سي حاميد اليوسفي - كُلوه بقشوره..

السماء صافية، لا يعكر زرقتها سوى غمامة بيضاء قادمة من الشمال لا يبدو أنها تحمل مطرا. رغم الصلاة والدعوات والوعود التي قطعها سكان القرية لضريح الولي الصالح، بقي الجفاف يتوالى يوما بعد آخر، حتى دبّ اليأس إلى النفوس.. العلف ارتفع ثمنه، ولم يعد في متناول صغار الفلاحين.. ما تبقى من رؤوس الماشية لا يجد الماء والكلأ، وإذا لم يُعرض للبيع في القريب القادم من الأيام فسيتعرض للنُّفوق.. قلّة الطعام دفعت الشباب إلى الهجرة نحو المدن البعيدة بحثا عن العمل.. البعض منهم يُرسل بين الفينة والأخرى مبالغ هزيلة لذويه، لا تسد الحد الأدنى من مصروف البيت.. الناس تحتاج إلى الخبز والزيت والشاي والسكر بالدرجة الأولى.. أما الخضر واللحوم والألبان فقد أصبحت مع الجفاف وارتفاع الأسعار من سابع المستحيلات..
أغلب سكان القرية تخلوا بشكل تدريجي عن الذهاب إلى السوق الأسبوعي.. تراهم يوم السوق واجمي الوجوه، يجلسون موالين ظهورهم لسور المسجد.. لا يعودون إلى بيوتهم إلا بعد صلاة العصر.. يشربون كأس شاي، ويتناولون معه القليل من الخبز والزيت إذا وجد.. وإذا سألت زوجة أحدهم عن حاجيات البيت رد بغضب مبالغ فيه واضعا حدا للحديث في الموضوع..
العربي ولد عبد السلام اقترح عليهم الذهاب جماعة إلى بيت الحاكم، ورفع شكاية له حول الأوضاع في القرية التي تزداد سوءا كل يوم.. لم يوافق الكثير منهم على اقتراحه.. أغلبهم رغم الفقر والحاجة يخاف من ظله.. ذكره الطاهر ولد الجلالي بحادث مماثل مرت عليه أعوام كثيرة لا يعرفه غير شيوخ القرية.. احتكم فيه الناس إلى جد الحاكم ليأخذ لهم الحق من القرية المجاورة التي اعتدت على مراعيهم، فصادر نصف القطيع من القريتين معا، واستولى عليه.. لم ينفع معه لا رُسُل ولا وساطات، بل هددهم بالاستيلاء على الأرض، وتهجيرهم من المنطقة، فلم يجدوا بدا من الإذعان لجبروته.. ويحكون عن حفيده بأنه أشد جورا وجشعا من جده..
كل يوم بعد صلاة العصر يطرح معهم العربي ولد عبد السلام نفس الفكرة.. ويحاول إقناعهم بأنه لم يعد لديهم قطيع ليستولي عليه الحاكم، أو أرض ينتظرون جني محصولها في نهاية العام.. توالي أعوام الجفاف حوّل حياتهم إلى جحيم.. وحتى تهجيرهم من المنطقة سيتحدث عنه الناس بنوع من الفخر، لأنهم لن يهجروا بيوتهم بدافع الفقر والجوع، بل بدافع المواجهة مع الحاكم.. وشرح لهم أن الحكام لا يخشون رعاياهم في أيام الرخاء، ورغد العيش، عكس ما يحدث في أيام الجوع والفاقة. فهم يعلمون أن البطون الجائعة تؤثر على تفكير الناس، وقد تحولهم إلى وحوش ضارية تأتي على الأخضر واليابس..
بقي يضرب على الحديد الحامي، حتى لانت مواقفهم، فوافقوا على رأيه. اقترحوا أن يذهب وفد منهم يترأسه العربي ولد عبد السلام، ويتكلم باسمهم ما دام هو صاحب الفكرة. ونصحوه بأن يتحدث بلباقة في حضرة الحاكم، وينتقي كلماته بعناية، ولا بأس أن يمتدحه، ويمتدح آباءه، ويعدد الخدمات التي قدموها للناس أيام المحن، ولو من باب الكذب لتليين قلبه القاسي..
عقد العربي عدة اجتماعات مع الوفد الذي سيرافقه، وعرض نص الخطبة التي حفظها عن ظهر قلب على السكان، فأدخلوا عليها بعض التعديلات.. وقبل الاتفاق على يوم المقابلة سأل الطاهر ولد الجيلالي العربي:
ـ أ العربي! هل ستذهبون إليه بأياديكم فارغة.. الحكام يحبون الهدايا، وتنبسط أساريرهم كلما كانت قَيّمة، ويستقبلون الوفود التي تقدمها بحفاوة، ويستمعون بصدر رحب لمطالبهم..
رد العربي واجما:
ـ معك حق لا بد أن تضحي القرية بخروف أو خروفين على الأقل، رغم أن ذلك لن يملآ العين، لكنه في الوضع الذي نحن عليه يبدو أغلى من الذهب..
أضاف عبد الله ولد الفقيه:
ـ من يأكل اللحم اليوم غير الحكام وأعيان البلد؟!
تأجل موعد زيارة الحاكم حتى يتم الاتفاق على كيفية المساهمة في الهدية.. بعد أسبوع حسموا الأمر، واتفقوا على تقديم خروف واحد...
في اليوم المعهود لبس أفراد الوفد أفخر ما لديهم من ثياب وكأنهم ذاهبون إلى عرس، وتوجهوا إلى دار الحاكم التي تبعد عن القرية ببضعة أميال.. قدموا الهدية، وانتظروا حوالي ساعتين.. وعندما أذن لهم، دخلوا باحة المنزل، وأمرهم الحارس بالتوقف، وانتظار خروج الحاكم من غرفته.. انتابهم الخوف والرهبة من المكان.. لم يسبق لهم أن زاروا، أو دخلوا بيت الحاكم.. تعودوا على رؤيته من بعيد في السوق الأسبوعي يفصل في المنازعات بين الناس.. وكانوا يتحاشون الاقتراب منه، ويدعون الله ألا يجعلهم يقفون بين يديه..
بعد قليل خرج الحاكم يتهادى في جلبابه الأبيض الناصع مثل الثلج.. الرجل طويل القامة، وبدين الجسم، غليظ الرقبة، خداه متوردان كأن الدم سيفطس منهما.. يُغطي رأسه بعصابة في لون الجلباب، ويتكئ على عصا، عودها أسود، ومقبضها مصنوع من فضة تلمع مثل مياه النهر في فصل الربيع.. أغلب سكان المنطقة يعرفون بأن بدانة الحاكم تعود إلى إيمانه على تناول فاكهة الموز.. الرجل يبدو مثل لاعبي رياضة السومو اليابانيين، يبتلع عشرات الحبات يوميا... وبحكم بدانته يتحرك بصعوبة نحو أريكة موضوعة في مكان عال.. جلس وأعطى إشارة للحارس بأن يومئ لقائد الوفد بالكلام..
تقدم العربي ولد عبد السلام، وانحنى مرتين للسلام على القائد، ثم ألقى خطبته.. أثنى في البداية على الحاكم وأبيه وجده وأسرته، ثم أشار إلى الهدية التي قدمتها القرية في هذه الظروف الصعبة، وبعد ذلك دخل إلى صلب الموضوع، متمنيا على الحاكم مساعدة سكان القرية للخروج من أزمة الجفاف، وما رافق ذلك من جوع وارتفاع مهول للأسعار.. وختم كلمته بالدعاء لسيادته بالصحة والعافية وطول العمر..
نهض الحاكم من الأريكة بوجه عابس منصرفا إلى الداخل، بعد أن طلب من الحارس تبليغهم بأن يأكلوا الموز بقشوره...
عندما سمع العربي والوفد المرافق له جواب الحاكم انقبضت ملامحهم، وتطاير الشرر من عيونهم..
في طريق العودة لم ينبس ولد عبد السلام بكلمة. ظل عقله مشغولا، يفكر في خطة ينتقم فيها من الحاكم، ويُحول حياته إلى جحيم، وليحدث بعد ذلك ما يحدث..

مراكش 15 يناير 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...