صديقة علي - غاز حر ..

تتكدس أضابير المراجعين أمامي، وأنا أتامل وجوههم المحتقنة فاغرا فاي "كالمسطول"، يصعب عليّ تسيير أمورهم، وأنا في هذا التشتت والقلق.
زميلي الفيلسوف يدق بأنامله على المكتب، ولا ألتفت إليه ..
صراخهم لا أسمعه وحده صوتها يدوي:
ـ طلقني الحياة معك باتت مستحيلة.
أي طريق مسدود هذا؟ لا أنكر بأني صرت عصبيا أحمق... أفرغ كل قهري في وجهها، لكن سرعان ما أندم وأعتذر لها، لكن البارحة طفح الكيل، بالغت، وتعدت شتائمي لتنال أباها، صدّعت رأسي بالحديث عن براعته بإدارة الأزمة .. أبي زرع القمح ربى خرافا وأبقارا... والدي استغنى عن الدعم الحكومي، والدي سبعيني وتصرف بذكاء أكثر منك ..وأنت مقيد نفسك إلى مكتب لا يأتينا بربع مصروفنا الشهري ..والدي يحطب عند نفاد الغاز، وهنا تدفق سيل الشتائم عليها وعلى والدها.
طفلتي شعرت بالخطر، وراحت تصرخ، فجذبتها أمها بقسوة وخرجتا باكيتين.
أراجع حياتنا أستمتع بالكسل .. أهنئ نفسي بهدوء لم يدم طويلا ..فصدى صوتها لا يفارقني
ـ بنت الأصول تعيش على الخبز والبصل مع من تحب.
الحقيقة هي كانت بنت أصول ومحبة. لكن أعجزني الخبز حتى طار الحب.
ـ قلت لك دعنا نسكن مع أهلي نوفر أجار البيت، وهذا يمكننا من شراء الغاز الحر.
_غاز حر، خبز حر، مازوت حر ...رز حر، سكر حر، كله حر، إلا أنا لست حرا، تخنقينني باقتراحاتك المذلة...
تعم الفوضى، رتل المنتظرين طال والصراخ فوق رأسي يتعالى
ـ عطلت أشغالنا يارجل ..امض ودعنا نذهب، أم تنتظر ثمن فنجان قهوة*.. اعتبرت ما قاله الرجل إهانة، لكن ابتلعتها
رحت أقهقه ساخرا: أتعلم لا غاز عندي لأعد فنجان قهوة ...
تخيل أنني سأقف أمام قاضي الأحوال الشخصية لأعلن عجزي عن تأمين الغاز، وعن إعالة عائلتي ..شيء مضحك، اضحكوا اضحكوا، طلاق بسبب ...اضحكوا
تقدم أحدهم بثقة:
ـ لك عندي أسطوانة غاز "فل الفل" ستعجبك.
وقدم لي إضبارته ..همست له بتوسل: لا أقبل رشوة سأدفع لك ثمنها، يعني شرط ألا يساوي مرتبي، فقط جدها لي، وأكون ممتنا ....
وعده لي أرجع النور لذهني، هواء نفض كل السخام من عقلي ..وصارت كل الأوراق واضحة كالشمس ..
نسيت زوجتي وابنتي، وأنا أتخيل إبريق شاي يغلي .. ركوة قهوة ..حتى يمكنني أن أرفّه نفسي بحساء ساخن ...
رتل المراجعين الجاثم على صدري يخف بالتدريج، أخيرا تنفست الصعداء ..
قال زميلي الفيلسوف:
ـ كان عليها أن تحتمل، كل الدول التي تتعرض للحروب يصيبها ما أصابنا، نتائج الحرب وخيمة وحصار اقتصادي مجرم، واحتكار فاجر، وفساد مقيم ....و... فكيف لا تعذرك؟ نساء آخر زمن... هن والدهر علينا، لكن نصيحتي لك وعلى كل الأحوال اشتر باقة ورد واسترضها ...
أضحكني اقتراحه العظيم ...
ـ باقة ورد يا رجل؟ ...وفي هذه الظروف!.
أروح وأجيء، أنتظر اتصال من وعدني بالغاز.
الجوع يلاحقني فيضطرني أن أبحث عن أي شيء، الثلاجة فارغة ..كيف كانت زوجتي تتدبر أمر الطعام؟ ..تسهر بانتظار نصف ساعة كهرباء، كيف كانت تقسمها بين الغسالة، الطباخ الكهربائي، القازان ... المكواة؟ مدهشة بإدراتها للأزمة "طالعة" لأبوها، حقا شر البلية ما يضحك، اقترحت على معدتي: علبة سردين وخبز سياحي أو سندويش فلافل ... ثم أسحب اقتراحي ما تبقى من الراتب لا يكفي لهذا البذخ.
لا مفر لي سوى أختي أتصل بها كي تدعوني إلى الغداء، وقبل أن ألقي عليها تحيتي المحملة بالرجاء ..تصرخ مستغيثة أخي كيف سنتدبر حالنا هل يعقل ..أهذا عيش بشر؟ لا أظن ذلك اذا لم يتصرف سآتي لأقيم عندكم.
ـ عندنا! ؟... يالبؤسك أو تظنين أننا بحال أفضل؟
أشاغل جوعي بلقيمات خبز.
جاء اتصال المنقذ:
ـ ساعة وأحلى أسطوانة تكون عندك، وبالسعر الذي تحدده ..قال هذا بكل ثقة ...
من مكاني أتامل أسطوانة الغاز الخضراء ..تقف خلف الباب تنتظر يدي كي تمتعني ...أؤجل المتع قليلا
..دقائق و نار البوتغاز تضيء ظلام معدتي.
..عادت باقة الورد ونصيحة الفيلسوف تضحكني أخال الخروف يقضمها وقد تكون الخراف لا تحب الورد.
في أي كوكب تعيش أيها الفيلسوف؟
خطرت لي فكرة قفزت عن الأريكة، وحملت أسطوانة الغاز بكل اعتزاز وذهبت إلى زوجتي.
كان الاستقبال حارا، كيف لا وأنا محمل بالغاز! ، كنت كمن عاد منتصرا من ساحات الحرب، انشغلت زوجتي وأمها بإعداد الطعام، وأنا أحتضن طفلتي ...وأستمع على مضص لمحاضرة حماي حول التطورات الراهنة.
تناولنا العشاء بجو عائلي دافئ.. كانت نظرات زوجتي تتنقل بخيلاء بين الوجوه، مضى زمن طويل لم ترمقني بنظراتها هذه المحمّلة بكل فخر وشوق، لكن سرعان ما أفسدت طفلتي الأمر:
ـ هل سنعود إلى بيتنا؟ بابا هل ستسب جدو مرة أخرى وآتي لأشرب الحليب هنا؟

ـــــــــــ
*1 سعره غير مدعوم من قبل الحكومة.
*2 مصطلح يعني الرشوة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...