عبدالرحيم التدلاوي - الأغبر..

حكايتي، أيها السادة، مع كلب أو مسخ يشبه الكلب، حبل نباحه مسترسل لا ينقطع طوال الليل. رغم نحافة جسمه فهو قوي لا أدري من تأتيه هذه القوة. طاقته على النباح كبيرة وعجيبة، ثم إن نباحه لا يشبه نباح بقية الكلاب،
ترى ما الذي يجعله لا يتوقف عن الاستمرار في النباح دون أن ينعم باستراحة محارب، أتراها الأشباح تغزوه فيصدها بمعزوفته المقرفة؟ أم فقط إنه كلب جبان كأي جبان لذلك فهو يتسلح بنباحه لإبراز شجاعته. ومن يدري قد يكون يطرب لصدى صوته المتردد بين ردهات الخربة كما يطرب بعضنا لدندنته في الحمام. يواصل نباحه كأنه يقيم تواصلا مع الصدى.
عندما كان مازال جروا صغيرا كنت أظن نباحه ما هو بنباح الكلاب وإنما هي أنّات مسترسلة أو( أنين متواصل) لاعتداء فظيع من إنسان أو من مخلوق من بني جلدته. لكن سرعان ما استبعدت هذا الظن لما رأيته بأم عيني بين أحضان أمه وهو لا يتحكم في فكيه مطبقين للحظة دون نباح، وتأكدت بما لا يدع مجالا للشك أن شدة حرصه على النباح بسبب وبغير سبب سمة تميزه عن باقي معشر الكلاب، سواء الضالة أو المتبناة.
ذات مرة لاحظت أنه يتحرك في الحي أكثر من مرة وحيدا، لعل أمه سئمت من صداعه مثلي وبارحت المنطقة لتبحث عن رفيق دربها يهبها كلبا يحظى بالعطف من لدن الجميع وليس جروا يتأفف منه الناس ومن لونه الأغبر المنفر، ويجلب لها النظرات الشزراء.
ظل وحيدا ما أكاد أشفق عليه لحظة حتى يثير حنقي بسمفونيته المزعجة حين يقطع شريط أحلامي. مرات كثيرة خطر ببالي دس السم له في شريحة لحم، وأنا متيقن أنه لم يطعم منذ ولادته لحما نظيفا وشهيا، متأكد من أنه بمجرد رؤيته للشريحة الحمراء سيقبل عليها إقبال الأعمى، فالجوع جافل، لا يسمح بالحذر، كما أنه يعطل الحواس كلها، ثم تراجعت لاعنا الفكرة البئيسة، وتذكرت أن امرأة دخلت الجنة بسبب إرواء عطش كلب. لكن هذا ليس كلب بل شبه كلب يدب على أربع، ويطلق زعيقه الممل؛ احيانا يغير نغمته عواء فلا يفلح لا في النباح ولا في العواء؛ لا هو من فصيلة الكلاب ولا هو من فصيلة الذئاب؛ مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
رأيته مصادفة في صباح ناعم يدس رأسه في علبة كارتون، يجرها بفرح ثم يعيدها إلى مكانها ويقفز من مكان لآخر، ولما شاهد قطا سار باتجاهه يريد أن يلاعبه، لكن القط، نظرا للعداوة التاريخية، استدار نحوه متحفزا، ففر منه وعدا بعيدا..أدركت، لحظتها، أنه بحاجة للحنان.

**

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...