذه القطعة نجسة،لأنَّ الجّنّ والعفاريت والشّياطينَ والأبالسةَ، أعوذُ بالله من ذكرهم، لا يوجدونَ إلّا في الأماكنِ النّجسة والحقيرة.
صاحت الأمُّ :
- دستور من خاطرهم، دستور يارب.
تابعَ صاحب الكرامة طلاسمه:
- أريدُ سروال (مريم)، فهو أفضل شيء(للإستخارة).
***
قبلَ وصول صاحب الكرامة، طلبت (مريم) من أمّها وجدّتها أن لا يتركاها معه بمفردها.
قالت الأمُّ:
- صاحب الكرامة لا يقبل أن يتركنا معكِ.
وأجابت الجّدة (ربوع):
- الجّن والعفاريت والشياطين والأبالسة لا يظهرونَ لسيّدنا (لطوف) إن بقينا معكِ.
أرادت (مريم) أن توضّح لهما عن أسباب مخاوفها:
- سيّدنا(لطّوف) له حركات مخيفة.
صاحت الحاجّة (ربّوع):
- طبعاً.. هكذا هم أولياء الله الصّالحين.
أدركت (مريم) أنَّ أمّها وجدّتها، لا تستوعبانِ ما تقصد، لذلك عزمت على المكاشفة أكثر:
- سيّدنا (لطوف) ليس من أولياء الله الصّالحين.
ذعرت الأمّ من هذا القول، وصاحت الجّدةُ بغضبٍ شديدٍ:
- اللعنة عليكِ ياقصوفة العمر، أنتِ تكفرينَ، قولي دستور من خاطره، قبل أن يفلجكِ، سيّدنا لطّوف ابن أسياد.
اقتربت الأم من ابنتها، وهمست:
- قولي يا ابنتي أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، ولا تعودي لمثل هذا الكلام، سيّدنا (لطّوف) قادر على مسخنا جميعاً.
***
وصل صاحب الكرامة (لطّوف) ، كان عابساً، استقبلته العائلة بقلقٍ وخوفٍ، قال الأب (أبو رضوان):
- خير يا سيدي.. لقد شغلتَ بالنا؟!.
تضاعفَ تجهّم وجهه، تسارعت أصابعه بتلقّفِ حبّات سبحتهِ ذات المئة حبّة، نظر صوب (مريم) المنكمشة على نفسها عند الزّاوية، وقال:
-(مريم) أحرقت ابن ملك الجّنِّ الأحمر، يوم أسقطت إبريق الشّاي، وهذا ما جعل ملك الجّنّ الأحمر، أن يقسم على الانتقام من ابنتكم (مريم) .
ندّت عن (مريم) صرخة ذعر رهيبة، توجّهت إليها الأبصار بفزعٍ عظيم، كانت ترتعش، فكأنَّ خوفها قد تحوّلَ إلى موجةِ بردٍ قارسة.
صاح صاحب الكرامة وهو يحاول النّهوض:
- اخرجوا من الغرفةِ، ودعوني أعالجها.
حلب
* العروسة..
إنتشر الخبر وتسرّب بين الأولاد في كلّ أزقّة البلدة، والكل صار يعلم أنّ المدعو (زكّور الصّخلة) الملقّب بأبي (درخوش) وهو صاحب حمير (التّشباية) التي يقودها صباح كلّ يوم أحد، من أيّام الرّبيع، إلى البازار ليتكسّبَ بها بضعة نقو . حيثُ كانَ الأولاد يتجمّعونَ، ومنهم من يهرب من المدرسة، بدافع الفضول والرٌغبة في رؤية عمليّة (التٌشباية) شاعرينَ بالمتعة والإثارة، مشدوهين، مسلوبي الأبصار، ضاحكين ومهتاجين.
وكان أبو (درخوش) المعتاد على القيام بهذه العمليّة، منهمكاً بها إلى درجة الانفعال، يسحب الحمارة التي ستحبل اعتباراً من هذا اليوم، ويتركُ حماره الضّخم يقترب من الحمارة، بضعة دقائق يتشمّمها حتّى يثار ويهتاج، فيقترب منهما أبو(درخوش) ويهمس بأذن حماره، كلمة (زقردو) فيقفز الحمار، ويعتلي بقوائمه ظهر الحمارة، آخذاً بعضّها من ظهرها، في تلك اللحظة ينتبه أبو (درخوش) لوجود الأطفال وهم مثارون ومهتاجون ويصرخون ويصفّرون، فيصرخ بهم غاضباً:
- إذهبوا من هنا يا أولاد (القحبة) والله يا (عرصات) لو أمسكتُ واحداً منكم بيدي لتركت الحمار يفعل به، ما يفعله مع هذه الحمارة.
ويتابع كلامه وهو أكثر هياجاً حين يرى قهقهات الصّغار الخبيثة:
- إذهبوا، تفرّجوا على آبائكم وأمٌهاتكم.
ثمّ يردف قائلاً جملته المعروفة:
- (جيل بندوق).
بعد ذلك يخرج من جيب (شرواله) الأسود، علبة دخانه الصّدئة، ويبدأ بدرج سيجارته الغليظة، متناسياً أنّه قبل قليل، أمسكَ بيديه عضو حماره ليضمّه في الحمارة.
ولكن الجديد في الأمر، هو الخبر السّار الذي إنتشر مؤخّراً، ومفاده أنّ أبا (درخوش) قد افتتح فرعاً خاصّاً، من أجل تقديم المتّعة للأولاد. يأخذ من الولد ربع ليرة مقابل أن يسمح له بالإختلاء (بالكرٌة) الزّرقاء التي اشتراها لأجل هذا.
قرر (رضوان) وابن عمّه (سامح) وبعض رفاقهم من أولاد الحارة، الذهاب إلى دار أبي (درخوش)، وكان عددهم عشرة حينما طرقوا بابه.
خرج عليهم (أبو درخوش) وكان مبتسماً، وكانت هذه أوّل ابتسامة يروها له، قال مرحّباً:
- أهلاً وسهلاً بالشباب، تفضّلوا.
ولمّا كان الحياء يمنع الأولاد من الكلام، لتوضيح سبب مجيئهم، لكن أبا (درخوش) عرف ذلك فقال بعجلة:
- أدخلوا، لا يجوز أن يراكم أحد واقفين هكذا.
دخل الأولاد وهم في أشدّ أنواع الحرج والإرتباك، صاروا وسط باحة الدار الخربة، وأخذوا باشعال السّجائر ليواروا خجلهم واضطرابهم، عاد أبو (درخوش) بعد أن مدّ رأسه داخل الغرفة، وتكلّم بضع كلمات مع (حليمة) زوجته التي تتردّد حولها شائعات تقول بأنّ زوجها أبو (درخوش) يسمح للرجال بالنٌوم معها مقابل عدّة ليرات، متّخذاً الغرفة الوحيدة مقرّاً لذلك، بينما يتمشّى هو في باحة الدّار.
قال أبو (درخوش) موجّهاً كلامه للصبٌية:
- حظّكم جيّد، منذ قليل انتهيت من تغسيل العروس.
تشجّع (عثمان) وهو يكبر رفاقه بالسٌن فقال:
- نحنُ يا أبا (محمود)..
هكذا كانوا ينادونه في حضوره، لأنٌ لقبه يطلق عليه في غيابه، لكنّ بالطّبع كان يعرف هذا اللقب.
- نريد أن نعرف كم ستأخذ منّا، مقابل أن تتركنا مع العروسة؟.
كتم أبو (درخوش) ابتسامته، وقطّب وجهه القبيح متّخذاً طابع الجّدّ والتفكير، رفع يده وأخذ بأصابعه المثقلة بالخواتم الحديدية، يفتّل (شواربه) الغليظة كسيكارته، وقال:
- سآخذ ربع ليرة فقط من كلّ واحد منكم.
قاطعه (عثمان) وقد زال عنه حياؤه
واضطرابه:
- يا أبا (محمود)، نحن كثرة، نريد أن نتّفق معك على الجّملة، والجّملة غير المفرّق.
عادت الابتسامة المصحوبة بالزّبد واللعاب، ترتسم على فمه الواسع التّكشيرة والمرصّع بأسنانٍ ذهبيّة متفرّقة:
- أنتم معذورون، لأنّكم لا تعرفون العروس، لكن أقسم لكم بشرفي الذي لا أملك غيره، وليس لكم عليّ يمين. بأنَّ هذه العروس الزّرقاء لا مثيل لها، فهي من تركيا أصيلة، ذات حسب ونسب، جميلة وصغيرة، لا تغدر ولا تقاوم وهذا شيء تحمد عليه، ولا تهرب من فارسها وهذه ميّزة حسنة وهي لا تنزعج من الإقتراب منها، وهذه عادة رائعة ومن النادر توافرها في غيرها، إنّها لطيفة وحسنة المعشر، ولا تصدر صوتاً أو نهيقاً.. وهي نظيفة حيث أغسلها بالماء والصابون، وأقوم بتعطيرها، فرائحتها طيبة، والأهم من كلّ ذلك، وأقسم لكم بشرفي الغالي أنّني لا أطعمها غير الشّعير النظيف والغالي الثمن، وأنتم تعرفون كم سعر الكيلو غرام منه، إنّها تكلفني الكثير، بغضّ النظر عن تعبي واهتمامي الدّائمين، هل تعلمون أنّني لم أضعها مع زملائها الحمير خوفاً عليها منهم، فهي جميلة وصغيرة، ولقد اختلفت مع زوجتي (أم محمود) بسببها، لأنّني الغيت المطبخ، وخصّصته لها، وصرنا نطبخ في غرفتنا الوحيدة، لكي أضعها في بمفردها، ليأخذ الزّبون راحته معها.. هل كثير بعد كلّ هذا مبلغ الربع ليرة؟.
قال (عثمان) بأعصاب باردة:
- ونحن يا أبا (محمود) لن ندفع لك سوى (فرنكين) على الواحد منّا.
أرادَ أبو (دَرخُوش) أن يتكلّم، لكنّه توقّف بعد أن نظر إلى الأولاد بعينيهِ المعمصتينِ نظرة توحي باللومِ والعتاب واتّجهَ نحو الزّريبةَ الخاصّةَ بالعروس:
- تفضلوا.. القوا نظرة عليها، قسماً بشرفي، والشّرف غالي كما تعرفون.. منذ يومين حمّمتها (بالكالونيا).
إمتطّت أعناقَ الفتية الصغار، واندسّت رؤوسهم من خلال الباب الموارب، ناظرينَ إلى(العروس) الواقفة بكلَّ استكانة، كانت بحجم النّعجةِ، ولمحوا في جسدها وقوائمها بعض الجّروح المدّماة، والذباب يتطاير فوقها بكثرة، كانت مربوطة بالرَّسن وقوائمها الأربع موثقة بحبلٍ متينٍ وغليظٍ، بينما كان رأسها الكبير مزيّناً بباقة وردٍ حمراء اللون ، جافة الأوراق، أمّا عيناها الواسعتان، فقد غطّاهما الدّمع والوسخ الأصفر:
- انظروا بأنفسكم، واحكموا.. بذمّتكم ألا تستحقّ الرّبع ليرة؟!.
كرّر (عثمان) موقفه الذي بدأ يضايق الأولاد جدّاً، فهم على عجلة من أمرهم:
- (فرنكين) فقط يا أبا (محمود).. وإلّا دعنا نخرج.
حينما أدرك أبو (درخوش) ثبات موقف الأولاد.. أجاب:
- على بركة الله.. إتّفقنا.. هاتوا النقود سلفاً.
أخرج كلّ من الأولاد (فرنكين) أصفرين من جيوبهم، وسلّموا جميعهم النقود لأبي (درخوش) الذي قال:
- تفضّلوا.. ولكن بالدّور طبعاً، و بسرعة.
دخل (عثمان) الزّريبة في البداية، وأغلق الباب الخشبي خلفه. ووقف الجّميع في باحة الدار يدخّنون وينتظرون، يسيطر عليهم الخوف والإضطراب والقلق، بينما أسند أبو (درخوش) ظهره إلى الحائط، منهمكاً بدرج سيجارته.
كان (رضوان) آخر من دخل على (العروس)، وكان كثير من الحيرة وغير قليل من الإرتباك يسيطران عليه ويضغطان على أعصابه. فكَّ أزرار البنطال، أنزله إلى الركبتين، إعتلى الحجر، وقف بشكل مناسب تماماً.
كانت (سمر) الشّقراء في مخيّلته، (سمر) الرائعة الجمال، زوجة رئيس المخفر (أبي ضرغام) الذي يخافه جميع أهل البلدة، بمن فيهم والده، الذي وقع تحت رحمة سوطه مدّة ثلاثة أيام، بحجّة تعاطيه الحشيش، ولم يفرج عنه، إلّا بعد أن أخذ منه مئتي ليرة رشوة ك، وإذا كان أبو (ضرغام) مكروهاً من قبل أهل البلدة، فإنَّ حبهم جميعاً كان منصبّاً على زوجته الشّقراء (سمر)، كانوا يحبونها إلى درجة العشق
فهي الوحيدة التي تخرج إلى الحارات سافرة دون ملاية سوداء، متبرّجة معطّرة، ولطالما وقف (رضوان) أمام باب بيتها الذي لا يغلق، ليراقب حركات جسدها اللدن، الذي لا يفارق خياله.
بينما كان (رضوان) سارحاً بخياله، فاجأته (العروس) بنهيقها العالي، فجفل وانسحب بسرعة، وخرج ملوثاً، وهو في أشدّ حالات الضّيق، فأخذ (سامح) ورفاقه يضحكون منه بصخب، حتى خيّل له أنَّ السّماء والجّدران الحوّارية المتهالكة تشاركهم قهقهاتهم تلك، ومنذ ذلك اليوم، ورفاقه يضحكون منه كلّما صادفوه، وقد أطلقوا عليه لقب
(العريس).
لكن ماحدث بعد ذلك، شيء فظيع، فبعد أيام بدأ (رضوان) يشعر بالحكّة، وأخذت تتزايد، ثم برزت بثور ناعمة صفراء، إنتشرت سريعاً، حتى إكتشف، أهله الأمر.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
فهرس قصص: (الإنزلاق)..
======================
1 - الإنزلاق
2 - حفار قبور
3 - اللصقة
4 - دستور من (خاطره)
5 - العروسة
--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.
مجموعة قصص: (الإنزلاق)
* الإنزلاق..
ما إن وصلت الحافلة، حتّى تدفقت جموع الركاب للصعود من كلا البابين، ثمّة عدد من الفتيان الأشقياء، تسلٌقوا أطرافها وتسلّلوا من نوافذها.
اتخدت مكاني في المنتصف، وقد أمسكت يسراي الكرسي، المشغول بامرأة ورجلين، و كانت يمنايّ تحمل كتاباً وجريدة، بالقرب منّي كانت تقف فتاة شقراء، تشبه الشّقراوات اللواتي يظهرن في أحلامي بكثرة.
مذهلة القوام، لم أتبيّن ملامح وجهها بسبب وقفتها الجانبية، تمنيت أن أرى عينيها، فتاة مثلها ذات شعر أشقر مسدل، لابدّ أن تكون صاحبة أجمل عينين.. توقفت الحافلة عدّة مرات، وفي كلّ مرّة كان عدد الركاب يتزايد، ورائحة الحموضة تشتد وتتزاحم الأنفاس والأجساد، حتى وصلتُ إلى ظهر تلك الفتاة، وبات جسدي ملتصقاً بها، وخصلات شعرها أخذت تحطّ على وجهي، كلّما استطاعت نفحة هواء أن تصل إليه.
خطر لي أن أبتعد عنها، فقد تسرّبت
إلى نفسي رائحة الأنوثة، التي حرمت منها، تلفّت حولي لعلّي أجد مكاناً أوسع لي، ولكن إلى أين؟.. وهذه الوقفة المريحة، وهذا الجسد اللدن يدعوانك للاقتراب أكثر.
الحافلة تهتز وتفرمل وتمشي، وعلى هذه الأنغام، كنتُ أنعمُ بالالتصاق خلف تلك الساحرة وأتلفّت حولي بين اللحظة والأخرى، خوفاً من أن يكون قد أحسّ بحركاتي أحد الركاب.
وفكرت:
- لماذا لا أتخذ موضعاً أكثر اثارة، ولن يلحظني أحد؟!.. وهي لن تمانع.. يبدو أنها معتادة على مثل هذا الزّحام، لكن هاجساً بداخلي أجابني:
- ماذا تقول يا أستاذ؟! .. أتعود مراهقاً من جديد؟ ألا تخجل!؟.
لم أعثر حولي على مكان غير مكاني،
الازدحام يزداد.. والمسافة إلى محطة الوصول بعيدة، و فاتنتي تقف ساكنة لا تلتفت، كانت سارحة خلف الزجاج.
- لا تكن جباناً وأحمق، لماذا لا تنعم بهذه اللحظات الدافئة!!.. ليت الطريق يطول أكثر، وليت هذه الغادة الشقراء لا تنزل أبداً.. طوال عمرك وأنت تحلم بالشقراوات، والحياة تضنّ عليكَ بامرأة
مجرد امرأة، فكيف شقراء؟!.. إذاً اغتنم هذه اللحظات، شدّ عليها، اجذبها إليك، ولا تدعها تفلت.. أمامك سنوات ستقضيها وحيداً دون امرأة تشاركك فراشك.. تزوّد بالدفء الآن، بالأنوثة.. بنعومة الشعر.. بنضارة العنق الذي تكاد شفتاك تنقضان عليه.. تزود بلمسة، فأمامك ليل طويل، بمكنك عندها، أن تتذكر هذه اللمسات، وتستحضر هذه الناعمة، وتبدأ بممارسة عادتك الجهنّمية
وحيداً ستكون، تتلوّى في فراشك، تزأر عروقك بالشّهوة، تستعر أنفاسك، ونبض قلبك محترقاً.. خذ لمسة من عجيزتها
لمسة واحدة.. تكفيك طوال العمر.
أمر زواجك مستحيل، ربما بعد خمس
سنوات.. وأنت تشارف على الأربعين، تستطيع أن تفكر.. أنت فقير وراتبك تتلقفه أمك وشقيقاتك، منذ أول الشهر.. لولا فقرك هذا لما وافقت أمك على طلب يد "فطوم" ابنة أخيها.. آهٍ فطوم
سمراء بلون الصدأ، قصيرة مثل برميل
وعيناها ثقبان بجفون مبطّنة، وشعرها كأسلاك شائكة، فمها واسع التكشيرة، وأنفها ضخم مكتنز.
قلتَ حينها في نفسك:
- فطوم.. أفضل من لا امرأة، والنساء على أية حال متساويات فوق السّرير في الظّلام، وهكذا ذهبت مع أمك وأخواتك العوانس الخمس، لطلب يد
"فطوم".. وكم كانت المفاجأة قاسية عليك، إذ طلب خالك منكم، أن يكون سكنك وحدك،بعيداً عن أمك وشقيقاتك
العوانس، وعليك أن تدفع مئة ألف ليرة للمقدم، ومثلها للمؤخر، عدا ثمن الذهب خمسين ألف ليرة.. إذا كنت فعلاً راغباً بفطوم.
انعم إذاً بهذه الشقراء.. اقترب أكثر..
التصق، حرّك فخذيك قليلاً، وتحسّس بيدك عجيزتها المكتنزة، تحسّس ولا تخف، فالكتاب والجريدة كفيلان بالتمويه.. اقترب واياك أن تحدثني عن الأخلاق، أما يكفيك أنّك كلٌ يوم لا يتوقف لسانك عن ذكر الأخلاق الحميدة والفاضلة أمام طلابك؟ ماذا جنيت من كلّ ذلك؟ هل نفعتك؟.. كل ما تستطيع فعله هو أن تحترق، أمام وسحر وجمال طالباتك.. إذا كنت تعدّ نفسك إنسانا مثقفاً وموضوعياً فعليك أن تعترف بأنك رجل مكبوت، والجنس ضروري في حياة الإنسان، فلماذا تمنع نفسك عن اللذة؟.. بالأمس تهربت من الآذنة أم "محمود" بحجة أنها كبيرة، وتعمل آذنة في الثانوية، إذاً ماذا تفعل وقد ثبت فشلك مع زميلاتك المدرسات
عجزت عن اقامة أي علاقة باحداهن
والسبب هو أخلاقك الفاضلة.. إنك لا تعرف الخداع، كلما تعرفت إلى واحدة صارحتها بحقيقة وضعك المادي.. وتهرب منك.
في هذه اللحظة وجدتني ضعيفاً مستسلماً لشهوتي الحقيرة، وها أنا أمدّ يدي الراعشة، لتتحسّس ما تصبو إليه، وبسرعة غير متوقعة، التفتت فاتنتي إلى الخلف، والصرخة ملء فيها.. وياللهول!!.. كم كانت المفاجأة عنيفة وقاسية، كظمت صرختها والدهشة المتجمدة على قسمات وجهها وعينيها الجزعتين:
- لا.. لا هذا ليس معقولاً.. شيء لا يصدق، مستحيل.. لا يعقل أن تكون هذه الشقراء احدى طالباتي، في الصف
الحادي عشر؟! رباه لا بدّ أني في حلم
هذه الشقراء أعرفها جيداً، إنها "نوران"
أكثر الطالبات اجتهاداً، تعتني دوماً بجمالها الآخاذ وذكاؤها عال وبديهتها سريعة، أعرف أنها تكن لي فائق الاحترام، وهي تحبّ مادة الفلسفة.. ومرّة سألتني:
- لماذا يا أستاذ يكون مدرسوا الفلسفة إنسانيّن وطيّبين كثيراً؟.
في تلك اللحظة سررت كثيراً من سؤالها، اعتبرت كلاًمها مغازلة غير مباشرة، ألستُ أحد مدرسي الفلسفة؟.. إنها تقصدني إذاً، تمنيتُ أن أتقدم
وأطلب يدها..لكنّ فقري سرعان ما قفز ومزّق فارق السّن الأحلام.
في احدى المرات أخبرتني بأنّها تتمنّى أن تختص في الفلسفة، فهي معجبة بسقراط الحكيم وبحكمته، ولكنها كانت تفكر بالطريقة التي تقنع أهلها، ففرع الفلسفة غير موجود في جامعة حلب، عليها أن تذهب إلى جامعة دمشق وهذا ماسوف يمانعه والدها.
عندما التفتت، كان ذلك الشعور الذي ارتكبني أكبر من الخجل، إنه شعور بالعار والاثم والفضيحة، شعور جعلني أنكر ذاتي، لقد سقط القناع عنّي أخيراً، واكتشفت مدى ما آلت إليه قدرات الشهوانية عندي، إنّي بكل بساطة أنقسم إلى إثنين: مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق والفضيلة، وحيوان شهواني عبد وضيع لشهواتي. تمنيت لو تنشق أرضية الحافلة فأسقط وأضيع.. أموت.. لعلي أنتهي وتنتهي "نوران" أيضاً.
ابتعدت عنها، تراجعت عن نظرة الاشمئزاز التي قذفتني بها، اندفعت بقوة نحو الباب، أخذت طريقي بصعوبة بالغة، ومن شدّة توتري وشعوري بالخزي، دهست قدم طفلة تمسك بأذيال أمها، التي تحمل رضيعها، فانبعث صراخ الطفلة فاغرة ببكاء حاد، تابعت انهزامي غير عابئ بالنظرات الشذراء.. وقفزت عند أول موقف.
غداً كيف سأواجهها في الصّف؟.. لابدّ أنها ستبلغ عني زميلاتها الطالبات
.. وسيتبرّعن بدورهنّ لنشر الخبر، وربما تسّربت الفضيحة إلى بقية الثانويات الموزعة ساعاتي فيها. ثمّ ماذا لو ذهبت "نوران" وأخبرت والدها؟
حتماً سأجده غداً بانتظاري عند المدير
الذي يعتبرني أفضل المدرسين عنده، يا للفضيحة.. سيخبر المدرسين والمدرسات، بما اقترفته.
سرت في الطريق ساهماً، قلبي بنزف ألماً وخجلاً، ودمعتي تكاد تقفز من
عيوني، كان عليّ أن أعرفها منذ النظرة الأولى، فهي من أحبّ الطالبات إلى قلبي، فكم من مرة حلمت بها، وعرّيتها من" بدلة الفتوة". كيف لم أعرفها!؟.. ألأنها كانت ترتدي كنزة صفراء وبنطال الجنز!!.. أم لأني لم أر وجهها؟؟.. كان غباء منّي.. ولكن ما حصل قد حصل.
عليّ أن أطلب نقلي من الثانوية منذ الغد، وإذا وجدت الخبر منتشراً في الثانويات، سأطلب نقلي إلى الريف، أو ربما قدمت استقالتي.
وعندما عدّت إلى منزلي متأخراً.. كانت المفاجأة تنتظرني، نعم لقد وافق خالي أن يزوجني "فطوم" مقابل أن أسجّل لها نصف دارنا.. وسيكتب المقدّم عليّ مئة ألف غير مقبوضة، ومثلها للمؤخر.
وما كان بمقدوري إلّا أن أوافق.. فأنا فقير ومسؤول عن أسرة، وليس من حقي أن أحلم بفتاة شقراء، يجب أن أتخلى عن الرومانسية، فالفقر والجمال عدوان لا بجتمعان... سأتزوج من "فطوم".. وعندها أنام معها سأطفئ النور، وفي الظلام كل شيء متساو ومتشابه، فالظلام نعمة يجب أن نحافظ عليه.
حلب
* حفّار قبور..
في مقالٍ نقديّ للأستاذ النّاقد
"حسني أبو خليل" نشره في مجلةِ" لسان الأدباء"،العدد /000/ تاريخ /1988/م.
تحت عنوان "خريف البيادر وتزييف المشاعر". وتجدر الإشارة إلى أنّ "خريف البيادر" هو عنوان مجموعة شعرية صدرت لي منذ أيام قليلة، عن دار "الصمت" للطباعة والنشر، وهي المجموعة التّاسعة لي على ما أعتقد، لأنّني بصراحةٍ لا أملكُ نسخة واحدة من مجموعاتي السّابقة، فقد نفدت كلّها من المكتبات.
لعلكم اطلعتم على مقالة الأستاذ
"حسني" الذي راح من مطلعها، يؤكد تزييف مشاعري في جميع قصائد المجموعة الأخيرة، ومجموعتي كما تعلمون، تتألّف من خمسة وأربعين قصيدة غزلية عذرية، وهي مهداة
"إلى صاحبة أجمل خصر في هذا
العصر".
وهو في اتهامه لي بتزييف مشاعري، يكون قد حكم بالإعدام على قصائد مجموعتي، التي أعتبرُها من أجمل مجموعاتي، وأنتم تعرفون الصداقة المتينة التي تربطني بالأستاذ أبو خليل
ولا بدّ أنّكم اطّلعتم على دراساته القيّمة عن مجموعاتي الثمانية السّابقة، وعلى كتابه النقديّ الرائع والشهر الذي ألّفه عنّي ، تحت عنوان "أنور عبد العليم، شاعر الجزالة العظيم"، ولكي لا يقع في التناقض، حاول أن يبرّر امتداحاته وتعظيماته لي، عن مجموعاتي السّابقة بقوله:
- أنا مازلت مصرّاً على أنّ المجموعات السابقة للشاعر /أنور عبد العليم/ عظيمة في صياغتها ونظمها ومشاعرها
ولكنّي مندهش تماماً لهذا التراجع الكبير، للشاعر في مجموعته /خريف البيادر/!، فجميع قصائد المجموعة، لا ترتقي إلى مستوى الشعر، وكم أنا آسف لأنّ صديقي الشاعر /أنور/ قد أعلن افلاسه الشعريّ، في وقت. نحن بحاجةٍ ماسّة إلى شعر عظيم/.
ذلك مقتطف من مقالته المنشورة، والتي تنضح بالعداء من مطلعها حتى آخر مفردة فيها، وأنا لا أستغرب أن يكتب الأستاذ "حسني" مثل هذه المقالة، وبمثل هذا العداء، لأنّي أعرف دوافعه الدنيئة، وغير الإنسانية لكتابته اللئيمة عنّي.
ولكن مايحزّ في نفسي، هو أنّكم أيّها القراء الأعزاء، لا تعرفون الأسباب الكامنة وراء مهاجمة هذا الناقد، الذي كنت أعدّه صديقاً عزيزاً ذات يوم. لذلك قررت أن أكتب هذه المقالة لا للردّ عليه فهو لم يعد يعنيني على الإطلاق، بل لأبرهن لكم بأنٌ هذا الناقد قد تجنّى على مجموعتي إلى درجة وحشيّة.
في الأيام القليلة لقراءتي مقالته، اعتقدت أن يحمل أحد النقاد النزيهين قلمه ليصفعه بمقالة عظيمة تدافع عن مجموعتي الأخيرة، لذلك لم أكتب مباشرة، وعندما يئستُ من الانتظار وأنا أهرع كلّ يوم إلى الجرائد والمجلات الصّادرة، أتصفّحها بشغفٍ علّي أعثر على ما يشفي غليلي، أدركت مدى جبن النقاد، فهم لا يجرؤون على مهاجمة الناقد "حسني أبو خليل" لخوفهم من قلمه اللأخلاقي، والذي لا يرحم، حينها قررت أن أكتب بنفسي، وأكشف لكم عن الأسباب التي دعته لكتابة مقالته السّخيفة تلك.
جميع قصائد المجموعة مهداة إلى حبيبتي"بيانكا"التي أحببتها منذ التقينا أوّل مرّة، ومنذ أن عرّفته إليها، أي الأستاذ "حسني"، وجدته قد فتن بها وبمفاتنها السّاحرة الجمال، كانت عيناه لا تفارقانها، من وراء نظارته، طوال الجلسة.
كانت عيناه تلتهمان عينيها الخضراوي ذاتَ الرّموش الملائكية، وشعرها المسترسل، والذي كان بتطاير مع أخفّ نسمة، وفمها المتدفق الابتسامة.
أقول:
- كاد يفترسها من رأسها الذي يشتهي المرء أن يضمّه إلى صدره حتّى قدميها العاجيتين.. كنتُ أراقبه وأنا نادم لأنّي عرّفتهما إلى بعض.. وأدركت أنّه سيحاول أخذها منّي، كما فعل منذ سنتين، عندما طلب منّي أن أتخلّى له عن "نجاة"،مقابل تأليفه للكتاب النّقدي" أنور عبد العليم، شاعر الجزالة العظيم" حينها وافقت لأنني لم أكن أحبّها، بقدر حبّي"بيانكا"، وأيضاً كنت بحاجة إلى مثل هذا الكتاب الهام عنّي، إذ لم تكن شهرتي كما الآن.
عندما بدأ يحاول احراجي أمام
"بيانكا" أيقنت أنّه قرر أن يستأثر بها، سألني بخبثه المعهود:
- أستاذ أنور.. أنت في جميع قصائدك، تتغنّى بالسمراوات.. فكيف لك أن تحبّ فتاة شقراء وتتغزّل بها مثل"بيانكا"؟!.
اضطربت ابتسامتي على شفتيّ، وأنا أقول في داخلي:
- هل تريد احراجي يا وغد؟!. قلت:
- الحبّ يصنع المعجزات، وحبّي لبيانكا فاق جميع الألوان.
تألّقت الابتسامة السّاحرة على شفة
بيانكا القرمزيّة، ولكنٌ "حسني" كان مصمماً على المتابعة:
- أنتَ كلّما أحببتَ واحدةً تقول مثل هذا الكلام، وعندما تتركها تأخذُ بشتمها.
رمقتني "بيانكا" بنظرة استنكار واستغرب، وقالت:
- هل صحيح ما يقوله الأستاذ حسني !؟.
- بيانكا.. لقد مررت بتجارب فاشلة.. هذا كلّ مافي الأمر.. ولكنّي أحبّكِ من كلّ قلبي.
دوت ضحكتهُ التي صارت مقيتةً لي منذ ذلك اليوم:
- أنور.. اطلع من تمثيل دور البراءة هذا! أنتَ صديقي وأنا أعرفك جيداً.. زير نساء.
لم أعد أتمالك، وانفلتت أعصابي، رغم أنّي أعرف مسبقاً، مدى حجم الخسارة، إن عاديته، فهو الناقد الوحيد الذي يكتب عنّي:
- "حسني" لماذا تحاول أن تفتن بيني وبين حبيبتي "بيانكا"؟!.
- لأنّي أريدك ألاّ تخدعها.. من الجريمة أن تدمر هذا الملاك الرائع، مقابل متعتكَ الفارغة.
- ولكنّني أحبها "يا حسني".. فلماذا تحكم عليّ بالكذب؟!.
- لأنّي أعرفك حقّ المعرفة.
صرخت بأعلى صوتي، بينما كانت "بيانكا" مدهوشة من هذا الحوار:
- "حسني".. لا تكن أنانياً.. أنا أعرف مرماك.
- إذاً عليك أن تفهم.
وفجأة.. نهضت "بيانكا"، واعتذرت عن متابعة حوارنا، حملت حقيبتها ومضت، بعد أن رمقتني بنظرة غضب وعتب.
وحين أصبحنا وحدنا، قلت:
- ما كنت أحسبك أنانياً ولئيماً إلى هذا الحدّ؟!.
ضحك ضحكته المجلجلة :
- أنا معجب "ببيانكا" يا"أنور".
- ولكنّي أحبها يا "حسني".هل جننت؟!.
- من يتخلّى عن "نجاة" يتخلّى عنها أيضاً.
صرخت بحدّة، بعد أن ضربت بقبضتي الطاولة:
- أنت "يا حسني" إنسان حقير.. وأنا أعتذر عن صداقتك.
نهض "حسني" عن كرسيه، عدّل نطارته فوق أرنبة أنفه الضخم، وقال:
- على كلّ حال سوف تدفع الثمن.. أنا الذي خلقتُ منكَ شاعراً، وأنا الذي سيحطّمك.
هتفت :
- اذهب إلى جهنّم، أنا شاعر رغماً عن أنفك، وأنف كلّ النقاد.
ذهب "حسني أبو خليل" وانقطعت
بيننا كلّ الصلات، وعندما أصدرت ذات المجموعة "خريف البيادر"، جاء دوره لينتقم. فهاجمني بمقالته اللئيمة. وسمعت. من أحد الأصدقاء أنّه الآن يقوم بتأليف كتاب نقديّ ضخم، عن سرقاتي الأدبية..
بهذه الطريقة المنحطّة حاول أن يقنع "بيانكا" أنّ مشاعري نحوها مزيّفة.. فابتعدت عنّي، وذهبت إليه.
حلب
* اللصقة..
كان زملاؤه في الجامعة، يسمونه "اللصقة".
فما من مرّة رأوه مقبلاً نحوهم، إلاّ وسارع أحدهم لتنبيههم، قائلاً في حذر:
- جاء اللصقة!.
فينسحب بعضهم قبل وصولهِ، بطريقة ذكيّة قائلين:
- لنهرب.. قبل أن يحلّ بلاؤهُ علينا.
وسبب هذا يعود إلى ظروف"عبد الله" القادم من الريف، ليتابع دراسته في كليّةِ الآداب.
جاء إلى حلب من قرية "عامودا" الواقعة على الحدود الشرقية، محمّلاً بآمال عظيمة وطموحات عالية، وأحلام غزيرة، وموهبة متقدةٍ، مخلّفاً وراءه أباً طاعناً في الشيخوخة، لا يقدر على فعل شيء، سوى تحدّي "عزرائيل"، فكثيراً ما شاهد والده، يعارك ملك الموت ويرغمه على التقهقر، في حين يبقى العجوز متمسكاً بروحه المهترئة.. ولولا عمل أمّه وشقيقاته في حقول الآخرين، لما تمكنت العائلة من العيش.
كان "عبد الله" في كثير من الأحيان يندم لأنّه لم يسمع كلام والدته ويترك الدّراسة، فهو بشكل دائم في حاجة وعوز ، ولو لم يكن ينزل إلى "باب أنطاكيا" حيث معرض العمال، للبحث عن رزقه، لما تمكن من اجتياز السّنوات الثلاثة الماضية بسلام.. وخاصة بعد أن حرم من القرض الجامعي، بسبب رسوبه في السنة الماضية. في كلّ عام وخلال فصل الشتاء، كان يمرّ بمثل هذه الضائقة، فالعمال المختصون لا يجدون عملاً في هذه الأيام الباردة والماطرة ، لولا طموحاته وأحلامه القوية، لترك الجامعة منذ أمدٍ بعيد.
ومن حُسنِ حظّهِ أنّه يقيم في بيت زوج شقيقته الذي يعملُ في الخليج، كان يضطر إلى الاستدانة من أصدقائه ريثما يجد عملاً فيردّ إليهم دينهُم، وكانت ظروفه السيئة ترغمه على فرضِ نفسه ضيفاً مكسور الخاطر ليتناول الطعام في منازل أصدقائه، جاهلاً أن أصدقاءه يطلقون عليه لقب "اللصقة"، ولكنّهم رغم كلّ سخرياتهم التي يطلقونها وراءه، يعاملونه باحترام وودّ ، وذلك بسبب شاعريّتِهِ الكبيرة..
" فعبد الله" شاعر موهوب، له حضوره في الملتقيات الأدبية التي ترعاها الجامعة، وكان معظم زملائه يشاركونه ذات الميول، لذلك هم يحسدونه لتفوقه عليهم ّفي الشهرة، وامتداح النقاد والتفاف المعجبات حوله.
ولمّا كانوا عاجزين عن النيل من شاعريته.. أخذوا يسخرون من نقطة ضعفه الوحيدة، ألا وهي سوء حالته المالية، وعوزه الدائم إليهم، لذلك وصفوه بال "الّصقة".
وفي هذا الصباح الممطر، استيقظ "عبد الله" مهموماً مكروباً... فهو في حالة إفلاسٍ لا مثيل لها.
مضى عليه أكثر من عشرين يوماً دون أن يتمكّن من العمل.. فالأمطار لا تنقطع، والعمل في ورشات البناء معدوم.. و "عبد الله" يقتصد.. في كلّ شيء يقتصد.. في عدد وجباته القميئة في نوعية وكمية سكائره.. في حلاقة ذقنه.. وشرائه لتذاكر باصات النقل الداخلي.. في الصحف والمجلات.. وتردده إلى المقصف المركزيّ..و مرافقة صديقاته اللواتي اضطر أخيراً أن يستدين منهنّ رغم شعوره بالخجل. وعاد أيضاً لبيع الكتب التي تمكن من جمعها خلال الصيف.. فهو في كلّ شتاء، يضطّر لبيعها من جديد، حتّى أنّه في الأونة الأخيرة، اضطّر إلى بيع ساعة يده التي هو بأمسّ الحاج إليها. ومع هذا فقد وقع يوم أمس بين فكّي الإفلاس، ونام ليلته وأمعاؤه نتضوّر من الجوع.
نهض من سريره المنحني والمزعج في صريره، واتّجه نحو المطبخ النتن الرائحة، وراح يبحث عن لقمة يسدّ بها رمقه، رغم علمه بأنّه يبحث عن لا شيء.. عنده زيتوناً ولا يوجد خبز، ولديه سكّر ولا وجود للشاي.. ويملك قليلاً من البرغل في حين أن السّمن والزيت غير متوفرين ، فكيف له أن يتدبّر أمره؟!.. فكرة أن يستدين من الجيران خبزاً ليست واردة، لأنّه استدان منهم في مرات سابقة وكثيرة وعجز عن ردّ ما استدان لدرجة أن رفض جميع جواره أن يعطوه رغيفاً واحداً يوم أمس. وتساءل:
- (ماذا أفعل؟.. أمعائي تزقزق طوال الليل، صرت أخجل من طلب الاستدانة أنا مدان للجميع، مامن شخص أعرفه إلاّ واستدنت منه، ديوني لسبعة وثلاثين شخصاً، بمبلغ / 4645/ ليرة سورية.. فإلى متى سأظلّ معتمداً على الدين؟!.. أخذ أصدقائي يتهربون منّي، "يطنشون" إذا ما شكوت لهم سوء حالتي المادية حتّى أنّ صديقاتي اللواتي كنتُ أخجل أن أظهر فقري أمامهنّ، أصبحت مداناً لتسعٍ منهنّ، بما فيهنّ "انتصار" التي تحوّل حبّها لي إلى دروسٍ في الاقتصاد، والاعتماد على الذات).
ولأنّ "عبد الله" جائع ولا يملك حلّاً لمشكله سوى اللجوء إلى أصدقائه، فقد قرر أن يذهب إلى صديقه "بشير"، الأكثر رفاهيةً من الجميع، سيداهمه في بيته قبل أن يغادره، ويتناول معه فطوره، ويطلب منه بضع ليرات.
أسرع بارتداء بذّته الجامعية العتيقة
وخرج مسرعاً، فكان المطر بانتظاره، ولأنّه لا يملك نقوداً ولأنّ باصات النقل الدّاخلي تتأخر في المجيء، قرر أن يذهب سيراً على قدميه، من منطقة "الأعظمية" إلى حيّ
"الجميلية" غير عابئ بسقوط المطر فوق رأسه الأصلع بعض الشيء.
في تمام السابعة والنصف ضغط على زر الجرس، وهو يأمل ألاً يكون"بشير" قد تناول فطوره، وانتظر برهة والحياء يلسعه، كم مرّةً يفرض نفسه.
ما من أسبوع إلاّ ويحلّ عليه ضيفاً ثقيلاً، اللعنة على الجوع، لو لم يكن
"بشير" أفضل أصدقائه لما زاره هكذا.. عاود الرنين مرّةً ومرّتين، وقلبه ينبض من شدّة توتره وخجله، وسمع وقع أقدام تقف خلف الباب،واختفى بصيص الضوء المنبعث من العين السحرية، فغضّ بصره حتى لا تلتقي عينيه بعين الناظر، وفجأة سمع صوتاً أنثوياً يسأل:
- مين؟؟.
تنحنح "عبد الله".. وقال:
- أنا صديق بشير، هل هو موجود؟.
لم بأته الجواب.. بل أبصر الضوء ينبعثُ من حدقة العين السحرية،
فأدرك أنّها دخلت لتنادي أخاها "بشير".. مضت لحظات اعتقد أنها توقظه، ولهذا عذرهم عن التأخر، سمع وقع الخطا من جديد، أبصر العين السّحرية تظلم، وعاد صوت الأنثى يخاطبه:
- مين حضرتُكَ؟.
بادر يُجيبها على الفور، والحرج بادٍ في نبرات صوته:
- أنا صديقه.. عبد الله الحجي.
وابتعدت عن الباب مرّة أخرى، وانبعث الشّعاع من العين السّحرية.. غابت في هذه المرّة مايزيد عن الدقائق الثلاث، لدرجة أنّه شعر بالضجر والندم على مجيئه في هذا الوقت المبكر، فكّر أن ينسحب ولكن فات الأوان، فها هو يسمع وقع الخطى، ولابدّ أنّ "بشيراً" استيقظ، وتفاجأ من زيارته غير
المتوقعة.
لكنّ الباب لم يفتح، كلّ ماحدث أنّه سمع ذات الصوت الأنثوي:
- بشير غير موجود، لقد خرج في السادسة والنصف.
لعن نفسه لأنّه فكّر في هذه الزيارة وتيقّن أنّ صديقه موجود في الداخل، أحسّ أنّه أهان كرامته، ليس من المعقول أن يبقى متطفلاً على أصدقائه لدرجة أنّهم باتوا يسدّون أبوابهم في وجههه، داهمته موجة من الانفعال، فامتزجت دمعته التي طفرت من عينيه بحبّات المطر، المنسابة على وجهه الشّاحب.
سار في الطرقات حاملاً خيبته في صدره، ومعدته تتقطّعُ من شدّة الجوع ولمّا كان لا يملك سوى سيجارتين، قرر أن يدخّن واحدة منهما.. وتساءل:
- (أين أذهب؟.. هل أتوجّهُ إلى عبد الناصر، الذي استدنت منه خمسين ليرة منذ أكثر من شهرين، ولم أردٌها إليه حتّى الآن؟).
ولأنّه لا يملك إلاّ هذا السبيل، فقد عزم على زيارته، فمنزله قريب بعض الشيء، يقع في "الحميديّة".
لحسن حظّه لم يعتذر سكان البيت عن عدم وجود صديقه، فها هو "عبد الناصر"أمامه بشحمه ولحمه يفتح الباب، بينما يمضغ شيئاً ما.
استقبله "عبد الناصر" وأدخله غرفته الخاصّة، وقبل أن يتّخذ مكانه على الأريكة، بادره "عبد الناصر" قائلاً:
- أشعل مدفأة الكهرباء وتدفأ، ريثما أكمل فطوري مع أهلي.
كم ودّ أن يسأله صديقه، إن كان قد تناول فطوره. وأخذ يقارن بين عادات المدينة والريف، هناك ما إن يحلّ الضيف، حتّى يهرع أصحاب البيت لإحضار الطعام.
وبعد أن أشعل المدفأة وأخذ يدفء جسده الهزيل، تناهى إلى سمعه، صوت "عبد الناصر" من الداخل.. قائلاً:
- أرجوك يا أمّي دعيني أقدم له الفطور.
وجاءه صوت امرأة منفعلة تزعق:
- والله أنا ما عندي مطعم لك ولأصدقائك، قلت لك افطر معنا، وإلاّ ستبقى جائعاً.
انصعق "عبد الله"، دارت به الغرفة،
وكأنّ صفعة قوية باغتته فجأة على رقبته، هل بلغ الأمر إلى هذه الدرجة
؟!.. هل أصبح مزعجاً لأسر أصدقائه دون أن يدري ؟!..ينبغي عليه أن يخرج من هذا المنزل، وبأقصى سرعة، لقد بات يقرف من نفسه، كان يجب أن يسافر إلى أهله، قبل أن ينفق أجرة المواصلات فالامتحان لا يهم، فليرسب هذه السّنة كما رسب في السّنة السّابقة، كرامته أهمّ من دراسته.. اللعنة عليه يوم فكّر أن يتحدّى ظروفه، ويتابع إقامته في حلب، حتّى يتقدّم لامتحان الفصل الأول.. إنّه غبي عديم الإحساس
كان على والده أن يوافق على بيع قطعة الأرض البور التي يملكها، فهو رجل عجوز لا يقدر على العمل بها، و
"عبد الله" يطمح أن يكون أستاذاً كبيراً، فمن سيعمل في الأرض؟ وتمنّى أن يقصف الله عمر والده، الذي طالت حياته أكثر ممّا ينبغي. وحيداً كان في الغرفة مع أفكاره، في حين كانت أمعاؤه تنهشه بعنف وجنون، وشعر بالدوّار، وأحسّ أنّه يوشك على التقيّئ.
وفتح عليه "عبد الناصر" حاملاً صينية عليها كأسان من الشّاي السّاخن..في حين كان يبتسم ويردد:
- أهلاً وسهلاً.
وضغط على نفسه، أجبر ذاته على الجلوس، وتظاهر بعدم سماعه بما دار من حوار، فهو على كلّ حال ممتن من "عبد الناصر". ودّع صديقه فور انتهائه من احتساء الشاي، كان عليه أن يمشي تحت وابل المطر الذي تضاعف انهماره.. بينما كانت النار في أعماقه تغلي من مرارة القهر والشعور بالذلّ والإهانة، راح يحدّث نفسه:
- (هل كان عليّ أن أشارك "حمود" في بيع الدخان المهرّب؟!.. حتّى أتمكّن من العيش دون أن أحتاج الآخرين.).
سيتخذ قراره بعد أن يسدّ رمقه، آلام الجوع تمنع عنه القدرة على التفكير، سيذهب إلى "عماد" يطلب منه عدّة ليرات تكفيه للسفر إلى أهله، لا حلّ أمامه إلاّ هذه الطريقة.. أصدقاؤه منقطعون عن الدّوام، بسبب اقتراب موعد الامتحانات.
قبل أن يدخل باب العمارة، برز
"عماد"أمامه حاملاً مظلّة سوداء.
فرحّب به ودعاه أن يصل معه إلى الفرن ليشتريا خبزاً ويعودا إلى البيت.
ساعة ونصف و "عبد الله وعماد" يقفان تحت المطر وسط هذا الازدحام، حتّى تمكّنا أخيراً من الحصول على أربعة كيلو من الخبز.. من شدّة تلهفه على قطعة من الخبز السّاخن، أسرع ليتناول الخبز عن "عماد"، وقبل أن يصله ليلتقط قطعة ويلتهمها، وقف أمامهم والد "عماد" وبعد السلام.. قال الأب:
- هات الخبز، واذهب لتسديد فاتورة الكهرباء، ثمّ عودا إلى البيت.
أحسّ بخيبة كبيرة، فأخذ يردد في طيات نفسه الجائعة:
- (كم كان حظي سيئاً، لماذا لم يتأخر والد"عماد" دقيقة عن الوصول إلينا؟!).
لقد خطر له أن يتناول رغيفاً، لكنه في النهاية خجل، لو كان "عماد"بمفرده لكان الأمر أسهل.
في الطريق راودته فكرة أن يستدين من "عماد" مبلغاً بسيطاً يكفيه لشراء"صندويشة"، وتذكّر أنه مدان "لعماد" بأكثر من ثلاثمئة ليرة، فأحجم عن الكلام، لأنّه خجول.
تابع طريقه مع "عماد" آملاً أن يتناول عنده وجبة الغداء، بعد أن يسددا فاتورة الكهرباء، لم يكن يتصوّر أنّ تسديد الفاتورة، سيحتاج لكلّ هذا الوقت.. الازدحام كان هائلاً.. ومن جديد كان عليهما أن ينتظرا الدّور، ولم ينتهيا من أداء المهمة حتّى انتصف النّهار.
أخيراً سيعود مع "عماد" إلى بيته ليتناولا الغداء.. كان يمشي ولسان حاله يقول:
- (يا الله.. متى سنصل؟.. ريقي فرط، أمعائي تتمزّق، أمّا أقدامي فلم تعد قادرةعلى حملي.).
انتبه "عماد" إلى حالة صديقه، تفحّص
وجهه، ثمّ سأله:
- ما بك يا "عبد الله".. ولم وجهك مصفر؟!.
وكاد أن يصارحه بحقيقة جوعه، فهو يتوقّع أن يغمى عليه..لكنّه فضّل الصمت:
-(لماذا أفضح نفسي، طالما أنا ذاهب معه، لأتناول الغداء.. هل من الضروري أن أطلعه على حقيقة وضعي التعس، لا لن أتكلم.).
وعند المنعطف.. أي بالتحديد، عند تقاطع الطرق الأربعة الرئيسية، أذهله "عماد" عندما مدّ له يده مودعاً، وابتسامة الحرج على شفتيه:
- أنا آسف يا "عبد الله"، عندي موعد هام وضروري مع خطيبتي، لن أستطيع أن أدعوك إلى زيارتي الآن.
امتقع لون وجهه أكثر، واضطربت شفتاها حينما رددّ:
- بسيطة.. أزورك في وقت آخر.
وبعد أن تصافحا ومضى كلّ في سبيله.
خطر له أن يتشجّع فينادي "عماداً" ليستدين منه بعض الليرات، أسرع خلفه مهرولاً غير عابئ بأنظار المارة:
- عماد.. يا عماد.
استدار "عماد"، توقف حينما شاهد
"عبد الله" يتبعه، ويناديه.. واقترب
"عبد الله" والاضطراب والخجل
يسيطران عليه:
- عماد.. أريد منك أن تقرضني بعض النقود.
ابتسم "عماد"، أطلق زفرة قويّة خرجت من أعماقه، راح يتأمل أنامله في حيرة.. ثمّ قال:
- والله يا "عبد الله" لا أعرف ماذا أقول لك، أنا جد آسف، وأقسم لك أنّي لا أحمل معي سوى بضعة ليرات، لن تكفيني لو دعوت خطيبتي إلى فنجان قهوة.
أحسّ بندم شديد، وبانفعال مرير، وأخذ يلوم نفسه لأنّه عرّض حاله لمثل هذا الموقف المهين:
- (غبيّ أنا، كان عليّ أن أوافق
"حموداً" وأشاركه في تهريب الدّخان.. "حمود" أصبح مهرباً كبيراً.. جيوبه امتلأت خلال فترة قصيرة.. أمّي تقارن بيني وبينه بشكل دائم، تلومني بدون رحمة، تقول:
- انظر إلى حمود.. يدرس ويصرف على نفسه وعلى أهله، إنّه رجل.. أنت يا فرحتي عليك لحظة تريني صورتك منشورة في الجريدة، وكأن الشعر سيمنع عنّا الجوع؟!).
سار بمفرده، واجهات المحلات تتحدى فقره، وتفقأ عينيه ببريقِها الأخاذ، ومرّ بالقرب من مطعم.. شاهد الفروج المشوي يتلوّى فوق النار، فرددّ:
- (أنا لا أطمع بتناول الفروج، صندوشة فلافل تكفيني.. اللعنة عليّ يوم أغضبت "حمود"، لقد أخطأت يوم شبهته بالجرادة، كان أكثر ذكاء منّي. ولكن كيف لي أن أكون شاعراً، ومهرّب دخان في آن واحد؟!.. كان يجب أن أرفض عرضه المغري.. فأنا لا أقدر أن أكتب قصيدة، إن لم أكن راضياً عن نفسي.).
شعر بشيء يشبه الغصّة في أعماق تقهقه وتسأل:
- وهل أنت راض عن نفسك الآن أيها الشاعر المبجّل؟!.
- ليتني أعرف عنوان "حمود"، سأبحث عنه لا شك. أمّا الآن عليّ أن أذهب إلى المدينة الجامعية، سأطلب "انتصار" وأصارحها بحقيقة وضعي.. إنّ أحشائي تتقطع.. تتمزقُ.. تتعاركُ.. تقرقرُ.. تعوي.. تنهشني.).
وتوقف، تحيّر.. وتساءل:
- (هل أعاود الكَرّةَ من جديد؟.. وأذهب إلى "انتصار" التي أحبّها أستجديها بذلٍ وانكسار؟!.. وهل ستتكرر نفسُ المسألة.).
توجّه إلى "المنشيّة"، انتظر طويلاً،
وهو يرتعش من شدّة البرد والجوع على السواء..بعد زمن جاء باص المدينة الجامعيّة، اكتظّ بالركاب، ولأنّه لا يملك تذكرة في هذه المرّة، حدث أن توقف الباص، وصعد إليه المفتشون، أخذوا يطلبون التذاكر من الركاب، حاول أن يختفي، أن يتملّص، أن تنشق الأرض وتبتلعه، أن يقذف بنفسه من النافذة المكسورة، فلم يفلح. ها هو المفتّشُ ببذته الزّرقاء يقف أمامه ويطالبه بالتذكرة
.. وحتّى ينقذ نفسهُ من هذه الورطة السّخيفة، بادر على الفور وناول المفتش هويته الشّخصية، ليقوم بحجزها ريثما يذهب إلى الصندوق ويسددّ الغرامة.
ودمدم في سرّه:
- (أنا لا أصدّقُ الذي يحصل معي، هل هذا اليومُ يومُ النّحس؟!.).
لم يجد "انتصار" في غرفتها، أخبرته إحدى زميلاتها في الوحدة الرابعة، أنّها خرجت منذ ساعتين، ولا تدري إلى أين؟.
تسمّر في مكانه، واقفاً ينتظر مجيء صديقته "انتصار"، مضت أكثر من نصف ساعة، فأدرك أنّها لن تأتي.. فجرّ قدميه المنهكتين وابتعد.
رفع رأسه المبلل بكامل صلعته، نحو شرفات الوحدة الرابعة، فتلاقت عيناه الغائرتان بالفتاة التي أبلغته بخروج "انتصار"، تقف مع ثلاث فتيات في الطابق الثالث يتغامزن ويضحكن بشدّة
فانتفض قلبه كسمكة قذفها الصياد فوق الرّمل، وغصّت حَنجرتهُ بألمه فأراد أن يبصق، وإذ به يجهش في بكاء مرّ.
عاد أدراجه من المدينة الجامعية، سيراً على الأقدام المنهكة والمتورمة والدنيا مظلمة في عينيه الزائغتين، من شدّة الجوع:
- الموت أهون من أن أصبح سخرية، كان يجب أن أسافر، اللعنة على الجامعة، كنت أطمح بالشهرة والمجد، وها أنا تحوّلت إلى سخرية.. بنبغي لي أن أجد "حمود" سأعمل معه، صدق "حمود" في قوله:
- معك قرش تساوي قرش.
ولأنه لا خيار له إلاّ بالبحث عن صديق يطعمه وينقذه من جوع هذا اليوم، قرر أن يعود إلى منزل صديقه
"بشير" الذي ذهب إليه صباح هذا اليوم.. فما أدراه.. لعلّ "بشيراً" كان بالفعل غير موجود في البيت، أو ربما كان نائماً فلم يشأ أن يستيقظ باكراً.
على أي حال "بشير" أفضل من جميع أصدقائه.
استطاع أن يلتقي "ببشير"، وما إن استقبله حتى ضحك، وقال:
- أنا آسف لأني لم استقبلك صباحاً ة.. كنت نائماً حقاً.
ابتسم بينما كان الأمل ينبعث من أعماقه في حصوله على الطعام:
- كنت واثقاً أنّك موجود في البيت.
دخل إلى غرفة الاستقبال الفخمة، وإذ به يصطدم بعدّة أشخاص موجودين. فرمى السّلام وجلس شاعراً بالحنق من حظه السيء. قال "بشير":
- أعرّفك على شركائي في التجارة.
- ابتسم مندهشاً:
- هل أنت تعمل إلى جانب دراستك يا بشير؟.
قهقه "بشير" وأجاب:
- بالطبع.. أتريدني أن أكون مدرساً في المستقبل؟!.
اتّسعت دهشته.. وسأل:
- إذاً لماذا تتابع دراستك؟!.
- حتّى أرضي غرور بابا وماما، هم متمسكون بالشكليات، الشهادة الجامعية ضرورية في تقاليد عائلتنا.
واستطاع "عبد الله" أن يرسم على شفتيه، ابتسامة المجاملة في حين كان يسأل:
- وبماذا تتاجر "يا بشير"، شغلني معك إن كنت أنفع.
وانفجر "بشير" بضحكة مجلجلة
صارخاً في هياج:
- أنت لا تنفع ياصديقي في شيء، سوى في الشعر، لأنّك رومانسي.
احتج "عبد الله" وأراد أن يقنع صديقه بأنه ليس رومانسياً ويصلح للعمل:
- قل لي بماذا تتاجر، لأبرهن لك أنّي إنسان عملي.
احمر وجه "بشير" وقطّب وجهه وأشار بيده إلى الرجل البدين، الجالس قرب التلفزيون الملون:
- اسأل "أبا درغام" عن نوع تجارتنا.
فما كان من" أبي درغام" إلاّ أن ابتسم، وتكلم بصوته المتهدّج:
- نحن يا أستاذ نتاجر بشراء البطاقات التموينية فما رأيك؟.
انصعق "عبد الله" وأراد أن يتكلم، لكنّ صوت "بشير" أوقفه:
- ما رأيك ياصديقي؟.. أنا مستعد أن أدفع لك خمسمئة ليرة، على كلّ بطاقةٍ تشتريها لي.
وسأل "عبد الله" في حيرة:
- وكم تدفع ثمن بطاقة الشّخص الواحد؟.
- بألفين وخمسمئة ليرة، باستثناء ما ستتقاضاه أنت.
وجم "عبد الله" برهة، ثمّ رددّ:
- هذا حرام.. أنا بالفعل لا أصلح لمثل هذا العمل.
وضجّ المجلس بالضحك، في حين كان "بشير" يرددّ:
- ألم أقل لك، أنت لا تصلح إلاّ لكتابة الشعر.
قدّم "بشير" لضيوفه الشّاي ثمّ القهوة، وسجائر أجنبية فاخرة، و "عبد الله" في حالة يرثى لها.. وكلّما همّ بالانصراف راودته فكرة أن ينصرف شركاء صديقه قبله، وبالتالي سيطلب الطعام من "بشير" حتى وإن تقاعس عن إحضاره.
من خلال الجلسة علم أن شركاء
"بشير" كانوا مدعويين على تناول الغداء، ولقد تناولوا غداءهم قبل مجيئه بلحظات، وعرف أيضاً أن
"بشير" قدّم لضيوفه(لحم بعجين)..
فقال حتى يحرّض "بشيراً" على إحضار بعض الأقراص له:
- والله ياأخي (اللحم بعجين) لذيذ، أنا أفضله عن سائر المأكولات.
فابتسم الجميع دون أن يحرّك "بشير" ساكناً.
وبعد فترة شعر بالدوار.. وبالغثيان..
وبلعابٍ شديدٍ، يملأ فمه، وازداد شحوب وجهه، أخذ جسده النحيل برتجف.. وانتبه الحضور إلى حالته، فأسرع"بشير" لإحضار كأسِ الماءِ لهُ، وسألهُ شريكُ "بشير" الضخم الجثة:
- لعلّكَ جائع؟!.
أراد أن يغتنم الفرصة الذّهبية، ويرغم "بشيراً" على إحضار الطعام:
- والله أنا لم أفطر.. ولم أتناول الغداء.
وأخذ الجميع يلومونه.. حتّى "بشير" دون أن يتحرّك:
- هذا لا يجوز.. الجوع كافر.. عليك أن تعتني بصحّتك.
ولم يبادر "بشير" لتقديم لقمة لصديقه.
حان وقت الغروب، وأخذ القوم
يتململون، وينظرون في ساعاتهم. قال شريك بشير:
- متى وعدتَ الجماعة بحضورنا إليهم؟
رد "بشير":
- في تمام السّادسة.
أدرك "عبد الله" أنّ القوم، ينبهونه إلى ضرورة الانصراف.. نهض مستأذناً.. وما إن خرج حتّى صفعته الأمطار الهاطلة بغزارة لا مثيل لها.. حاول أن يحمي صلعته بيديه، وانحنى راكضاً ومحتمياً بالشرفات.. وحين دوى الرّعد بقوة هزّت الأرض، كان على "عبد الله" أن يقرفص فوق الرصيف ليتقيأ فوق جداول الماء المتدفقة.
الشوارع خالية، مرعبة، وعليه أن يجتاز طريقه من "الجميلية" إلى
"حيّ الأعظمية" وهذه المسافة ستستغرق نصف ساعة معه بالتأكيد.
- (سأترك الجامعة.. وأرجع إلى أهلي.. أعمل في أرضنا.. إن فشلتُ في تحقيق حلمي، فهذا لا يعني أن أشارك "حموداً" أو "بشيراً".. سأبقى إنساناً نظيفاً.).
وفور أن دخل بيته، وجفّف نفسه بعض الشيء.. هرع إلى المطبخ ليلتهم حبّات الزيتون. وبدرت في ذهنه فكرة.. جعلت الأمل يستيقظ في أعماق الجائعة:
- (نعم.. سأنزل وأبيع للسمّان كتبي الجامعية.. بالكيلو.).
أحضر حقيبة جلديّة يستعملها عند سفره لأهله، ملأها بالكتب بسرعة جنونية.. لم يعد قادراً على الاحتمال، إنّه مهدّد بالسقوط.
وبينما كان يهبطُ الدرجَ المعتمَ، فجأةً توقفَ عن النّزول، والدّهشةُ تقفزُ من عينيهِ الغائرتينِ، هذا غيرُ معقولٍ.. إنّه لا يصدّق ما يراه، إنّه العجوزُ والده!!!.. يتوكّأُ على عكّازِهِ، بينما يحملُ في يدِهِ الأخرى سلّةَ قَشٍ مليئةً لا شكّ بالأطعمة.
لا.. لا يقدر أن يصدّقَ أنّ هذا المقوسَ الظهّرِ أبوه.. فوالدهُ مريضٌ لا يقدرُ على النّزولِ إلى المدينة.. تأمّلَهُ جيداً..اقتربَ منّهُ أكثرَ، والدّمعُ ينفرُ من عينيهِ.. وانبعثَ صوتُهُ المخنوقُ من أعماقِهِ:
- أبي؟؟؟!!!.
كان الكهلُ رافعاً رأسَهُ الملفّعَ "بالجمدانة" السّوداءِ، نحو "عبد الله" وفوقَ وجهِهِ المكسوّ بالتّجاعيدِ ترتسمُ على فمهِ الذي خلا من الأسنان منذ أمدٍ بعيدٍ، ابتسامةً عذبةً، دافئة. في حين كان يَلهثُ بعنفٍ وصعوبة:
- منذ الصباح وأنا أبحث عنكَ يا ولدي.
اندفَعَ نحوَ والدِهِ.. أحتضنُ بشدّةٍ
بعنفٍ.. بقوّةٍ.. بشوقٍ.. بحنانٍ.. برقّةٍ.. بحُرقةٍ.. انحنى على يدِهِ التي تتمسّكُ بعكّازِها، قبّلَها بحرارةٍ بالغةٍ، أحسّ بدفئها، بنبضها، بخلجاتِها، بحنانِها، فلم يكن يدرُكُ مدى حبّهِ وتعلقِهِ بأبيه، قبل هذهِ اللحظة.
وفجأةً.. تحوّلت يدُ والدِهِ المعروقةُ، والراعشةُ، والمتشققةُ، أمام عينيهِ الدّامعتين إلى واحةٍ خضراءَ، تشبه الرّيف بخيراتِهِ وعطاءاتِهِ، وعاداتِهِ.
في حين كان "عبد الله" يصرخ، بصوت شبيه بالنباح:
- آهٍ يا أبي.. لو تدري كم المدينة ابنة كلب؟!.
حلب
* (دستور من خاطره)..
استدعى الشّيخ (حمزة) حفيده (لطّوف)، وطلبَ أن يجتمعَ بهِ على انفرادٍ، وقفَ (لطّوف) أمامَ جدّهِ منقبضاً، فلجدّه هيبة عالية.
تمعّنَ الجّدُّ بحفيدهِ بدقٌةٍ، فأحسَّ (لطّوف) بالعريّ أمامَ نظراتِ الكهلِ الثّاقبة، واعتقد أنّ الجّدّ سوف يحاسبهُ على أفعالهِ السّيّئةِ، الّتي ذاعَ صيتها في كلّ مكان، لكنّه قرّر أن يكذّب كلّ التّهم الّتي سيواجهه بها جدّهُ. قال الجّدّ:
- أَمَا آنَ لكَ أن تعقلَ يا (لطّوف)؟.
أطرقَ الحفيد برهةً، ثمّ همس بصوتٍ مرتعشٍ:
- جدّي.. كلّ ماسمعته عنّي كذب وافتراء.
رمقهُ المسنُّ بنظرةٍ صارمةٍ، وصاحَ:
- أنا أعرف كلّ شيءٍ عنكَ يا مقصوف العمر.. فلا داعي للكذب.
تقدّمَ (لطّوف) خطوة من جدّهِ، دمدمَ:
- صدّقني يا جدّي... أنا تبتُ منذ زمنٍ عن ارتكاب المعاصي.
غابت الحدّة عن كلامِ المسنِّ، تحوّلَ صوتهُ إلى ما يشبه الهمس:
- أنا أريد مصلحتكَ يا (لطّوف)... إنّ ساعتي اقتربت، ويجب أن تأخذ عنّي الوكالةَ، عليكَ أن لا تضيّع هذا الجّاه،كلّ النّاس سيكونونَ تحتَ إمرتكَ، فقط تعقّل، وتطيلَ لحيتكَ، وتبدأ بالتّردّدِ على الجّامع.
قال (لطّوف) الذي أدهشه هذا القول:
- ولكن يا جدّي... أنا لا أصلح لها، كلّ النّاس فقدوا ثقتهم بي.
قذفَ المسنُّ سبحته من يدهِ، وصفعَ (لطّوف) بنظرةٍ غاضبة:
- أنتَ لماذا لا تريد أن تفهمني؟!.. قلتُ لكَ أطِل لحيتكَ، وتردّد على الجّامع، وسرعانَ ما تعودَ إليكَ ثقة أهل البلدة، فأنتَ ابن أسياد، من اليوم عليكَ أن تجالسني كلّ يوم، حتّى تتعلّم منّي كلّ شيء.
جلسَ قبالة جدّه الهرم.. وهتفَ:
- جدّي..أنا أفكّر أن أعمل في التّجارة
حملقَ الجّد بحفيدهِ ، ثمّ أشاح وجهه المتجعّد، ذا اللحية البيضاء:
- أنتَ غبيّ.. عملنا يدرّ علينا ذهباً، والتّجارة قابلة للخسارة.
***
عندما ماتَ الشّيخ (حمزة)، كانَ جميع أهل بلدة (الباب)، يعرفونَ أنَّ حفيده (لطّوف) هو خليفته، فقد منحه جدّهُ الوكالة، أمام كلّ النّاس، في الجّامع (الكبير)، بعد صلاة الجمعة.
***
تماثلَ وجه (مريم) للشفاء، من الحروق التي سبّبها إبريق الشّاي السّاخن يوم سقط فوقها، لكنّ الصّداع الهائل لم يفارقها، بل كان يتضاعف ويزداد كلّ يوم، و (مريم) تشكو من الألم الفظيع تبكي، وحين حازت على اشفاق الجّميع، قالت جدّتها (الحاجّة ربّوع):
- علينا أن نعرضها على سيدي (لطّوف) فهو من أولياء الله الصّالحين.
فوافق الأهل على كلام (الحاجة)، وهكذا أمر الأبّ ابنه (رضوان) أن يذهب إليه، ويرجوه الحضور.
منذ اللحظة الأولى لدخول صاحب
الكرامة (لطّوف)،وبعد أن رمقَ (مريم) بنظرة مستعجلة أمر الجّميع بالخروج من الغرفة، فتركوه مع (مريم).
طلبَ منها الاقتراب منه،امتثلت
لأمره، وضع يده على جبينها، حدّق في عينيها الجزعتينِ، ثمّ حوّلَ يده إلى خدّها، راحَ يتمتم بتراتيل مبهمة، عادت يده لتمسحَ رأسها، طلبَ أن تخلعَ عنها غطاء الرّأس، ففعلت، راحت يده تمسّد شعرها الفاحم، أخذت عيناه تشعّانِ، زحفت كفّهُ إلى عنقها، تأوّهت(مريم) إذ ما زالت آثار الحروق تؤلمها، أخذت أصابعه تجسّ كتفيها، تصاعدت دمدماته:
- هل يؤلمكِ رأسكِ؟.
هزّت(مريم)رأسها. عاد يسأل:
- هل ما زالت الحروق توجعكِ؟.
كرّرت هزّ رأسها، لكنّ دموعاً حبيسة من عينيها بدأت تنسكب.
- إذاً مرّغي خدّيكِ بلحيتي.
دهشت (مريم)، تراجعت، فصاح:
- مرّغي خدّيكِ بلحيتي، فلحيتي مباركة.
اقتربت الصّبية، لصقت خدّها
بلحيته الضّخمة،ألصق لحيته بخدّها
أكثر، امتدّت يداه تحتضنانها بعنفٍ، اشتعلت النّار داخل عينيهِ، دمدم:
- هل يؤلمانكِ نهديكِ؟.
بهزّةٍ من رأسها نفت هذه المرّة.
- هل أنتِ متأكّدة؟.
- نعم.
ارتفع صوته المبحوح أكثر:
- هل أنتِ متأكدة، أم أنّكِ لا تعرفين؟.
همست (مريم) والخوف قد سيطر على كامل وعيها:
- لا أعرف.
امتدّت يده إلى نهدها، تكوّرت كفّه فوقَ النّهد، راحت أصابعه تهرس الحلمة، كان النّهد ليّناً، دمدمَ لاهثاً:
- افتحي أزرارك.
تطلّعت إلى عينيهِ الجّمريتين:
- قلتُ لكِ افتحي الأزرار.
برزَ الصّدر الأسمر، هرعت أصابعه
المتوقّدة لترفع الحمّالتينِ، تأرجح النّهدان، قبضت يداه الحارتانِ الرّاعشتانِ عليهما، اندلعَ اللهب من عينيهِ وسرت رجفة في أوصالِ (مريم) حينَ أبصرت وجهه يستطيل، همهمَ وقد اتّسعَت بُحّة صوته:
- هل توجعكِ بطنكِ؟.
- لا.
رفعَ يديهِ عن النّهدينِ ، قال بحزمٍ :
- تمدّدي أمامي.
تجرّأت (مريم) لتهتفَ:
- قلتُ لكَ بطني لا توجعني.
تراجعَ قليلاً.. تجهّمَ وجههُ، تقلّصت لحيته وهو يصيح:
- قلتُ لكِ تمدّدي.
تمدّدت كالميّتةِ، أسرعت يداه لتكشفانِ الثّوب عن بطنها:
- لماذا ترتدينَ هذا البنطال ونحنُ في عزِّ الصّيف؟!.
لم تردّ عليه، لم ينتظر جواباً، تابع رفع الثّوب، ظهرت البطّن، تسابقت أصابعه لترفعَ القميص الدّاخلي، يده تتمرّغ على البطن وتعصرها، عَلَت دمدماتهِ:
- اللهمّ أرح هذه البطن من الألمِ، اللهمّ أرفق بهذه النّعومةِ، بهذهِ الفتنةِ والسّرّةِ، اللهمَّ مكّني من مساعدتها فهي عزيزة على قلبي، اطرد عنها الجّنّ والعفاريتَ والشّياطينَ والأبالسة أولاد الكلب، اللهمّ أرحني، فأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ.
***
عندما سمحَ صاحب الكرامة لأهلِ (مريم) بالدّخولِ كانَ قد تربّعَ فوقَ اللبّاد وأمسكَ بسبحتهِ.
سارعت(نجوى) أمّ (مريم) لتسأله:
- خير يا سيدي الشّيخ .. طمّني؟.
ابتسم صاحب الكرامة، نظر صوب (مريم) المصفرّة الوجه، دمدمَ بعد أن مسّدَ بأصابعهِ على لحيتهِ المشوبةِ بالاحمرار:
- إن شاء الله خير، لا تقلقي، أريد فقط أن أبيّت لها حتّى أتأكّدَ، لهذا أريد شيئاً من أثرها ،كي أضعه تحت مخدّتي عند نومي.
قالت (الحاجّة ربّوع):
- أعطهِ غطاء رأسكِ يا (مريم).
هتفَ صاحب الكرامة بسرعةٍ:
- غطاء الرّأس لا يصلح ياحاجّة.
سألَ (أبو رضوان) باستغراب:
- لماذا لا يصلح يا سيدي؟!.
- لأنّني أريد قطعة من ثيابها تكون ملتصقة بجسدها أكثر، ويجب أن تكون هذه القطعة نجسة،لأنَّ الجّنّ والعفاريت والشّياطينَ والأبالسةَ، أعوذُ بالله من ذكرهم، لا يوجدونَ إلّا في الأماكنِ النّجسة والحقيرة.
صاحت الأمُّ :
- دستور من خاطرهم، دستور يارب.
تابعَ صاحب الكرامة طلاسمه:
- أريدُ سروال (مريم)، فهو أفضل شيء(للإستخارة).
***
قبلَ وصول صاحب الكرامة، طلبت (مريم) من أمّها وجدّتها أن لا يتركاها معه بمفردها.
قالت الأمُّ:
- صاحب الكرامة لا يقبل أن يتركنا معكِ.
وأجابت الجّدة (ربوع):
- الجّن والعفاريت والشياطين والأبالسة لا يظهرونَ لسيّدنا (لطوف) إن بقينا معكِ.
أرادت (مريم) أن توضّح لهما عن أسباب مخاوفها:
- سيّدنا(لطّوف) له حركات مخيفة.
صاحت الحاجّة (ربّوع):
- طبعاً.. هكذا هم أولياء الله الصّالحين.
أدركت (مريم) أنَّ أمّها وجدّتها، لا تستوعبانِ ما تقصد، لذلك عزمت على المكاشفة أكثر:
- سيّدنا (لطوف) ليس من أولياء الله الصّالحين.
ذعرت الأمّ من هذا القول، وصاحت الجّدةُ بغضبٍ شديدٍ:
- اللعنة عليكِ ياقصوفة العمر، أنتِ تكفرينَ، قولي دستور من خاطره، قبل أن يفلجكِ، سيّدنا لطّوف ابن أسياد.
اقتربت الأم من ابنتها، وهمست:
- قولي يا ابنتي أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، ولا تعودي لمثل هذا الكلام، سيّدنا (لطّوف) قادر على مسخنا جميعاً.
***
وصل صاحب الكرامة (لطّوف) ، كان عابساً، استقبلته العائلة بقلقٍ وخوفٍ، قال الأب (أبو رضوان):
- خير يا سيدي.. لقد شغلتَ بالنا؟!.
تضاعفَ تجهّم وجهه، تسارعت أصابعه بتلقّفِ حبّات سبحتهِ ذات المئة حبّة، نظر صوب (مريم) المنكمشة على نفسها عند الزّاوية، وقال:
-(مريم) أحرقت ابن ملك الجّنِّ الأحمر، يوم أسقطت إبريق الشّاي، وهذا ما جعل ملك الجّنّ الأحمر، أن يقسم على الانتقام من ابنتكم (مريم) .
ندّت عن (مريم) صرخة ذعر رهيبة، توجّهت إليها الأبصار بفزعٍ عظيم، كانت ترتعش، فكأنَّ خوفها قد تحوّلَ إلى موجةِ بردٍ قارسة.
صاح صاحب الكرامة وهو يحاول النّهوض:
- اخرجوا من الغرفةِ، ودعوني أعالجها.
حلب
* العروسة..
إنتشر الخبر وتسرّب بين الأولاد في كلّ أزقّة البلدة، والكل صار يعلم أنّ المدعو (زكّور الصّخلة) الملقّب بأبي (درخوش) وهو صاحب حمير (التّشباية) التي يقودها صباح كلّ يوم أحد، من أيّام الرّبيع، إلى البازار ليتكسّبَ بها بضعة نقو . حيثُ كانَ الأولاد يتجمّعونَ، ومنهم من يهرب من المدرسة، بدافع الفضول والرٌغبة في رؤية عمليّة (التٌشباية) شاعرينَ بالمتعة والإثارة، مشدوهين، مسلوبي الأبصار، ضاحكين ومهتاجين.
وكان أبو (درخوش) المعتاد على القيام بهذه العمليّة، منهمكاً بها إلى درجة الانفعال، يسحب الحمارة التي ستحبل اعتباراً من هذا اليوم، ويتركُ حماره الضّخم يقترب من الحمارة، بضعة دقائق يتشمّمها حتّى يثار ويهتاج، فيقترب منهما أبو(درخوش) ويهمس بأذن حماره، كلمة (زقردو) فيقفز الحمار، ويعتلي بقوائمه ظهر الحمارة، آخذاً بعضّها من ظهرها، في تلك اللحظة ينتبه أبو (درخوش) لوجود الأطفال وهم مثارون ومهتاجون ويصرخون ويصفّرون، فيصرخ بهم غاضباً:
- إذهبوا من هنا يا أولاد (القحبة) والله يا (عرصات) لو أمسكتُ واحداً منكم بيدي لتركت الحمار يفعل به، ما يفعله مع هذه الحمارة.
ويتابع كلامه وهو أكثر هياجاً حين يرى قهقهات الصّغار الخبيثة:
- إذهبوا، تفرّجوا على آبائكم وأمٌهاتكم.
ثمّ يردف قائلاً جملته المعروفة:
- (جيل بندوق).
بعد ذلك يخرج من جيب (شرواله) الأسود، علبة دخانه الصّدئة، ويبدأ بدرج سيجارته الغليظة، متناسياً أنّه قبل قليل، أمسكَ بيديه عضو حماره ليضمّه في الحمارة.
ولكن الجديد في الأمر، هو الخبر السّار الذي إنتشر مؤخّراً، ومفاده أنّ أبا (درخوش) قد افتتح فرعاً خاصّاً، من أجل تقديم المتّعة للأولاد. يأخذ من الولد ربع ليرة مقابل أن يسمح له بالإختلاء (بالكرٌة) الزّرقاء التي اشتراها لأجل هذا.
قرر (رضوان) وابن عمّه (سامح) وبعض رفاقهم من أولاد الحارة، الذهاب إلى دار أبي (درخوش)، وكان عددهم عشرة حينما طرقوا بابه.
خرج عليهم (أبو درخوش) وكان مبتسماً، وكانت هذه أوّل ابتسامة يروها له، قال مرحّباً:
- أهلاً وسهلاً بالشباب، تفضّلوا.
ولمّا كان الحياء يمنع الأولاد من الكلام، لتوضيح سبب مجيئهم، لكن أبا (درخوش) عرف ذلك فقال بعجلة:
- أدخلوا، لا يجوز أن يراكم أحد واقفين هكذا.
دخل الأولاد وهم في أشدّ أنواع الحرج والإرتباك، صاروا وسط باحة الدار الخربة، وأخذوا باشعال السّجائر ليواروا خجلهم واضطرابهم، عاد أبو (درخوش) بعد أن مدّ رأسه داخل الغرفة، وتكلّم بضع كلمات مع (حليمة) زوجته التي تتردّد حولها شائعات تقول بأنّ زوجها أبو (درخوش) يسمح للرجال بالنٌوم معها مقابل عدّة ليرات، متّخذاً الغرفة الوحيدة مقرّاً لذلك، بينما يتمشّى هو في باحة الدّار.
قال أبو (درخوش) موجّهاً كلامه للصبٌية:
- حظّكم جيّد، منذ قليل انتهيت من تغسيل العروس.
تشجّع (عثمان) وهو يكبر رفاقه بالسٌن فقال:
- نحنُ يا أبا (محمود)..
هكذا كانوا ينادونه في حضوره، لأنٌ لقبه يطلق عليه في غيابه، لكنّ بالطّبع كان يعرف هذا اللقب.
- نريد أن نعرف كم ستأخذ منّا، مقابل أن تتركنا مع العروسة؟.
كتم أبو (درخوش) ابتسامته، وقطّب وجهه القبيح متّخذاً طابع الجّدّ والتفكير، رفع يده وأخذ بأصابعه المثقلة بالخواتم الحديدية، يفتّل (شواربه) الغليظة كسيكارته، وقال:
- سآخذ ربع ليرة فقط من كلّ واحد منكم.
قاطعه (عثمان) وقد زال عنه حياؤه
واضطرابه:
- يا أبا (محمود)، نحن كثرة، نريد أن نتّفق معك على الجّملة، والجّملة غير المفرّق.
عادت الابتسامة المصحوبة بالزّبد واللعاب، ترتسم على فمه الواسع التّكشيرة والمرصّع بأسنانٍ ذهبيّة متفرّقة:
- أنتم معذورون، لأنّكم لا تعرفون العروس، لكن أقسم لكم بشرفي الذي لا أملك غيره، وليس لكم عليّ يمين. بأنَّ هذه العروس الزّرقاء لا مثيل لها، فهي من تركيا أصيلة، ذات حسب ونسب، جميلة وصغيرة، لا تغدر ولا تقاوم وهذا شيء تحمد عليه، ولا تهرب من فارسها وهذه ميّزة حسنة وهي لا تنزعج من الإقتراب منها، وهذه عادة رائعة ومن النادر توافرها في غيرها، إنّها لطيفة وحسنة المعشر، ولا تصدر صوتاً أو نهيقاً.. وهي نظيفة حيث أغسلها بالماء والصابون، وأقوم بتعطيرها، فرائحتها طيبة، والأهم من كلّ ذلك، وأقسم لكم بشرفي الغالي أنّني لا أطعمها غير الشّعير النظيف والغالي الثمن، وأنتم تعرفون كم سعر الكيلو غرام منه، إنّها تكلفني الكثير، بغضّ النظر عن تعبي واهتمامي الدّائمين، هل تعلمون أنّني لم أضعها مع زملائها الحمير خوفاً عليها منهم، فهي جميلة وصغيرة، ولقد اختلفت مع زوجتي (أم محمود) بسببها، لأنّني الغيت المطبخ، وخصّصته لها، وصرنا نطبخ في غرفتنا الوحيدة، لكي أضعها في بمفردها، ليأخذ الزّبون راحته معها.. هل كثير بعد كلّ هذا مبلغ الربع ليرة؟.
قال (عثمان) بأعصاب باردة:
- ونحن يا أبا (محمود) لن ندفع لك سوى (فرنكين) على الواحد منّا.
أرادَ أبو (دَرخُوش) أن يتكلّم، لكنّه توقّف بعد أن نظر إلى الأولاد بعينيهِ المعمصتينِ نظرة توحي باللومِ والعتاب واتّجهَ نحو الزّريبةَ الخاصّةَ بالعروس:
- تفضلوا.. القوا نظرة عليها، قسماً بشرفي، والشّرف غالي كما تعرفون.. منذ يومين حمّمتها (بالكالونيا).
إمتطّت أعناقَ الفتية الصغار، واندسّت رؤوسهم من خلال الباب الموارب، ناظرينَ إلى(العروس) الواقفة بكلَّ استكانة، كانت بحجم النّعجةِ، ولمحوا في جسدها وقوائمها بعض الجّروح المدّماة، والذباب يتطاير فوقها بكثرة، كانت مربوطة بالرَّسن وقوائمها الأربع موثقة بحبلٍ متينٍ وغليظٍ، بينما كان رأسها الكبير مزيّناً بباقة وردٍ حمراء اللون ، جافة الأوراق، أمّا عيناها الواسعتان، فقد غطّاهما الدّمع والوسخ الأصفر:
- انظروا بأنفسكم، واحكموا.. بذمّتكم ألا تستحقّ الرّبع ليرة؟!.
كرّر (عثمان) موقفه الذي بدأ يضايق الأولاد جدّاً، فهم على عجلة من أمرهم:
- (فرنكين) فقط يا أبا (محمود).. وإلّا دعنا نخرج.
حينما أدرك أبو (درخوش) ثبات موقف الأولاد.. أجاب:
- على بركة الله.. إتّفقنا.. هاتوا النقود سلفاً.
أخرج كلّ من الأولاد (فرنكين) أصفرين من جيوبهم، وسلّموا جميعهم النقود لأبي (درخوش) الذي قال:
- تفضّلوا.. ولكن بالدّور طبعاً، و بسرعة.
دخل (عثمان) الزّريبة في البداية، وأغلق الباب الخشبي خلفه. ووقف الجّميع في باحة الدار يدخّنون وينتظرون، يسيطر عليهم الخوف والإضطراب والقلق، بينما أسند أبو (درخوش) ظهره إلى الحائط، منهمكاً بدرج سيجارته.
كان (رضوان) آخر من دخل على (العروس)، وكان كثير من الحيرة وغير قليل من الإرتباك يسيطران عليه ويضغطان على أعصابه. فكَّ أزرار البنطال، أنزله إلى الركبتين، إعتلى الحجر، وقف بشكل مناسب تماماً.
كانت (سمر) الشّقراء في مخيّلته، (سمر) الرائعة الجمال، زوجة رئيس المخفر (أبي ضرغام) الذي يخافه جميع أهل البلدة، بمن فيهم والده، الذي وقع تحت رحمة سوطه مدّة ثلاثة أيام، بحجّة تعاطيه الحشيش، ولم يفرج عنه، إلّا بعد أن أخذ منه مئتي ليرة رشوة ك، وإذا كان أبو (ضرغام) مكروهاً من قبل أهل البلدة، فإنَّ حبهم جميعاً كان منصبّاً على زوجته الشّقراء (سمر)، كانوا يحبونها إلى درجة العشق
فهي الوحيدة التي تخرج إلى الحارات سافرة دون ملاية سوداء، متبرّجة معطّرة، ولطالما وقف (رضوان) أمام باب بيتها الذي لا يغلق، ليراقب حركات جسدها اللدن، الذي لا يفارق خياله.
بينما كان (رضوان) سارحاً بخياله، فاجأته (العروس) بنهيقها العالي، فجفل وانسحب بسرعة، وخرج ملوثاً، وهو في أشدّ حالات الضّيق، فأخذ (سامح) ورفاقه يضحكون منه بصخب، حتى خيّل له أنَّ السّماء والجّدران الحوّارية المتهالكة تشاركهم قهقهاتهم تلك، ومنذ ذلك اليوم، ورفاقه يضحكون منه كلّما صادفوه، وقد أطلقوا عليه لقب
(العريس).
لكن ماحدث بعد ذلك، شيء فظيع، فبعد أيام بدأ (رضوان) يشعر بالحكّة، وأخذت تتزايد، ثم برزت بثور ناعمة صفراء، إنتشرت سريعاً، حتى إكتشف، أهله الأمر.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
فهرس قصص: (الإنزلاق)..
======================
1 - الإنزلاق
2 - حفار قبور
3 - اللصقة
4 - دستور من (خاطره)
5 - العروسة
--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.