في هذه الليلة، والبرد يتخللني كالفيروس، تمر ذكرى ميلادي الزائف، لا أعرف متى ولدت، ولا تاريخ ميلادي، الذي اختلف فيه أمي وعمتي _ عندما سألت عن تاريخ ميلادي الفعلي_ قالت أمي: ولدت في موسم حصاد الغلة، تقصد القمح. قالت عمتي: سالم ولد في الفول، أي موسم نضج الفول. مما زاد الأمر غموضا وارتباكا، لكنني تعاملت معه علي المسجل في شهادة ميلادي بعد ما يقارب من ستة شهور؛ كعادة الأباء في ذلك الزمن.
عموما؛ إنها خمس وخمسون عاما. أنظر ورائي فلا أجد شيئا مني. أنا ثالث أربعة بحساسية مختلفة، وتركيبة نفسية مركبة _لا اجيد لعب كرة القدم، ولا أي لعبة رياضية أخرى_ فأصبحت منبوذا، وخارج اهتمامات من حولي؛ لأنني لم أتماهى معهم. حاولت أن امتاز عنهم بشيء أجيده ولا يجيدونه: جربت الرسم، لم أنتج فيه شيئا ذا قيمة رغم موهبتي، فانصرفت عنه؛ لأنني تعاملت معه بمنطق الفوضوي، قرأت الكتب، وأحببت اقتناءها _في بيت لم يكن به سوى الكتب المدرسية؛ التي نبيعها لتاجر الخضر في القرية ونشاهد بثمنها التلفزيون الذي لم يكن في بيوتنا وقتها _ فقرأت حتى كلت عيوني من ركام الصفحات والحروف، كتبت الشعر؛ وما زلت لا أرضى عما كتبته.
لا إنجاز لي إلا الحب؛ وضعني علي أول الدرب لأعرفني، قالت لي حبيبتي: أنت ابن قلبي، وابني الذي لم أنجبه؛ أنت رجلي، الذي لا أرى غيره في الكون. هكذا شفت نفسي لأول مرة جميلا.
ثم؛ من صلبي _ولم أخطط له_ جاء إلى الحياة رجلان _صارا أطول مني_ لقد ابتعدت _ في تربيتهم_ عن كل ما مررت به من ألم، واحباط، وقلت: أنتما صديقاي. ثم من بعدهم جاءت الجميلة زهرة حياتي التي تناديني: يا سالم. أضع صورتها علي شاشة هاتفي فرحا بوجهها الجميل. هذا هو مجدي؛ رغم أنني لم أرض يوما عني، وأراني ناقصا وبعيدا عن الرضا.
ربما؛ هي نفسية الشاعر، لا يرضى عن قصيدة كتبها، ويطمح لأن تبقي قصيدة منه، أو بعضها؛ لتضيء وحدة قارئ في مكان ما.
ها أنا صرت كهلا، بلا جذور تتمدد في بيت العائلة، بلا تاريخ يعرفه صديق في هذه المدينة البحرية، واتشارك معه ذكرياتنا وماضينا الاجتماعي.
الزمن معضلة البشر، وأجسادنا رهن به: دمنا، عضلاتنا، عظامنا. لقد مر علي وقت كنت فيه أثق بجسدي، وأقول: لن أهرم، ولن أحس ألم الكهولة وتداعياتها. لكنني منذ فترة أشعر بأن جسدي لم يعد كما كان؛ وقلبي الذي كنت أثق في قوته _كعضلة تضخ الدم_ صار منذ أيام يشكو في نومي من الإجهاد.
لا شيء يحدث؛ أي رعب في مجتمع عنصري ينافق نفسه، ويسعى كل أفراده بقوة لنهش قطعة من جثة الحياة.
خمس وخمسون عاما مرت. ترى كم تبقى لي في هذا العالم الذي يشبه عملاقا مجنونا يحطم بيته ومحيطه!
سالم الشبانه
عموما؛ إنها خمس وخمسون عاما. أنظر ورائي فلا أجد شيئا مني. أنا ثالث أربعة بحساسية مختلفة، وتركيبة نفسية مركبة _لا اجيد لعب كرة القدم، ولا أي لعبة رياضية أخرى_ فأصبحت منبوذا، وخارج اهتمامات من حولي؛ لأنني لم أتماهى معهم. حاولت أن امتاز عنهم بشيء أجيده ولا يجيدونه: جربت الرسم، لم أنتج فيه شيئا ذا قيمة رغم موهبتي، فانصرفت عنه؛ لأنني تعاملت معه بمنطق الفوضوي، قرأت الكتب، وأحببت اقتناءها _في بيت لم يكن به سوى الكتب المدرسية؛ التي نبيعها لتاجر الخضر في القرية ونشاهد بثمنها التلفزيون الذي لم يكن في بيوتنا وقتها _ فقرأت حتى كلت عيوني من ركام الصفحات والحروف، كتبت الشعر؛ وما زلت لا أرضى عما كتبته.
لا إنجاز لي إلا الحب؛ وضعني علي أول الدرب لأعرفني، قالت لي حبيبتي: أنت ابن قلبي، وابني الذي لم أنجبه؛ أنت رجلي، الذي لا أرى غيره في الكون. هكذا شفت نفسي لأول مرة جميلا.
ثم؛ من صلبي _ولم أخطط له_ جاء إلى الحياة رجلان _صارا أطول مني_ لقد ابتعدت _ في تربيتهم_ عن كل ما مررت به من ألم، واحباط، وقلت: أنتما صديقاي. ثم من بعدهم جاءت الجميلة زهرة حياتي التي تناديني: يا سالم. أضع صورتها علي شاشة هاتفي فرحا بوجهها الجميل. هذا هو مجدي؛ رغم أنني لم أرض يوما عني، وأراني ناقصا وبعيدا عن الرضا.
ربما؛ هي نفسية الشاعر، لا يرضى عن قصيدة كتبها، ويطمح لأن تبقي قصيدة منه، أو بعضها؛ لتضيء وحدة قارئ في مكان ما.
ها أنا صرت كهلا، بلا جذور تتمدد في بيت العائلة، بلا تاريخ يعرفه صديق في هذه المدينة البحرية، واتشارك معه ذكرياتنا وماضينا الاجتماعي.
الزمن معضلة البشر، وأجسادنا رهن به: دمنا، عضلاتنا، عظامنا. لقد مر علي وقت كنت فيه أثق بجسدي، وأقول: لن أهرم، ولن أحس ألم الكهولة وتداعياتها. لكنني منذ فترة أشعر بأن جسدي لم يعد كما كان؛ وقلبي الذي كنت أثق في قوته _كعضلة تضخ الدم_ صار منذ أيام يشكو في نومي من الإجهاد.
لا شيء يحدث؛ أي رعب في مجتمع عنصري ينافق نفسه، ويسعى كل أفراده بقوة لنهش قطعة من جثة الحياة.
خمس وخمسون عاما مرت. ترى كم تبقى لي في هذا العالم الذي يشبه عملاقا مجنونا يحطم بيته ومحيطه!
سالم الشبانه