عينان بلون السماء، جبهة مستديرة وعالية قليلاً ، حاجبين قديمين بشكل هلالي بالغ العقوف. لونهما مائل للرماد قليلاً.
شفتين بلون الكُرز تميلان للإحمرار القاني لم تتذوّقان طعم أحمر الشفاه طويلاً وربما جافّين بسبب حرارة أفريقيا ، أسنان مرصوفة مثل حبّات الأرز وجه أشقر وأنف رقيق بإنحناءة خفيفة.
"Hi am Aliss" تقول ذالك: وتوجّه كتلة بصرها نحوي.
بفتور بيّن وأصابع كسولة أمدّ يداً مرهقة ذات شرايين بيّنة تكاد تنفجر من فرط الدّم الذي يغلي فيها؛ أمدّها نحو الصوت الذي صوّب سهامه نحوي وأقبضُ كفًا بأصابع رقيقة مقارنةً بحجم أظافرها المطليّة بالأسود اللاّمع.
تصافحني بإبتسامة غير مُجتهد فيها كتلك التي نلقيها علي عجلٍ للأسكافيّ، والنّادل، ومحصّل التذاكر، والجّار الذي نصادفه في سُلّم المنزل ونحن في مشوارنا الصباحيّ.
((ألِس)) المرأة الإسكندنافيّة ترمقني بنظرة حانية تتحرك حنجرتها خطوتين للوراء تبتلع غصّة قصيرة وتقبض علي يدّي.تشدّها عليها بطريقة تثير مخاوفي لوهلة خلا أنها تدغدغني بطريقة بريئة وعفويّة جداً ؛ إذ تمنحني حفنة سعادة تعتاش عليها روحي طيلة ذاك اليوم . لأنه لم يحدث أن تشبّث بيّ أحد ولو لثوانٍ معدودة
(( فغالبًا ما يسحب المرء يده ونفسه منّي بضراوة الملسوع))
أبادلها بإنجليزيّة هشّة كحصالة لكل تلك الأيام التي انحزتُ فيها إلي لغة غير العربيّة وببساطة ينتهي الحوار.
في اليوم الثاني وفي ذات ظهيرة غائظة جداً وأشعة تؤدّي واجبها علي أكمل وجه؛ وبرهبوبيّة كنت أولّي وجهي شطر جدار مبني ((المفوضيّة))
أشيّع علي مهل خيوط دخان كئيبة وأراقبها وهي ترسم مراجيح وأطفال يلعبون أمامي في مرج ممتدّة .
من علي سيارة ((حقوقيّة)) تتوقف قبالة البوابة الرئيسيّة وفي ركن قصي من الجراج
تنبري نحوي ((ألِس)) تطأ الأرض بقدم ترتدي حذاءً رياضيًا أبيض وتُنزل الأخري بهنيهة كأنها تعرج؛ هكذا تظنها للوهلة الأولي.
ترفع وجهها النّحيل صوب مهجعي تفصِل بيننا نسمة هواء خفيفة ترشق شعرها الأشقر الطويل والذي يحتفظ بجماله المتوارث من عهد الصّبا؛ قميصها سماوي مفتوح الذرّين العلوين الذان يشفقان علي نهدين ضامرين متكاسلة عنهما الرّافعة فيرقدان بإهمال بيّن علي قفصٍ صدريّ واسع ومتسارع الضربات ((عرفت هذا فيما بعد))
(( أنا تروقني النساء ذوات الأثداء الممتلئة)).
في مكتبها البارد إلي حدٍ بعيد والذي جاهدتُ فيه ألاّ أكتكت أو أضع يداي تحت إبطي من فرط البرودة كانت بدورها تنبش ورقة إعتمادي ببرتكول مكتبي متكرر ، تدوّن شيئًا علي الجّهاز الرّقمي خاصّتها وتعاود سؤالي..
((ألِس)) تستقلّ جهلي باللغّة الإنجليزيّة بدايةً وتدغدغ عاطفتي بأسئلتها الشّائكة المريرة.
((تبكيني تلك الأسئلة التي تخربش فيّ جدار الأمومة..مطعون أنا في هذه القضيّة وأعتقد أن لا أحد من حقّه التّنقيب عنها ولو تحت طائلة الأعمال الأنسانيّة)).
إنقضي الوقت بالكثير والكثير من النّبش الذي أجد أن لامبرر له
بينما تجد هي في أجوبتي خُرطًا لحُلم لا تسعه المحيطات ..(( أنا الصّبي الصغير جداً في العمر مقابل أطنان الحُلم تلك)).
((ألِس)) ترسم من أجوبتي مدن يقصفها عسكراً مدججين بقنابل وأسلحة حديثة كتلك التي تشاهدها في أفلام الأكشن يوميًا علي تلفاز شقّتها السّكنيّة.
ترسم أطفالاً نحيلي الأجساد يبدون كهياكل عظميّة تتحرّك، ترسم القَهر والدمار ، ترسم مأساة حقيقيّة كعيّنة لكثير من حالات الأفارقة والتي دأئما ما تواجهها بطبيعة عملها الأنساني وفي معظم البلدن التي زارتها ضمن فريق مزوّد بأقلام وأوراق ومواد صحّافيّة ..
يالبؤس العالم من خلال عدساتكم.
في اليوم الثّالث وفي موقع الجدار نفسه وبتوقيت مابعد الزّوال
كنت أيضا الوحيد الذي يرسم بعقب سيجارة لوحة لقط في الحائط شبه القذر
((أعتقد أن هذا ضرب من ضروب الجنون أن يجلس أحدهم ليرسم حيوان بارز المخالب بعقب سيجارة متفحّم))
في هذه المرّة تقعي(( ألِس)) أمامي مباشرة ((ترتدي قميص مشابه لقميص الأمس بلونٍ داكن هذه المرّة))
تخفض وجهها التفّاحي نحوي وتثبّت عيناها الزرقاوين أمام أنفي مباشرة .
تتأملني بصورة مريبة لم أتفاجأ بها بطبيعة الحال..
بل واصلتُ ببرود شديد إكمال الرّسمة وأنا أرشقها بإبتسامة لطيفة؛ أدير نصف وجهي إلي الحائط وأرسم المخلب الأخير لأصابع القط.
((تتمتم هي بلغة إنجليزيّة أجهل كتابتها حرفًا لكنني أحفظها عن ظهر قلب))
جملة مقتضبة يشوبها الكثير من المشاعر والأحاسيس التي لا تُقال
تنقل إليّ هذه الترجمة لمعة عينيها السماويّتين المغرورغتين بدموع حبيسة، إرتعاش أصابعها الطفيف، شرودها البعيد في عوالم مجهولة .وهي تواصل التأمّل في منتصف وجه تغدقه سمرة حزينة وزغب صغير لشعيرات ميّتة؛ إذ تكاد تمدّ إصبعها نحو كوم البراءة أمامها لكنها تنكمش فجأة كمن تنتبه لشيءٌ ما.. وبحركة سريعة
تعاين في ساعة معصمها ((ساعة الوقواق سويسريّة الصّنع يكسوها حزام جلدي رقيق)) وتنتصب واقفة.
تأخذ معي موعداً بلغة الإشارة ((بنفس الطريقة التي نستخدمها للتواصل مع الذين يواجهون مشكلات في التكلّم والسمع ))
أفهمها بفطنة بالغة وأضبط في ذهني زمكانيّة الموعِد. أحك رأسي بأصابعي أشعل سيجارة أخري وتموّج هي ردفيها الممتلئين قليلاّ أمامي في طريقها إلي حيث لا أدري..
في العاشرة تحديداً من مساء الأحد ذاك المساء الذي آزرتني فيه نسمة عليلة وفي شرفة الشقّة بالطابق الخامس التّابع للسكن الحقوقي والذي يقع بمسافة ٢/ كلم من مكاتب العمل؛ كانت ((ألِس )) علي مقربة منّي تمتعِض سراً وتتمالك نفسها بعد جهد جهيد بذلته معي لتنزّهني في أغوار زوجها الثمانيني المتقاعد حديثًا والذي يقيم الآن في بيته الخشبيّ في ريفٍ تخجل ذاكرتي العطِنة بالدخّان والمأساة تخيّله .
كانت تجفّف العرق والدموع بمنديلها الورقي تطبق كفّيها أمام وجهها وتنفخ فيهما يبدو أنّها تنتحب وكنت آنذاك أتساءل في قرارة نفسي ((ما الذي يدفع بامرأة قويّة تجوب الأدغال بسيارة مفتوحة السّقف من نوع jeep أن تبكي أمام صبي في عمر إبنها)).
((لا أحد يفهم النساء)).
أثرتني سرادق عويلها منصوبة الخيام للحد الذي جعلني أقوم بتأجيل شبقيّتي في الحديث أو الإلتصاق بجسدٍ أمميّ طاغي في العطاء ورحت أقصّر حبال الحديث بيننا.
بعد انتهاء تلك المراسم وفي مرّة حالها حال كل تلك المرات التي لم أشعر فيها بالذّنب وخلف طاولة ((المعيشة)) كنت أمضغ بتلةَ نعناع أنقذتها تواً من كوب الشّاي السّاخن وتلقّفتها بلساني. كانت هي قد هدأت من روعها قليلاً وكرعت من زجاجة المياه المعدنيّة التي تلفُّ منتصفها ديباجة زرقاء مكتوب عليها إسم مكان التّصنيع بلغة ((التيقراي ))
وبعد وقتٍ لا أعدّه بالعقارب الدائرية المتعاقبة في زجاج شفّاف يعمل بالطّاقة؛
تشيّعني ((ألِس)) من بهو منزلها بنظرة حانية وعينين دامعتين أكاد أميّز بريقهما حتّي تحت ضوء فسيفساءات السقف المنعكسة عليهما في ذاك المساء الذي تكاد أن تنفجر فيه روحينا من فرط الإكتشاف..
((لا تخطؤني النّظرات الملفوفة بقصدير الأمومة إذ أميّزها أبداً وسط الآف القطعان من أشباهها)).
انقضي ذاك الزّمن الكئيب والذي أنفقته كلّه بين ترددي للمكاتب البيضاء التي يتخللها شعار المفوضية مكتوبا عليه باللغة الأنجليزية ((الذي حفظته )) وبين ترددي شبه الدّائم لسكن ((ألٍس)) الذي غفر لي فيه أكثر من مرة ضابط الحراسة حيال عبوري البوابة الرئيسية خارج الأوقات المسموح بها بالدخول.
انقضي ذاك الوقت الأطول من قصير والذي صمتنا فيه أكثر ممّا تحدثنا ورغم عائق اللغة المغروس بيننا إلاّ أنني تعلّمت فيه أن أفكّ دهاليز روحها وأعلق نفسي عليها كوطواط.
تعلّمت أن أمشي في ممر أنوثتها القديمة دون أن أجرحها بسكاكيني الحادّة ؛ أمشي وتشهق هي أعزف السيمفونيّات الحزينة وتغني هي غالبًا بلا أُذنٍ صاغية.
انقضي ذاك الوقت سريعًا الوقت الذي تحسّست فيه ((ألِس)) نحول جسمي ؛عدّت عظامي البّارزة ؛غرزت مشطها المخلبيّ فوق شعري بينما كنت أنزل من طوابق حزني تدريجيا في تلك الفترة وألهي نفسي بها. مرّنتني علاقتي بها علي التعايش مع ذاك الفراغ الذي يكزّ روحي في تلك الفترة العصيبة وكنت مخرجًا جديراً لها من ضغط عملها الرّسميّ .
((ألِس)) التي لم تودّعني مرّة ب "Good bay" كانت تضمن بقائي مثل عصفور في اليد لكن تحدثها سريرتها في كلّ مرّة بأنني سأختفي فجأة أو أقوم بالتّلاشي ككومة تراب تحت حذوة حصان هائج
لذا وفي كلّ مرّة كانت تزوّدني بتلك البطاقة الصّغيرة ((بطاقة عنوانها)) والتي تتضمن رقم هاتفها الخاص وعنوان إيميلها علي الإنترنت ومكان سكنها.
تلك البطاقة التي تشعرني بالإختناق حتي وهي في جيبي فكنت في كلّ مرّة أمزّقها وألقي بها في حاوية القمامة تحت العمارة السّكنيّة
كانت تفكّر كثيراً ((وهي تفرش لي شعرها الكستنائي الطويل)) بأنني سأتنزّه معها في مدينتها الشّاهقة ذات الزجاج اللاّمع بأمطارها الخفيفة وإسفلتها النّظيف وسياراتها متعددة الألوان.
أو أنني سأتناول معها طبق بيتزا في المطعم الذي يقبع في خاصرة بنايتها كما هو موضّح أمامي في بطاقة العنوان تلك.
((ألِس)) التي تتساءل كم مرّة وهي تتفقدني في أرجاء شقتها السّكنيّة الوّاسعة دائما ما يترآي لها بأنها ستجدني خلف الشّرفة أكتب أو منطوي برهق ونائم علي الأريكة أو في ركنٍ قصيّ من سكنها لم تعتقد أبداً بأنني سأختفي حتّي بدون أنّة وداع ((وكنت أشعر بأنني أقوم بأذيّتها بإختفائي المباغت)).
مضي علي تلك الحِقبة الكثير من الوقت ((وأعتقد أن لامبرر يدعوني إلي كتابة هذه التجربة شبه المجنونة من سيرورة تجاربي الكثيرة جداً مع هذه العلاقات العابرة ))
إلاّ أنني وفي هذا اليوم كنت أتفقد حقيبة سفري السوداء والتي أتركها خلفي دائمًا في مدينة ما..
هذه الحقيبة إسمها حقيبة سفر لكنني لا أحملها معي في السفر أبداً كنتُ أتركها خلفي دائما عند صديق قمت بزيارته أو عند موظّف الأستقبال في((لكوندة قذِرة)) بحيث أسافر أنا وتلحقني هي.
هذه الحقيبة وبينما كنتُ أتفقّد مقتنياتها كانت ترقد تحتها قلادة ذهبيّة اللون ((تحمل شارة الصّليب)) هي نفسها تلك القلادة التي خلعتها ((ألِس )) من عنقها يومها وأهدنيتها لي بينما كنتُ آنذاك في أشدّ نوبات حزني ورهقي والذي فشَلت كل محاولاتها النفسانيّة والعقائديّة أن تخرجني من دوامة الحزن
أو لأمتنانٍ كانت تكنّه لي ((وبفرح من يلقاني يوم غد))
كوّمتها في كفّي بعد أن ضغطت عليها طويلاً ونطقت بنبرة مخنوقة
[Will protcect you jesoth]
24/ تموز /23
www.facebook.com
شفتين بلون الكُرز تميلان للإحمرار القاني لم تتذوّقان طعم أحمر الشفاه طويلاً وربما جافّين بسبب حرارة أفريقيا ، أسنان مرصوفة مثل حبّات الأرز وجه أشقر وأنف رقيق بإنحناءة خفيفة.
"Hi am Aliss" تقول ذالك: وتوجّه كتلة بصرها نحوي.
بفتور بيّن وأصابع كسولة أمدّ يداً مرهقة ذات شرايين بيّنة تكاد تنفجر من فرط الدّم الذي يغلي فيها؛ أمدّها نحو الصوت الذي صوّب سهامه نحوي وأقبضُ كفًا بأصابع رقيقة مقارنةً بحجم أظافرها المطليّة بالأسود اللاّمع.
تصافحني بإبتسامة غير مُجتهد فيها كتلك التي نلقيها علي عجلٍ للأسكافيّ، والنّادل، ومحصّل التذاكر، والجّار الذي نصادفه في سُلّم المنزل ونحن في مشوارنا الصباحيّ.
((ألِس)) المرأة الإسكندنافيّة ترمقني بنظرة حانية تتحرك حنجرتها خطوتين للوراء تبتلع غصّة قصيرة وتقبض علي يدّي.تشدّها عليها بطريقة تثير مخاوفي لوهلة خلا أنها تدغدغني بطريقة بريئة وعفويّة جداً ؛ إذ تمنحني حفنة سعادة تعتاش عليها روحي طيلة ذاك اليوم . لأنه لم يحدث أن تشبّث بيّ أحد ولو لثوانٍ معدودة
(( فغالبًا ما يسحب المرء يده ونفسه منّي بضراوة الملسوع))
أبادلها بإنجليزيّة هشّة كحصالة لكل تلك الأيام التي انحزتُ فيها إلي لغة غير العربيّة وببساطة ينتهي الحوار.
في اليوم الثاني وفي ذات ظهيرة غائظة جداً وأشعة تؤدّي واجبها علي أكمل وجه؛ وبرهبوبيّة كنت أولّي وجهي شطر جدار مبني ((المفوضيّة))
أشيّع علي مهل خيوط دخان كئيبة وأراقبها وهي ترسم مراجيح وأطفال يلعبون أمامي في مرج ممتدّة .
من علي سيارة ((حقوقيّة)) تتوقف قبالة البوابة الرئيسيّة وفي ركن قصي من الجراج
تنبري نحوي ((ألِس)) تطأ الأرض بقدم ترتدي حذاءً رياضيًا أبيض وتُنزل الأخري بهنيهة كأنها تعرج؛ هكذا تظنها للوهلة الأولي.
ترفع وجهها النّحيل صوب مهجعي تفصِل بيننا نسمة هواء خفيفة ترشق شعرها الأشقر الطويل والذي يحتفظ بجماله المتوارث من عهد الصّبا؛ قميصها سماوي مفتوح الذرّين العلوين الذان يشفقان علي نهدين ضامرين متكاسلة عنهما الرّافعة فيرقدان بإهمال بيّن علي قفصٍ صدريّ واسع ومتسارع الضربات ((عرفت هذا فيما بعد))
(( أنا تروقني النساء ذوات الأثداء الممتلئة)).
في مكتبها البارد إلي حدٍ بعيد والذي جاهدتُ فيه ألاّ أكتكت أو أضع يداي تحت إبطي من فرط البرودة كانت بدورها تنبش ورقة إعتمادي ببرتكول مكتبي متكرر ، تدوّن شيئًا علي الجّهاز الرّقمي خاصّتها وتعاود سؤالي..
((ألِس)) تستقلّ جهلي باللغّة الإنجليزيّة بدايةً وتدغدغ عاطفتي بأسئلتها الشّائكة المريرة.
((تبكيني تلك الأسئلة التي تخربش فيّ جدار الأمومة..مطعون أنا في هذه القضيّة وأعتقد أن لا أحد من حقّه التّنقيب عنها ولو تحت طائلة الأعمال الأنسانيّة)).
إنقضي الوقت بالكثير والكثير من النّبش الذي أجد أن لامبرر له
بينما تجد هي في أجوبتي خُرطًا لحُلم لا تسعه المحيطات ..(( أنا الصّبي الصغير جداً في العمر مقابل أطنان الحُلم تلك)).
((ألِس)) ترسم من أجوبتي مدن يقصفها عسكراً مدججين بقنابل وأسلحة حديثة كتلك التي تشاهدها في أفلام الأكشن يوميًا علي تلفاز شقّتها السّكنيّة.
ترسم أطفالاً نحيلي الأجساد يبدون كهياكل عظميّة تتحرّك، ترسم القَهر والدمار ، ترسم مأساة حقيقيّة كعيّنة لكثير من حالات الأفارقة والتي دأئما ما تواجهها بطبيعة عملها الأنساني وفي معظم البلدن التي زارتها ضمن فريق مزوّد بأقلام وأوراق ومواد صحّافيّة ..
يالبؤس العالم من خلال عدساتكم.
في اليوم الثّالث وفي موقع الجدار نفسه وبتوقيت مابعد الزّوال
كنت أيضا الوحيد الذي يرسم بعقب سيجارة لوحة لقط في الحائط شبه القذر
((أعتقد أن هذا ضرب من ضروب الجنون أن يجلس أحدهم ليرسم حيوان بارز المخالب بعقب سيجارة متفحّم))
في هذه المرّة تقعي(( ألِس)) أمامي مباشرة ((ترتدي قميص مشابه لقميص الأمس بلونٍ داكن هذه المرّة))
تخفض وجهها التفّاحي نحوي وتثبّت عيناها الزرقاوين أمام أنفي مباشرة .
تتأملني بصورة مريبة لم أتفاجأ بها بطبيعة الحال..
بل واصلتُ ببرود شديد إكمال الرّسمة وأنا أرشقها بإبتسامة لطيفة؛ أدير نصف وجهي إلي الحائط وأرسم المخلب الأخير لأصابع القط.
((تتمتم هي بلغة إنجليزيّة أجهل كتابتها حرفًا لكنني أحفظها عن ظهر قلب))
جملة مقتضبة يشوبها الكثير من المشاعر والأحاسيس التي لا تُقال
تنقل إليّ هذه الترجمة لمعة عينيها السماويّتين المغرورغتين بدموع حبيسة، إرتعاش أصابعها الطفيف، شرودها البعيد في عوالم مجهولة .وهي تواصل التأمّل في منتصف وجه تغدقه سمرة حزينة وزغب صغير لشعيرات ميّتة؛ إذ تكاد تمدّ إصبعها نحو كوم البراءة أمامها لكنها تنكمش فجأة كمن تنتبه لشيءٌ ما.. وبحركة سريعة
تعاين في ساعة معصمها ((ساعة الوقواق سويسريّة الصّنع يكسوها حزام جلدي رقيق)) وتنتصب واقفة.
تأخذ معي موعداً بلغة الإشارة ((بنفس الطريقة التي نستخدمها للتواصل مع الذين يواجهون مشكلات في التكلّم والسمع ))
أفهمها بفطنة بالغة وأضبط في ذهني زمكانيّة الموعِد. أحك رأسي بأصابعي أشعل سيجارة أخري وتموّج هي ردفيها الممتلئين قليلاّ أمامي في طريقها إلي حيث لا أدري..
في العاشرة تحديداً من مساء الأحد ذاك المساء الذي آزرتني فيه نسمة عليلة وفي شرفة الشقّة بالطابق الخامس التّابع للسكن الحقوقي والذي يقع بمسافة ٢/ كلم من مكاتب العمل؛ كانت ((ألِس )) علي مقربة منّي تمتعِض سراً وتتمالك نفسها بعد جهد جهيد بذلته معي لتنزّهني في أغوار زوجها الثمانيني المتقاعد حديثًا والذي يقيم الآن في بيته الخشبيّ في ريفٍ تخجل ذاكرتي العطِنة بالدخّان والمأساة تخيّله .
كانت تجفّف العرق والدموع بمنديلها الورقي تطبق كفّيها أمام وجهها وتنفخ فيهما يبدو أنّها تنتحب وكنت آنذاك أتساءل في قرارة نفسي ((ما الذي يدفع بامرأة قويّة تجوب الأدغال بسيارة مفتوحة السّقف من نوع jeep أن تبكي أمام صبي في عمر إبنها)).
((لا أحد يفهم النساء)).
أثرتني سرادق عويلها منصوبة الخيام للحد الذي جعلني أقوم بتأجيل شبقيّتي في الحديث أو الإلتصاق بجسدٍ أمميّ طاغي في العطاء ورحت أقصّر حبال الحديث بيننا.
بعد انتهاء تلك المراسم وفي مرّة حالها حال كل تلك المرات التي لم أشعر فيها بالذّنب وخلف طاولة ((المعيشة)) كنت أمضغ بتلةَ نعناع أنقذتها تواً من كوب الشّاي السّاخن وتلقّفتها بلساني. كانت هي قد هدأت من روعها قليلاً وكرعت من زجاجة المياه المعدنيّة التي تلفُّ منتصفها ديباجة زرقاء مكتوب عليها إسم مكان التّصنيع بلغة ((التيقراي ))
وبعد وقتٍ لا أعدّه بالعقارب الدائرية المتعاقبة في زجاج شفّاف يعمل بالطّاقة؛
تشيّعني ((ألِس)) من بهو منزلها بنظرة حانية وعينين دامعتين أكاد أميّز بريقهما حتّي تحت ضوء فسيفساءات السقف المنعكسة عليهما في ذاك المساء الذي تكاد أن تنفجر فيه روحينا من فرط الإكتشاف..
((لا تخطؤني النّظرات الملفوفة بقصدير الأمومة إذ أميّزها أبداً وسط الآف القطعان من أشباهها)).
انقضي ذاك الزّمن الكئيب والذي أنفقته كلّه بين ترددي للمكاتب البيضاء التي يتخللها شعار المفوضية مكتوبا عليه باللغة الأنجليزية ((الذي حفظته )) وبين ترددي شبه الدّائم لسكن ((ألٍس)) الذي غفر لي فيه أكثر من مرة ضابط الحراسة حيال عبوري البوابة الرئيسية خارج الأوقات المسموح بها بالدخول.
انقضي ذاك الوقت الأطول من قصير والذي صمتنا فيه أكثر ممّا تحدثنا ورغم عائق اللغة المغروس بيننا إلاّ أنني تعلّمت فيه أن أفكّ دهاليز روحها وأعلق نفسي عليها كوطواط.
تعلّمت أن أمشي في ممر أنوثتها القديمة دون أن أجرحها بسكاكيني الحادّة ؛ أمشي وتشهق هي أعزف السيمفونيّات الحزينة وتغني هي غالبًا بلا أُذنٍ صاغية.
انقضي ذاك الوقت سريعًا الوقت الذي تحسّست فيه ((ألِس)) نحول جسمي ؛عدّت عظامي البّارزة ؛غرزت مشطها المخلبيّ فوق شعري بينما كنت أنزل من طوابق حزني تدريجيا في تلك الفترة وألهي نفسي بها. مرّنتني علاقتي بها علي التعايش مع ذاك الفراغ الذي يكزّ روحي في تلك الفترة العصيبة وكنت مخرجًا جديراً لها من ضغط عملها الرّسميّ .
((ألِس)) التي لم تودّعني مرّة ب "Good bay" كانت تضمن بقائي مثل عصفور في اليد لكن تحدثها سريرتها في كلّ مرّة بأنني سأختفي فجأة أو أقوم بالتّلاشي ككومة تراب تحت حذوة حصان هائج
لذا وفي كلّ مرّة كانت تزوّدني بتلك البطاقة الصّغيرة ((بطاقة عنوانها)) والتي تتضمن رقم هاتفها الخاص وعنوان إيميلها علي الإنترنت ومكان سكنها.
تلك البطاقة التي تشعرني بالإختناق حتي وهي في جيبي فكنت في كلّ مرّة أمزّقها وألقي بها في حاوية القمامة تحت العمارة السّكنيّة
كانت تفكّر كثيراً ((وهي تفرش لي شعرها الكستنائي الطويل)) بأنني سأتنزّه معها في مدينتها الشّاهقة ذات الزجاج اللاّمع بأمطارها الخفيفة وإسفلتها النّظيف وسياراتها متعددة الألوان.
أو أنني سأتناول معها طبق بيتزا في المطعم الذي يقبع في خاصرة بنايتها كما هو موضّح أمامي في بطاقة العنوان تلك.
((ألِس)) التي تتساءل كم مرّة وهي تتفقدني في أرجاء شقتها السّكنيّة الوّاسعة دائما ما يترآي لها بأنها ستجدني خلف الشّرفة أكتب أو منطوي برهق ونائم علي الأريكة أو في ركنٍ قصيّ من سكنها لم تعتقد أبداً بأنني سأختفي حتّي بدون أنّة وداع ((وكنت أشعر بأنني أقوم بأذيّتها بإختفائي المباغت)).
مضي علي تلك الحِقبة الكثير من الوقت ((وأعتقد أن لامبرر يدعوني إلي كتابة هذه التجربة شبه المجنونة من سيرورة تجاربي الكثيرة جداً مع هذه العلاقات العابرة ))
إلاّ أنني وفي هذا اليوم كنت أتفقد حقيبة سفري السوداء والتي أتركها خلفي دائمًا في مدينة ما..
هذه الحقيبة إسمها حقيبة سفر لكنني لا أحملها معي في السفر أبداً كنتُ أتركها خلفي دائما عند صديق قمت بزيارته أو عند موظّف الأستقبال في((لكوندة قذِرة)) بحيث أسافر أنا وتلحقني هي.
هذه الحقيبة وبينما كنتُ أتفقّد مقتنياتها كانت ترقد تحتها قلادة ذهبيّة اللون ((تحمل شارة الصّليب)) هي نفسها تلك القلادة التي خلعتها ((ألِس )) من عنقها يومها وأهدنيتها لي بينما كنتُ آنذاك في أشدّ نوبات حزني ورهقي والذي فشَلت كل محاولاتها النفسانيّة والعقائديّة أن تخرجني من دوامة الحزن
أو لأمتنانٍ كانت تكنّه لي ((وبفرح من يلقاني يوم غد))
كوّمتها في كفّي بعد أن ضغطت عليها طويلاً ونطقت بنبرة مخنوقة
[Will protcect you jesoth]
24/ تموز /23
يعقوب عبد العزيز
يعقوب عبد العزيز is on Facebook. Join Facebook to connect with يعقوب عبد العزيز and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.