في اليوم التالي لوفاتي، حضر كل نساء العائلة لزيارتي كما تقضي التقاليد. كان ثمة لغط وضجيجٌ وعويلٌ بدد هدوء القبر، فتململ جيراني، وداخلني بعض الونس، ميزت صوت زوجتي ملتاعاً ممطوطاً
-يا سااااابعي...يا جاااااملي...سبتنا لمين يا خويا؟! هنروح فين، وهنعمل ايه بعدك يا غالي
أطرقت موجوعاً، واستبد بي الحزن، وودت لو أمزق هذا الكفن الذي يقيدني، ثم خبى صوتها فجأةً، وارتفعت أصوات النسوة
يا لهوي...سورقت... هاتو فحل بصل...فوقي يا بت...لا حول ولا قوة إلا بالله
ساد الهدوء فجأةً كما حل الضجيج، فعلمت أنهن قد رحلن تاركاتٍ إياي لقلقٍ بلا حدود
-بكرا تتعود
جاءني صوتٌ لم أتمكن من تمييز صاحبه وسط الظلام، وبين طيات الكفن، فسلمت أمري للقدر، ولم أجب. بعد أسبوعٍ، عادت زوجتي، سمعت صوتها قريباً جداً، وكأنها فوق رأسي، تنهدت بحرقة:
-معلش ياخويا، اتأخرت عليك، مش قادرة والله يا ابو محمد، مش عارفة أصدق انك خلاص مشيت!! يا ريتني كنت مكانك ياخويا
بعدها انخرطت في بكاءٍ حارٍ إلى أن امتلأ القبر بالدموع، فطفى جثماني المهترئ حتى التصقت بالسقف، قبل أن تبتلعها رمال القبر، فعدت للاستقرار في حفرتي العفنة الممتلئة بالدود، والصديد ثم حل الهدوء من جديد...
بعد شهرٍ، عادت، كنت غاضباً منها، وأشحت بوجهي -الذي سقط عنه اللحم- بعيداً، غير أن صوتها المتوسل الحزين تسلل إلى قلبي كيدٍ باردةٍ، واعتصره، فالتفت:
"عارفة انك زعلان، لكن لما تسمعني هتعذرني، انت كنت سادد علينا باب بلا كبير يا ابو محمد، الحياة متعبة، والظروف صعبة، معاشك ياخويا مابيكفيناش أنا وابنك لحد يوم عشرة في الشهر حتى، ومرتب شغل بعد الضهر الي كان ساندنا خلاص، انقطع بموتك، غصب عني ياخويا والله، اضطريت اشتغل...بس متخافش، الشغل كويس ومريح، راجل ومراتو كبار في السن وعايشين لوحدهم، بروح كل يوم كام ساعة كدا يعني اساعدهم، واهي نواية تسند الزير"
ليلتها أنبت نفسي كما لم أفعل قط حين كنت حياً
"بقى كدا يا ندل؟!! بقى كدا!! تمشي وتسيب مراتك وابنك فجأة وتخليهم يتلطموا من بعدك!! بسهولة كدا مت؟!! من غير أي مقاومة؟ اااااااااه"
بعد شهرين جاءت، لم أكن غاضباً، بقدر ما أنا خزيانٌ وخجل. تنهدت وقالت بصوتٍ محايد:
تعبت والله يا ابو محمد، هدة البيت والولد والشغل...مابقتش قادرة استحمل خلاص
كدت أذوب خجلاً، فتمنيت أن تسكت، أو تذهب
المعاش مع فلوس شغلي مش مكفيين حاجة، أعمل إيه أنا طيب؟ غير كدا وكدا، أنا لسا صغيرة وحلوة، ومافيش راجل يحمينا بعدك، وعيون الرجالة ياخويا يندب فيها رصاصة والناس مابترحمش
كان لكلامها وقعٌ غير مريحٍ على نفسي، فأرهفت السمع، وأنا أتوقع الأسوأ
-وبعدين ياخويا بصريح العبارة كدا، الست ماتقدرش تستغنى عن راجل، وانت عارف مراتك، حرة وعفيفة، وحد الله بينها وبين الحرام
"يا إله العدم! ومن قال أن الموتى يستريحون؟!"
-اتقدملي واحد، راجل طيب وابن حلال، بيشتغل سباك .. كسيب، كان متجوز وطلق عشان مابيخلفش، يعني هيشيل محمد في عينيه ويعاملو زي ابنه
محمد...ولدي أنا؟! زي ابنه!
-معلش يا ابو محمد، ماكنش قدامي غير اني أوافق، هنتشرد يا خويا أنا وابنك، متزعلش مني، وأنا عمري ماهنساك، هاجي ازورك، ومحمد كمان هييجي يزورك، دا مهما كان ابنك، وأنا أم ابنك، وهنفضل كدا ليوم الدين
في الشهور الست التي سبقت زيارتها الأخيرة، حاولت أن أنسى كل ما مر بي في حياتي، فلم أستطع! يقولون أن الموتى بلا ذاكرة، لكنني اكتشفت أن كل شئٍ يموت مع الإنسان إلا ذاكرته!
كان الصخب في الخارج كبيراً، فعلمت أنه العيد، وكما جرت العادة ، يزور الأهل أقرباءهم الموتى صبيحة العيد، يحملون الطعام، وأرغفة الخبز المصنوعة خصيصاً لهذا اليوم
-رحمة ونور
قالت، فهاجت بي ذكرياتٌ بعيدةٌ
-خبزتهم مخصوص على روحك يا ابو محمد
بما يشبه الهمس أردفت، ثم نادت:
تعالى يا محمد اقرا الفاتحة لابوك
محمد!!!
كطاقةٍ من نورٍ انفتحت في ظلام القبر، فكدت أستوي جالساَ، وأفتح ذراعي على وسعهما
-ما تيالله بقى يا ولية
بفظاظةٍ، علا صوتٌ أجشٌ تبعه سعالٌ حادٌ، فقالت باضطراب:
-حاضر ياخويا جاية اهو
-يالله يا ياض يا محمد
كرر الصوت النداء بفظاظةٍ أكبر، فرد باستكانة:
-حاضر يا بابا...
بابا!!!!
لم أدر، لم خبت فجأةً كل الأصوات... ولم اشتد الظلام كثافةً... ولم صار هواء القبر عطناً، وثقيلاً، وبارداً هكذا؟ ولم أفلتت قبضتي الملتفة بشدةٍ حول روحي، التي طارت، ثم دارت دورتين فوق رأسي، قبل أن تحلق بعيداً؟ ولم تركت العنان لدموعي التي حبستها طويلاً، وقررت أن أموت.
-يا سااااابعي...يا جاااااملي...سبتنا لمين يا خويا؟! هنروح فين، وهنعمل ايه بعدك يا غالي
أطرقت موجوعاً، واستبد بي الحزن، وودت لو أمزق هذا الكفن الذي يقيدني، ثم خبى صوتها فجأةً، وارتفعت أصوات النسوة
يا لهوي...سورقت... هاتو فحل بصل...فوقي يا بت...لا حول ولا قوة إلا بالله
ساد الهدوء فجأةً كما حل الضجيج، فعلمت أنهن قد رحلن تاركاتٍ إياي لقلقٍ بلا حدود
-بكرا تتعود
جاءني صوتٌ لم أتمكن من تمييز صاحبه وسط الظلام، وبين طيات الكفن، فسلمت أمري للقدر، ولم أجب. بعد أسبوعٍ، عادت زوجتي، سمعت صوتها قريباً جداً، وكأنها فوق رأسي، تنهدت بحرقة:
-معلش ياخويا، اتأخرت عليك، مش قادرة والله يا ابو محمد، مش عارفة أصدق انك خلاص مشيت!! يا ريتني كنت مكانك ياخويا
بعدها انخرطت في بكاءٍ حارٍ إلى أن امتلأ القبر بالدموع، فطفى جثماني المهترئ حتى التصقت بالسقف، قبل أن تبتلعها رمال القبر، فعدت للاستقرار في حفرتي العفنة الممتلئة بالدود، والصديد ثم حل الهدوء من جديد...
بعد شهرٍ، عادت، كنت غاضباً منها، وأشحت بوجهي -الذي سقط عنه اللحم- بعيداً، غير أن صوتها المتوسل الحزين تسلل إلى قلبي كيدٍ باردةٍ، واعتصره، فالتفت:
"عارفة انك زعلان، لكن لما تسمعني هتعذرني، انت كنت سادد علينا باب بلا كبير يا ابو محمد، الحياة متعبة، والظروف صعبة، معاشك ياخويا مابيكفيناش أنا وابنك لحد يوم عشرة في الشهر حتى، ومرتب شغل بعد الضهر الي كان ساندنا خلاص، انقطع بموتك، غصب عني ياخويا والله، اضطريت اشتغل...بس متخافش، الشغل كويس ومريح، راجل ومراتو كبار في السن وعايشين لوحدهم، بروح كل يوم كام ساعة كدا يعني اساعدهم، واهي نواية تسند الزير"
ليلتها أنبت نفسي كما لم أفعل قط حين كنت حياً
"بقى كدا يا ندل؟!! بقى كدا!! تمشي وتسيب مراتك وابنك فجأة وتخليهم يتلطموا من بعدك!! بسهولة كدا مت؟!! من غير أي مقاومة؟ اااااااااه"
بعد شهرين جاءت، لم أكن غاضباً، بقدر ما أنا خزيانٌ وخجل. تنهدت وقالت بصوتٍ محايد:
تعبت والله يا ابو محمد، هدة البيت والولد والشغل...مابقتش قادرة استحمل خلاص
كدت أذوب خجلاً، فتمنيت أن تسكت، أو تذهب
المعاش مع فلوس شغلي مش مكفيين حاجة، أعمل إيه أنا طيب؟ غير كدا وكدا، أنا لسا صغيرة وحلوة، ومافيش راجل يحمينا بعدك، وعيون الرجالة ياخويا يندب فيها رصاصة والناس مابترحمش
كان لكلامها وقعٌ غير مريحٍ على نفسي، فأرهفت السمع، وأنا أتوقع الأسوأ
-وبعدين ياخويا بصريح العبارة كدا، الست ماتقدرش تستغنى عن راجل، وانت عارف مراتك، حرة وعفيفة، وحد الله بينها وبين الحرام
"يا إله العدم! ومن قال أن الموتى يستريحون؟!"
-اتقدملي واحد، راجل طيب وابن حلال، بيشتغل سباك .. كسيب، كان متجوز وطلق عشان مابيخلفش، يعني هيشيل محمد في عينيه ويعاملو زي ابنه
محمد...ولدي أنا؟! زي ابنه!
-معلش يا ابو محمد، ماكنش قدامي غير اني أوافق، هنتشرد يا خويا أنا وابنك، متزعلش مني، وأنا عمري ماهنساك، هاجي ازورك، ومحمد كمان هييجي يزورك، دا مهما كان ابنك، وأنا أم ابنك، وهنفضل كدا ليوم الدين
في الشهور الست التي سبقت زيارتها الأخيرة، حاولت أن أنسى كل ما مر بي في حياتي، فلم أستطع! يقولون أن الموتى بلا ذاكرة، لكنني اكتشفت أن كل شئٍ يموت مع الإنسان إلا ذاكرته!
كان الصخب في الخارج كبيراً، فعلمت أنه العيد، وكما جرت العادة ، يزور الأهل أقرباءهم الموتى صبيحة العيد، يحملون الطعام، وأرغفة الخبز المصنوعة خصيصاً لهذا اليوم
-رحمة ونور
قالت، فهاجت بي ذكرياتٌ بعيدةٌ
-خبزتهم مخصوص على روحك يا ابو محمد
بما يشبه الهمس أردفت، ثم نادت:
تعالى يا محمد اقرا الفاتحة لابوك
محمد!!!
كطاقةٍ من نورٍ انفتحت في ظلام القبر، فكدت أستوي جالساَ، وأفتح ذراعي على وسعهما
-ما تيالله بقى يا ولية
بفظاظةٍ، علا صوتٌ أجشٌ تبعه سعالٌ حادٌ، فقالت باضطراب:
-حاضر ياخويا جاية اهو
-يالله يا ياض يا محمد
كرر الصوت النداء بفظاظةٍ أكبر، فرد باستكانة:
-حاضر يا بابا...
بابا!!!!
لم أدر، لم خبت فجأةً كل الأصوات... ولم اشتد الظلام كثافةً... ولم صار هواء القبر عطناً، وثقيلاً، وبارداً هكذا؟ ولم أفلتت قبضتي الملتفة بشدةٍ حول روحي، التي طارت، ثم دارت دورتين فوق رأسي، قبل أن تحلق بعيداً؟ ولم تركت العنان لدموعي التي حبستها طويلاً، وقررت أن أموت.