في نهاية الممر الطويل يقع في المواجهة تماماً باب خشبي . . كتب في أعلاه بخط كبير كلمة " ممنوع الزيارة " وفي السطر الثاني تحديد لمواعيد المراجعة في الأعمال والاستفسارات . . وقد جلس رجل كبير على يمين الممر وبيده مفتاح الباب . . كان يفتح للخارجين والداخلين ممن يشتغلون في المكان . . وعلى مقربة منه وقف مجموعة من المنتظرين ينتظرون السماح لهم بالدخول لمراجعة مواضيعهم المعلقة من أيام . .
كان أحدهم يحاول شرح ظروفه لحارس الباب الذي كان يستقبل كلمات محدثه بإذن طرشاء وأخرى لا تريد السماع . . كان الحارس بحكم المدة التي مكثها في هذا المكان قد فهم كل الأعذار التي يتداولها المراجعون . . فهم عادة مشغولون . . ومستعجلون .. ولهم أولاد في المستشفى . . وزوجات في حالة خطر . . ولهم أقارب ماتوا . . ولديهم الإذن في عشر دقائق فقط من رؤسائهم . . كل هذه التبريرات وغيرها للسماح لهم بالدخول . . اقتنع بأن ثلاثة أرباعها مختلق . . ومن كثرة ما تعود الناس من نسـج الأعـذار أخذ كل واحد يتفنن في صنع الجديد المقبول . . الأمر الذي جعل القليل الصحيح منها يغرق في بحر الكثير المفتعل . .
والحارس لم تغادر ذهنه ولم ينس بعد رسالة الخصم التي جاءته من رئيس القسم عندما تعاطف مع أحد المراجعين ، حيث اتضح بأن الثاني جاء ليضرب موظف لأنه نسى إدراج اسمه في كشف المشتركين في مسابقة ما . . وهو لم ينس محاضر التحقيق التي تسلل إليها عبرها ، الاتهام بأنه ربما كان متعاوناً مع الجاني .. وحاول أن يبرر تصرفه بأنه قبل عذر الرجل المختلق . . ولكن من
يسمع كلمات فراش ! . . ولهذا أخذ لا يرد على كلمات المراجعين واستفساراتهم . . كان يشير فقط بإصبعه نحو الكلمات المكتوبة بخط كبير . . " ممنوع الزيارة " المراجعة بعد الساعة الثانية عشرة والنصف . . ولم يكن يهتم بكلمات السخط وكان يكتفي بالإشارة بإصبعه إلى أعلى . . وكانوا يردون عليه . . نحن نعرف القراءة لسنا عمياً . . أي فوضى هذه . . أنت فراش أم سجان . . هذه مكاتب وإلاّ معتقلات . . هذه سجون وليست دوائر لخدمة الناس أصحاب المصلحة . .
كان الحارس يعرف بأن إقناعهم لا ينفع . . فهم يرون دائماً بأنهم على صواب وأن مراجعة موظف لمدة ثلاثة دقائق لن تضيع وقته إذا ما توفرت رغبة العمل الحقيقية . . كان ذلك هو تفسيرهم . . وكان تفسيره بأن الثلاث دقائق لا يمكن أن تكفي لأي أحد من هذه المدينة لإلقاء كلمات الترحيب والاستفسار عن الأهل والأقارب وسهرة التلفاز . . وبعد ذلك الدخول في الموضوع .
ولكن حارس الباب كان دائماً عندما تهدأ الحركة يقوم بمحاسبة نفسه . . إنه يكره أن يمارس طيلة اليوم عملية الكذب هذه . . لأنه يقوم بممارسة عملية سجن بدون مبرر . . ولكن ماذا يفعل إذا كانت هذه ( أوامر ) . . إنه لا يريد أن يعرض ظهره لرسائل الخصم .. فليحترق الجميع . . كان يعرف بأن الموظفين الذين يقوم بحراستهم من الخارج يحتمون بالتعليمات الملصقة في الباب . . يقضون الصنف الأول من النهار في قراءة الجرائد . . ثم تناول السندوتشات . . ثم القيام بلعبة الحظ على من يدفع ثمن المشروبات . . ويتحلقون حول إحدى المناضد على رائحة القهوة يتناولون أحداث العالم بالتفسير . . ثم ينحدرون إلى مسرحية السهرة التي عرضت بعد منتصف الليل مظهرين براعة غريبة في النقد المسرحي . . ثم يتقلصون بالحديث حتى يصلوا تواريخ تعيينهم وتواريخ استحقاقهم للترقية وفجأة يهربون بالحديث حتى عن آخر ساعة وأخر نكتة عن فتيات المدينة .
كان المارد الذي يحرس الباب يعرف كل ذلك . . وأكثر . . وكان يحس بأنه يقوم بتمثيل الحامي لهذا المسخ . . وبأنه السد الواقف أمام مصالح المراجعين . . ولكن ماذا يفعل . . إنه لا يملك إصلاح أمور الناس . . ألم يقل له ذات يوم أحد جيرانه الطيبين عندما شعر بالتعب وسأل جاره المشورة، لقد قال له الرجل بأن الناس في هذه المدينة تغيرت طباعها .
ويحس الرجل بأن يده قد نزفت من العرق ما يكفي . . ولقد تعبت يده وهو يدير المفتاح للداخلين والخارجين من المشتغلين داخل " المعتقل " كما يسميه المترددون . . كان يحس بالخجل لأن ظروف عمله جعلته يعيش هذه التجربة . . ولكنه يعود لحكمة جاره فيجد فيها تفسيراً لكل ما يدور حوله .
كان الشاب القادم عبر الممر ممن يترددون باستمرار . . وإن كان يأتي بعد منتصف النهار عكس هذه المرة . وجاء الشاب مباشرة فأمسك بمقبض الباب يريد الدخول فأشار إليه البواب نحو اللافتة المعلقة . . نظر فيها الشاب ملياً . . بينما يده كانت ما تزال تلعب بمقبض الباب في محاولة لعتله . .
ـ يا رجل . . قلت لك اقرأ المواعيد .
ـ إيه . . منذ متى تحددون الزيارة بالمواعيد .
ـ لقد تغير الأمر . . كل شيء بالمواعيد.
ـ قلت لك افتح . . أحسن.
ـ لماذا . . المواعيد مكتوبة أمامك .
ـ أنا لم يقفل في وجهي باب مهما كان أصحابه.
ـ وأنا لم أفتح الباب مهما كان القادم.
ـ سأتسبب في قطع عيشك.
ـ كان زمان.
ـ يا سيد حافظ على كلامك .
ـ يا سيدي أنا عندي أمر . . شوف اللافتة . .
ـ أريد أن أسال عن موضوع يخصني . . لست قادماً للنوم هنا . .
ـ ولو . . تعال في موعد المراجعة . . لا أحد يقف في طريقك . .
ـ لم تلده أمه الذي يريد أن يقف في طريقي . .
ـ يا بوزيد . . شوف اللافتة . .
ـ يا عبد . . افتح الباب . .
ـ مستحيل كيفك كيف الجماعة المنتظرة . . أهو مكتب الرئيس . .
ـ حسناً . . سأدخل غصباً عن سواد لونك . .
ـ أنا عبد الأوامر . . تفضل . .
واتجه الشاب نحو المكتب المحاذي للبواب . . ومرت لحظات . . سرت حركة بين الواقفين . . بعضهم يؤيد تصرف الشاب . . وبعضهم يعطف على كلمات الحارس . . أن الأوامر صدرت له هكذا . . فماذا في يده . . وأخذ الحديث يتشعب بينهم يأتون بالشرق والغرب .. يحللون الكلمات والأوامر . . يصنفون الصواب والخطأ . . وبينما هم كذلك . . صفق الشاب باب الرئيس خلفه . . كانت حركته هذه مصحوبة بنظرة شامتة تدل على انتصاره . . فقد تقدم نحو البواب ورمى في وجهه بالورقة التي تسمح له بالدخول . . وأخذت يد البواب المفتاح وعينه تخترق الشاب . . وتخترق الواقفين . . وبدأت همهمة مصحوبة بكلمات الغضب .
ـ ألم أقل لك لم يقف باب في وجهي . .
ـ أنا لست باب . .
ـ أعرف .. أنت باب من لحم . .
ودخل الشاب عندما انفتح الباب تماماً . . فيما أخذ البواب يتحسس ظهر الكرسي . . ثم ترك المكان ودخل رأساً إلى مكتب الرئيس وبشيء من الغضب غير المعتاد رفع صوته بتحدٍ واضح :
ـ أريد نقلي حالاً . .
ـ ممنوع . . ابق مكانك حتى لا يتسلل الواقفون . .
ـ لا أستطيع . . ولكن إذا رفضت نقلي اعتبرني مفصولاً . . حتى بدون كتابة استقالتي .
ـ وأنت كذلك . . المصلحة مملوءة بالبوابين .. ماذا تعتقد .
وخرج الرجل من الباب وقد صفقه بقوة وأخذ يسير وسط الممر الطويل متجهاً نحو الباب الخارجي . . فالميدان .. فالشارع العامر بالحركة . . أثناء ذلك كان الشاب يقف بالقرب من نافذة صديقه الموظف قاطعاً عليه لذة تصفح الجريدة اليومية وهو ما يزال يزهو بالفوز . .
ـ هات سيجارة . . أنتم مكاتب واللا معتقلات . . لقد طلع ديني من أجل هذه السيجارة . . وكدت اضرب السجان الواقف بالباب . . ولكني تذكرت بأنه لا يستحق أكثر من ورقة يبصمها رئيسكم وأرميها على مناخيره السوداء .
جريدة الحقيقة (بنغازي) - 25 يوليو 1970 العدد 1487
كان أحدهم يحاول شرح ظروفه لحارس الباب الذي كان يستقبل كلمات محدثه بإذن طرشاء وأخرى لا تريد السماع . . كان الحارس بحكم المدة التي مكثها في هذا المكان قد فهم كل الأعذار التي يتداولها المراجعون . . فهم عادة مشغولون . . ومستعجلون .. ولهم أولاد في المستشفى . . وزوجات في حالة خطر . . ولهم أقارب ماتوا . . ولديهم الإذن في عشر دقائق فقط من رؤسائهم . . كل هذه التبريرات وغيرها للسماح لهم بالدخول . . اقتنع بأن ثلاثة أرباعها مختلق . . ومن كثرة ما تعود الناس من نسـج الأعـذار أخذ كل واحد يتفنن في صنع الجديد المقبول . . الأمر الذي جعل القليل الصحيح منها يغرق في بحر الكثير المفتعل . .
والحارس لم تغادر ذهنه ولم ينس بعد رسالة الخصم التي جاءته من رئيس القسم عندما تعاطف مع أحد المراجعين ، حيث اتضح بأن الثاني جاء ليضرب موظف لأنه نسى إدراج اسمه في كشف المشتركين في مسابقة ما . . وهو لم ينس محاضر التحقيق التي تسلل إليها عبرها ، الاتهام بأنه ربما كان متعاوناً مع الجاني .. وحاول أن يبرر تصرفه بأنه قبل عذر الرجل المختلق . . ولكن من
يسمع كلمات فراش ! . . ولهذا أخذ لا يرد على كلمات المراجعين واستفساراتهم . . كان يشير فقط بإصبعه نحو الكلمات المكتوبة بخط كبير . . " ممنوع الزيارة " المراجعة بعد الساعة الثانية عشرة والنصف . . ولم يكن يهتم بكلمات السخط وكان يكتفي بالإشارة بإصبعه إلى أعلى . . وكانوا يردون عليه . . نحن نعرف القراءة لسنا عمياً . . أي فوضى هذه . . أنت فراش أم سجان . . هذه مكاتب وإلاّ معتقلات . . هذه سجون وليست دوائر لخدمة الناس أصحاب المصلحة . .
كان الحارس يعرف بأن إقناعهم لا ينفع . . فهم يرون دائماً بأنهم على صواب وأن مراجعة موظف لمدة ثلاثة دقائق لن تضيع وقته إذا ما توفرت رغبة العمل الحقيقية . . كان ذلك هو تفسيرهم . . وكان تفسيره بأن الثلاث دقائق لا يمكن أن تكفي لأي أحد من هذه المدينة لإلقاء كلمات الترحيب والاستفسار عن الأهل والأقارب وسهرة التلفاز . . وبعد ذلك الدخول في الموضوع .
ولكن حارس الباب كان دائماً عندما تهدأ الحركة يقوم بمحاسبة نفسه . . إنه يكره أن يمارس طيلة اليوم عملية الكذب هذه . . لأنه يقوم بممارسة عملية سجن بدون مبرر . . ولكن ماذا يفعل إذا كانت هذه ( أوامر ) . . إنه لا يريد أن يعرض ظهره لرسائل الخصم .. فليحترق الجميع . . كان يعرف بأن الموظفين الذين يقوم بحراستهم من الخارج يحتمون بالتعليمات الملصقة في الباب . . يقضون الصنف الأول من النهار في قراءة الجرائد . . ثم تناول السندوتشات . . ثم القيام بلعبة الحظ على من يدفع ثمن المشروبات . . ويتحلقون حول إحدى المناضد على رائحة القهوة يتناولون أحداث العالم بالتفسير . . ثم ينحدرون إلى مسرحية السهرة التي عرضت بعد منتصف الليل مظهرين براعة غريبة في النقد المسرحي . . ثم يتقلصون بالحديث حتى يصلوا تواريخ تعيينهم وتواريخ استحقاقهم للترقية وفجأة يهربون بالحديث حتى عن آخر ساعة وأخر نكتة عن فتيات المدينة .
كان المارد الذي يحرس الباب يعرف كل ذلك . . وأكثر . . وكان يحس بأنه يقوم بتمثيل الحامي لهذا المسخ . . وبأنه السد الواقف أمام مصالح المراجعين . . ولكن ماذا يفعل . . إنه لا يملك إصلاح أمور الناس . . ألم يقل له ذات يوم أحد جيرانه الطيبين عندما شعر بالتعب وسأل جاره المشورة، لقد قال له الرجل بأن الناس في هذه المدينة تغيرت طباعها .
ويحس الرجل بأن يده قد نزفت من العرق ما يكفي . . ولقد تعبت يده وهو يدير المفتاح للداخلين والخارجين من المشتغلين داخل " المعتقل " كما يسميه المترددون . . كان يحس بالخجل لأن ظروف عمله جعلته يعيش هذه التجربة . . ولكنه يعود لحكمة جاره فيجد فيها تفسيراً لكل ما يدور حوله .
كان الشاب القادم عبر الممر ممن يترددون باستمرار . . وإن كان يأتي بعد منتصف النهار عكس هذه المرة . وجاء الشاب مباشرة فأمسك بمقبض الباب يريد الدخول فأشار إليه البواب نحو اللافتة المعلقة . . نظر فيها الشاب ملياً . . بينما يده كانت ما تزال تلعب بمقبض الباب في محاولة لعتله . .
ـ يا رجل . . قلت لك اقرأ المواعيد .
ـ إيه . . منذ متى تحددون الزيارة بالمواعيد .
ـ لقد تغير الأمر . . كل شيء بالمواعيد.
ـ قلت لك افتح . . أحسن.
ـ لماذا . . المواعيد مكتوبة أمامك .
ـ أنا لم يقفل في وجهي باب مهما كان أصحابه.
ـ وأنا لم أفتح الباب مهما كان القادم.
ـ سأتسبب في قطع عيشك.
ـ كان زمان.
ـ يا سيد حافظ على كلامك .
ـ يا سيدي أنا عندي أمر . . شوف اللافتة . .
ـ أريد أن أسال عن موضوع يخصني . . لست قادماً للنوم هنا . .
ـ ولو . . تعال في موعد المراجعة . . لا أحد يقف في طريقك . .
ـ لم تلده أمه الذي يريد أن يقف في طريقي . .
ـ يا بوزيد . . شوف اللافتة . .
ـ يا عبد . . افتح الباب . .
ـ مستحيل كيفك كيف الجماعة المنتظرة . . أهو مكتب الرئيس . .
ـ حسناً . . سأدخل غصباً عن سواد لونك . .
ـ أنا عبد الأوامر . . تفضل . .
واتجه الشاب نحو المكتب المحاذي للبواب . . ومرت لحظات . . سرت حركة بين الواقفين . . بعضهم يؤيد تصرف الشاب . . وبعضهم يعطف على كلمات الحارس . . أن الأوامر صدرت له هكذا . . فماذا في يده . . وأخذ الحديث يتشعب بينهم يأتون بالشرق والغرب .. يحللون الكلمات والأوامر . . يصنفون الصواب والخطأ . . وبينما هم كذلك . . صفق الشاب باب الرئيس خلفه . . كانت حركته هذه مصحوبة بنظرة شامتة تدل على انتصاره . . فقد تقدم نحو البواب ورمى في وجهه بالورقة التي تسمح له بالدخول . . وأخذت يد البواب المفتاح وعينه تخترق الشاب . . وتخترق الواقفين . . وبدأت همهمة مصحوبة بكلمات الغضب .
ـ ألم أقل لك لم يقف باب في وجهي . .
ـ أنا لست باب . .
ـ أعرف .. أنت باب من لحم . .
ودخل الشاب عندما انفتح الباب تماماً . . فيما أخذ البواب يتحسس ظهر الكرسي . . ثم ترك المكان ودخل رأساً إلى مكتب الرئيس وبشيء من الغضب غير المعتاد رفع صوته بتحدٍ واضح :
ـ أريد نقلي حالاً . .
ـ ممنوع . . ابق مكانك حتى لا يتسلل الواقفون . .
ـ لا أستطيع . . ولكن إذا رفضت نقلي اعتبرني مفصولاً . . حتى بدون كتابة استقالتي .
ـ وأنت كذلك . . المصلحة مملوءة بالبوابين .. ماذا تعتقد .
وخرج الرجل من الباب وقد صفقه بقوة وأخذ يسير وسط الممر الطويل متجهاً نحو الباب الخارجي . . فالميدان .. فالشارع العامر بالحركة . . أثناء ذلك كان الشاب يقف بالقرب من نافذة صديقه الموظف قاطعاً عليه لذة تصفح الجريدة اليومية وهو ما يزال يزهو بالفوز . .
ـ هات سيجارة . . أنتم مكاتب واللا معتقلات . . لقد طلع ديني من أجل هذه السيجارة . . وكدت اضرب السجان الواقف بالباب . . ولكني تذكرت بأنه لا يستحق أكثر من ورقة يبصمها رئيسكم وأرميها على مناخيره السوداء .
جريدة الحقيقة (بنغازي) - 25 يوليو 1970 العدد 1487