مرت شهور عديدة لم اخرج من المنزل ، اقضي معظم يومي وانا أحاول الكتابة ، الكثير من المسودات الممزقة بعضها فوق المكتب والبعض الآخر ملقىََ على الأرض ، رائحة ثيابي تغيرت ، و شعر لحيتي أصبح كثيفا، المنزل غارق في الصمت الا من صوت الورق وانا أعجنه بين يدي ، وصرير الكرسي الذي اجره الى الخلف كلما طارت الأفكار من رأسي ، طعامي كله من الخارج ، اتصل بالمطعم فيحضر الوجبة الوحيدة التي آكل طوال النهار ، اكمل ما تبقى من جوعي بالقهوة المرة ..
الحمد لله أني لم اتزوج ،وفضلت حياة العزوبة ، من تلك التي تقبل بهذا الوضع ، انا مجرد كاتب بائس ، يبحث عن فكرة جديدة يلمع بها صورته داخل الساحة الأدبية ،فبعد فشلي الذريع في آخر رواية ، لم يعد أحد من أولئك الذين كنت اظنهم اصدقائي يتصل بي ، أراقب امسياتهم الأدبية من خلال الهاتف ، لا أحد يأبه لغيابي ، فعندما كنت في القمة كان الجميع يريدون الظهور من خلالي ،النقاد ، الكتاب ،أشباه الكتاب ، المذيعون ، كانوا يتوسلون الوقوف الى جانبي في اي محفل أدعى إليه ..
علي الآن أن أجد تلك الفكرة البراقة التي ستعمي اعينهم من شدة لمعانها ، لكن أين هي؟!
كل المواضيع السياسية اصبحت مبتذلة ، والحديث عن الحرب والمجاعات لا تروق للجميع..
في تلك الأثناء
سمعت جرس الباب إنه وقت الغداء ، فتحت الباب فإذا فتاة جميلة بل اكثر من جميلة ، ساحرة ، تحمل علبة الطعام وتمدها نحوي ، للحظة تذكرت شكلي وهندامي ، فاسرعت في اخذ الطلب واقفلت الباب ..
يا إلهي لازلت حيا ، وأرى الجمال ، بل انتبه لمظهري ...يالقوة الأثنى ، وكيف تقلب كيان الصناديد..
وضعت ما بيدي فوق الطاولة ، وذهبت لأحضر بعض الملح ، فغالبا يكون الطعام قليل الملوحة ، فانا احب طعمه فوق كل الأطعمة ..
جلست في الطاولة المقابلة للمكتب ، رغم وجود غرف عديدة ،وطاولة خاصة للأكل إلا أنني محصور هنا في هذا الركن ، كأن باقي المنزل ليس ملكي ..
أخدت اول قضمة من السندويتش ،تذكرت الفتاة ،سرح تفكري بها وهي تمسك السكين وتفتح به بطن الخبز ، وتمرر بيديها الناعمتين المايونيز ،ثم تضع الخس وفقه الطماطم ثم البصل ،والكفتة ، طبقات متراصة كما أراها الآن ..
لم اشعر بنفسي الا عند آخر لقمة
نعم ..نعم ..،نعم !؟ الفكرة اللامعة كانت خلف الباب قبل دقائق ، بزيها الرسمي ، و جمالها اللافت ،..
جلست خلف المكتب حتى دون أن اغسل يدي ،وبدأت أكتب دون انقطاع ، كأن أحدهم يملي علي تلك الجمل والكلمات ، ضربات قلبي تتسارع لشدة الخيال ، واستحواذه علي ،لم اعد اشعر بالزمان ولا بالمكان ، خرجت من المنزل ورأيت ابطال قصتي وهم يتبعون أفكاري كقطيع يقوده كلب ، لم أعد اكترث للضوابط ولا للمباديء ولا حتى لأخلاقيات المهنية ، كل ما كان يهمني هو مكانتي داخل الوسط، اغلقت بوابة الضمير وأطلقت العنان لإمكانياتي في الكتابة ، اظنها ستكون على قائمة الروايات الأكثر جماهيرية ،سيبدأون في نقدها بصورة لاذعة ثم ينتهي بها الأمر إلى الروايات الاكثر جماهيرية ، يكفي ان تضع ذلك الرمز +18فوق أي كتاب ، وسأضمن لك انتشاره ،لأننا شعوب تملك الف وجه ، وازدواجية صارخة بين ما هو مسموح وماهو ممنوع ..
لست راضيا تماما عن الرواية ،لكنني لن أضيع مستقبلي المهني بسبب المبدأ ، والناس تتأقلم بسرعة مع أي حدث ،هذا ما أتبثته التجارب ..
خرجت أخيرا من كهفي المظلم ، وأخدت المسودة لدار النشر ،تأنقت كعريس يزف عروسه نحو منزلها الجديد ، ظلت الإبتسامة العريضة ترافق وجهي ، ومدير الدار يقرأ ملخص الرواية ، كان يحملق بي تارة وينظر للورق تارة أخرى ، أعلم ان المفردات التي استعمتلها صادمة ، وتثير الغرائز ،لكن ماذا افعل !؟
أنتم أيها الحمقى من جرني لذلك ،"هذا ما كنت أردد داخل عقلي وانا أنتظر رده "،تجلسون فوق بروجكم العاجية وتدعون الفضيلة ،هاأنذا سأكسر تلك العجرفة المقيتة التي جعلتكم تتنكرون لي لمجرد ذائقة أدبية لعمل واحد فشل في عين النقاد..
قطع هذا الخيال صوت المدير وهو يضع قلمه بكل قوة فوق المكتب ، التفت اليه وقلت : ها ما رأيك ،اعدك أنها ستحتل المركز الأول من حيث المبيعات ..
قطب جبينه واحمرت وجنتاه ، ووقف منتصبا بقامته الضخمة ، ثم ألقى بجسده علي وهو يقول : أيها العبقري سنكسب الملايين من ورائها ..وبدأ يقبل رأسي ، وانا جالس كالملك ،أراقب سخف الحاشية ...
كانت الرواية كما توقعت ،وعدت الى الساحة ، بعدما كنت الأديب الفاشل ، أصبحت الآن الإسم الذي يقرأ داخل السراديب وتتناقل كتبي في سرية تامة ، تحولت الى اديب وعاهرة في نفس الوقت ، ولا سبيل الى العودة بالزمن ..
سلوى ادريسي والي
* من المجموعة القصصية "قلوب لا تصل إليها الشمس
الحمد لله أني لم اتزوج ،وفضلت حياة العزوبة ، من تلك التي تقبل بهذا الوضع ، انا مجرد كاتب بائس ، يبحث عن فكرة جديدة يلمع بها صورته داخل الساحة الأدبية ،فبعد فشلي الذريع في آخر رواية ، لم يعد أحد من أولئك الذين كنت اظنهم اصدقائي يتصل بي ، أراقب امسياتهم الأدبية من خلال الهاتف ، لا أحد يأبه لغيابي ، فعندما كنت في القمة كان الجميع يريدون الظهور من خلالي ،النقاد ، الكتاب ،أشباه الكتاب ، المذيعون ، كانوا يتوسلون الوقوف الى جانبي في اي محفل أدعى إليه ..
علي الآن أن أجد تلك الفكرة البراقة التي ستعمي اعينهم من شدة لمعانها ، لكن أين هي؟!
كل المواضيع السياسية اصبحت مبتذلة ، والحديث عن الحرب والمجاعات لا تروق للجميع..
في تلك الأثناء
سمعت جرس الباب إنه وقت الغداء ، فتحت الباب فإذا فتاة جميلة بل اكثر من جميلة ، ساحرة ، تحمل علبة الطعام وتمدها نحوي ، للحظة تذكرت شكلي وهندامي ، فاسرعت في اخذ الطلب واقفلت الباب ..
يا إلهي لازلت حيا ، وأرى الجمال ، بل انتبه لمظهري ...يالقوة الأثنى ، وكيف تقلب كيان الصناديد..
وضعت ما بيدي فوق الطاولة ، وذهبت لأحضر بعض الملح ، فغالبا يكون الطعام قليل الملوحة ، فانا احب طعمه فوق كل الأطعمة ..
جلست في الطاولة المقابلة للمكتب ، رغم وجود غرف عديدة ،وطاولة خاصة للأكل إلا أنني محصور هنا في هذا الركن ، كأن باقي المنزل ليس ملكي ..
أخدت اول قضمة من السندويتش ،تذكرت الفتاة ،سرح تفكري بها وهي تمسك السكين وتفتح به بطن الخبز ، وتمرر بيديها الناعمتين المايونيز ،ثم تضع الخس وفقه الطماطم ثم البصل ،والكفتة ، طبقات متراصة كما أراها الآن ..
لم اشعر بنفسي الا عند آخر لقمة
نعم ..نعم ..،نعم !؟ الفكرة اللامعة كانت خلف الباب قبل دقائق ، بزيها الرسمي ، و جمالها اللافت ،..
جلست خلف المكتب حتى دون أن اغسل يدي ،وبدأت أكتب دون انقطاع ، كأن أحدهم يملي علي تلك الجمل والكلمات ، ضربات قلبي تتسارع لشدة الخيال ، واستحواذه علي ،لم اعد اشعر بالزمان ولا بالمكان ، خرجت من المنزل ورأيت ابطال قصتي وهم يتبعون أفكاري كقطيع يقوده كلب ، لم أعد اكترث للضوابط ولا للمباديء ولا حتى لأخلاقيات المهنية ، كل ما كان يهمني هو مكانتي داخل الوسط، اغلقت بوابة الضمير وأطلقت العنان لإمكانياتي في الكتابة ، اظنها ستكون على قائمة الروايات الأكثر جماهيرية ،سيبدأون في نقدها بصورة لاذعة ثم ينتهي بها الأمر إلى الروايات الاكثر جماهيرية ، يكفي ان تضع ذلك الرمز +18فوق أي كتاب ، وسأضمن لك انتشاره ،لأننا شعوب تملك الف وجه ، وازدواجية صارخة بين ما هو مسموح وماهو ممنوع ..
لست راضيا تماما عن الرواية ،لكنني لن أضيع مستقبلي المهني بسبب المبدأ ، والناس تتأقلم بسرعة مع أي حدث ،هذا ما أتبثته التجارب ..
خرجت أخيرا من كهفي المظلم ، وأخدت المسودة لدار النشر ،تأنقت كعريس يزف عروسه نحو منزلها الجديد ، ظلت الإبتسامة العريضة ترافق وجهي ، ومدير الدار يقرأ ملخص الرواية ، كان يحملق بي تارة وينظر للورق تارة أخرى ، أعلم ان المفردات التي استعمتلها صادمة ، وتثير الغرائز ،لكن ماذا افعل !؟
أنتم أيها الحمقى من جرني لذلك ،"هذا ما كنت أردد داخل عقلي وانا أنتظر رده "،تجلسون فوق بروجكم العاجية وتدعون الفضيلة ،هاأنذا سأكسر تلك العجرفة المقيتة التي جعلتكم تتنكرون لي لمجرد ذائقة أدبية لعمل واحد فشل في عين النقاد..
قطع هذا الخيال صوت المدير وهو يضع قلمه بكل قوة فوق المكتب ، التفت اليه وقلت : ها ما رأيك ،اعدك أنها ستحتل المركز الأول من حيث المبيعات ..
قطب جبينه واحمرت وجنتاه ، ووقف منتصبا بقامته الضخمة ، ثم ألقى بجسده علي وهو يقول : أيها العبقري سنكسب الملايين من ورائها ..وبدأ يقبل رأسي ، وانا جالس كالملك ،أراقب سخف الحاشية ...
كانت الرواية كما توقعت ،وعدت الى الساحة ، بعدما كنت الأديب الفاشل ، أصبحت الآن الإسم الذي يقرأ داخل السراديب وتتناقل كتبي في سرية تامة ، تحولت الى اديب وعاهرة في نفس الوقت ، ولا سبيل الى العودة بالزمن ..
سلوى ادريسي والي
* من المجموعة القصصية "قلوب لا تصل إليها الشمس