ذياب شاهين - أنشودة العدم.. في ذكرى وفاة السياب

في إحدى الأماسي في أبوظبي وكنت حاضرا هناك في المجمع الثقافي، حضر الشاعر الكبير أدونيس، وسأله أحد الحاضرين عن أهم شاعر في العصر الحديث، فأجاب أن السياب هو الأهم على الأطلاق، وفي استفتاء قامت به إحدى الصحف أو المجلات عن أعظم قصيدة كتبت في العصر الحديث فكان الجواب هو أنشودة المطر، وفي سؤال للناقد المصري لويس عوض عن أشعر شعراء العربية فأجاب: أن السياب هو أشعر شعراء العربية، وبالطبع فالسياب كتب اسما من ذهب في عالم الشعر، وكان موته التراجيدي نهاية أسطورية لهذا الشاعر الذي لم ينل التقدير المستحق أثناء حياته من بلده وكلنا نعرف ما حصل له ولعائلته في ذلك الوقت وحين مات لم يحضر جنازنه سوى المطر وبضعة أشخاص.
وكي لا أطيل ولأني أقدم نصا هنا يعارض نص السياب (أنشودة المطر) ولكي لا يفهم قصدي بهذه المعارضة الأدبية بصورة بعيدة عن الهدف، أود أن أقول إن من المعروف والمشهور أن يقوم الشعراء العرب بمعارضة القصائد التي تعجبهم فينظمون على منوالها، ولنا في أحمد شوقي الشاعر المصري قدوة في ذلك، ولم يكن ذلك عيبا بل كان مقبولا ومستحبا، وأنا هنا أعارض قصيدة السياب العظيمة(أنشودة المطر) بتفاصيلها كافة لأخبره أن المطر في أنشودته التي أطلقها في العام 1954 متنبئا بالثورة، أملا بأن تتغير حياة العراقيين للأحسن، فبعدسبعين عاما صار المطر علينا عدما ورمادا ، وفي هذا النص أجدني أتألم على خطى السياب بما حاق بوطني خلال السنيين الفائتة، وأقول الرحمة لروحه شاعرا قل نظيره على خارطة الشعر العربي والعالمي. وفي أدناه النص.


مَعْزوفَةُ العَـدَمْ

مهداة إلى ثورة الخبز بالعراق المحتل

كَفـّاكِ صَرْخَتا إلهٍ لَحْظَةَ الـنـَـدَمْ
أَوْ لَعْنَتانِ يَصْطَلي بِنارِها الأَلَـــمْ
كَفـّاكِ حِينْ تَغْضَبانْ تَهْدِرُ الرُّعودْ
وَتَهْزِجُ الأَمْواجُ كَالنّيرانِ في إرَمْ
تَسُفـُّهُا الأَجْسادُ طَلْقاً ساعَةَ الضَّرَمْ
فَيَشْتَهي وَليدَها مِنْ شَوْقِهِ الوُجودْ
وَتَمْتَحانِ مِنْ سَرابٍ في المَدى البَعيدْ
كَالرَّمْلِ مُتَعَبَ العَيْنَيْنِ لَفـَّهُ الهَجـيـرْ
دَمْعُ الرَّبيعِ حَفــَّهُ وَصَيْفـُها الجَديــدْ
وِلادَةُ البُشْرى صَدىً مِنْ صَرْخَةِ النَّذيرْ
فَتَسْتَبيحُ شَوْقَ قَلْبي فَرْحةُ الذُّهولْ
وَرَعْشَةٌ مَفْتونَةٌ تُصافِحُ الصُّخورْ
كَرَعْشَةِ العَذْراءَ في لَيْلةِ الدُّخولْ
يا لَيْتَ رَبّاتِ النِّذورِ تَسْألُ السَّماءْ
وَشَـهْقَةً فَشَـهْقةً تَسْتَـنْزِلُ الغُيــومْ
تُعانِقُ الأَشْجارَ في مَنازلِ الضِّياءْ
فَأَطْلَقَتْ صَوْتاً تُرَدِّدُهُ النُّجومْ
مَعْزوفَةُ العَدَمْ
عَدَمْ
عَدَمْ
عَدْمْ
تَطاوَلَ الظَّلامُ وَالنُّجومُ كَالسَّفينْ
تُكَفْكِفُ الرِّياحُ مِنْ دَمْعِها اللُجَيْنْ
أَصْداءَ صَوْتِ طِفْلَةٍ أَخافَـها الظَّلامْ
تَبْكي أَباً مُهاجِراً يَجْتاحُها الحَنينْ
فَما يَمُرُّ العُمْرُ مِنْ سِتارَةِ الغَمامْ
وَأُمُّها أَنّى لَها أَنْ تَحْرِقَ الشُّموعْ
في فَرْحَةِ الرُّجوعْ
وَإذْ تَنوحُ أًمُّها في حَضْرَةِ القِبابْ
تَنْأى بِها آهاتُها وَحُرْقَةُ الدُّموعْ
تَشُقُّ في ثِيابِها كَيْ يَسْكَرَ العَدَمْ
كَأّنَّ خِرّيجاً فَقيراً يَحْرِقُ الكِتابْ
مُسْتَهْزِئاً بالعِـلـْمِ والعـَلـَم
وَيَسْألُ السَّماءَ حينَ تـُسْرَقُ النـِعَمْ
عَدَمْ ،عَدَمْ ،عَدَمْ
أَتَبْصُرينَ أَيَّ ضَوعٍ يَنْثُـرُ العَدَمْ ؟
وَكَيْفَ تَعْزِفُ الأَعاصيرُ إذا انْهَزَمْ ؟
وَكَيْفَ يَرْسُفُ الغَريبُ فيهِ بِالعَذابْ
بِلا اشْتِهاءٍ– كَاللَظى المُذاقِ – كَالغَيابْ
كَالْلَيْلِ في الغاباتِ، كَالجْوعى هَوَ العَدَمْ
وَإصْبِعاكِ بِي يَجوبان مَعَ العَدَمْ
فَلَيْتَ أَبْراجَ الخَليجِ تَطْلِقُ الرُّعودْ
كَيْ تَغْسِلَ العِراقَ بِالغُيومِ وَالنُّوارْ
يا لَيْتَها تَخُبُّ كَالغُروبْ
فَيَنْثِر الفَجْرُ عَلَيْها مِنْ رَدىً غُبارْ
أَصيحُ بِالعِراقِ: يا عِراقْ
يا شَهْوَةَ الأَحْلامِ وَالصَّحْراءِ وَالشَّذا
يَلُفُّني الصَّدى كَأَنَهُ احْتِراقْ
يا عِراقُ يا شَهْوَةَ الأَحْلامِ وَالشَّذا
هُناكَ يَنْزِفُ العِراقُ، جُرْحُهُ النُّواحْ
وَيَمْلأ القِفارَ بِالأَنْواءِ وَالضِّرامْ
وَإذْ تَفيضُ في القُلوبِ شَهْقةُ الزُّؤامْ
تَهْتاجُ في وِدْيانِها الرِّياحْ
كَيْ تَصْرَعَ الأَلَمْ
هُناكَ أَبْصُرُ الحِياضَ تَلْبَسُ السَّقـَمْ
وَأَلْمَحُ الثَّرى يَبوحُ، أَلْمَحُ النِّساءْ
عَلى خُدودِهِنَّ بَالتُرابِ لاطِماتْ
أَرى الرِّجالَ تَصْطَلي كَواكَبَ السَّماءْ
عَدَمْ ،عَدَمْ، عَدَمْ
تَعودُ سابِحاتْ
فَيَغْسِلُ البِتْرولُ فِيهِ أَضْلِعَ البِلادْ
لِتَشْرَبَ الجُرْذانُ وَالصِّلالْ
فَتَغْرَقُ القيعانُ وَالأَجَمْ
نَدىً يَمورُ في الحُقولِ... حَوْلَها رِمَمْ
عَدَمْ
عَدَمْ
عَدْمْ
وَهَلْ بَكَيْنا لَحْظَةَ الوَداعِ في القُلوعْ
ثُمَّ انْتَبَهْنا- لَيْتَنا نَصيحُ - بِالعَدَمْ
عَدَمْ
عَدْمْ
في لَيْلَةٍ جِئْنا صِغاراً، كانَتِ الحُقولُ
تَفيضُ بِالنُّفوطْ
فَيُعْشِبُ العـَدَمْ
في كُلِّ يَوْمٍ - حينَ يَنْبَعُ الثَّرى - نَموتْ
هَلْ جاءَ يَوْمٌ وَالعِراقُ لَيْسَ فيهِ مَوْتْ
عَدَمْ
عَدَمْ
عَدَمْ
في كُلِّ سَكْرَةٍ مِنَ العَدَمْ
زَرْقاءَ أَوْ سَوْداءَ في إطْلالَةِ الظـُلـَمْ
وَكُلُّ صَرْخَةٍ عَلَتْ تَبْكي لَها السَّماءْ
وَكُلُّ حَسْرَةٍ بَقَتْ تَمورُ في الصُّدورْ
فَهْيَ احْتِدامُ في انْهزامِ ظُلْمَةٍ قَرورْ
أَوْ صَوْتُ طِفْلٍ ضاحِكٍ لِيِنْثُـرَ العَبيرْ
في صَحْوَةِ السَّنا الشَّهِيِّ فالِقِ الضِّياءْ
عَدَمْ
عَدَمْ
عَدَمْ
فَلْتُطْلِقوا العِراقَ مِنْ عَدَمْ
أَصيحُ بِالعِراقِ: يا عِراقُ
يا شَهْوَةَ الأَحْلامِ وَالصَّحْراءِ وَالشَّذا
يَلُفُّني الصَدى
كَأَنَّهُ احْتِراقْ
يا عِراقُ
يا شَهْوَةَ الأَحْلامِ وَالشَّذا
وَيَهْجُرُ العَراقَ مِنْ شَبابِهِ الكَثيرْ
حِيْثُ البِحارُ، شَهْوَةُ القِفارِ، وَالصُّخورْ
فَالكُلُّ يَعْدو في رَحِيلهِ إلى البَعيدْ
كَمْ مِنْ سَفينةٍ نَأَتْ تَجوبُ في البِحارْ
في لَعْنَةِ الرِّياحِ وَالهَديرْ
فَما رَأى شِراعُها تَلْويحَةَ الحِدودْ
في لَحْظَةٍ مَجْنونَةٍ غاصَتْ إلى القَرارْ
حَيْثُ الردى
يَخُبُّ في المُحيطْ
عَدَمْ
عَدَمْ
عَدَمْ
في كِلِّ سَكْرَةٍ مِنْ العَدَمْ
زَرْقاءَ أَوْ سَوْداءَ في إطْلالَةِ الظـُلـَمْ
وَكُلُّ صَرْخَةٍ عَلَتْ تَبْكي لَها السَّماءْ
وَكُلُّ حَسْرَةٍ بَقَتْ تَمورُ في الصُّدورْ
فَهْيَ احْتِدامُ في انْهزامِ ظُلْمَةٍ قَرورْ
أَوْ صَوْتُ طِفْلٍ ضاحِكٍ لِيِنْثُـرَ العَبيرْ
في صَحْوَةِ السَّنا الشَّهِيِّ فالِقِ الضِّياءْ
فَلْتَقْتُلوا العَدَمْ


* هذه القصيدة معارضة لقصيدة الشاعر العظيم بدر شاكر السياب "أنشودة المطر"في تفاصيلها كافة لذا وجب التنويه، وقد نشرتها في ديوان بستان أزرق.
أبو ظبي



‏الأربعاء‏، 09‏ شباط‏، 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...