كان نهاراً مُشمساً، يبعث على البهجة، ونسمات شتوية تداعب الأشجار التى تحُف الطريق إلى مصنع أبوزعبل للحديد، وبداخله فى ذلك اليوم (12 فبراير 1970) كانت تمتزج صيحات العمال الحماسية بصوت ارتطام المعدن، وفجأة عمَ الفزع المكان، فالغارة الإسرائيلية التى استهدفت المصنع حولته إلى كتلة لهب، وتناثرت الجُثث فى الهواء وذابت فوق أطنان الحديد. يومها شق الغضب صدر «صابر زرد»، العامل فى شركة «أبوزعبل للكيماويات» المجاورة لمصنع الحديد، الذى تتقد روحه بموهبة الشعر، فأطلق قصيدته «كلام عمال»، لتكون خطوة أولى فى مسيرة واحد من أجرأ شعراء ومناضلى السبعينات. وتمر الأيام، لتضيق «أبوزعبل» بالشاعر بعد عزله من وظيفته عقاباً على آرائه السياسية، فيقرر أن ينجو بموهبته ويلتحم بالحركة الطلابية، حيث الرفاق فى اليسار و«انتفاضة الجامعات» التى صنعت نجوميته، ليلمع اسمه بجوار «أحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود وسمير عبدالباقى» وآخرين، ومع ذيوع شهرته وجرأة قصائده الثورية والاحتجاجية واجهت تجربته مطاردة وحصاراً، أطفأ ضوءها، وخنق صوتها وزج به إلى السجون، ما اضطره لإبعاد الشِعر عن دائرة الاستهداف، فأوقف تجربته بيده واعتزل الشِعر تدريجياً، طامحاً للحرية وعازفاً عن الشُهرة، واستعاد تحذيراً صادفه فى بداية مشواره، مُفادُه أن الشعر الثورى سينتهى به إلى «الجنون أو المعتقل أو الاحتواء الرسمى البغيض»، ثم اتجه إلى التجارة ليبدأ حياة جديدة، لكنه لم يغب عن عيون السُلطة وعاش حياته مُطارداً كشاعر ومناضل وسجين مُحتمل.
اليوم، فى الذكرى الـ77 لميلاده، وبعد مرور 3 سنوات على رحيله، تبقى تجربة «زرد» جديرة بالتأمل، فما زالت تتطاير مقاطع من قصائده على مواقع التواصل، ينشرها محبوه ورفاقه مصحوبة بتدوينات عن مناسبات أُلقيت فيها وذكريات معارك نضالية، وأمام هذا الحكى العشوائى المتناثر عن تجربة «غير مرصودة» وعن قصائد «بِكر» رأينا أنه من الإنصاف التوقف لنجمع خيوط الحكاية. وطوال الطريق تفجرت التساؤلات وتوالت: لماذا تجنّب صاحب هذه التجربة الثرية أهم ما كان يميزها وهو الشِعر؟ ولماذا لم يُكمل الطريق لنهايته واختار الابتعاد فى منتصفه؟ وهل التعفف عن الشُهرة نُبل مُفرط أم خطأ فى التقدير؟، والسؤال الأهم: هل الشاعر على صواب حين يُخفى سلاحه خوفاً عليه ويكمل مشواره بدونه؟ لا مجال هُنا للإجابة بـ«نعم أو لا»، لأنها محكومة بظروف التجربة وتحدياتها ومُعطيات عصرها، ودون مراعاة ذلك يصعُب الوصول إلى إجابة صحيحة.
وفى محاولة قراءة هذه التجربة الإنسانية والشعرية تبرز إشارات غير خافية إلى انتكاسة كبرى لليسار، الذى كان الشاعر أحد رموزه والمُعبرين عن نضاله، انتكاسة بدأت فى الثمانينات فى أعقاب «عقد ذهبى» طوال السبعينات، قدم فيه نفس التيار بطولات وتضحيات لا يُمكن إنكارها. ما الذى جرى إذاً لينفرط عقده ويتسرب مبدعوه ولا يمكنه الحفاظ على تجربة شاعر ثورى مثل «زرد»، بل ويتماهى مع رغبته فى الانسحاب دون ردِه عنها أو حتى مراجعته فيها؟! وإذا كان بديهياً أن ترى السُلطة المُعادية للإبداع أمانها فى محاصرته ومطاردة المُبدعين، فإن ذلك يفرض التمسك بالمقاومة إلى أقصى حد.
جانب آخر من الإشكالية، يتعلق بالنموذج المتعدد لـ«الشاعر المسيّس» فى تاريخ الحركة الثقافية المصرية والعربية. وتبدو خصوصية تجربة «زرد» فى أن الشِعر هو الذى قاده للاشتغال الجاد بالسياسة، لدرجة تصور معها أن شِعره مُهدد، فقرر حجبَه عن النشر، ربما فكّر فى المناورة التى كانت خياراً مُتاحاً لجأ له كثيرون غيره، لكنه لم يفعل، ومن الواضح أنه مال لتجنب الصدام، رغم أن الصدام لم يُخطئه طيلة 20 عاماً قبل الاعتزال و20 عاماً بعده، وفى النهاية ارتأى أن «النضال بلا شِعر» خير من «حياة بلا شِعر ولا نضال».
«كفر طحا» و«أبوزعبل».. البداية فى القرية والمصنع
فى قرية «كفر طحا» وُلد الشاعر لأب يعمل جزاراً وأم «ربة منزل» فى (10 ديسمبر 42)، فكان أكبر إخوته «3 أولاد و4 بنات»، وفى مركز «شبين القناطر» درس الفتى «صابر» حتى الثانوية العامة، ثم واصل تعليمه بالمعهد الفنى الكيماوى فى القاهرة، وسرعان ما حصل على وظيفة مرموقة بشركة «أبوزعبل للكيماويات»، وانتُخب عضواً بمجلس إدارتها ولجنتها النقابية مُمثلاً للعمال الذين توسموا فيه قدرته على حماية حقوقهم.
ظهر عفريت الشِعر فى «الإعدادية» عندما كتب «جواب حب» لفتاة فاكتشف أنه شِعر، ثم أغوته الكتابة فأنشأ أبياتاً فى المديح النبوى، وأثناء دراسته بالمعهد الفنى، وتزايد قراءاته ظهرت ميوله للاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ومع بدء انشغاله بالسياسة تطورت «الخربشات» البدائية إلى قصائد متماسكة، ولاقت إعجاب طلبة المعهد والعمال فى «أبوزعبل» وفلاحى القرية، وكلما اتسع الإعجاب به زاد تعلقه بـ«حِبال الشِعر»، لكن هذه التجربة الوليدة اصطدمت مبكراً بعارضين كان لهما أثر كبير «نكسة 67 وفصله من وظيفته».
لم تكن النكسة مجرد ضربة عسكرية موجعة بنظر عمال «أبوزعبل» وغيرهم فى مئات المصانع التى أنشأتها «ثورة 23 يوليو»، فقد شعروا بأنها استهدفت بيوتهم قبل أن تقصف طائراتنا فى المطارات، وطالت رؤوسهم التى رُفعت بعد أن «مضى عهد الاستعباد». ورغم الآلام خرجت الجماهير ترفض تنحى «عبدالناصر»، وبعد عام خرجت غاضبة من التهاون فى محاسبة المسئولين عن النكسة، ولم يكن الشاعر قد تجاوز 26 عاماً عندما عايش مظاهرات 68 وما تبعها من فصل قيادات عمالية كثيرة، لكن موعد فصله هو لم يحن بعد.
طوال سنوات الاستنزاف لم تهتز ثقة «صابر» فى تجاوز النكسة، وعندما دكت صواريخ العدو مصنع «أبوزعبل للحديد» وأسقطت 70 شهيداً أفسح الغضبُ مكانه للمقاومة، وزرعت الغارة الإسرائيلية فى نفوس العمال رغبة فى الثأر لن تتحقق إلا بنصر كبير. كان المصريون يرون ذلك النصر قريباً، لا سيما مع توالى بطولات الاستنزاف التى رد عليها العدو عام (70) باستهداف العمق المصرى بغارات جوية لإجبار «عبدالناصر» على التفاوض، لكنه لم يتراجع واتفق مع السوفييت على المشاركة فى حماية الأجواء المصرية وأكمل بناء «حائط الصواريخ»، فكانت المحصلة «تساقط الفانتوم» وشلّ طيران العدو.
إلى «أبوزعبل» الصامدة الحزينة، سافر وفد من الأدباء والفنانين يحملون الورود وكلمات رقيقة للتضامن مع الأهالى فى حفل تأبين شهداء الغارة، الذى أُقيم بتوجيه من «عبدالناصر».. «يد تبنى ويد تحمل السلاح»، وبوسع صاحبها أيضاً أن يُضمّد الجراح.
يومها وقف «زرد» يُلقى شِعره أمام الشعراء «محمود حسن إسماعيل» و«صلاح عبدالصبور» و«صالح جودت» والوزيرة «حكمت أبوزيد» والروائيين «يوسف السباعى» و«إبراهيم الوردانى»، الذى تأثر بما رآه وسمعه، فكتب مقالاً فى «الجمهورية» جاء فيه: «جلسة لن أنساها.. فقد قام من بين العمال شاب قصير عريض يدفع نفسه نحو الميكروفون، وكأنه صخرة تتدحرج، ويالها من ربع ساعة مثيرة، أقنعنا بها العامل الشاب فى شعره الشعبى المنثور، أن مواهب مصر الأدبية مثل بترولها، لم تُكتشف بعد»، ثم رشّح الروائى المعروف العامل الشاب لـ«السباعى»، ليكون أحد العشرة الأوائل فى جمعية ثقافية كبرى قيد التأسيس.
ماذا قال الشاعر ليحتفى به «الوردانى» على هذا النحو؟ قال «كلام عمال»:
«كلام عُمال حى زى ضمير الفاس
كلام عمال باسم كل الناس
بنقول بصراحة
كدّاب من قال: كل الأبواب مسدودة
وجبان من قال: أمريكا كبيرة مش ممكن أبداً نناطحها.. وبكل الرُوس
وعميل من قال: مفاتيح الأزمة فى البيت الأبيض
مش ممكن هابقى معدِّية واللعبة تعدِّى
ولا يمكن هارضى بالحل اليانكى
ده كلام عُمال من تانى للصهاينة والكلاب الأمريكانى..
طَيَّروا ألفين ميراج وسكاى وفانتوم
مش هاوافق ع الهزيمة ومش هاسلِم».
وعلى دوى تصفيق العمال وأهالى الشهداء إعجاباً بالقصيدة، احتضن الشاعر «محمود إسماعيل» العامل الشاب، وقال له «أنت شاعر حقيقى واعذرنى لأنى مكنتش متحمس لسماع شِعرك، لكن دلوقتى مستعد أسمعك للصبح»، وكان لافتاً أنه بعد 5 سنوات فقط من هذا الاحتفاء، سُجن «الشاعر» الذى رشحه «الوردانى» للجمعية الثقافية، وسُجن معه مجموعة يساريين اتهمهم «السباعى» نفسه بـ«تأسيس تنظيم سرى».
ماذا جرى للشاعر فى هذه السنوات السبع السِمان بالأحداث (70-77)؟
كانت «كلام عمال» حماسية بما يكفى لتحولها إلى منشور سياسى، تداولها العمال ونشرها الطلبة فى مجلات الحائط وأُلقيت فى ندوات الاتحاد الاشتراكى، وجر الإعجاب بها سلسلة متاعب بدأت بفصل الشاعر من وظيفته ومطاردته من الأمن ومن قيادات بالمجال الثقافى.
ولم تكن محاصرة البدايات مفاجئة للشاعر، بل اعتبرها صدى لتلك «النبوءة» التى كاشَفهُ بها الشاعر الكبير «نجيب سرور» حين التقيا عام (68)، يومها حذره من الملاحقة ومحاولات الإخضاع، ونصحه بالابتعاد عن الشعر وتجنب نشره مع الاحتفاظ بالقصائد، حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً.
كانت أكثر طرق الإخضاع المفضوحة آنذاك هى الزج بمطرب أو مطربة للظهور فجأة فى حياة «المبدع المشاغب» وإغراءه بغناء قصائده للإيقاع به فى براثن السُلطة، فيكون قابلاً للتحول وكتابة ما يُملى عليه، شىء من هذا القبيل تعرض له الشاعر.
المحامى «خالد زرد» الشقيق الأصغر لـ«صابر» ومستودع أسراره وأكثر المتأثرين به روحياً ونفسياً، يؤكد أن شقيقه روى له تفاصيل ذلك اللقاء الفارق بـ«نجيب سرور»: «بعد أن استمع لقصائدى قال لى: أنت شاعر (ابن دين...) ولازم تبطل، لأن مصيرك هيكون السجن أو الجنون أو الاحتواء علشان يستخدموك لتصفية الحسابات وتلميع المحاسيب، وأنت بوضعك الحالى هتتفصل من شغلك عاجلاً أو آجلاً». كان هذا نص «التحذير»، أما «النصيحة»: «اوعى يا ابنى تاخد الشعر مهنة، دور لك على مصدر رزق حُر مالوش علاقة بالشعر حتى لو دكان بقالة، لكن خد بالك من موهبتك، وما تبطلش واحفظ اللى بتكتبه، ولما تموت المُهتم بالأدب وبتراثك هيبحث عنه ويقدّره».
كان «الفصل من الوظيفة» أول ما تحقق من نبوءة «سرور»..
خضع الشاعر لمراقبة دقيقة، منذ اعتراضه على «طبخ القرارات» بشركته وطالب باتباع «الاقتراع السرى» فى اتخاذ القرارات، وكان ذلك أول صدام مع مجلس الإدارة، أما الواقعة التى أطاحت به فيقول عنها «خالد زرد»: «رفض تنفيذ أوامر بإنتاج قنابل مُسيلة للدموع، فتقرر انتدابه لمعهد الحرب الكيماوية لإبعاده عن القاعدة العمالية المؤيدة لرأيه»، ويضيف: «المحاميان نبيل الهلالى وزكى مراد نصحاه بعدم تنفيذ الانتداب لتفادى اتهامه بـ(تسريب معلومات عسكرية)، فتقرر فصله نهائياً أوائل 71».
طوال شهور الأزمة، رأى «مُمثل العمال فى مجلس الإدارة والنقابة» أنه من المخجل أن يُشارك رجال شركته فى صناعة «مُسيل الدموع»، بينما رفاقهم فى المصنع المجاور يفخرون بإنتاجهم أطنان «الديناميت» لمشروع السد العالى! وزاد إصراره على موقفه، وخاطب كافة الجهات طلباً للعودة دون جدوى، وأخيراً لجأ للقضاء فحكم بصحة فصله وعدم أحقيته فى العودة للعمل أو التعويض أو المعاش لرفضه الانتداب.
طوى «صابر» صفحة الوظيفة، ورغم أهمية التحاقه بعمل جديد لم يكُن ذلك مُلحاً عليه بشكل كبير، مُعتمداً فى البداية على حصيلة دخله الكبير من الشركة، فراتبه بلغ 48 جنيهاً شهرياً، فى وقت كان قيراط الأرض يُباع بـ15 جنيهاً، ثم اعتمد كُلياً على دعم والديه لابنهما الكبير، واثقين فى رجاحة عقله وصدق مساعيه. وفى هذه المرحلة من (التعطل المؤقت) وهب الشاعر شبابه للنضال، وأغناه حُبه للشِعر عن أى متعة أخرى:
«الشِعر كلمة طرفها منقوش
أصفر بلون القمح وشعور البنات
ولون الرمل وسوار الدهب
أحمر بلون خَدّ الجميل
وأحمر بلون الورود
الشِعر غنوة
أصلها موجود.. فى الحزن والبسمات»
ماذا يحدث فى «القاهرة 70»؟
فى العاصمة، الجامعات ساحات للحرية انتزعها الطلاب بنضالهم، والمصانع لا يتوقف هدير ماكيناتها ولا يتأخر غضب عُمالها، وتجمعات المثقفين لا تكف عن الثرثرة والإبداع، وهنا أيضاً السجون بظلامها وأسوارها، وقد قُيدت فيها حرية الشاعر عدة مرات.
لملمت مصر أحزانها بعد رحيل «عبدالناصر» فى (28 سبتمبر 70)، وبتعبير الشاعر «إن كان القائد مات.. لسه الأم الولادة ما متتش». وقبل أن ينتهى العام الأول لحُكم «السادات» دخل فى مواجهات عنيفة مع الطلبة والعمال، وعلى المستوى العام كان الدرس الذى استوعبته السُلطة الناصرية، بإدراكها عدم جدوى العنف فى مواجهة الغضب الشعبى بعد النكسة، خفّف قبضتها على الحراك السياسى، فانتعش اليسار والتحم بالطلبة والعمال، وقت كانت مصر مُعبأة لمعركة التحرير فى سنوات الستينات الأخيرة، لكن هذه «الهدنة الهشة» انهارت فى عهد «السادات» واحتدم صراعه مع التنظيمات الجماهيرية، وبرزت فجوة بين مطالبها بـ«تحرير الأرض المُحتلة» وبين تلكؤه فى اتخاذ «قرار الحرب»، وانقضى (71) الذى أسماه «السادات» عام الحسم، دون حسم، وحل (يناير 72) ليطلق الطلبة «انتفاضة الجامعات» التى حولتها لساحات اعتصام تُنادى بتسليح الشعب وإشراكه فى المعركة وبناء اقتصاد حرب وبالديمقراطية. وبتعبير الشاعر المُدوّن فى مُفكرته فإن (72) بالنسبة له كان «عام الصمود والانتصار»، وهو وصف دقيق لحال الجامعات ومصر عموماً آنذاك، وفى نفس العام أطلق أجرأ قصائده «فدائى يختطف الميكروفون»، التى قدمت نقداً لاذعاً لحالة «اللاسلم واللاحرب»:
«معذرةً يا سادة
يا أصحاب سياداتِ وهمية
يا كُل فخامة وجلالة.. وسمو المهراجات العصرية
يا كُل فضيلة ونيافة.. وخرافة فكر غيبية
يا ريشَ نسور وصقور
يا حَمَلة أنواط الواجبِ والشرف المهدور
يا حَمَلة أوشحة النيل ودجلة والعاصى والأردنّ المغدور
يا حَمَلة أوسمة استحقاقِ الذبحِ بميدان التحرير
يا رهط شيوخ قبائلنا العربية
معذرةً.. إن كنتُ تجرأتُ عليكم وصعدتُ أخاطبكم من هذا المنبر
أفضحُكم فى النور
معذرةً.. فالمأساة عظيمة
والجرحُ الغائر فى قلب الأمة لا يحتملُ الصبر
معذرةً يا حضرات الموتى
إن كنت طرقت عليكم باب القبر
دون مخافةٍ من حد السيف
يا موتى فى جثثٍ حية
أفلا تدرون؟!
قد مرَ شتاءُ يتبعُه صيف وشتاءُ يتبعه صيف
والناس قعود لا تقوى من نيِر الخوف
أن تُبدى رأياً أو تجمع صفاً
ومدافعُ حضراتِ السادة خرساء.. لا تنطقُ حتى بالهمس
لا تملك إلا أن تحنى الرأس.. فى نَوبةِ إحباط من نور الشمس»
وعن دوره فى الجامعة، يقول أحد قيادات الحركة الطلابية بالسبعينات «أحمد بهاء الدين شعبان»: «زرد شاعر فحل وطريقة إلقائه للشعر شديدة التأثير، وجسده الممتلئ منحه هيئة مقاتل، وكان دوره يماثل (التمهيد النيرانى) للحرب، وهو استباق الفعاليات الكبرى بإلقاء قصائد ثورية»، ويضيف أن «وعيه بالقضايا الوطنية مكّنه من التعبير عنها ببساطة، فكان المُعبر الرسمى عن نضالنا».
يمكن الوقوف على هذه البساطة الممزوجة بحدة الموقف فى قصيدة «إصرار»:
«لو سكبُوا القارَ الأسود فى حلقى كى أصمُت.. لن أصمُت
وسأكتُب بالقارِ الأسودِ فوق الجدران.. فلتَسقُط يا عرشَ السجّان
لو قطعُوا كفى.. كيلا أكتب لفظة رفضى.. فسأحفر بالخطوة سِفرى فى درب الثورة
لو شدُوا فى الدرب وثاقى.. لو قطعوا ساقى فسأمشى فوق الأهداب وأُكمل دربى
وسأطرق كل الأبواب كى أوقظ روح الشعب.. وأُطلقها جمرة».
وأمام إصرار الشاعر لهذه الدرجة على أن يقول كلمته وعلى المقاومة، كان من الصعب تصور احتمال ابتعاده عن الشعر، فماذا خبأت له الأيام؟
صنَّف الأمن «زرد» كـ«عنصر خطر» لقدرته على حشد الطلبة حوله، وفى ذلك الوقت كانت القصيدة كفيلة بـ«إزعاج السُلطات» وحيازتها «جريمة»، ورأت قوات الأمن فى قصيدة «إصرار» ما يكفى لاتهام عصام الدين البرعى (الطالب بهندسة الإسكندرية) بـ«الإثارة والتحريض على الفوضى» بعد ضبطه فى (ديسمبر 72) وبحوزته مجلة حائط بعنوان «الصرخة» وتتصدرها القصيدة، وفق ما وثّقه المحامى «عادل أمين» فى كتابه «انتفاضة الطلبة المصريين». وتكشف هذه الواقعة إلى أى مدى كانت قصائد الشاعر مُلهمة للطلبة، ومُعبرة عن نضالهم.
إلى ذلك منح التقارب العُمرى بين الشاعر والطلبة فرصة الارتباط الوثيق بهم إنسانياً وفكرياً.. «كنا نتداول قصائده سراً فى الجامعة، نحفظها ولا نحتفظ بها خشية الاعتقال بسببها»، هذا ما تتذكر «وفاء عارف» شقيقة صديقه «كمال عارف» عن أيام دراستها بـ«آداب عين شمس»، وتحاول اليوم رسم صورة للشاعر أثناء إلقائه قصائده قائلة: «كانت تتلبسه حالة حماسية تأسر مُستمعيه، لكن فى الأوقات العادية يبدو هادئاً ورقيقاً». بعد فترة تحول «زرد « إلى أحد أفراد أسرة «كمال» وكان من طقوس زيارته حرص «وفاء» على تدوين قصائده بيدها، كما أقام «صابر» بصُحبة صديقه فى شقة «عُزاب» بـ«كوبرى القبة» فحوّلها إلى تجمع لشلة مثقفين كبيرة.
ولم يكن نشاطه بالجامعة هو السبب الوحيد لجعل الشاعر هدفاً للأمن، فقد أسهمت نشأته الريفية وعمله بالمصنع فى التحامه بالعمال والفلاحين، ثم وجد نفسه فى قلب اندماجين كبيرين شكلا رأس حربة لمعارضة «السادات»، هما «احتضان مثقفى اليسار للطلبة وتفاعل الطلبة مع مطالب العمال»، يؤكد ذلك أنه رغم فصله من عمله لم ينقطع عن «أبوزعبل»، وكان يشارك عمالها فى أمسيات ومهرجانات شعرية، تحت شعار «الفن فى خدمة المعركة»، كما لم ينقطع حضوره مختلف فعاليات اليسار، ومنذ مطلع السبعينات حرص على المشاركة فى الاحتفال بذكرى اغتيال المناضل «صلاح حسين» بـ«كمشيش - منوفية»، وكان بمثابة ملتقى للفلاحين والمثقفين والقوى الثورية، كما كان له حضور بين الفلاحين، ويصف الشاعر «محمود الطويل» صديقه «زرد» بأنه «شاعر (ابن بلد) ومناضل (فتوة)»، ويقول: «كان له جمهور خاص من مُحبى الشِعر الثورى، وحماسه فى الإلقاء وقوة قصائده أغنته عن استخدام الميكروفون».
ومع ارتباط اسمه وقصائده بانتفاضة الجامعات لم تغب تحركات الشاعر عن المراقبة، فقد دخلت مواجهة الطلبة والمعارضة مع «السادات» مرحلة «كسر العظام»، ولاذ فيها الطلبة بالوعى والاحتجاج السلمى، فيما أطلقت السُلطة يد الأمن وأفرجت لاحقاً عن المتطرفين من السجون لمواجهة اليساريين ومن «يرتدون قميص عبدالناصر» بتعبير «السادات».
يناير.. شهر الانتفاضة والاعتقال
فى (يناير 73) حلت الذكرى الأولى لانتفاضة الجامعات، لكن الأمن استبقها فى (ديسمبر 72) بحملة اعتقال لقادة الطلاب والمثقفين الحاضنين لهم، وكان «زرد» ثالث ثلاثة شعراء مع «نجم وفؤاد قاعود» ضمن قائمة من 67 مطلوباً، ووُجهت لهم اتهامات بـ«إثارة الشغب وتأليف أشعار مناهضة للنظام»، لكن الضربة الاستباقية لم تمنع إحياء «الذكرى» والاعتصام احتجاجاً على اعتقال الطلبة الذى لم يطُل، إذ كان «السادات» يُعد لقرار الحرب فى (أكتوبر)، وبعد انتهاء المعارك على الجبهة تكشّف أن ما حققه عزم الرجال وقوة السلاح من بطولات فى مصر وسوريا يكاد يضيع، وفاحت رائحة التنازلات على موائد التفاوض، وبدا أن دماء من «عبروا» باتت سبيلاً لإثراء من «هبروا» ثمار الانفتاح الذى أكل منجزات ثورة يوليو للفقراء. وإمعاناً فى ترسيخ سياساته استدار «السادات» للجبهة الداخلية وزادت جرعات البطش بمُعارضيه.
وفى (يناير 75) طالت حملات الاعتقال السنوية قادة عماليين ومثقفين، عقاباً على تضامنهم مع احتجاجات عمال حلوان المطالبة بتحسين أوضاعهم، وشمل الاعتقال «زرد ونجم وصلاح عيسى وعز الدين نجيب ومحمد كامل القليوبى» وآخرين، ومن التُهم التى واجهوها «دعوتهم لتشكيل اتحاد مُستقل للكُتاب»، حسب شهادة الكاتب «صلاح عيسى»، فى كتابه «مثقفون وعسكر»، فيما يكشف الناقد والفنان التشكيلى «عز الدين نجيب» أن المحقق واجهه بمذكرة قدمها «يوسف السباعى»، وزير الثقافة آنذاك، لمباحث أمن الدولة زعم فيها أن جمعية (كُتاب الغد)، التى كان «نجيب» عضواً بها ومُشهرة منذ 3 سنوات، واجهة لتنظيم سرى للشيوعيين اسمه «اليسار الجديد».
ورغم قسوة الاعتقال فإن الشاعر واجهه بسخرية. ويقول «نجيب» فى كتابه «رسوم الزنزانة» عن «حبسة 75»: «كنا نؤلف أغانى لهجاء الشعراء بأسلوب فكاهى، وأول من أطلقها صابر زرد الذى تميز بخفة ظل ولم نغضب من طرائفه». وبحس فنى رفيع رأى «نجيب» فى وجه «صابر» ما يمكن النفاذ منه إلى جوهره، فرسمه ضمن بورتريهات أبدعها لوجوه رفاقه بالسجن، وبقلم «كوبيا» وعلى ورق «دشت» أظهر الفنان وجه الشاعر بملامح هادئة تختزن أصالة الفلاح وبراءة المناضل وتكسو نظراته شوقاً لغدٍ تتحقق فيه الأحلام.
بعد تجربة الاعتقال الثانية اتسعت مشاركة «زرد» فى أنشطة اليسار، غير آبه بالملاحقة الأمنية، فكان حضوره أساسياً فى فعاليات «الجامعات والنقابات وحزب التجمع وجمعية الصداقة المصرية السوفيتية، وفرقة روزاليوسف الغنائية»، حيث كان اليسار وقتها فى قمة توهجه النضالى، عبر تنظيماته العلنية والسرية وبفضل التحامه بالطلبة والعمال.
وفى (17 و18 يناير 77) أسهم اندلاع «انتفاضة الخبز» فى انتعاشة جديدة لليسار الذى تبنى مطالب الهبّة الجماهيرية المفاجئة، واستبق «السادات» التحقيقات واتهم «اليساريين والناصريين» بـ«تدبير الاحتجاجات لإسقاطه»، وفور استعادته السيطرة على الأوضاع بدأ الانتقام ممن وصفهم بـ«القِلة المُندسّة» ليس ثأراً لما اعتبره جرحاً لكرامته ولا لمنع غضبة تالية فحسب، بل استعداداً لـ«صُلح منفرد مع العدو الصهيونى»، فبعد شهور فى (19 نوفمبر 77) استقبله قادة الاحتلال بالأحضان فى القدس المحتلة. هذا التحول الكبير فى دور مصر وعلاقتها بالعدو ضرب المثقفين بالإحباط، خصوصاً مع استشرافهم الأسوأ وهو تنازلات أكبر توُجِت باتفاقية «كامب ديفيد» عام (78)، وعبّر كثيرون عن غضبهم بالانسحاب من المشهد، لينتهى «عقد ذهبى لليسار» بدأ من (67) وطال حتى (سبتمبر 80) واختُتم بحملة اعتقالات سياسية غير مسبوقة وباغتيال «السادات»، وكان من ثمار ذلك العِقد بروز طبقة من شعراء المقاومة ربطوا إبداعهم بالقضايا الوطنية والقومية، من بينهم «زرد»، قليل منهم أكمل الطريق مثل «نجم» وغيره، وكثيرون انطفأوا بأثر الانسحاب أو الانكسار.
وكادت الرغبة فى الانسحاب تتسرب لوجدان الشاعر، لكن صلابة العامل وأصالة الفلاح بداخله حالتا دون عزوفه عن النضال السياسى، حيث كان جزءاً من «حُبه للحياة وأداء الواجب» بتعبير الدكتور «محمد المخزنجى»، الذى لمس ذلك المعنى فى شخصية «صابر» عندما ترافقا لأسابيع فى سجن القناطر (أواخر 72)، ويقول الكاتب والأديب الكبير الذى كان طالباً فى كلية (طب المنصورة) آنذاك: «دوافعه السياسية لم تكن البحث عن الزعامة مثل كثيرين، بل إيمانه العميق بالعدالة الاجتماعية ومحاولة تحقيقها»، ويلخص «المخزنجى» ذكرياته عن الشاعر التى تعود إلى 47 عاماً بالقول: «لسه فاكر صابر الإنسان، لأنه من الناس اللى ما تتنسيش.. كان أطيب من صادفت فى تلك الحبسة».
فى الظل.. يبتعد الشعر وتكتمل النبوءة
فى نهاية السبعينات ارتضى الشاعر الاكتفاء بتأليف الشعر واستعادته من الذاكرة ثم حفظه مكتوباً دون أن يراه أحد أو يعرف مصيره، وكان ذلك المسلك أشبه باستجابة صريحة لنصيحة «نجيب سرور» له قبل 12 عاماً، ومن المؤكد أنه عانى نفسياً من قراره بطى صفحة الشِعر، إذ لم يكن الانتقال من التوهج إلى التقوقع سهلاً، لكنه أخفى آلامه راضياً مُطمئناً إلى أنه على الطريق الصحيح. وربما يؤكد ذلك «خاطرة» مُسجلة بأوراقه الخاصة، نصُها «لست خجلاناً أنا.. منذ البداية للنهاية».
وبتتبع خطى الشاعر فى السبعينات يتضح اقتناعه بتحذير «سرور»، لكن حماس الشباب منعه من إدراك خطورته فى البداية، فمضى فى طريق الشعر الثورى يؤلفه ويُلقيه، ومن المؤكد أن النية كانت متوافرة لديه للنشر، وعندما تحققت «النبوءة» وزادت شراسة الملاحقة والحصار، لم يكابر فى مراجعة نفسه وتوقف كشاعر فى منتصف الطريق، وكان الاستثناء الوحيد لذلك هو إلقاء بعض القصائد فى الفعاليات السياسية.
ويعلّق اليسارى المعروف «سيد كراوية»، الذى ربطته علاقة قوية بـ«زرد»، على تحذير «سرور» القاسى، قائلاً: «كلام نجيب كان رسالة مهمة من قلب المجال الأدبى التصادمى الذى اختار صابر منهجه، وهو منهج يقوم على أن تنظر للشعر كمهمة ودور، فتضِن به أن يُداس بأقدام البرابرة، وتختار أن تنجو به أو تنجو منه»، ويضيف فى شهادته عن الشاعر عبر «فيس بوك»: «عندما حُوصر ابتعد بنفسه وبتجربته، للمحافظة على براءتها»، وعن جانب من الأثر النفسى للابتعاد عن الشعر، يقول «كمال عارف»، صديق الشاعر، إنه «كان يتكتّم على أثر الإحباط عليه، لكن من يعرفونه لمسوا الآلام التى قاساها فى صمت». هذه الشهادات وغيرها محاولة لتفسير الابتعاد عن الشعر، لكن تبقى أسرار وأسباب أخرى لذلك، يصعب التوصل لها اليوم، لأنها دُفنت مع الشاعر نفسه.
وقد امتد قرار الابتعاد عن الشِعر لحجبه عن النشر، ورفض الشاعر دعوات كثيرة لإصداره فى ديوان حتى وقع ما أخرج الشِعر من القُمقم، ففى عام (78) اعتُقل 6 مناضلين، بينهم «زرد» والنقابى اليسارى «عبدالمنعم كراوية»، من منازلهم، استباقاً لزيارة «السادات» إلى السويس، ويقول شقيقه «خالد» إن الضابط أبلغ «صابر» أنه مطلوب للاحتجاز ليومين فقط لحين انتهاء الزيارة، لكن حبسه طال دون سند قانونى فاتفق المعتقلون فور الإفراج عنهم على التقدم ببلاغات للنائب العام.
يومها حدث استدعاء مباغتُ للشِعر وخلال نصف ساعة كتب الشاعر بلاغه فى شكل قصيدة، ونقل فيها أجواء الضبط والاحتجاز وتعرضه ورفاقه للتعذيب، وكان عنوانها «بلاغ للنائب العام»:
«.. فى جوفِ مدينتنا.. أحد عظام الضباط -مباحث أمن الدولة- قد أصدر أمر استنفار ليلىّ..
وتفقّد مزهواً فى الليل كتائب جُنده
وأعد العُدة ليخوض المعركة الوحشية..
وبعونِ الله تحقق للسيدِ ما رام
وعادت أجنادُ القائد منتصرة
حاملة أسراها وتلال غنائم ست رجال عُزل مع بعض الكتب الموجودة..
فى كل دكاكين الكُتب المصرية.. بل فوق الأرصفة تُباع»
ومع أخواتها، انضمت «بلاغ للنائب العام» لعشرات القصائد المخفية، التى لم يفلت منها سوى ما حفظه الرفاق خلال أُمسيات للشاعر.
«فدائى يختطف الميكروفون، وكاتيوشا، وغنوة للثورة، ومحاولة شاعر العبور، وأغنية للأطفال» وغيرها، قصائد منوعة لـ«زرد» تُظهر انحيازه للشعر الثورى الاحتجاجى، وبخلاف قصائد اشتبكت مع قضايا المرحلة «من 69 إلى 81» لمس فى قصائد أخرى معانى إنسانية عابرة للزمن، ويبرز منها حلمه بحرية الوطن والإنسان الذى عبّر عنه بوضوح فى قصيدته (قراءة فى كتاب النيل):
«أَحلُم يا فجرى وربيعى بالحُبِ المُخلص درباً للغاية
بالحب يُذيب فروق الأديان الألوان الطبقات الناس
أَحلُم يا إيزيس بالحُبِ تراتيل القداس
بالحب صلاة وكتاباً أسمى من كتب اللاهوت وكتب الناسوت جميعاً
أصدقُ من أبحاث العلم وقُراء النجم.. وأغنى من أوناسيس
أَحلُم يا إيزيس
لا أحلم بالرب يسوع وبموسى ومحمد وزيوس وبوذا
أو مانسون رب الهيبيز مسيح القرن العشرين
أَحلُم بالإنسان
بأبى ذر بالفاروق.. بلينين وماو وأرنيستو شى وبلوركا وبريخت وبوشكين وهوشى مِنَّه
أحلم بأولاء جميعاً ينصهرون..
فى بوتقة الأيام يصيرون
خبزاً ومسيحاً ليضمد جرح الإنسان»
حاول «خالد زرد» مرتين اختراق «حظر النشر» الذى فرضه شقيقه على نفسه؛ الأولى عام (86) حين التقى «سمير سرحان»، رئيس هيئة الكتاب، الذى كان يُقدّر الشاعر وطلب قصائده لنشرها، لكن «صابر» أبلغ شقيقه أنه فقدها فى الملاحقات الأمنية، على خلاف الحقيقة. أما المرة الثانية فكانت بعد عامين، عندما التقى «خالد» بـ«أحمد فؤاد نجم» الذى ربطته صداقة قوية بالشاعر وتمنى له «الاستمرار على الطريق الطويل الشاق» وفق ما سجله «نجم» على ظهر صورة تجمعه بالشاعر.
وقد ضحك «الفاجومى» عندما علم برد «صابر» على عرض «سمير سرحان»، وعلق قائلاً: «بيضحك عليكم»، وكانت المفاجأة أن «نجم» دلّ شقيق الشاعر على «مخبأ القصائد» وقال له: «هو مدارى القصائد بسبب الكلام اللى نجيب سرور قاله له زمان، إنما هى موجودة فى 6 أجندات داخل دولاب فى مندرة بيتكم بكفر طحا»، وبالفعل وجد «خالد» الأجندات فى (مندرة البيت القديم) التى كان «نجم» و«الشيخ إمام» يجلسان فيها عند زيارتهما للشاعر، لكن عندما أحضر «خالد» الأجندات لشقيقه وعرض عليه النشر مجدداً، صادرها وكرر رفضه، وقال له بحسم: «مش هنشر طول ما أنا عايش، ولما أموت اعملوا فيها اللى انتوا عاوزينه».
مرت سنوات وحصل «أحمد»، الابن الأكبر للشاعر، على عدة قصائد من «الأجندات» وجمعها خلسة فى كُتيب، ثم فاجأ والده بإهدائها له فى ذكرى ميلاده، ورغم صرامته فى حجب شعره عن النشر لم يدارِ فرحته باحتفاء أبنائه به كشاعر، واستجاب لرغبتهم فى تسجيل قصائده بصوته. وبترحاب كبير أمدتنا أسرته بكثير من تلك القصائد (فُصحى وعامية، مُدونّة بخطه ومُسجّلة بصوته).
ويقول الشاعر «محمود الطويل»: «كنت كثير الإلحاح عليه فى نشر قصائده، دون جدوى»، وفى تفسيره لابتعاد «زرد» عن الشِعر يوضح «الطويل»، الذى يحتفظ بقصائد مُسجلة له، أنه غير مقتنع بتوقفه عن الشعر، ويضيف: «قد يطول الابتعاد بين قصيدة وأخرى، لكن مداد الكتابة لا ينقطع عن الشاعر، حتى لو تهرب منه».
فى السويس.. حياة جديدة بلا شِعر
ترافق ابتعاد «زرد» عن الشِعر فى نهاية السبعينات مع استقراره بالسويس وبدء مشروع تجارى خاص، ومن المُرجح أن نصيحة «نجيب سرور» كانت ماثلة فى ذهنه وهو يخطط لتلك الخطوة.. «الحرية هى الغاية والتجارة هى الوسيلة». ويؤكد رفاق الشاعر أنه رغم ابتعاده عن الشعر فإن نشاطه السياسى فى السويس كان ملحوظاً وعرّضه لملاحقات أمنية، خاصة مع دأبه على المشاركة فى فعاليات حزب «التجمع» وفرقة «أولاد الأرض»، ولا تزال حتى اليوم صورة «خالد محيى الدين» مُعلقة داخل محله بالسويس، فى تقدير يعكس محبة الشاعر للزعيم الوطنى الذى ربطته به علاقة قوية رغم عدم تجاوبه مع دعوات متكررة بالانضمام للتجمع، كما لم ينضم لأحزاب أخرى، رافضاً حصر نشاطه فى تجربة حزبية ضيقة.
هنا تبرز مفارقة لها دلالتها، فبينما حبس الشاعر شعره على الورق حرصاً عليه من وجهة نظره لم يرَ فى النضال السياسى نفس الأزمة، إذ لو كان هدفه تجنُب الملاحقة لاعتزل الشعر والسياسة معاً، وربما يفسر ذلك تصوره أن السُلطة لا تُمانع فى قدر من المشاغبة لمناضل هنا أو هناك، مع فرملته وقت اللزوم بتهم جاهزة، لكنها لا تتهاون إزاء شاعر مؤثر وقادر على غرس الأمل فى الناس، فإذا اعتُقل تعرض للتعذيب والإهانة، وخارج المعتقل يعيش مُحاصراً وطريداً كأن دُنياه سجن كبير، والسُلطة لا تعجزها الحيل لإسكاته. فى هذا المفصل التاريخى وضعت الأقدار الشاعر فاختار ما تصوره سكة السلامة لشِعره.
يعود ارتباط الشاعر بـ«بلد الغريب» إلى مشاركاته السياسية العديدة بها، ثم اختار الإقامة فيها لتكون مجالاً لعمله فى «تجارة البيض» بدعم من المعلم «أبوالحسن زرد»، وهو أحد أقاربه من فرع العائلة بقنا، الذى علم بفصل «ابن عمه» من وظيفته فاقترح عليه «التجارة فى الذهب الأبيض»، قاصداً «البيض»، وفى السويس كان أكثر المقربين للشاعر هو المعلم «يحيى عارف»، اليسارى المعروف فى «خط القناة»، وصاحب محل حلويات ومقهى «نيو سوريا»، مُلتقى الساسة والمثقفين وفرقة «أولاد الأرض»، وكما يقول الصوفية «علامةُ الإذن التيسير» سهّل المعلم «يحيى» أمور التجارة لـ«صابر» واعتمد عليه فى توريد كميات بيض كبيرة لمحل الحلويات، ومنحه محلاً بمنزله وسانده فى مواجهة عقبات كثيرة، سواء فى السوق أو تأثر المشروع بالنشاط السياسى لصاحبه.. هذا ما يتذكره أشقاء الشاعر الذين عايشوا معه بدايات التجارة.
وعن كواليس التحول الذى شهدته مسيرة «زرد» فى منتصف العمر يقول شقيقه «خالد»: «انشغاله بالسياسة لم يُمكّنه من الاهتمام المطلوب بالتجارة فى بدايتها، واكتفى منها بدخل بسيط، ولم تتوقف ملاحقته أمنياً حتى كاد المشروع أن يتعثر»، ويقول الدكتور «بسام زرد»، نجل الشاعر: «أصحاب الفضل فى انطلاق المشروع ودعمه بالجهد والمال فى بدايته، حُباً لوالدى هم: والداه وأشقاؤه جمال وعبدالحكيم وخالد، وأبناء شقيقاته أشرف وياسر ضرغام وعزالدين أحمد سعد وأبناء عمومته أحمد ومحمد» ويوضح أنه بعد وقوف المشروع على قدمين ثابتتين انصرف هؤلاء لشئونهم، ووجد والده نفسَه مسئولاً بمفرده عن التجارة فمنحها وقته واهتمامه وحوّل المحل الصغير إلى مركز توزيع بالجُملة وحصل على توريدات لشركات كبرى.
وفى حياته الجديدة اختار الشاعر السيدة «عواطف»، شقيقة صديقه «عبدالحميد كمال»، النائب البرلمانى الحالى، لتكون شريكة حياته، فقضت معه أجمل وأصعب سنوات العمر، كما كان «صابر» صاحب مكانة خاصة بين أقاربه وأصهاره، ويقول عنه نائب السويس: «كان باراً بأهله وحمولاً لأقصى حد، ونموذجاً للمناضل الملتزم بقضايا وطنه»، وتقول السيدة «ماجدة»، شقيقة زوجته: «لو حكيت عن جدعنته مش هيكفينى العُمر، وبيته كان يسع الجميع».
فى هذه الحياة الأسرية الجديدة والأجواء العملية الجادة، لا أثر للشعر نهائياً.
وهنا اكتملت نبوءة «نجيب سرور» وتمت نصائحه، وربما لو ألزم نفسه بها لتفادى عقبات كثيرة تعرّض لها بسبب شِعره ونضاله، فقد طُورد حتى عُزل من وظيفته وحُوصر حتى مسّه الجنون. وهذا الاحتمال مرهون بافتراض أنه كان مُحقاً فى نصيحته للشاعر بعدم الاستمرار فى طريق الشِعر.
محنة المرض.. آخر المعارك
كان الشاعر وزوجته وابنته (داليا)، التى التحقت بكلية (آداب القاهرة)، آخر المُنتقلين من السويس إلى القليوبية أوائل عام 2000، وما لبث الفرع أن عاد لجذره حتى داهمه المرض، وفشلت «وظائف الكلى» وبات غسيلها مصيرياً. وبجسارة لافتة حوّل «صابر» محنة المرض إلى منحة، ولم يتأثر حضوره ودوام ابتسامته، فواظب على القراءة والعمل قدر الطاقة وأظهر مقاومة شديدة للمرض، ورفض شراء كلية من «متبرع» أو تبرع أحد أبنائه بها لزرعها بجسده، وقال: «ضميرى يمنعنى أتعالج بكلية إنسان مُجبر مادياً على بيعها»، فيما كان نجله «عمرو» مسئولاً عن رعايته، ولا يكاد يفارقه.
انتقال الأسرة إلى «كفر طحا» فور إنهاء الأبناء دراستهم، حقق للشاعر أمنية غالية بالعودة للقرية، وفيها أمضى آخر أيامه بين أقاربه وتابَعَ التجارة مع نجليه «أحمد» و«عمرو» بعد تخرجهما، كما لم ينقطع تواصله مع أصدقائه القدامى.. «هنا كان يقضى أغلب وقته ويتناول علاجه ويلتقى ضيوفه»، يشير أبناؤه الذين التقيناهم فى منزله إلى مكان جلوسه المعتاد بصالة الاستقبال، موضحين أنه لم يخصص لنفسه غرفة مكتب مستقلة، وأنه كان يقرأ الكتب أو الصحف وسط الأسرة أو على سريره بغرفة نومه، وأحياناً كان يُقلب فى قصائده وأوراقه القديمة ثم يُعيدها لمكتبته.. اليوم توجد الكُتب والمفكرات الخاصة به داخل دولاب خاص حفاظاً عليها، فمعظمها يتجاوز عمره 50 عاماً والأغلفة مُتهالكة، وتُظهر عناوين الكُتب التى تركها تعدد الروافد الفكرية التى شكلت وعيه، فإلى جانب إبداعات وكُتب «لينين وماركس وإنجلز وتشيكوف وكافكا» توجد مثلاً «عبقريات العقاد، والحُسين ثائراً وشهيداً، ونهج البلاغة»، ومؤلفات «المسيرى وصلاح عيسى ومحمد سيد أحمد ومحمد المخزنجى»، ودواوين «البياتى ودرويش والماغوط ومظفر النواب وأمل دنقل ونجم والأبنودى».
ويوضح الدكتور «بسام زرد» أن أغلب مناقشاته مع والده أثناء مرضه تعلقت بفهمه الخاص للدين: «كان يُحب سيدنا النبى ويقدر آل بيته والثائرين والمجتهدين فى تاريخ الإسلام، خاصة الإمام على والحُسين وأبى ذر وعُمر بن عبدالعزيز، أما الفاروق عُمر فكان يراه ممن أصابوا فى اجتهادهم دون صدام مع النص»، ويضيف: «كان له ولع خاص بالصوفية وما تشمله من معانى الحب الإلهى، وتعرفت منه لأول مرة على أقطابها وشعرائها الكبار مثل الحلاج وابن عربى».
ويواصل نجل الشاعر: «كان يرى أن الاشتراكية تتماشى مع جوهر الإسلام طالما حققت مصالح الناس وأحسنت إدارة ثروات المجتمع، لكنه لم يكن مؤيداً للترويج للاشتراكية بأنها من الإسلام، حتى لا يدفع ذلك كل فئة لاحتكار الدين لحسابها أثناء ترويج أفكارها».
وتُظهر صورة للشاعر تعتز بها أسرته ابتسامة لم تفارقه حتى وهو خارج من «العناية المركزة» عام 2016، عندما تعرّض لوعكة شديدة تحسنت بعدها حالته لأيام. وفى ليلة لا ينساها نجله «بسام» ظل والده ينتظر عودته للمنزل حتى وقت متأخر: «احتضننى بدفء كأنه يودعنى، وفى الصباح فوجئنا بتدهور صحته فنقلناه للمستشفى وتوقف النبض ولم يفلح الإنعاش القلبى الرئوى فى استعادته، وتوفى بعد دقائق»، ويضيف: «صُدمنا لرحيله لأنه لم يكن أباً تقليدياً، حازماً وعصبياً لكنه كان حنوناً وكريماً، ولم يشعر يوماً بالندم على عدم شهرته كشاعر، بل كان دائم الفخر بأننا نعيش حياة كريمة وسعيدة».
وبعد هذه المسيرة المُمتدة لـ74 عاماً موزعة بالتساوى بين النجومية والظل رحل الشاعر الثائر فى هدوء، ونعاه مُحبوه بشجنٍ واشتياق داعين للتعرف على مسيرته. وبين ذكريات كثيرة لأيام جمعتهم به يكتفى صديقه «كمال عارف» بالقول: «أحسست بعد وفاته أن جزءًا من حياتى وحياة جيلى رحل معه».
«آدى القَضية..
.. ومن بِيتنا لِبابِ السِجن
هـ احكيلَك.. عن الرحلة
بس أمانة تِفَهّمنِى..
نِشِد البَدر مِـ الوَحلَة»
وها هى رحلة «صابر زرد» قد انتهت برحيله، لكن رحلة الوطن مستمرة، و«الحرية» التى ناضل من أجلها باقية، والبدر الذى رآه «فى الوحلة» ما زال غارقاً، بل تراكمت فوقه طبقات من الطين حتى اختفى أثره.
ولم يتبقَّ من الشاعر سوى «شعِره ومسيرته». أما شِعره فجدير بالنشر وبأن يرى النور حتى يُتاح التعرف على تجربته الإبداعية، وأما مسيرته التى باتت حكايتها فى ذمة التاريخ فستظل قابلة للاستدعاء والمراجعة واستلهام المعانى منها على الدوام.
أحمد عاطف
اليوم، فى الذكرى الـ77 لميلاده، وبعد مرور 3 سنوات على رحيله، تبقى تجربة «زرد» جديرة بالتأمل، فما زالت تتطاير مقاطع من قصائده على مواقع التواصل، ينشرها محبوه ورفاقه مصحوبة بتدوينات عن مناسبات أُلقيت فيها وذكريات معارك نضالية، وأمام هذا الحكى العشوائى المتناثر عن تجربة «غير مرصودة» وعن قصائد «بِكر» رأينا أنه من الإنصاف التوقف لنجمع خيوط الحكاية. وطوال الطريق تفجرت التساؤلات وتوالت: لماذا تجنّب صاحب هذه التجربة الثرية أهم ما كان يميزها وهو الشِعر؟ ولماذا لم يُكمل الطريق لنهايته واختار الابتعاد فى منتصفه؟ وهل التعفف عن الشُهرة نُبل مُفرط أم خطأ فى التقدير؟، والسؤال الأهم: هل الشاعر على صواب حين يُخفى سلاحه خوفاً عليه ويكمل مشواره بدونه؟ لا مجال هُنا للإجابة بـ«نعم أو لا»، لأنها محكومة بظروف التجربة وتحدياتها ومُعطيات عصرها، ودون مراعاة ذلك يصعُب الوصول إلى إجابة صحيحة.
وفى محاولة قراءة هذه التجربة الإنسانية والشعرية تبرز إشارات غير خافية إلى انتكاسة كبرى لليسار، الذى كان الشاعر أحد رموزه والمُعبرين عن نضاله، انتكاسة بدأت فى الثمانينات فى أعقاب «عقد ذهبى» طوال السبعينات، قدم فيه نفس التيار بطولات وتضحيات لا يُمكن إنكارها. ما الذى جرى إذاً لينفرط عقده ويتسرب مبدعوه ولا يمكنه الحفاظ على تجربة شاعر ثورى مثل «زرد»، بل ويتماهى مع رغبته فى الانسحاب دون ردِه عنها أو حتى مراجعته فيها؟! وإذا كان بديهياً أن ترى السُلطة المُعادية للإبداع أمانها فى محاصرته ومطاردة المُبدعين، فإن ذلك يفرض التمسك بالمقاومة إلى أقصى حد.
جانب آخر من الإشكالية، يتعلق بالنموذج المتعدد لـ«الشاعر المسيّس» فى تاريخ الحركة الثقافية المصرية والعربية. وتبدو خصوصية تجربة «زرد» فى أن الشِعر هو الذى قاده للاشتغال الجاد بالسياسة، لدرجة تصور معها أن شِعره مُهدد، فقرر حجبَه عن النشر، ربما فكّر فى المناورة التى كانت خياراً مُتاحاً لجأ له كثيرون غيره، لكنه لم يفعل، ومن الواضح أنه مال لتجنب الصدام، رغم أن الصدام لم يُخطئه طيلة 20 عاماً قبل الاعتزال و20 عاماً بعده، وفى النهاية ارتأى أن «النضال بلا شِعر» خير من «حياة بلا شِعر ولا نضال».
«كفر طحا» و«أبوزعبل».. البداية فى القرية والمصنع
فى قرية «كفر طحا» وُلد الشاعر لأب يعمل جزاراً وأم «ربة منزل» فى (10 ديسمبر 42)، فكان أكبر إخوته «3 أولاد و4 بنات»، وفى مركز «شبين القناطر» درس الفتى «صابر» حتى الثانوية العامة، ثم واصل تعليمه بالمعهد الفنى الكيماوى فى القاهرة، وسرعان ما حصل على وظيفة مرموقة بشركة «أبوزعبل للكيماويات»، وانتُخب عضواً بمجلس إدارتها ولجنتها النقابية مُمثلاً للعمال الذين توسموا فيه قدرته على حماية حقوقهم.
ظهر عفريت الشِعر فى «الإعدادية» عندما كتب «جواب حب» لفتاة فاكتشف أنه شِعر، ثم أغوته الكتابة فأنشأ أبياتاً فى المديح النبوى، وأثناء دراسته بالمعهد الفنى، وتزايد قراءاته ظهرت ميوله للاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ومع بدء انشغاله بالسياسة تطورت «الخربشات» البدائية إلى قصائد متماسكة، ولاقت إعجاب طلبة المعهد والعمال فى «أبوزعبل» وفلاحى القرية، وكلما اتسع الإعجاب به زاد تعلقه بـ«حِبال الشِعر»، لكن هذه التجربة الوليدة اصطدمت مبكراً بعارضين كان لهما أثر كبير «نكسة 67 وفصله من وظيفته».
لم تكن النكسة مجرد ضربة عسكرية موجعة بنظر عمال «أبوزعبل» وغيرهم فى مئات المصانع التى أنشأتها «ثورة 23 يوليو»، فقد شعروا بأنها استهدفت بيوتهم قبل أن تقصف طائراتنا فى المطارات، وطالت رؤوسهم التى رُفعت بعد أن «مضى عهد الاستعباد». ورغم الآلام خرجت الجماهير ترفض تنحى «عبدالناصر»، وبعد عام خرجت غاضبة من التهاون فى محاسبة المسئولين عن النكسة، ولم يكن الشاعر قد تجاوز 26 عاماً عندما عايش مظاهرات 68 وما تبعها من فصل قيادات عمالية كثيرة، لكن موعد فصله هو لم يحن بعد.
طوال سنوات الاستنزاف لم تهتز ثقة «صابر» فى تجاوز النكسة، وعندما دكت صواريخ العدو مصنع «أبوزعبل للحديد» وأسقطت 70 شهيداً أفسح الغضبُ مكانه للمقاومة، وزرعت الغارة الإسرائيلية فى نفوس العمال رغبة فى الثأر لن تتحقق إلا بنصر كبير. كان المصريون يرون ذلك النصر قريباً، لا سيما مع توالى بطولات الاستنزاف التى رد عليها العدو عام (70) باستهداف العمق المصرى بغارات جوية لإجبار «عبدالناصر» على التفاوض، لكنه لم يتراجع واتفق مع السوفييت على المشاركة فى حماية الأجواء المصرية وأكمل بناء «حائط الصواريخ»، فكانت المحصلة «تساقط الفانتوم» وشلّ طيران العدو.
إلى «أبوزعبل» الصامدة الحزينة، سافر وفد من الأدباء والفنانين يحملون الورود وكلمات رقيقة للتضامن مع الأهالى فى حفل تأبين شهداء الغارة، الذى أُقيم بتوجيه من «عبدالناصر».. «يد تبنى ويد تحمل السلاح»، وبوسع صاحبها أيضاً أن يُضمّد الجراح.
يومها وقف «زرد» يُلقى شِعره أمام الشعراء «محمود حسن إسماعيل» و«صلاح عبدالصبور» و«صالح جودت» والوزيرة «حكمت أبوزيد» والروائيين «يوسف السباعى» و«إبراهيم الوردانى»، الذى تأثر بما رآه وسمعه، فكتب مقالاً فى «الجمهورية» جاء فيه: «جلسة لن أنساها.. فقد قام من بين العمال شاب قصير عريض يدفع نفسه نحو الميكروفون، وكأنه صخرة تتدحرج، ويالها من ربع ساعة مثيرة، أقنعنا بها العامل الشاب فى شعره الشعبى المنثور، أن مواهب مصر الأدبية مثل بترولها، لم تُكتشف بعد»، ثم رشّح الروائى المعروف العامل الشاب لـ«السباعى»، ليكون أحد العشرة الأوائل فى جمعية ثقافية كبرى قيد التأسيس.
ماذا قال الشاعر ليحتفى به «الوردانى» على هذا النحو؟ قال «كلام عمال»:
«كلام عُمال حى زى ضمير الفاس
كلام عمال باسم كل الناس
بنقول بصراحة
كدّاب من قال: كل الأبواب مسدودة
وجبان من قال: أمريكا كبيرة مش ممكن أبداً نناطحها.. وبكل الرُوس
وعميل من قال: مفاتيح الأزمة فى البيت الأبيض
مش ممكن هابقى معدِّية واللعبة تعدِّى
ولا يمكن هارضى بالحل اليانكى
ده كلام عُمال من تانى للصهاينة والكلاب الأمريكانى..
طَيَّروا ألفين ميراج وسكاى وفانتوم
مش هاوافق ع الهزيمة ومش هاسلِم».
وعلى دوى تصفيق العمال وأهالى الشهداء إعجاباً بالقصيدة، احتضن الشاعر «محمود إسماعيل» العامل الشاب، وقال له «أنت شاعر حقيقى واعذرنى لأنى مكنتش متحمس لسماع شِعرك، لكن دلوقتى مستعد أسمعك للصبح»، وكان لافتاً أنه بعد 5 سنوات فقط من هذا الاحتفاء، سُجن «الشاعر» الذى رشحه «الوردانى» للجمعية الثقافية، وسُجن معه مجموعة يساريين اتهمهم «السباعى» نفسه بـ«تأسيس تنظيم سرى».
ماذا جرى للشاعر فى هذه السنوات السبع السِمان بالأحداث (70-77)؟
كانت «كلام عمال» حماسية بما يكفى لتحولها إلى منشور سياسى، تداولها العمال ونشرها الطلبة فى مجلات الحائط وأُلقيت فى ندوات الاتحاد الاشتراكى، وجر الإعجاب بها سلسلة متاعب بدأت بفصل الشاعر من وظيفته ومطاردته من الأمن ومن قيادات بالمجال الثقافى.
ولم تكن محاصرة البدايات مفاجئة للشاعر، بل اعتبرها صدى لتلك «النبوءة» التى كاشَفهُ بها الشاعر الكبير «نجيب سرور» حين التقيا عام (68)، يومها حذره من الملاحقة ومحاولات الإخضاع، ونصحه بالابتعاد عن الشعر وتجنب نشره مع الاحتفاظ بالقصائد، حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً.
كانت أكثر طرق الإخضاع المفضوحة آنذاك هى الزج بمطرب أو مطربة للظهور فجأة فى حياة «المبدع المشاغب» وإغراءه بغناء قصائده للإيقاع به فى براثن السُلطة، فيكون قابلاً للتحول وكتابة ما يُملى عليه، شىء من هذا القبيل تعرض له الشاعر.
المحامى «خالد زرد» الشقيق الأصغر لـ«صابر» ومستودع أسراره وأكثر المتأثرين به روحياً ونفسياً، يؤكد أن شقيقه روى له تفاصيل ذلك اللقاء الفارق بـ«نجيب سرور»: «بعد أن استمع لقصائدى قال لى: أنت شاعر (ابن دين...) ولازم تبطل، لأن مصيرك هيكون السجن أو الجنون أو الاحتواء علشان يستخدموك لتصفية الحسابات وتلميع المحاسيب، وأنت بوضعك الحالى هتتفصل من شغلك عاجلاً أو آجلاً». كان هذا نص «التحذير»، أما «النصيحة»: «اوعى يا ابنى تاخد الشعر مهنة، دور لك على مصدر رزق حُر مالوش علاقة بالشعر حتى لو دكان بقالة، لكن خد بالك من موهبتك، وما تبطلش واحفظ اللى بتكتبه، ولما تموت المُهتم بالأدب وبتراثك هيبحث عنه ويقدّره».
كان «الفصل من الوظيفة» أول ما تحقق من نبوءة «سرور»..
خضع الشاعر لمراقبة دقيقة، منذ اعتراضه على «طبخ القرارات» بشركته وطالب باتباع «الاقتراع السرى» فى اتخاذ القرارات، وكان ذلك أول صدام مع مجلس الإدارة، أما الواقعة التى أطاحت به فيقول عنها «خالد زرد»: «رفض تنفيذ أوامر بإنتاج قنابل مُسيلة للدموع، فتقرر انتدابه لمعهد الحرب الكيماوية لإبعاده عن القاعدة العمالية المؤيدة لرأيه»، ويضيف: «المحاميان نبيل الهلالى وزكى مراد نصحاه بعدم تنفيذ الانتداب لتفادى اتهامه بـ(تسريب معلومات عسكرية)، فتقرر فصله نهائياً أوائل 71».
طوال شهور الأزمة، رأى «مُمثل العمال فى مجلس الإدارة والنقابة» أنه من المخجل أن يُشارك رجال شركته فى صناعة «مُسيل الدموع»، بينما رفاقهم فى المصنع المجاور يفخرون بإنتاجهم أطنان «الديناميت» لمشروع السد العالى! وزاد إصراره على موقفه، وخاطب كافة الجهات طلباً للعودة دون جدوى، وأخيراً لجأ للقضاء فحكم بصحة فصله وعدم أحقيته فى العودة للعمل أو التعويض أو المعاش لرفضه الانتداب.
طوى «صابر» صفحة الوظيفة، ورغم أهمية التحاقه بعمل جديد لم يكُن ذلك مُلحاً عليه بشكل كبير، مُعتمداً فى البداية على حصيلة دخله الكبير من الشركة، فراتبه بلغ 48 جنيهاً شهرياً، فى وقت كان قيراط الأرض يُباع بـ15 جنيهاً، ثم اعتمد كُلياً على دعم والديه لابنهما الكبير، واثقين فى رجاحة عقله وصدق مساعيه. وفى هذه المرحلة من (التعطل المؤقت) وهب الشاعر شبابه للنضال، وأغناه حُبه للشِعر عن أى متعة أخرى:
«الشِعر كلمة طرفها منقوش
أصفر بلون القمح وشعور البنات
ولون الرمل وسوار الدهب
أحمر بلون خَدّ الجميل
وأحمر بلون الورود
الشِعر غنوة
أصلها موجود.. فى الحزن والبسمات»
ماذا يحدث فى «القاهرة 70»؟
فى العاصمة، الجامعات ساحات للحرية انتزعها الطلاب بنضالهم، والمصانع لا يتوقف هدير ماكيناتها ولا يتأخر غضب عُمالها، وتجمعات المثقفين لا تكف عن الثرثرة والإبداع، وهنا أيضاً السجون بظلامها وأسوارها، وقد قُيدت فيها حرية الشاعر عدة مرات.
لملمت مصر أحزانها بعد رحيل «عبدالناصر» فى (28 سبتمبر 70)، وبتعبير الشاعر «إن كان القائد مات.. لسه الأم الولادة ما متتش». وقبل أن ينتهى العام الأول لحُكم «السادات» دخل فى مواجهات عنيفة مع الطلبة والعمال، وعلى المستوى العام كان الدرس الذى استوعبته السُلطة الناصرية، بإدراكها عدم جدوى العنف فى مواجهة الغضب الشعبى بعد النكسة، خفّف قبضتها على الحراك السياسى، فانتعش اليسار والتحم بالطلبة والعمال، وقت كانت مصر مُعبأة لمعركة التحرير فى سنوات الستينات الأخيرة، لكن هذه «الهدنة الهشة» انهارت فى عهد «السادات» واحتدم صراعه مع التنظيمات الجماهيرية، وبرزت فجوة بين مطالبها بـ«تحرير الأرض المُحتلة» وبين تلكؤه فى اتخاذ «قرار الحرب»، وانقضى (71) الذى أسماه «السادات» عام الحسم، دون حسم، وحل (يناير 72) ليطلق الطلبة «انتفاضة الجامعات» التى حولتها لساحات اعتصام تُنادى بتسليح الشعب وإشراكه فى المعركة وبناء اقتصاد حرب وبالديمقراطية. وبتعبير الشاعر المُدوّن فى مُفكرته فإن (72) بالنسبة له كان «عام الصمود والانتصار»، وهو وصف دقيق لحال الجامعات ومصر عموماً آنذاك، وفى نفس العام أطلق أجرأ قصائده «فدائى يختطف الميكروفون»، التى قدمت نقداً لاذعاً لحالة «اللاسلم واللاحرب»:
«معذرةً يا سادة
يا أصحاب سياداتِ وهمية
يا كُل فخامة وجلالة.. وسمو المهراجات العصرية
يا كُل فضيلة ونيافة.. وخرافة فكر غيبية
يا ريشَ نسور وصقور
يا حَمَلة أنواط الواجبِ والشرف المهدور
يا حَمَلة أوشحة النيل ودجلة والعاصى والأردنّ المغدور
يا حَمَلة أوسمة استحقاقِ الذبحِ بميدان التحرير
يا رهط شيوخ قبائلنا العربية
معذرةً.. إن كنتُ تجرأتُ عليكم وصعدتُ أخاطبكم من هذا المنبر
أفضحُكم فى النور
معذرةً.. فالمأساة عظيمة
والجرحُ الغائر فى قلب الأمة لا يحتملُ الصبر
معذرةً يا حضرات الموتى
إن كنت طرقت عليكم باب القبر
دون مخافةٍ من حد السيف
يا موتى فى جثثٍ حية
أفلا تدرون؟!
قد مرَ شتاءُ يتبعُه صيف وشتاءُ يتبعه صيف
والناس قعود لا تقوى من نيِر الخوف
أن تُبدى رأياً أو تجمع صفاً
ومدافعُ حضراتِ السادة خرساء.. لا تنطقُ حتى بالهمس
لا تملك إلا أن تحنى الرأس.. فى نَوبةِ إحباط من نور الشمس»
وعن دوره فى الجامعة، يقول أحد قيادات الحركة الطلابية بالسبعينات «أحمد بهاء الدين شعبان»: «زرد شاعر فحل وطريقة إلقائه للشعر شديدة التأثير، وجسده الممتلئ منحه هيئة مقاتل، وكان دوره يماثل (التمهيد النيرانى) للحرب، وهو استباق الفعاليات الكبرى بإلقاء قصائد ثورية»، ويضيف أن «وعيه بالقضايا الوطنية مكّنه من التعبير عنها ببساطة، فكان المُعبر الرسمى عن نضالنا».
يمكن الوقوف على هذه البساطة الممزوجة بحدة الموقف فى قصيدة «إصرار»:
«لو سكبُوا القارَ الأسود فى حلقى كى أصمُت.. لن أصمُت
وسأكتُب بالقارِ الأسودِ فوق الجدران.. فلتَسقُط يا عرشَ السجّان
لو قطعُوا كفى.. كيلا أكتب لفظة رفضى.. فسأحفر بالخطوة سِفرى فى درب الثورة
لو شدُوا فى الدرب وثاقى.. لو قطعوا ساقى فسأمشى فوق الأهداب وأُكمل دربى
وسأطرق كل الأبواب كى أوقظ روح الشعب.. وأُطلقها جمرة».
وأمام إصرار الشاعر لهذه الدرجة على أن يقول كلمته وعلى المقاومة، كان من الصعب تصور احتمال ابتعاده عن الشعر، فماذا خبأت له الأيام؟
صنَّف الأمن «زرد» كـ«عنصر خطر» لقدرته على حشد الطلبة حوله، وفى ذلك الوقت كانت القصيدة كفيلة بـ«إزعاج السُلطات» وحيازتها «جريمة»، ورأت قوات الأمن فى قصيدة «إصرار» ما يكفى لاتهام عصام الدين البرعى (الطالب بهندسة الإسكندرية) بـ«الإثارة والتحريض على الفوضى» بعد ضبطه فى (ديسمبر 72) وبحوزته مجلة حائط بعنوان «الصرخة» وتتصدرها القصيدة، وفق ما وثّقه المحامى «عادل أمين» فى كتابه «انتفاضة الطلبة المصريين». وتكشف هذه الواقعة إلى أى مدى كانت قصائد الشاعر مُلهمة للطلبة، ومُعبرة عن نضالهم.
إلى ذلك منح التقارب العُمرى بين الشاعر والطلبة فرصة الارتباط الوثيق بهم إنسانياً وفكرياً.. «كنا نتداول قصائده سراً فى الجامعة، نحفظها ولا نحتفظ بها خشية الاعتقال بسببها»، هذا ما تتذكر «وفاء عارف» شقيقة صديقه «كمال عارف» عن أيام دراستها بـ«آداب عين شمس»، وتحاول اليوم رسم صورة للشاعر أثناء إلقائه قصائده قائلة: «كانت تتلبسه حالة حماسية تأسر مُستمعيه، لكن فى الأوقات العادية يبدو هادئاً ورقيقاً». بعد فترة تحول «زرد « إلى أحد أفراد أسرة «كمال» وكان من طقوس زيارته حرص «وفاء» على تدوين قصائده بيدها، كما أقام «صابر» بصُحبة صديقه فى شقة «عُزاب» بـ«كوبرى القبة» فحوّلها إلى تجمع لشلة مثقفين كبيرة.
ولم يكن نشاطه بالجامعة هو السبب الوحيد لجعل الشاعر هدفاً للأمن، فقد أسهمت نشأته الريفية وعمله بالمصنع فى التحامه بالعمال والفلاحين، ثم وجد نفسه فى قلب اندماجين كبيرين شكلا رأس حربة لمعارضة «السادات»، هما «احتضان مثقفى اليسار للطلبة وتفاعل الطلبة مع مطالب العمال»، يؤكد ذلك أنه رغم فصله من عمله لم ينقطع عن «أبوزعبل»، وكان يشارك عمالها فى أمسيات ومهرجانات شعرية، تحت شعار «الفن فى خدمة المعركة»، كما لم ينقطع حضوره مختلف فعاليات اليسار، ومنذ مطلع السبعينات حرص على المشاركة فى الاحتفال بذكرى اغتيال المناضل «صلاح حسين» بـ«كمشيش - منوفية»، وكان بمثابة ملتقى للفلاحين والمثقفين والقوى الثورية، كما كان له حضور بين الفلاحين، ويصف الشاعر «محمود الطويل» صديقه «زرد» بأنه «شاعر (ابن بلد) ومناضل (فتوة)»، ويقول: «كان له جمهور خاص من مُحبى الشِعر الثورى، وحماسه فى الإلقاء وقوة قصائده أغنته عن استخدام الميكروفون».
ومع ارتباط اسمه وقصائده بانتفاضة الجامعات لم تغب تحركات الشاعر عن المراقبة، فقد دخلت مواجهة الطلبة والمعارضة مع «السادات» مرحلة «كسر العظام»، ولاذ فيها الطلبة بالوعى والاحتجاج السلمى، فيما أطلقت السُلطة يد الأمن وأفرجت لاحقاً عن المتطرفين من السجون لمواجهة اليساريين ومن «يرتدون قميص عبدالناصر» بتعبير «السادات».
يناير.. شهر الانتفاضة والاعتقال
فى (يناير 73) حلت الذكرى الأولى لانتفاضة الجامعات، لكن الأمن استبقها فى (ديسمبر 72) بحملة اعتقال لقادة الطلاب والمثقفين الحاضنين لهم، وكان «زرد» ثالث ثلاثة شعراء مع «نجم وفؤاد قاعود» ضمن قائمة من 67 مطلوباً، ووُجهت لهم اتهامات بـ«إثارة الشغب وتأليف أشعار مناهضة للنظام»، لكن الضربة الاستباقية لم تمنع إحياء «الذكرى» والاعتصام احتجاجاً على اعتقال الطلبة الذى لم يطُل، إذ كان «السادات» يُعد لقرار الحرب فى (أكتوبر)، وبعد انتهاء المعارك على الجبهة تكشّف أن ما حققه عزم الرجال وقوة السلاح من بطولات فى مصر وسوريا يكاد يضيع، وفاحت رائحة التنازلات على موائد التفاوض، وبدا أن دماء من «عبروا» باتت سبيلاً لإثراء من «هبروا» ثمار الانفتاح الذى أكل منجزات ثورة يوليو للفقراء. وإمعاناً فى ترسيخ سياساته استدار «السادات» للجبهة الداخلية وزادت جرعات البطش بمُعارضيه.
وفى (يناير 75) طالت حملات الاعتقال السنوية قادة عماليين ومثقفين، عقاباً على تضامنهم مع احتجاجات عمال حلوان المطالبة بتحسين أوضاعهم، وشمل الاعتقال «زرد ونجم وصلاح عيسى وعز الدين نجيب ومحمد كامل القليوبى» وآخرين، ومن التُهم التى واجهوها «دعوتهم لتشكيل اتحاد مُستقل للكُتاب»، حسب شهادة الكاتب «صلاح عيسى»، فى كتابه «مثقفون وعسكر»، فيما يكشف الناقد والفنان التشكيلى «عز الدين نجيب» أن المحقق واجهه بمذكرة قدمها «يوسف السباعى»، وزير الثقافة آنذاك، لمباحث أمن الدولة زعم فيها أن جمعية (كُتاب الغد)، التى كان «نجيب» عضواً بها ومُشهرة منذ 3 سنوات، واجهة لتنظيم سرى للشيوعيين اسمه «اليسار الجديد».
ورغم قسوة الاعتقال فإن الشاعر واجهه بسخرية. ويقول «نجيب» فى كتابه «رسوم الزنزانة» عن «حبسة 75»: «كنا نؤلف أغانى لهجاء الشعراء بأسلوب فكاهى، وأول من أطلقها صابر زرد الذى تميز بخفة ظل ولم نغضب من طرائفه». وبحس فنى رفيع رأى «نجيب» فى وجه «صابر» ما يمكن النفاذ منه إلى جوهره، فرسمه ضمن بورتريهات أبدعها لوجوه رفاقه بالسجن، وبقلم «كوبيا» وعلى ورق «دشت» أظهر الفنان وجه الشاعر بملامح هادئة تختزن أصالة الفلاح وبراءة المناضل وتكسو نظراته شوقاً لغدٍ تتحقق فيه الأحلام.
بعد تجربة الاعتقال الثانية اتسعت مشاركة «زرد» فى أنشطة اليسار، غير آبه بالملاحقة الأمنية، فكان حضوره أساسياً فى فعاليات «الجامعات والنقابات وحزب التجمع وجمعية الصداقة المصرية السوفيتية، وفرقة روزاليوسف الغنائية»، حيث كان اليسار وقتها فى قمة توهجه النضالى، عبر تنظيماته العلنية والسرية وبفضل التحامه بالطلبة والعمال.
وفى (17 و18 يناير 77) أسهم اندلاع «انتفاضة الخبز» فى انتعاشة جديدة لليسار الذى تبنى مطالب الهبّة الجماهيرية المفاجئة، واستبق «السادات» التحقيقات واتهم «اليساريين والناصريين» بـ«تدبير الاحتجاجات لإسقاطه»، وفور استعادته السيطرة على الأوضاع بدأ الانتقام ممن وصفهم بـ«القِلة المُندسّة» ليس ثأراً لما اعتبره جرحاً لكرامته ولا لمنع غضبة تالية فحسب، بل استعداداً لـ«صُلح منفرد مع العدو الصهيونى»، فبعد شهور فى (19 نوفمبر 77) استقبله قادة الاحتلال بالأحضان فى القدس المحتلة. هذا التحول الكبير فى دور مصر وعلاقتها بالعدو ضرب المثقفين بالإحباط، خصوصاً مع استشرافهم الأسوأ وهو تنازلات أكبر توُجِت باتفاقية «كامب ديفيد» عام (78)، وعبّر كثيرون عن غضبهم بالانسحاب من المشهد، لينتهى «عقد ذهبى لليسار» بدأ من (67) وطال حتى (سبتمبر 80) واختُتم بحملة اعتقالات سياسية غير مسبوقة وباغتيال «السادات»، وكان من ثمار ذلك العِقد بروز طبقة من شعراء المقاومة ربطوا إبداعهم بالقضايا الوطنية والقومية، من بينهم «زرد»، قليل منهم أكمل الطريق مثل «نجم» وغيره، وكثيرون انطفأوا بأثر الانسحاب أو الانكسار.
وكادت الرغبة فى الانسحاب تتسرب لوجدان الشاعر، لكن صلابة العامل وأصالة الفلاح بداخله حالتا دون عزوفه عن النضال السياسى، حيث كان جزءاً من «حُبه للحياة وأداء الواجب» بتعبير الدكتور «محمد المخزنجى»، الذى لمس ذلك المعنى فى شخصية «صابر» عندما ترافقا لأسابيع فى سجن القناطر (أواخر 72)، ويقول الكاتب والأديب الكبير الذى كان طالباً فى كلية (طب المنصورة) آنذاك: «دوافعه السياسية لم تكن البحث عن الزعامة مثل كثيرين، بل إيمانه العميق بالعدالة الاجتماعية ومحاولة تحقيقها»، ويلخص «المخزنجى» ذكرياته عن الشاعر التى تعود إلى 47 عاماً بالقول: «لسه فاكر صابر الإنسان، لأنه من الناس اللى ما تتنسيش.. كان أطيب من صادفت فى تلك الحبسة».
فى الظل.. يبتعد الشعر وتكتمل النبوءة
فى نهاية السبعينات ارتضى الشاعر الاكتفاء بتأليف الشعر واستعادته من الذاكرة ثم حفظه مكتوباً دون أن يراه أحد أو يعرف مصيره، وكان ذلك المسلك أشبه باستجابة صريحة لنصيحة «نجيب سرور» له قبل 12 عاماً، ومن المؤكد أنه عانى نفسياً من قراره بطى صفحة الشِعر، إذ لم يكن الانتقال من التوهج إلى التقوقع سهلاً، لكنه أخفى آلامه راضياً مُطمئناً إلى أنه على الطريق الصحيح. وربما يؤكد ذلك «خاطرة» مُسجلة بأوراقه الخاصة، نصُها «لست خجلاناً أنا.. منذ البداية للنهاية».
وبتتبع خطى الشاعر فى السبعينات يتضح اقتناعه بتحذير «سرور»، لكن حماس الشباب منعه من إدراك خطورته فى البداية، فمضى فى طريق الشعر الثورى يؤلفه ويُلقيه، ومن المؤكد أن النية كانت متوافرة لديه للنشر، وعندما تحققت «النبوءة» وزادت شراسة الملاحقة والحصار، لم يكابر فى مراجعة نفسه وتوقف كشاعر فى منتصف الطريق، وكان الاستثناء الوحيد لذلك هو إلقاء بعض القصائد فى الفعاليات السياسية.
ويعلّق اليسارى المعروف «سيد كراوية»، الذى ربطته علاقة قوية بـ«زرد»، على تحذير «سرور» القاسى، قائلاً: «كلام نجيب كان رسالة مهمة من قلب المجال الأدبى التصادمى الذى اختار صابر منهجه، وهو منهج يقوم على أن تنظر للشعر كمهمة ودور، فتضِن به أن يُداس بأقدام البرابرة، وتختار أن تنجو به أو تنجو منه»، ويضيف فى شهادته عن الشاعر عبر «فيس بوك»: «عندما حُوصر ابتعد بنفسه وبتجربته، للمحافظة على براءتها»، وعن جانب من الأثر النفسى للابتعاد عن الشعر، يقول «كمال عارف»، صديق الشاعر، إنه «كان يتكتّم على أثر الإحباط عليه، لكن من يعرفونه لمسوا الآلام التى قاساها فى صمت». هذه الشهادات وغيرها محاولة لتفسير الابتعاد عن الشعر، لكن تبقى أسرار وأسباب أخرى لذلك، يصعب التوصل لها اليوم، لأنها دُفنت مع الشاعر نفسه.
وقد امتد قرار الابتعاد عن الشِعر لحجبه عن النشر، ورفض الشاعر دعوات كثيرة لإصداره فى ديوان حتى وقع ما أخرج الشِعر من القُمقم، ففى عام (78) اعتُقل 6 مناضلين، بينهم «زرد» والنقابى اليسارى «عبدالمنعم كراوية»، من منازلهم، استباقاً لزيارة «السادات» إلى السويس، ويقول شقيقه «خالد» إن الضابط أبلغ «صابر» أنه مطلوب للاحتجاز ليومين فقط لحين انتهاء الزيارة، لكن حبسه طال دون سند قانونى فاتفق المعتقلون فور الإفراج عنهم على التقدم ببلاغات للنائب العام.
يومها حدث استدعاء مباغتُ للشِعر وخلال نصف ساعة كتب الشاعر بلاغه فى شكل قصيدة، ونقل فيها أجواء الضبط والاحتجاز وتعرضه ورفاقه للتعذيب، وكان عنوانها «بلاغ للنائب العام»:
«.. فى جوفِ مدينتنا.. أحد عظام الضباط -مباحث أمن الدولة- قد أصدر أمر استنفار ليلىّ..
وتفقّد مزهواً فى الليل كتائب جُنده
وأعد العُدة ليخوض المعركة الوحشية..
وبعونِ الله تحقق للسيدِ ما رام
وعادت أجنادُ القائد منتصرة
حاملة أسراها وتلال غنائم ست رجال عُزل مع بعض الكتب الموجودة..
فى كل دكاكين الكُتب المصرية.. بل فوق الأرصفة تُباع»
ومع أخواتها، انضمت «بلاغ للنائب العام» لعشرات القصائد المخفية، التى لم يفلت منها سوى ما حفظه الرفاق خلال أُمسيات للشاعر.
«فدائى يختطف الميكروفون، وكاتيوشا، وغنوة للثورة، ومحاولة شاعر العبور، وأغنية للأطفال» وغيرها، قصائد منوعة لـ«زرد» تُظهر انحيازه للشعر الثورى الاحتجاجى، وبخلاف قصائد اشتبكت مع قضايا المرحلة «من 69 إلى 81» لمس فى قصائد أخرى معانى إنسانية عابرة للزمن، ويبرز منها حلمه بحرية الوطن والإنسان الذى عبّر عنه بوضوح فى قصيدته (قراءة فى كتاب النيل):
«أَحلُم يا فجرى وربيعى بالحُبِ المُخلص درباً للغاية
بالحب يُذيب فروق الأديان الألوان الطبقات الناس
أَحلُم يا إيزيس بالحُبِ تراتيل القداس
بالحب صلاة وكتاباً أسمى من كتب اللاهوت وكتب الناسوت جميعاً
أصدقُ من أبحاث العلم وقُراء النجم.. وأغنى من أوناسيس
أَحلُم يا إيزيس
لا أحلم بالرب يسوع وبموسى ومحمد وزيوس وبوذا
أو مانسون رب الهيبيز مسيح القرن العشرين
أَحلُم بالإنسان
بأبى ذر بالفاروق.. بلينين وماو وأرنيستو شى وبلوركا وبريخت وبوشكين وهوشى مِنَّه
أحلم بأولاء جميعاً ينصهرون..
فى بوتقة الأيام يصيرون
خبزاً ومسيحاً ليضمد جرح الإنسان»
حاول «خالد زرد» مرتين اختراق «حظر النشر» الذى فرضه شقيقه على نفسه؛ الأولى عام (86) حين التقى «سمير سرحان»، رئيس هيئة الكتاب، الذى كان يُقدّر الشاعر وطلب قصائده لنشرها، لكن «صابر» أبلغ شقيقه أنه فقدها فى الملاحقات الأمنية، على خلاف الحقيقة. أما المرة الثانية فكانت بعد عامين، عندما التقى «خالد» بـ«أحمد فؤاد نجم» الذى ربطته صداقة قوية بالشاعر وتمنى له «الاستمرار على الطريق الطويل الشاق» وفق ما سجله «نجم» على ظهر صورة تجمعه بالشاعر.
وقد ضحك «الفاجومى» عندما علم برد «صابر» على عرض «سمير سرحان»، وعلق قائلاً: «بيضحك عليكم»، وكانت المفاجأة أن «نجم» دلّ شقيق الشاعر على «مخبأ القصائد» وقال له: «هو مدارى القصائد بسبب الكلام اللى نجيب سرور قاله له زمان، إنما هى موجودة فى 6 أجندات داخل دولاب فى مندرة بيتكم بكفر طحا»، وبالفعل وجد «خالد» الأجندات فى (مندرة البيت القديم) التى كان «نجم» و«الشيخ إمام» يجلسان فيها عند زيارتهما للشاعر، لكن عندما أحضر «خالد» الأجندات لشقيقه وعرض عليه النشر مجدداً، صادرها وكرر رفضه، وقال له بحسم: «مش هنشر طول ما أنا عايش، ولما أموت اعملوا فيها اللى انتوا عاوزينه».
مرت سنوات وحصل «أحمد»، الابن الأكبر للشاعر، على عدة قصائد من «الأجندات» وجمعها خلسة فى كُتيب، ثم فاجأ والده بإهدائها له فى ذكرى ميلاده، ورغم صرامته فى حجب شعره عن النشر لم يدارِ فرحته باحتفاء أبنائه به كشاعر، واستجاب لرغبتهم فى تسجيل قصائده بصوته. وبترحاب كبير أمدتنا أسرته بكثير من تلك القصائد (فُصحى وعامية، مُدونّة بخطه ومُسجّلة بصوته).
ويقول الشاعر «محمود الطويل»: «كنت كثير الإلحاح عليه فى نشر قصائده، دون جدوى»، وفى تفسيره لابتعاد «زرد» عن الشِعر يوضح «الطويل»، الذى يحتفظ بقصائد مُسجلة له، أنه غير مقتنع بتوقفه عن الشعر، ويضيف: «قد يطول الابتعاد بين قصيدة وأخرى، لكن مداد الكتابة لا ينقطع عن الشاعر، حتى لو تهرب منه».
فى السويس.. حياة جديدة بلا شِعر
ترافق ابتعاد «زرد» عن الشِعر فى نهاية السبعينات مع استقراره بالسويس وبدء مشروع تجارى خاص، ومن المُرجح أن نصيحة «نجيب سرور» كانت ماثلة فى ذهنه وهو يخطط لتلك الخطوة.. «الحرية هى الغاية والتجارة هى الوسيلة». ويؤكد رفاق الشاعر أنه رغم ابتعاده عن الشعر فإن نشاطه السياسى فى السويس كان ملحوظاً وعرّضه لملاحقات أمنية، خاصة مع دأبه على المشاركة فى فعاليات حزب «التجمع» وفرقة «أولاد الأرض»، ولا تزال حتى اليوم صورة «خالد محيى الدين» مُعلقة داخل محله بالسويس، فى تقدير يعكس محبة الشاعر للزعيم الوطنى الذى ربطته به علاقة قوية رغم عدم تجاوبه مع دعوات متكررة بالانضمام للتجمع، كما لم ينضم لأحزاب أخرى، رافضاً حصر نشاطه فى تجربة حزبية ضيقة.
هنا تبرز مفارقة لها دلالتها، فبينما حبس الشاعر شعره على الورق حرصاً عليه من وجهة نظره لم يرَ فى النضال السياسى نفس الأزمة، إذ لو كان هدفه تجنُب الملاحقة لاعتزل الشعر والسياسة معاً، وربما يفسر ذلك تصوره أن السُلطة لا تُمانع فى قدر من المشاغبة لمناضل هنا أو هناك، مع فرملته وقت اللزوم بتهم جاهزة، لكنها لا تتهاون إزاء شاعر مؤثر وقادر على غرس الأمل فى الناس، فإذا اعتُقل تعرض للتعذيب والإهانة، وخارج المعتقل يعيش مُحاصراً وطريداً كأن دُنياه سجن كبير، والسُلطة لا تعجزها الحيل لإسكاته. فى هذا المفصل التاريخى وضعت الأقدار الشاعر فاختار ما تصوره سكة السلامة لشِعره.
يعود ارتباط الشاعر بـ«بلد الغريب» إلى مشاركاته السياسية العديدة بها، ثم اختار الإقامة فيها لتكون مجالاً لعمله فى «تجارة البيض» بدعم من المعلم «أبوالحسن زرد»، وهو أحد أقاربه من فرع العائلة بقنا، الذى علم بفصل «ابن عمه» من وظيفته فاقترح عليه «التجارة فى الذهب الأبيض»، قاصداً «البيض»، وفى السويس كان أكثر المقربين للشاعر هو المعلم «يحيى عارف»، اليسارى المعروف فى «خط القناة»، وصاحب محل حلويات ومقهى «نيو سوريا»، مُلتقى الساسة والمثقفين وفرقة «أولاد الأرض»، وكما يقول الصوفية «علامةُ الإذن التيسير» سهّل المعلم «يحيى» أمور التجارة لـ«صابر» واعتمد عليه فى توريد كميات بيض كبيرة لمحل الحلويات، ومنحه محلاً بمنزله وسانده فى مواجهة عقبات كثيرة، سواء فى السوق أو تأثر المشروع بالنشاط السياسى لصاحبه.. هذا ما يتذكره أشقاء الشاعر الذين عايشوا معه بدايات التجارة.
وعن كواليس التحول الذى شهدته مسيرة «زرد» فى منتصف العمر يقول شقيقه «خالد»: «انشغاله بالسياسة لم يُمكّنه من الاهتمام المطلوب بالتجارة فى بدايتها، واكتفى منها بدخل بسيط، ولم تتوقف ملاحقته أمنياً حتى كاد المشروع أن يتعثر»، ويقول الدكتور «بسام زرد»، نجل الشاعر: «أصحاب الفضل فى انطلاق المشروع ودعمه بالجهد والمال فى بدايته، حُباً لوالدى هم: والداه وأشقاؤه جمال وعبدالحكيم وخالد، وأبناء شقيقاته أشرف وياسر ضرغام وعزالدين أحمد سعد وأبناء عمومته أحمد ومحمد» ويوضح أنه بعد وقوف المشروع على قدمين ثابتتين انصرف هؤلاء لشئونهم، ووجد والده نفسَه مسئولاً بمفرده عن التجارة فمنحها وقته واهتمامه وحوّل المحل الصغير إلى مركز توزيع بالجُملة وحصل على توريدات لشركات كبرى.
وفى حياته الجديدة اختار الشاعر السيدة «عواطف»، شقيقة صديقه «عبدالحميد كمال»، النائب البرلمانى الحالى، لتكون شريكة حياته، فقضت معه أجمل وأصعب سنوات العمر، كما كان «صابر» صاحب مكانة خاصة بين أقاربه وأصهاره، ويقول عنه نائب السويس: «كان باراً بأهله وحمولاً لأقصى حد، ونموذجاً للمناضل الملتزم بقضايا وطنه»، وتقول السيدة «ماجدة»، شقيقة زوجته: «لو حكيت عن جدعنته مش هيكفينى العُمر، وبيته كان يسع الجميع».
فى هذه الحياة الأسرية الجديدة والأجواء العملية الجادة، لا أثر للشعر نهائياً.
وهنا اكتملت نبوءة «نجيب سرور» وتمت نصائحه، وربما لو ألزم نفسه بها لتفادى عقبات كثيرة تعرّض لها بسبب شِعره ونضاله، فقد طُورد حتى عُزل من وظيفته وحُوصر حتى مسّه الجنون. وهذا الاحتمال مرهون بافتراض أنه كان مُحقاً فى نصيحته للشاعر بعدم الاستمرار فى طريق الشِعر.
محنة المرض.. آخر المعارك
كان الشاعر وزوجته وابنته (داليا)، التى التحقت بكلية (آداب القاهرة)، آخر المُنتقلين من السويس إلى القليوبية أوائل عام 2000، وما لبث الفرع أن عاد لجذره حتى داهمه المرض، وفشلت «وظائف الكلى» وبات غسيلها مصيرياً. وبجسارة لافتة حوّل «صابر» محنة المرض إلى منحة، ولم يتأثر حضوره ودوام ابتسامته، فواظب على القراءة والعمل قدر الطاقة وأظهر مقاومة شديدة للمرض، ورفض شراء كلية من «متبرع» أو تبرع أحد أبنائه بها لزرعها بجسده، وقال: «ضميرى يمنعنى أتعالج بكلية إنسان مُجبر مادياً على بيعها»، فيما كان نجله «عمرو» مسئولاً عن رعايته، ولا يكاد يفارقه.
انتقال الأسرة إلى «كفر طحا» فور إنهاء الأبناء دراستهم، حقق للشاعر أمنية غالية بالعودة للقرية، وفيها أمضى آخر أيامه بين أقاربه وتابَعَ التجارة مع نجليه «أحمد» و«عمرو» بعد تخرجهما، كما لم ينقطع تواصله مع أصدقائه القدامى.. «هنا كان يقضى أغلب وقته ويتناول علاجه ويلتقى ضيوفه»، يشير أبناؤه الذين التقيناهم فى منزله إلى مكان جلوسه المعتاد بصالة الاستقبال، موضحين أنه لم يخصص لنفسه غرفة مكتب مستقلة، وأنه كان يقرأ الكتب أو الصحف وسط الأسرة أو على سريره بغرفة نومه، وأحياناً كان يُقلب فى قصائده وأوراقه القديمة ثم يُعيدها لمكتبته.. اليوم توجد الكُتب والمفكرات الخاصة به داخل دولاب خاص حفاظاً عليها، فمعظمها يتجاوز عمره 50 عاماً والأغلفة مُتهالكة، وتُظهر عناوين الكُتب التى تركها تعدد الروافد الفكرية التى شكلت وعيه، فإلى جانب إبداعات وكُتب «لينين وماركس وإنجلز وتشيكوف وكافكا» توجد مثلاً «عبقريات العقاد، والحُسين ثائراً وشهيداً، ونهج البلاغة»، ومؤلفات «المسيرى وصلاح عيسى ومحمد سيد أحمد ومحمد المخزنجى»، ودواوين «البياتى ودرويش والماغوط ومظفر النواب وأمل دنقل ونجم والأبنودى».
ويوضح الدكتور «بسام زرد» أن أغلب مناقشاته مع والده أثناء مرضه تعلقت بفهمه الخاص للدين: «كان يُحب سيدنا النبى ويقدر آل بيته والثائرين والمجتهدين فى تاريخ الإسلام، خاصة الإمام على والحُسين وأبى ذر وعُمر بن عبدالعزيز، أما الفاروق عُمر فكان يراه ممن أصابوا فى اجتهادهم دون صدام مع النص»، ويضيف: «كان له ولع خاص بالصوفية وما تشمله من معانى الحب الإلهى، وتعرفت منه لأول مرة على أقطابها وشعرائها الكبار مثل الحلاج وابن عربى».
ويواصل نجل الشاعر: «كان يرى أن الاشتراكية تتماشى مع جوهر الإسلام طالما حققت مصالح الناس وأحسنت إدارة ثروات المجتمع، لكنه لم يكن مؤيداً للترويج للاشتراكية بأنها من الإسلام، حتى لا يدفع ذلك كل فئة لاحتكار الدين لحسابها أثناء ترويج أفكارها».
وتُظهر صورة للشاعر تعتز بها أسرته ابتسامة لم تفارقه حتى وهو خارج من «العناية المركزة» عام 2016، عندما تعرّض لوعكة شديدة تحسنت بعدها حالته لأيام. وفى ليلة لا ينساها نجله «بسام» ظل والده ينتظر عودته للمنزل حتى وقت متأخر: «احتضننى بدفء كأنه يودعنى، وفى الصباح فوجئنا بتدهور صحته فنقلناه للمستشفى وتوقف النبض ولم يفلح الإنعاش القلبى الرئوى فى استعادته، وتوفى بعد دقائق»، ويضيف: «صُدمنا لرحيله لأنه لم يكن أباً تقليدياً، حازماً وعصبياً لكنه كان حنوناً وكريماً، ولم يشعر يوماً بالندم على عدم شهرته كشاعر، بل كان دائم الفخر بأننا نعيش حياة كريمة وسعيدة».
وبعد هذه المسيرة المُمتدة لـ74 عاماً موزعة بالتساوى بين النجومية والظل رحل الشاعر الثائر فى هدوء، ونعاه مُحبوه بشجنٍ واشتياق داعين للتعرف على مسيرته. وبين ذكريات كثيرة لأيام جمعتهم به يكتفى صديقه «كمال عارف» بالقول: «أحسست بعد وفاته أن جزءًا من حياتى وحياة جيلى رحل معه».
«آدى القَضية..
.. ومن بِيتنا لِبابِ السِجن
هـ احكيلَك.. عن الرحلة
بس أمانة تِفَهّمنِى..
نِشِد البَدر مِـ الوَحلَة»
وها هى رحلة «صابر زرد» قد انتهت برحيله، لكن رحلة الوطن مستمرة، و«الحرية» التى ناضل من أجلها باقية، والبدر الذى رآه «فى الوحلة» ما زال غارقاً، بل تراكمت فوقه طبقات من الطين حتى اختفى أثره.
ولم يتبقَّ من الشاعر سوى «شعِره ومسيرته». أما شِعره فجدير بالنشر وبأن يرى النور حتى يُتاح التعرف على تجربته الإبداعية، وأما مسيرته التى باتت حكايتها فى ذمة التاريخ فستظل قابلة للاستدعاء والمراجعة واستلهام المعانى منها على الدوام.
أحمد عاطف