(يا إلهي.. ما الذي فعلته بنفسي) حَدّثَ أحمد عبدالله الحسيني نفسهُ وهو ينظر للسماء، منتظراً هبوط الظلام كي يجتاز الطريق الى المقبرة القديمة، والذي يحيط به الأشجار العالية المتشابكة الأغصان فتبدو كأنها سور يحمي هذا الطريق الترابي الممتد بين البساتين الخضراء. يخيّم على المكان السكون التام، لا شيء هنا سوى هبوب الريح وحفيف الأشجار، وبين فترة وأخرى يرتفع نعيق غراب قرب أحد القبور القديمة المتهدمة. عندما أشتد الظلام تذكر جلسته في الصباح قبل اسبوع في المقهى، بين رفاقه المعجبين بقوته وشجاعته المعروفة في الكثير من المشاجرات التي بين فترة وأخرى تدور في القرية أو في القرى المجاورة فيكون هو البطل فيها. كل أبناء القرية كانوا تحت حمايته. يحبونه ويعرفون أنّه قد ورث الطيبة والشجاعة مع الشهامة من آبائه وأجداده الذين توارثوا حماية أبناء قريتهم الصغيرة من غير أن يأخذوا شيئاً غير حب الأهالي لهم وكلمات الشكر والمديح. كان العجوز سلمان الأعور منهمكاً في حديثه المعتاد، يحكي أخبار الجن والعفاريت وأرواح الموتى الذين يتخذون من طريق المقبرة مأوىً لهم، ولا أحد يجرؤ على اجتيازه ليلاً، خوفاً أن يظهر له عفريت مشاكس، أو جني شرير، ينفخ بوجهه ليزرع في رأسه العته أو الجنون، أو تظهر له روح حزينة تبحث عن قاتلها.
في ذلك الصباح قد أوغل في الحديث كثيراً، الى الحد الذي أيقظ في نفس أحمد عبدالله الحسيني التحدي فقال لسلمان الأعور بغرور أربك الجالسين في المقهى: –
– انا لا أخاف الّا من الذي خلقني. امّا هؤلاء الذين تحكي عنهم فلن يحركوا ذرة خوف عندي.
– ولكن يا سيدي لا تقل انّك تستطيع اجتياز طريق المقبرة في الليل لوحدك.
– بل أستطيع.
انتفض قائلاً ضارباً على جهة صدره الأيسر بكفّه الأيمن، متباهياً بنفسه التي ترفض الخوف من قوى الظلام والمجهول.
– سوف أذهب في الليلة التي يغيب فيها القمر، آخذاً معي عموداً حديدياً أغرزه في منتصف المقبرة ثم أعود اليكم هازماً هذا الخوف المتراكم في صدوركم منذ آلاف السنين.
لم يصدقوا ما سمعوا. نهضوا والتفوا حوله طالبين منه أن يتراجع عن قراره المخيف هذا. لكنّه أبى الّا أن ينفذ ما قاله لهم، عازماً على قتل خوف الأهالي من هذه الأوهام القديمة جداً.
اشتدت ضربات قلبه. وأخذته الرجفة فجأة من رأسه حتى أطراف أصابع قدميه، عندما أنصت لهبوب الريح وهي تُحرّك أغصان الأشجار وطيّات جلبابه العريض فتولد صوت يخترق سكون القلب ويثير الاحساس بالخوف والتوجس. صوت خافت يرن في اذنه كأنّه هديل حمامة حزينة. شد على العمود الحديدي بقبضته اليمنى وتحرك ماشياً في طريق المقبرة، لا يرى شيئا سوى ظلام الليل وظلال الأشجار العالية وخيالات مبهمة كثيرة ترسم أشكالاً غريبة لم يعتاد عليها. وكلّما توغل في الظلام أكثر اشتد صفير الريح التي صارت ثقيلة جداً وباردة. انقبض قلبه عندما لمح خيالاً سريع الحركة يقفز من شجرة لأخرى بخفة كأنّه قرد لكنًه شفاف جداً. ثم سمع صوت بنت خائفة تستنجد به. التفت شمالاً ويميناً، لم ير شيئا، لكنّه سمع صوتها المفزوع يرن في اذنه الآن وسط هذا الظلام الذي يَمْلأُ القلب خوفاً وتوتر. وتذكرها، قبل سنوات لا يستطيع الآن أنْ يعرف عددها، عندما أنقذها من اللصوص الثلاثة الذين اختطفوها وأتوا بها هنا حيث لا أحد يتجرأ أنْ يجتاز هذا الطريق، كي يغتصبوها بين القبور. أبهرها فعلاً، لم يستطيعوا أنْ يواجهوا شجاعته. هربوا وتركوها مفزوعة، لا تعرف كيف تجازيه على ما فعله من أجلها. والآن بعد أنْ أيقظ هبوب الريح الخافت وتراقص أوراق الأشجار ندمه وحزنه من فعلته الشنعاء. (لماذا فعلت بي فعلتك الخسيسة، انبهرت بك كفارس شهم انتشلني من بين الأوغاد، لكنّك لم تكن سوى ….) أيقظ صوتها الحزين كل مخاوفه النائمة في أعماق نفسه لكنّه عندما بحث عنها في الظلمة لم يجدها، تراءت له بملابسها الممزقة وجراحها النازفة كالخيال الثقيل الذي يعصر القلب ويجعل الأطراف كلّها ترتجف.
مسح العرق عن جبهته التي أصبحت ملتهبة جداً، وحاول رغم ارتجاف جسمه أنْ يواصل طريقه نحو المجهول. لم يرَ شيئاً مخيفاً وانّما كانت خشخشة الاوراق اليابسة تحت اقدامه تثير الرعب لدرجة التصدع في رأسه. ارتفع فجأة بكاء طفل خائف. وقف حائراً، متردداً، وكلّما ارتفع بكاء الطفل أكثر ينعصر قلبه ويشعر ببرد يتغلغل في أنحاء جسمه، ويتذكر وجه امّه الحزينة، عندما كانت تمضي من الليل شطره تبكي وتندب حضها وتسأله بصوت يجعله يضع رأسه بين قدميه ويبكي معها: –
– كيف تركت أخوك يسقط في أعماق البئر… لقد تركته بحمايتك.
تخنقه العبرة ويستغرق في البكاء محاولاً بذلك أنْ ينسى كيف أتته الجرأة لدفع أخيه الذي يصغره ثلاث سنوات في غيابة الجب. وعندما علم أبوه ورجال القرية وأخرجوه وجدوه قد مات. لقد أخذ الخوف والتوتر منه مأخذاً عظيماً. وكلّما اقترب يسمع أنيناً خافتاً من بين القبور، ثم يتحول الأنين الى سؤال يضغط على قلبه بقوة (لماذا تركتني مفزوعا من الظلمة، ناديتك قبل أنْ تقتلني الخفافيش… أخي، أخي حتى اللحظة الأخيرة قبل تكتم أنفاسي أجنحة الخفافيش المهتاجة).
تيقن الآن أنّ شقاوته قد ساقته الى هذا القدر المحتوم، حيث يتجلى له أرواح كل الذين ظلمهم بغروره المفرط وهو يمشي بخطوات ثقيلة نحو المقبرة الملعونة. تعاظم احساسه بالوحدة خاصّة وهو يحدق في سواد الليل فلا يرى سوى خيال أشباح بصور أشخاص شتى، ربما قد رآهم من قبل ونسيهم في خضم الأحداث اليومية والآن يظهرون له ولكن بأشكال مرعبة جداً. لكنّه رغم ذلك لم تفتر عزيمته، ولم يفكر أن يعود، ذلك لأنه قد أقنع نفسه منذ البداية بأنه عندما يعود سوف يكون اضحوكة بين رفاقه الذين يفتخرون بشجاعته ويتغنون بها. لكنّهم – وهذا ما فكر به الآن- لم يواجهوا كل هذا الرعب والإحساس بالوحدة في هذا المكان الشديد السواد. هذا المكان الذي يسمع فيه بين لحظة وأخرى صراخ لفتيات ربما قد اغتصبن منذ زمن بعيد ودفنّ هنا دون أن يعلم بهنّ أحد، أرواحهن تحلق هنا الى يوم القيامة، فتزرع الرعب في كلّ قادم غريب ساقه حظّه السيء لهذا الظلام الدامس.
وصل أخيراً بعد صراع عنيف، بين أن يعود سالماً لامّه المسكينة التي تنتظره على أحرّ من الجمر، أو أن يحارب جنود الظلام هذه، رغم ما يشعر به من رعب قد تجاوز الحد الذي يمكن أن يتجاهله، أو أنْ يقنع نفسه بالشجاعة المفقودة. عرف أنّه الآن في المقبرة عندما أرتفع نعيق الغربان عالياً في الظلام، أفزعه ذلك النعيق وكاد أنْ يقف قلبه فلعن اللحظة التي قرر فيها المجيء هنا، الى جسر الجحيم هذا.
استنشق رائحة غريبة لكنّها قوية ونفاذة جداً تيقن أنّها رائحة الموت المهيمن هنا منذ الأزل، وأنّها نذير شؤم فتعثرت اقدامه وكاد أنْ يقع لكنّه تمالك نفسه أخيراً. عندما أحس انّه وسط المقبرة، رفع عمود الحديد عالياً وأنزله بكل ما بقي لديه من قوة في أرض المقبرة. صارخا بكل الأشباح التي تحلق حوله وبصوت مرتجف لكنه مرتفع (من كان منكم بلا مخاوف فليغرس العمود في عمق المقبرة). أمسك بصخرة قريبة من العمود وأخذ يطرق على رأس العمود حتى أنزله في عمق الأرض الى النصف. شاعراً بعمله هذا أنّه قد قتل الخوف وطرده من نفسه المسكينة.
عندما هم بالخروج من المقبرة لم يستطع الحركة، أمسكه أحد ما من جلبابه وسحبه باتجاه القبور المهدمة. عفريت ربما، أوّ جني ربما، أوّ ربما احدى الأرواح المعذبة التي تنتظر اللّحظة التي تنزل غضبها وانتقامها منه. التفت مفزوعاً فرأى رغم الظلام الحالك أشباحاً ضبابية مخيفة تهجم عليه دفعة واحدة، تصرخ بوجهه وتهزأ من خوفه ومن تعرقه رغم الرياح الباردة. حاول أن يضربها فتلاشت ضرباته في الفراغ. وجد نفسه يصارع صفير الريح، لكن ضحكاتهم وصراخهم الغريب صار مرتفعاً جداً. لم يبق له سوى الهروب. أراد أن يفلت نفسه منهم، وهمّ بالركض لكنّه لم يستطع. أحس بنهايته قد اقتربت، ولكن رغم الفزع الذي يعيشه الآن وهو بين هؤلاء الاشباح والعفاريت الشريرة تذكر لِلَحظة بكاء امّه وحزنها عليه. لقد نهته عن هذه المغامرة الخاسرة. لكنّه لم يطعها وأصرّ على المجيء رغم الخوف الذي أحسّه قبل هبوط الظلام. ارتفع صراخه عاليا متوسلاً ان يتركوه، لكنّه عبثاً يحاول. أحس بأيديهم تخترق صدره وتسحب قلبه التي تسارعت ضرباته بسرعة مهولة. فتح عينيه فرأى بينهم البنت التي اغتصبها وأخاه، كانا غاضبين جداً. انهار على الأرض مستسلماً لأي شيء يحدث الآن. ارتفع نعيق سرب من الغربان وحلقت عالياً في السماء الداكنة.
عند شروق الشمس كانت امّه قد جَمّعتْ كل رفاقه الذين ينتظرون عودته. هبوا جميعاً حاملين العصي ذاهبين للمقبرة.
وجدوه ميتاً، ولم يصدقوا ما رأوا، كان قد وضع دون أنْ يدري العمود الحديدي على طرف جلبابه وغرزه لنصفه في الأرض.
بقلم: مناف كاظم محسن/ العراق
في ذلك الصباح قد أوغل في الحديث كثيراً، الى الحد الذي أيقظ في نفس أحمد عبدالله الحسيني التحدي فقال لسلمان الأعور بغرور أربك الجالسين في المقهى: –
– انا لا أخاف الّا من الذي خلقني. امّا هؤلاء الذين تحكي عنهم فلن يحركوا ذرة خوف عندي.
– ولكن يا سيدي لا تقل انّك تستطيع اجتياز طريق المقبرة في الليل لوحدك.
– بل أستطيع.
انتفض قائلاً ضارباً على جهة صدره الأيسر بكفّه الأيمن، متباهياً بنفسه التي ترفض الخوف من قوى الظلام والمجهول.
– سوف أذهب في الليلة التي يغيب فيها القمر، آخذاً معي عموداً حديدياً أغرزه في منتصف المقبرة ثم أعود اليكم هازماً هذا الخوف المتراكم في صدوركم منذ آلاف السنين.
لم يصدقوا ما سمعوا. نهضوا والتفوا حوله طالبين منه أن يتراجع عن قراره المخيف هذا. لكنّه أبى الّا أن ينفذ ما قاله لهم، عازماً على قتل خوف الأهالي من هذه الأوهام القديمة جداً.
اشتدت ضربات قلبه. وأخذته الرجفة فجأة من رأسه حتى أطراف أصابع قدميه، عندما أنصت لهبوب الريح وهي تُحرّك أغصان الأشجار وطيّات جلبابه العريض فتولد صوت يخترق سكون القلب ويثير الاحساس بالخوف والتوجس. صوت خافت يرن في اذنه كأنّه هديل حمامة حزينة. شد على العمود الحديدي بقبضته اليمنى وتحرك ماشياً في طريق المقبرة، لا يرى شيئا سوى ظلام الليل وظلال الأشجار العالية وخيالات مبهمة كثيرة ترسم أشكالاً غريبة لم يعتاد عليها. وكلّما توغل في الظلام أكثر اشتد صفير الريح التي صارت ثقيلة جداً وباردة. انقبض قلبه عندما لمح خيالاً سريع الحركة يقفز من شجرة لأخرى بخفة كأنّه قرد لكنًه شفاف جداً. ثم سمع صوت بنت خائفة تستنجد به. التفت شمالاً ويميناً، لم ير شيئا، لكنّه سمع صوتها المفزوع يرن في اذنه الآن وسط هذا الظلام الذي يَمْلأُ القلب خوفاً وتوتر. وتذكرها، قبل سنوات لا يستطيع الآن أنْ يعرف عددها، عندما أنقذها من اللصوص الثلاثة الذين اختطفوها وأتوا بها هنا حيث لا أحد يتجرأ أنْ يجتاز هذا الطريق، كي يغتصبوها بين القبور. أبهرها فعلاً، لم يستطيعوا أنْ يواجهوا شجاعته. هربوا وتركوها مفزوعة، لا تعرف كيف تجازيه على ما فعله من أجلها. والآن بعد أنْ أيقظ هبوب الريح الخافت وتراقص أوراق الأشجار ندمه وحزنه من فعلته الشنعاء. (لماذا فعلت بي فعلتك الخسيسة، انبهرت بك كفارس شهم انتشلني من بين الأوغاد، لكنّك لم تكن سوى ….) أيقظ صوتها الحزين كل مخاوفه النائمة في أعماق نفسه لكنّه عندما بحث عنها في الظلمة لم يجدها، تراءت له بملابسها الممزقة وجراحها النازفة كالخيال الثقيل الذي يعصر القلب ويجعل الأطراف كلّها ترتجف.
مسح العرق عن جبهته التي أصبحت ملتهبة جداً، وحاول رغم ارتجاف جسمه أنْ يواصل طريقه نحو المجهول. لم يرَ شيئاً مخيفاً وانّما كانت خشخشة الاوراق اليابسة تحت اقدامه تثير الرعب لدرجة التصدع في رأسه. ارتفع فجأة بكاء طفل خائف. وقف حائراً، متردداً، وكلّما ارتفع بكاء الطفل أكثر ينعصر قلبه ويشعر ببرد يتغلغل في أنحاء جسمه، ويتذكر وجه امّه الحزينة، عندما كانت تمضي من الليل شطره تبكي وتندب حضها وتسأله بصوت يجعله يضع رأسه بين قدميه ويبكي معها: –
– كيف تركت أخوك يسقط في أعماق البئر… لقد تركته بحمايتك.
تخنقه العبرة ويستغرق في البكاء محاولاً بذلك أنْ ينسى كيف أتته الجرأة لدفع أخيه الذي يصغره ثلاث سنوات في غيابة الجب. وعندما علم أبوه ورجال القرية وأخرجوه وجدوه قد مات. لقد أخذ الخوف والتوتر منه مأخذاً عظيماً. وكلّما اقترب يسمع أنيناً خافتاً من بين القبور، ثم يتحول الأنين الى سؤال يضغط على قلبه بقوة (لماذا تركتني مفزوعا من الظلمة، ناديتك قبل أنْ تقتلني الخفافيش… أخي، أخي حتى اللحظة الأخيرة قبل تكتم أنفاسي أجنحة الخفافيش المهتاجة).
تيقن الآن أنّ شقاوته قد ساقته الى هذا القدر المحتوم، حيث يتجلى له أرواح كل الذين ظلمهم بغروره المفرط وهو يمشي بخطوات ثقيلة نحو المقبرة الملعونة. تعاظم احساسه بالوحدة خاصّة وهو يحدق في سواد الليل فلا يرى سوى خيال أشباح بصور أشخاص شتى، ربما قد رآهم من قبل ونسيهم في خضم الأحداث اليومية والآن يظهرون له ولكن بأشكال مرعبة جداً. لكنّه رغم ذلك لم تفتر عزيمته، ولم يفكر أن يعود، ذلك لأنه قد أقنع نفسه منذ البداية بأنه عندما يعود سوف يكون اضحوكة بين رفاقه الذين يفتخرون بشجاعته ويتغنون بها. لكنّهم – وهذا ما فكر به الآن- لم يواجهوا كل هذا الرعب والإحساس بالوحدة في هذا المكان الشديد السواد. هذا المكان الذي يسمع فيه بين لحظة وأخرى صراخ لفتيات ربما قد اغتصبن منذ زمن بعيد ودفنّ هنا دون أن يعلم بهنّ أحد، أرواحهن تحلق هنا الى يوم القيامة، فتزرع الرعب في كلّ قادم غريب ساقه حظّه السيء لهذا الظلام الدامس.
وصل أخيراً بعد صراع عنيف، بين أن يعود سالماً لامّه المسكينة التي تنتظره على أحرّ من الجمر، أو أن يحارب جنود الظلام هذه، رغم ما يشعر به من رعب قد تجاوز الحد الذي يمكن أن يتجاهله، أو أنْ يقنع نفسه بالشجاعة المفقودة. عرف أنّه الآن في المقبرة عندما أرتفع نعيق الغربان عالياً في الظلام، أفزعه ذلك النعيق وكاد أنْ يقف قلبه فلعن اللحظة التي قرر فيها المجيء هنا، الى جسر الجحيم هذا.
استنشق رائحة غريبة لكنّها قوية ونفاذة جداً تيقن أنّها رائحة الموت المهيمن هنا منذ الأزل، وأنّها نذير شؤم فتعثرت اقدامه وكاد أنْ يقع لكنّه تمالك نفسه أخيراً. عندما أحس انّه وسط المقبرة، رفع عمود الحديد عالياً وأنزله بكل ما بقي لديه من قوة في أرض المقبرة. صارخا بكل الأشباح التي تحلق حوله وبصوت مرتجف لكنه مرتفع (من كان منكم بلا مخاوف فليغرس العمود في عمق المقبرة). أمسك بصخرة قريبة من العمود وأخذ يطرق على رأس العمود حتى أنزله في عمق الأرض الى النصف. شاعراً بعمله هذا أنّه قد قتل الخوف وطرده من نفسه المسكينة.
عندما هم بالخروج من المقبرة لم يستطع الحركة، أمسكه أحد ما من جلبابه وسحبه باتجاه القبور المهدمة. عفريت ربما، أوّ جني ربما، أوّ ربما احدى الأرواح المعذبة التي تنتظر اللّحظة التي تنزل غضبها وانتقامها منه. التفت مفزوعاً فرأى رغم الظلام الحالك أشباحاً ضبابية مخيفة تهجم عليه دفعة واحدة، تصرخ بوجهه وتهزأ من خوفه ومن تعرقه رغم الرياح الباردة. حاول أن يضربها فتلاشت ضرباته في الفراغ. وجد نفسه يصارع صفير الريح، لكن ضحكاتهم وصراخهم الغريب صار مرتفعاً جداً. لم يبق له سوى الهروب. أراد أن يفلت نفسه منهم، وهمّ بالركض لكنّه لم يستطع. أحس بنهايته قد اقتربت، ولكن رغم الفزع الذي يعيشه الآن وهو بين هؤلاء الاشباح والعفاريت الشريرة تذكر لِلَحظة بكاء امّه وحزنها عليه. لقد نهته عن هذه المغامرة الخاسرة. لكنّه لم يطعها وأصرّ على المجيء رغم الخوف الذي أحسّه قبل هبوط الظلام. ارتفع صراخه عاليا متوسلاً ان يتركوه، لكنّه عبثاً يحاول. أحس بأيديهم تخترق صدره وتسحب قلبه التي تسارعت ضرباته بسرعة مهولة. فتح عينيه فرأى بينهم البنت التي اغتصبها وأخاه، كانا غاضبين جداً. انهار على الأرض مستسلماً لأي شيء يحدث الآن. ارتفع نعيق سرب من الغربان وحلقت عالياً في السماء الداكنة.
عند شروق الشمس كانت امّه قد جَمّعتْ كل رفاقه الذين ينتظرون عودته. هبوا جميعاً حاملين العصي ذاهبين للمقبرة.
وجدوه ميتاً، ولم يصدقوا ما رأوا، كان قد وضع دون أنْ يدري العمود الحديدي على طرف جلبابه وغرزه لنصفه في الأرض.
بقلم: مناف كاظم محسن/ العراق