لا تحتاج إلى كبير عناء حين تجلس إلى خورخي لويس بورخيس (1899- 1986) لتحاوره، لأنه هو في كثير من الأحيان، يسأل نفسه ويجيب نفسه، ويستطرد في الكلام مع نفسه، وما لم تُقدم على إيقافه في اللحظة المناسبة، طارحاً عليه سؤالاً جديداً، فإنه يمعن في جرفك بسيل كلامه، فهذا الأديب والشاعر الأرجنتيني الكبير، الذي طبّقت شهرته الآفاق، خصوصاً كعرّاب للأدب الأميركي اللاتيني في جانبه السردي، هو حكّاء من طراز عجيب، وصاحب كاريزما متشامخة، يجلّلها عَماهُ الآسر، وبثه الشجي للكلمات من لواعج روحه. كما أنّ كاريزماه تتجلّى، حتى في طريقة إمساكه بعصاه بكلتا يديه الضخمتين شبه المتهالكتين.
ثلاث مرات التقيت خورخي لويس بورخيس. كان الأول في باريس ربيع عام 1980 في منزل الصديقة الفرنسية من أصل أرجنتيني: ليونور غونزاليس. أما الثاني، فكان في مقهى الدوماغو الشهير في باريس عام 1982. وجرى الثالث في أحد مقاهي جنيف الكلاسيكية القديمة عام 1983. وأعترف بأنه لولا الصديقة الأرجنتينية المثقفة في الصميم، والتي حوّلت منزلها في باريس إلى شبه صالون أدبي خاص بالأدباء الناطقين باللغة الإسبانية، لما حظيت بكرم هذه اللقاءات مع هذا الكاتب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين.
وكان بورخيس في هذه اللقاءات أو المحاورات، هو نفسه بورخيس الفوضوي، العابث، الصخّاب، المتفلّت، «المهذار» في الكلام، ورسم المناخات المسحورة ذات الأنساق المتعارضة، ولكن الجاذبة عموماً
كلام بورخيس يشبه أدبه بشكل عام. تراه يخلط الأمكنة بالأزمنة، والماضي السحيق بالحاضر المتناظر والمستقبل البعيد. ولا غرو، فهو الذي عُرف بابتكار جنس أدبي سمّاه «فِيكون»: عبارة عن سرد يزاوج بين القصة والمقالة، وأحياناً بين القصة والتقرير الإخباري. ويتميّز نصّه السردي إجمالاً، بأنه نصّ المزج الأسطوري بين الأدب والتاريخ، وتقديم كائنات الهامش على كائنات المتن، والتعاطي مع الحدث، كبيره وصغيره، كملحمة بنائية على أرض الواقع، ثم إن بورخيس بارع جداً في الجمع بين تراثات الشعوب والترحُّل بين الحضارات، ولا سيما العربية والإسلامية منها، فضلاً عن تراثات الصين والهند واليونان ومصر القديمة وبلاد ما بين النهرين وفينيقيا… إلخ. فله مع تراث «ألف ليلة وليلة»، مثلاً، جولات وصولات من التأثر والمحاكاة. كما كان «دون كيخوته» لسرفانتس من مصادره الأساسية في التحليق الحكائي الميلودرامي بمبالغاته المستحبّة.
بورخيس ونقطة أوميغا
أما تقاليد التصوّف الإسلامي، فقد خلبت لبّه، ولا سيما من خلال كتاب «منطق الطير» للصوفي فريد الدين العطار، حيث تشبّع بلغز ذلك الطائر الخرافي الذي يؤجّج العدم لأجل رسم طريق الخلاص للآخرين: السيمرغ أو العنقاء في الأساطير العربية.
والذي أدهش بورخيس في «منطق الطير» – بحسب ما فهمت منه بالطبع – هو رحلة الطيور بحثاً عن طائر العنقاء لتنصيبه ملكاً عليها،. والدليل الذي اختارته الطيور ليقودها في هذه الرحلة، كان طائر الهدهد، لكن هذا الطائر اللطيف الجميل لم يتمكّن من الصمود في الرحلة الطويلة الشاقة، فقرّر التراجع، لتتراجع معه بالتالي أسراب كبيرة من الطيور، لم يبق منها سوى ثلاثين طيراً، تستمر في مهمة البحث عن طائر العنقاء لتجده في النهاية قابعاً على عرشه، فتتداخل معه في كيان مرآويّ واحد، يعكس أمداء الحلول أو الحلوليّة، تماماً كما يرمز إليه الشطح الصوفي في منتهاه، والذي يبدع خلاله بورخيس من الصور واللوحات، أوسعها وأبرعها.
هكذا فالطيور التي أنجزت مهمة الوصول، بحسب «منطق الطير» للعطار، ما هي إلا رموز لجمع أولئك المتصوّفة وسلوكهم في بطون الوديان السبعة وفيافيها، والتي هي بترجمة أخرى، المراتب السبع للصوفية: وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي التخلّي، وادي التوحيد، وادي الحيرة ثم وادي الفقر، الذي هو أصعب الوديان وأشقّها، وإذا ما وصلته الطيور، أو بالأحرى الجماعة المتصوفة، تكون قد وصلت إلى غايتها وحلّت في مشهديّة هذه الغاية.
وقد نشر بورخيس في مؤلفه «كتاب الكائنات الخياليّة»، والذي أصدره في العام 1957 بالإضافة إلى صور من إيحاءات كتاب «منطق الطير» لفريد الدين العطار، لوحات عدّة، صوفيّة وغير صوفيّة مستمدّة أيضاً من تراثنا العربي والإسلامي، علاوة على لوحات من الأدب الأوروبي بعصوره القديمة والحديثة، ولقد قال لي: «إن التقاليد الصوفيّة هي الخيال المرئي والمتشخصن، الذي يُسعد قلب الكاتب، ويريح عقله، ويجعله ملكاً على وجدانه الرحب، والمرشح دوماً للمزيد من إطلاق الرحابة في النظام الوجودي المطلق». وأردف: «إن الكاتب الذي يغلي فيّ متمدّداً في المجال الصوفي المشرقي، يأخذ لغته من مفردات هذا الوجود نفسه ليجعل منها بنية سردية أو شعرية جديدة، كأنها تظهر للمرة الأولى في الوجود». سألته: وهل أنت مندغم بالشرق وتراثه إلى حد الانتماء الثقافي والإضماري المباشر يا سيد بورخيس؟
أجاب: تراث «ألف ليلة وليلة»، كما التراث الصوفي العربي والإسلامي، كما تراثات الهند والصين، كلّها تجعل منّي، لست منتمياً إلى هذي الفضاءات فحسب، وإنما أنا عصارتها وملتقط إشاراتها وومضاتها، التي أعمل فيها تأويلاً.. وتأويلاً حتى تتفتّح عن أشكال أخرى في نصّي وفاقاً لنجوى النفس الصوفيّة الأولى، والتي بها أسمو وأرتقي.
وماذا تقصد بالصوفيّة الأولى هنا؟
أجاب: «إنها اللحظة التي تنشق فيه الروح عن المادة التي كانت تختبئ فيها، لا لتغادرها وإنما لتتكامل معها من خارج ومن داخل، والتي بها قد تجمع النفس الواحدة بين اللذة والألم ونسق الشعور بالتحرّر الفردي الذي يمتد إلى جميع الفئات والكائنات».
وهل أفهم يا سيد بورخيس أنك تتوجّه في المحصّلة النهائية إلى لحظة «الأوميغا»؟ (الأوميغا هي الحرف الأخير من اللغة اليونانية، والتي تتوجّه إليها أفئدة كل الأشياء).
أجاب: «ما يهمني هو الفتح الكوني الذاتي، طموحاً إلى شيء سوف أظلّ أجهله، حتى ولو تطوّرت فكرة الروح هنا لتلتقي عند نقطة أوميغا.. فهذه النقطة، حتى ولو وصلت إليها، فهي ستضعني من جديد أمام أوميغا، بل أوميغات أخرى أشبه بسراب الامتلاء بالمطلق».
وفي كتابه «الألف»، يبحر بورخيس كذلك في الوجود، ووحدة الوجود، وفق سمت الصوفي العربي والإسلامي؛ فحرف الألف، هو أحد المرموزات التي تتضمّن المكان الذي يحوي الأمكنة كلها، وهذه الأمكنة تظلّ، من وجهة نظره، كشفاً لم يتحقق كلّه بعد، ولن يتحقق. على أن بورخيس «الصوفي الإسلامي» يكتب هنا دوماً بلغة الشاعر أو القاص السردي، وإن امتدّ فوق ذرى الكينونة وهاويات العدم في الوقت نفسه. إنه لا ينسى نفسه بأنه قاص وشاعر وحكّاء خصوصي، يقدم «كوميديا» غرائبية زاخرة بالحوار الخيالي، الكرنفالي واللاتجانسي، وغالباً ما تسحب «كوميدياه» هذه، حدثه أو أحداثه نحو مفعول تأويلي استثنائي للمعلومة التاريخيّة التي يتداولها.
شعر الآثار
يظهر التاريخ بطلاً شبه دائم في أدب بورخيس وشعره. وما نعنيه بالتاريخ هنا، هو تاريخ العالم، أي تاريخ الشعوب والحضارات في القارات بأسرها، القديمة منها قبل الحديثة، كما يشمل التاريخ لديه أيضاً، تاريخ الإنسان كنوع، والكائنات الحيّة والمنقرضة على اختلافها كنوع هي الأخرى.
وأجمل ما لفته في كلامي، وأنا أحاوره في مسألة التاريخ وإيحاءاته هنا، سؤالي له: يتحدثون دوماً عن علم الآثار، فما رأيك في أن نقلب المعادلة الآن ونقول شعر الآثار؟.. هنا انتفض بورخيس كمن أصابه مسّ قائلاً: نعم.. نعم، فلنقل شعر الآثار يا صاحبي بدلاً من علم الآثار. شعر الآثار، نعم أقوى وأرسخ وأكثر تدليلاً على ما مضى، وأسطع وأعمق تأثيراً في النفس وفي الحاضر على السواء.
و«شعر الآثار» مسألة لا يمكن تبسيطها هنا. ويدركها، بالتأكيد، علماء ما قبل التاريخ وخصوصاً منهم المؤرخ والشاعر إدوارد كيون، الذي كان يقرأ الأثر بلغة العقل ممتزجاً بالخيال الشعري، الذي يحرك كل شيء في الفضاء العام. ومن هنا كان ينتقل بورخيس من الكلام على آثار التحصينات الرومانية القديمة في بريطانيا، مثلاً، إلى كنوز وادي الرافدين في الجزيرة العربية، ومنهما إلى آثار ساحل البيرو في أميركا اللاتينية، من دون أن ينسى المكسيك وآثار حضارة المايا والإزتيك التي يحفظ أمثولتها عن ظهر قلب. كما يأخذنا الحكّاء الممتع بورخيس إلى آثار المباني الصغيرة الشبيهة بالمراقد في جزر الأوركي وجتلاند في شمالي اسكندينافيا.
كما أشاد بورخيس أمامي بعالم الآثار البريطاني جي. جي. دي كلارك، الذي قام بإحصاء دقيق وتعريف كامل لنوعية عظام الحيوانات التي استخرجت من عدد من المواقع الأثرية لمرحلة ما قبل التاريخ في إنجلترا والدانمرك وسويسرا.. وقال بالحرف الواحد: «إن هذه العظام عبارة عن نصوص تظلّ تؤشر لنا كما لو أنها اللحظة التي انتهى فيها العالم، ويُنتظر من خلال هذه النهاية زرع جديد سيزهر بالتأكيد في أدمغتنا المقفلة واليابسة».
وفي نظر بورخيس أن المؤرخين المشتغلين في أدوار ما قبل التاريخ، «هم بمعنى ما شعراء، وشعراء كبار، وما علينا إلا التقاط مرايا أشعارهم واستيعاب مضامينها، حتى ولو من باب التواطؤ السري معها».
كما أشار بورخيس بإكبار أيضاً إلى جهود العالم الأثري الإنجليزي السير مورتايمر ويلر، هذا الذي قَصَرَ حياته على علم الآثار أو «شعرية الآثار» عند السومريين، ولا سيما موقع المقبرة الملكية في مدينة أور، والتي تعود إلى السلالة الأولى التي حكمت في هذه المدينة في نحو السنة 2500 ق. م. وقد مهّد السير مورتماير للذين جاؤوا بعده ونقّبوا في أور بين سنة 1922 و1929، ولا سيما المنقّب ليوناردو وولي، الذي عثر على آثار نفيسة مصنوعة من الذهب وأخرى مطعّمة باللازورد والصدف، وهي تمثل أرقى ما توصل إليه السومريون في فن النحت والتطعيم والحفر على الذهب. يذكر بورخيس هذا كله بثقة واقتدار، إن لجهة سرد معلوماته حولها والتي تختزنها ذاكرته العجيبة، أو لجهة تحليلاته لها كقاص يجد خياله يلعب هنا كما لا يلعب في أي مكان آخر. كما أنه يبوح – وهنا الأهم – بأن الشعر تجسّده المنحوتة بقوة، تماماً كما يجسّده الحرف أو الكلمة.
هويّة بورخيس الأدبيّة
على الرغم من إشارتنا أعلاه إلى أن بورخيس ابتكر جنساً أدبيّاً جديداً، قوامه الجمع بين القصة والمقالة أو بين المقالة والتقرير الإخباري، فضلاً عن توظيف التاريخ في لعبة «كولاج» معينة داخل النص… إلخ. غير أن نصوصه الأدبيّة إجمالاً، لا معايير تصنيفية لها في النقد والنظريات النقدية، الكلاسيكية منها والحديثة؛ ولذلك احتاروا في تصنيف الرجل: أهو شاعر؟ أم قاص؟ أم روائي؟ أم مسرحي؟ أم مجرد كاتب؟ أم..؟ أم..؟ وهو الأمر الذي أشكل، حتى على لجنة جائزة نوبل التي حجبت جائزتها عن بورخيس في أكثر من دورة، بل دورات ترشّح عديدة، بحسب معلومات غونزاليس، والتي كانت على علاقة ثقافية وثيقة ببورخيس، وتعرف أخباراً كثيرة عنه، أغلبها غير متداول في الإعلام، ومنها أنه عندما فاز الروائي الغواتيمالي ميغيل أنخل أستورياس بجائزة نوبل للآداب في العام 1967، أصيب بورخيس على الفور بالإحباط، ومن ثمّ بالغضب والتبرّم، وعلّق قائلاً أمام الصديقة غونزاليس: «يعطونها للذين لا يستحقونها.. يعطونها لغير القادرين على الإمساك بتلابيب أنفسهم في الأدب والشعر، وحتى الحياة أيضاً». ومضت السيدة غونزاليس تقول: «إن هذا بالقطع ما لم يُصرّح به بورخيس للصحافة.. وما صرّح به لوسائل الإعلام كان لا يقلّ قسوة عما سلف»، قال: «بابلو نيرودا أحقّ بالجائزة من أستورياس.. وإذا ما كان ينبغي للأكاديمية السويدية أن تُعطي جائزتها ليساري أو شيوعي من جنوب القارة الأميركية، فنيرودا بالتأكيد هو الأجدر بها من غيره، وتحديداً من ميغيل أستورياس هذا».
وتعليقاً منّي على هذا «الكلام البورخيسي»، قلت للصديقة غونزاليس: بالتأكيد بورخيس على خطأ كبير هنا، فأستورياس روائي وشاعر عظيم، قدّم شعراً وأدباً مميزاً ومفارقاً، دشّن ما يسمّى بـ«الواقعية السحرية» التي طبعت الرواية الأميركية اللاتينية بطابعها لاحقاً. إنّ أدب أستورياس يحمل نكهة الشعوب الهندية القديمة في جنوب القارة. وروايته «السيد الرئيس» التي بوّأته الفوز بنوبل، بالإضافة إلى كونها تنتمي إلى الأدب الاحتجاجي ضد الديكتاتورية في أميركا اللاتينية (خصوصاً في غواتيمالا)، هي أيضاً رواية الطبيعة والعذوبة الريفية والشجر الأخضر القاتم والأبخرة الصباحيّة وصياح الديكة.. إلخ.
إن معايير نوبل في نهاية التحليل، ليست شرطاً قيمياً دالاً على إبداعية بورخيس من عدمها. وفوزه أو عدم فوزه بنوبل، لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً في ميزان نتاجه الإبداعي المميّز والمفارق، فالرجل على الرغم من الملاحظات النقدية التي انصبّت وتنصبّ على نتاجه الأدبي، يبقى أكبر من جائزة نوبل ومعاييرها.
شهادة نيرودا
منذ لقائي الثاني والثالث مع بورخيس، تأكّد لي أنه يحمل ضغينة كبيرة للأدباء الأميركيين اللاتينيين، ولا سيما لمجايليه منهم، وخاصة بابلو نيرودا وأوكتافيو باث، وكذلك للروائيين غابرييل غارسيا ماركيز وخوليو كولتازار وماريو فارغاس يوسا وإدواردو غاليانو وميغيل أستورياس وغيرهم.. وغيرهم. وسبب هذه الضغينة، طبعاً، إعصار الشهرة العالمية غير المسبوقة التي حصدها بعض هؤلاء في العالم، وحصولهم على جائزة نوبل التي ظلّت عقدة مقيمة في عظام رأسه حتى آخر يوم من حياته.. فضلاً عن نرجسيّته الفاقعة؛ فهو وإن علّق مباشرة بعد فوز أستورياس بنوبل 1967: «إن نيرودا يستحقّها أكثر من الذي نالها، ولا مجال للجدال في ذلك»؛ لم يكتم شعوره المملوء بالغيظ بعد فوز نيرودا بالجائزة 1971 قائلاً للإعلامي رامون شاو: «ما كان ينبغي أن تمنح لنيرودا، وإن كنت أوقن تمام اليقين بأنه ليس من العدل محاسبة الكاتب على أفكاره السياسية».
وينقل رامون شاو عن لسان بورخيس، أن هذا الأخير عندما سافر إلى تشيلي بلد نيرودا، وفي نيّته المسبّقة أن يلتقي بشاعرها الكبير نيرودا: «اختفى نيرودا عن الأنظار كي لا نلتقي، وحسناً فعل، لأن الناس أرادوا رؤيتنا نختلف، فهو كان شاعراً شيوعياً تشيلياً وأنا كنت، وما زلت، شاعراً محافظاً أرجنتينياً، وعلى الضد كليّاً من الشيوعية والشيوعيين».
ويأخذ بورخيس على نيرودا انتهازيّته ومحاباته قائلاً إنه عندما كتب قصيدة ضد ديكتاتوريي أميركا اللاتينية، لم يأت على ذكر الديكتاتور بيرون، وذلك لأسباب شخصية تتعلّق بدعوى قضائيّة في الأرجنتين تخصّ زوجته الأرجنتينية، «ولأجل ذلك لم يشأ نيرودا أن يزعج السلطات في بلدي، حتى لا تحول دون مجيئه إلى بيونس آيرس».
أما نيرودا فلم يكن يكترث ببورخيس ولا بمواقفه وتعليقاته السلبيّة، غير أن الشاعر اللبناني ميشال سليمان، صديق نيرودا الشخصي، ومترجم قصائد كثيرة له إلى العربيّة، يقول إنه فتح موضوع بورخيس مرة مع نيرودا، فأجابه نيرودا: «قيل لي إنه يهاجمني شخصياً في محافل أدبيّة وثقافية عدة.. وحتى أنا بنفسي سمعت له مرة في لقاء إذاعي أجرته معه إحدى المحطّات الإذاعيّة في كولومبيا ما يؤكد ذلك؛ لكنني كنت أفضّل أن يكون نقد بورخيس لي منصبّاً على شعري وبنية قصائدي لا على شخصي». وهل حاولت تسجيل موقف ضده؟ سأل ميشال سليمان صديقه نيرودا فأجابه: «لا.. لا، ليس من عادتي أن أردّ على من ينال منّي بالمعنى الشخصي، ولا يعنيني الذي يهاجمني إلا في حدود فهمي لشخصيته السياسية والأدبية، فبورخيس في نهاية التحليل أديب سياسي مضاد، وإن تزيّا في أدبه غالباً بالأسطورة وأساليب التهويل التاريخي في المجالين العام والخاص، فضلاً عن جرعات الأخيلة.. أخيلته، التي لا تتجاوز في أبعادها القصوى، فقاعاتها الآنيّة فقط».
وحاولت – يقول ميشال سليمان – سماع المزيد من محاكمة نيرودا لبورخيس، غير أنني لم أقع منه إلا على إشارات تكاد تكون مكمّلة لما سبق وذكره، غير أنها إشارات ضاربة وبليغة، ومنها مثلاً قوله: «بورخيس كاتب يتخذ من الفانتازيا حضوراً مقاميّ الطابع، غير أنّ نقطة ضعف هذا الحضور، هو في تكرّره وانفلاشه العائم في الكثير من سرديّاته. وعلى العموم، هو من الذين يطلون وجوههم وأنفسهم كيفما اتفق بالأسطورة، والأسطورة معه تفقد بريقها، رغم انتصارها أحياناً في المشهد الذي يُعمّره. وهو يُقحم مصطلحات فلسفيّة وعلميّة وعناوين تاريخيّة في نصوصه، يُشتمّ منها إيجاد فرادة في الأسلوب، ولكن ذلك غالباً ما ينال من أسلوبه نفسه، ويضرب حقيقة المعنى الأدبي أو الشعري الذي ينتويه. بورخيس باختصار، قاص يمتلك غواية المتعة بلا ضمير، والمعرفة بلا فضيلة، والسياسة بلا مبادئ.. إنه بارع في فلسفة إيهام الآخرين، بل حتى خداعهم، بأن العدميّة هي المعنى الوحيد للعالم».
شهادة غاليانو
ومن الذين حاكموا بورخيس على طريقتهم، الكاتب والروائي الأوروغوايي إدواردو غاليانو، الذي قال في حوار أجرته معه مجلة (منثلي ريفيو) في أكتوبر 2009: «لم يشغل بورخيس أية مكانة في قلبي ووجداني أبداً، ولا أشعر بتلك الكهرباء الدافقة بالحياة في أعماله. أقدّر كثيراً أسلوبه وحذقه ورفقته، وهو مثقف كبير قطعاً، لكنّي أراه رجلاً بمحض رأس، ولا شيء غيره.. لا قلب، لا معدة، رأس وحسب، رأس لامع في غاية الذكاء والفطنة. وأراه أيضاً نخبوياً غارقاً في نخبويته، وعنصرياً ونكوصياً يعتاش على حنينه الدائم والممض لديكتاتورية العسكر، مثل الجنرال «فيديلا» في الأرجنتين والجنرال «بينوشيه» في تشيلي، ولا أشعر بأي قرب تجاهه، وهو بالنسبة إليّ مجرد مثقف قابع في مكتبة».
وفي مقارنة بين نيرودا وبورخيس، يقول إدواردو غاليانو في الحوار نفسه: «كان نيرودا مهموماً بالعالم من حوله في هيئة مختلفة تماماً عن بورخيس، ونرى في قصائده احتفاء بالحياة والفاكهة والبحر والحب. في كل مرة أقرأ فيها نيرودا، أشعر أن هناك شخصاً ما يعيش أهوال الحياة ومباهجها، وكان يكبو مرة، ليعاود الوقوف بعدها ثانية؛ وكان ذا حساسيّة مفرطة تجاه موضوعات الحب والزمن والموت. أشعر دوماً أن نوعاً من كهرباء الحياة تربض دوماً في قلب أعمال نيرودا، وتفتقدها أغلب أعمال بورخيس؛ لكن هذا لا يمنع من القول إنني أحسّ أحياناً شيئاً من هذه الكهرباء المبهجة في بعض أعمال بورخيس، لكنني أتحسسها بطريقة مؤلمة، كشيء حزين يبعث على الأسى الدفين، لكنها تظلّ مفيدة أيضاً للغاية».
شهادة كولتازار
وكانت محاكمة الروائي والقاص الإرجنتيني الكبير خوليو كولتازار لابن بلده بورخيس قاسية وطريفة في آن معاً، ففي حوار أجريته معه شخصياً في باريس في العام 1976 ونشرته في إحدى الدوريات اللبنانية، قال كولتازار ما حرفيته: «بورخيس أديب محافظ وأصولي حتى العظم، على الرغم من ممارسته بعض «تقليعات» خطاب الحداثة وانفجاره. إنه يعاني من شلل رؤيوي في البصر والتبصّر، في الوقت الذي يرى نفسه وقد امتلك الرؤية كلها حتى نفاذها، واتّحد بالقياسات المبلورة لحركة الزمن والتاريخ. وفي الوقت الذي يرهقنا بتكراره مقولة أنه هو وحده من يجبّ فكرة الزمن وينتصر عليه، بينما تراه ينهلع رعباً من هذا الزمن ويستسلم له بلا شروط، عبر خطاب فلسفي – أدبي تزييني باهت وبلا مضمون يذكر أحياناً.
كيف؟ ماذا تقول يا سيد كولتازار؟ وهل لا يرعبك الزمن أنت ككاتب وكإنسان؟ سألت صاحب رواية «الحجلة» فأجابني: «يرعبني الزمن أنا ولا شك، لكنني لا أدّعي الانتصار عليه، لا أدبيّاً ولا تفلسفاً عبر الأدب». ويردف كولتازار: إن بورخيس حاول تقليد السورياليين من شدة إعجابه بهم، لكنه فشل؛ بينما نجح في المقابل في إيجاد «سوريالية محافظة» خاصة به، وهذه السوريالية البورخيسية تعني دوماً السباحة في العدميّة ثأراً منها». وهل تعتبر بورخيس كاتباً وشاعراً عابراً للعصور؟.. أجابني: بالإمكان اعتباره كذلك، مع إضافة أن بورخيس أديب صدامي، ولكن صدامه ليس من النوع الضارب عمقاً في فجاج المعرفة التاريخانية والمرجعيات الحضارية الكبرى للشعوب الأخرى كما كان يدّعي.. وفي رأيي كان على بورخيس أن يتخفّف من النحت بإزميل لاهوت ثقافة الآخرين وإبداعهم، اللهم إلا بانتماء أكثر غوراً وأعمق درساً وأقل نرجسيّة وخلطاً مشوّشاً بين الذات والآخر. وبماذا تعلّق على الذين يقولون «إن بورخيس هو رئة الأدب في أميركا اللاتيتية».. أجابني خوليو كولتازار مازحاً وعلى محيّاه ابتسامة شبه خبيثة: «بورخيس بسمارك الأدب والأدباء في أميركا اللاتينية».
شهادة إلياس خوري
ومن الذين حاكموا بورخيس على طريقتهم المغايرة من العرب هذه المرة، الروائي اللبناني الطليعي إلياس خوري. جاء ذلك في تضاعيف روايته المتميزة: «أولاد الغيتو.. اسمي آدم»، إذ يقول: «الكاتب الأرجنتيني الأعمى خورخي لويس بورخيس سخر من ترجمتنا لكلمتي المأساة والملهاة بكلمتي المدح والهجاء، ما أضاع على فلاسفتنا فهم علم الجمال الأرسطي؛ فقاموا بتشويهه. الأعمى الأرجنتيني سخر من كل المبصرين العرب، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب من أبي العلاء المعري، لا لأن أعمى المعرّة فهم معاني الكلمتين، وأحسن ترجمتهما، بل لأنه أبحر إلى مكان قصيّ وأسّس في «رسالة الغفران» إسراء الأدب إلى الجنّة والجحيم، مفتتحاً الحوار بين الموتى والأحياء الذي هو جوهر الأدب».
هكذا من الطبيعي أن تتباين الآراء النقدية والانطباعيّة في تقييم عالم خورخي لويس بورخيس الأدبي، وهي تظل في نهاية التحليل تُقدّم الدليل الساطع على أهمية الرجل وموقعه المفتاحي المؤثر في الإبداع المكتوب باللغة الإسبانية. وإذا كان الإبهار وظيفة من وظائف الأدب (وهو ما حاول بورخيس أن يقدمه ويراهن عليه، وقد نجح في رهانه هذا بهذه النسبة أو تلك)، فإن الأمر لا يعني، من وجهة أخرى، أن صاحب «كتاب الرمل» كان سطحياً في رحلته الباهرة مع الإبهار، وسعيه المحق من خلال هذه الرحلة للسيطرة على عقل المتلقي ووجدانه.
وكذلك لا أعتقد، من خلال سردياته القصصيّة أولاً، وثانياً من خلال حواراتي المعمّقة معه، أن بورخيس كان كاتباً يفتعل الاغتراب (الاغتراب عن ذاته وعن الآخر). كان في الواقع هو الاغتراب بعينه، الاغتراب مجسّداً في التوتر، وقد نشأ من زمان بين الكائن الغريزي فيه وبين هويته المتخيلة، ثم الناطقة، وهي تأخذ لغتها من مفردات الوجود المتناثر، ليجعل منها بورخيس في المحصّلة بنية أدبية أو شعرية جديدة، بدت وكأنها تظهر إلى الوجود للمرة الأولى.
باختصار، قدّم بورخيس خطاباً أدبيّاً مغايراً، ولم يكفّ عن التطوير الفنتازي فيه، وهذا الخطاب ظلّ على الدوام نتيجة متكررة لمعرفة الذات.. ذاته، التي يجزم هو قبل غيره أنه لم يعرفها قط.
صديق الماموث والديناصور
يظهر التاريخ بطلاً شبه دائم في أدب بورخيس وشعره. وما نعنيه بالتاريخ هنا، هو تاريخ العالم، أي تاريخ الشعوب والحضارات في القارات بأسرها، القديمة منها قبل الحديثة. كما يشمل التاريخ لديه أيضاً، تاريخ الإنسان كنوع، والكائنات الحيّة والمنقرضة على اختلافها كنوع هي الأخرى، وخصوصاً الماموث (حيوان ضخم منقرض)، حيث كرّر بورخيس أمامي أن الماموث صديقه «المقدس والأثير».. وكذلك الديناصور، «هذا الجبار المسالم الذي يحمي الجميع من أخطار الزلازل والفيضانات». ومن أصدقاء بورخيس أيضاً طائر الرخ، وبيضه الكبير والحزين، على الرغم من بياضه اليقق.. وأسرّ لي أنه بصدد كتابة نصوص وقصائد عن أصدقائه الغائبين المنقرضين هؤلاء. والكل، بحسب بورخيس هنا، سواء أكانوا بشراً، حيواناً وطيراً، مجتمعين ومتمظهرين هكذا من خلال أفعالهم وأدوارهم، هم أسلافنا ممن يُحدثنا عنهم علم الإحاثة، كالحافرات الحيوانية والنباتية paleontology». ويستحوذ على بورخيس شعور بأن أفكارنا وإحساساتنا والهيكل الطبيعي والمتوارث للعالم الذي نعيش فيه اليوم، قد تكيّفت على أيدي وأنفاس وآثار أسلافنا. وإذا أردنا التوصل إلى معرفة ما يتعلّق بنا راهناً، فعلينا ألا نتجاهل الأسلاف هؤلاء، علينا ألّا ننفي صلتنا بهم كحدث يومي نابض. وفي كل الأحوال، حتى لو تجاهلنا ذلك، بقصد أو من دون قصد، فنحن لا نستطيع أن نغيّر في المعادلة شيئاً، لأنهم باتوا جزءاً من تركيبتنا وخلايانا وفلزاتنا، بوعي منّا أو من دون وعي. نعم، لقد كان تاريخ العالم الذي مضى، والعالم الذي لا يزال يمضي، هو أعظم مستودع للتجربة البشرية، وربما غير البشرية على الإطلاق.
ما بعد بعد الحداثة
بدأنا نقرأ حديثاً عن تصنيفات نقدية لأدب بورخيس، تضعه في خانة أدب وأدباء ما بعد الحداثة (وبعضهم، مثل الأميركي تشيك غارنر، يطرحه كمثل ساطع على فئة شعراء وكتّاب ما بعد.. بعد الحداثة)؛ وهذا التصنيف هو الأصح نقدياً من وجهة نظرنا، بسبب طبيعة نصوصه المتماوجة ما بين الكلاسيكية بوجهيها القديم والمحدث، وبين السرد الحداثوي في أنساقه المركّبة، والتي تحرص خلالها هذه الأنساق على احتضان انفجار المعنى وإنجازه في نصوص مفتوحة وممتدة على التحرّر من الأدوار، وتشييد عوالم سردية متعدّدة الأصوات، حتى في بيت النص القصير الواحد الذي يبتدعه، ذلك أن ثقافة ما بعد.. بعد الحداثة، هي ثقافة الشعور بالتحرّر غير المحدّد وإنجاز الصدم ومزج الأمكنة بالأزمنة، وإعلاء صوت الفردية بطبيعته الاستفزازية، وجعله يتعمّم على الجميع، وإن بصورة متاهة مهجنّة أحياناً أو عوالم مسحورة أحياناً أخرى، وهو ما يتواءم بشكل مذهل مع فضاء شخصية بورخيس الإبداع
ثلاث مرات التقيت خورخي لويس بورخيس. كان الأول في باريس ربيع عام 1980 في منزل الصديقة الفرنسية من أصل أرجنتيني: ليونور غونزاليس. أما الثاني، فكان في مقهى الدوماغو الشهير في باريس عام 1982. وجرى الثالث في أحد مقاهي جنيف الكلاسيكية القديمة عام 1983. وأعترف بأنه لولا الصديقة الأرجنتينية المثقفة في الصميم، والتي حوّلت منزلها في باريس إلى شبه صالون أدبي خاص بالأدباء الناطقين باللغة الإسبانية، لما حظيت بكرم هذه اللقاءات مع هذا الكاتب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين.
وكان بورخيس في هذه اللقاءات أو المحاورات، هو نفسه بورخيس الفوضوي، العابث، الصخّاب، المتفلّت، «المهذار» في الكلام، ورسم المناخات المسحورة ذات الأنساق المتعارضة، ولكن الجاذبة عموماً
كلام بورخيس يشبه أدبه بشكل عام. تراه يخلط الأمكنة بالأزمنة، والماضي السحيق بالحاضر المتناظر والمستقبل البعيد. ولا غرو، فهو الذي عُرف بابتكار جنس أدبي سمّاه «فِيكون»: عبارة عن سرد يزاوج بين القصة والمقالة، وأحياناً بين القصة والتقرير الإخباري. ويتميّز نصّه السردي إجمالاً، بأنه نصّ المزج الأسطوري بين الأدب والتاريخ، وتقديم كائنات الهامش على كائنات المتن، والتعاطي مع الحدث، كبيره وصغيره، كملحمة بنائية على أرض الواقع، ثم إن بورخيس بارع جداً في الجمع بين تراثات الشعوب والترحُّل بين الحضارات، ولا سيما العربية والإسلامية منها، فضلاً عن تراثات الصين والهند واليونان ومصر القديمة وبلاد ما بين النهرين وفينيقيا… إلخ. فله مع تراث «ألف ليلة وليلة»، مثلاً، جولات وصولات من التأثر والمحاكاة. كما كان «دون كيخوته» لسرفانتس من مصادره الأساسية في التحليق الحكائي الميلودرامي بمبالغاته المستحبّة.
بورخيس ونقطة أوميغا
أما تقاليد التصوّف الإسلامي، فقد خلبت لبّه، ولا سيما من خلال كتاب «منطق الطير» للصوفي فريد الدين العطار، حيث تشبّع بلغز ذلك الطائر الخرافي الذي يؤجّج العدم لأجل رسم طريق الخلاص للآخرين: السيمرغ أو العنقاء في الأساطير العربية.
والذي أدهش بورخيس في «منطق الطير» – بحسب ما فهمت منه بالطبع – هو رحلة الطيور بحثاً عن طائر العنقاء لتنصيبه ملكاً عليها،. والدليل الذي اختارته الطيور ليقودها في هذه الرحلة، كان طائر الهدهد، لكن هذا الطائر اللطيف الجميل لم يتمكّن من الصمود في الرحلة الطويلة الشاقة، فقرّر التراجع، لتتراجع معه بالتالي أسراب كبيرة من الطيور، لم يبق منها سوى ثلاثين طيراً، تستمر في مهمة البحث عن طائر العنقاء لتجده في النهاية قابعاً على عرشه، فتتداخل معه في كيان مرآويّ واحد، يعكس أمداء الحلول أو الحلوليّة، تماماً كما يرمز إليه الشطح الصوفي في منتهاه، والذي يبدع خلاله بورخيس من الصور واللوحات، أوسعها وأبرعها.
هكذا فالطيور التي أنجزت مهمة الوصول، بحسب «منطق الطير» للعطار، ما هي إلا رموز لجمع أولئك المتصوّفة وسلوكهم في بطون الوديان السبعة وفيافيها، والتي هي بترجمة أخرى، المراتب السبع للصوفية: وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي التخلّي، وادي التوحيد، وادي الحيرة ثم وادي الفقر، الذي هو أصعب الوديان وأشقّها، وإذا ما وصلته الطيور، أو بالأحرى الجماعة المتصوفة، تكون قد وصلت إلى غايتها وحلّت في مشهديّة هذه الغاية.
وقد نشر بورخيس في مؤلفه «كتاب الكائنات الخياليّة»، والذي أصدره في العام 1957 بالإضافة إلى صور من إيحاءات كتاب «منطق الطير» لفريد الدين العطار، لوحات عدّة، صوفيّة وغير صوفيّة مستمدّة أيضاً من تراثنا العربي والإسلامي، علاوة على لوحات من الأدب الأوروبي بعصوره القديمة والحديثة، ولقد قال لي: «إن التقاليد الصوفيّة هي الخيال المرئي والمتشخصن، الذي يُسعد قلب الكاتب، ويريح عقله، ويجعله ملكاً على وجدانه الرحب، والمرشح دوماً للمزيد من إطلاق الرحابة في النظام الوجودي المطلق». وأردف: «إن الكاتب الذي يغلي فيّ متمدّداً في المجال الصوفي المشرقي، يأخذ لغته من مفردات هذا الوجود نفسه ليجعل منها بنية سردية أو شعرية جديدة، كأنها تظهر للمرة الأولى في الوجود». سألته: وهل أنت مندغم بالشرق وتراثه إلى حد الانتماء الثقافي والإضماري المباشر يا سيد بورخيس؟
أجاب: تراث «ألف ليلة وليلة»، كما التراث الصوفي العربي والإسلامي، كما تراثات الهند والصين، كلّها تجعل منّي، لست منتمياً إلى هذي الفضاءات فحسب، وإنما أنا عصارتها وملتقط إشاراتها وومضاتها، التي أعمل فيها تأويلاً.. وتأويلاً حتى تتفتّح عن أشكال أخرى في نصّي وفاقاً لنجوى النفس الصوفيّة الأولى، والتي بها أسمو وأرتقي.
وماذا تقصد بالصوفيّة الأولى هنا؟
أجاب: «إنها اللحظة التي تنشق فيه الروح عن المادة التي كانت تختبئ فيها، لا لتغادرها وإنما لتتكامل معها من خارج ومن داخل، والتي بها قد تجمع النفس الواحدة بين اللذة والألم ونسق الشعور بالتحرّر الفردي الذي يمتد إلى جميع الفئات والكائنات».
وهل أفهم يا سيد بورخيس أنك تتوجّه في المحصّلة النهائية إلى لحظة «الأوميغا»؟ (الأوميغا هي الحرف الأخير من اللغة اليونانية، والتي تتوجّه إليها أفئدة كل الأشياء).
أجاب: «ما يهمني هو الفتح الكوني الذاتي، طموحاً إلى شيء سوف أظلّ أجهله، حتى ولو تطوّرت فكرة الروح هنا لتلتقي عند نقطة أوميغا.. فهذه النقطة، حتى ولو وصلت إليها، فهي ستضعني من جديد أمام أوميغا، بل أوميغات أخرى أشبه بسراب الامتلاء بالمطلق».
وفي كتابه «الألف»، يبحر بورخيس كذلك في الوجود، ووحدة الوجود، وفق سمت الصوفي العربي والإسلامي؛ فحرف الألف، هو أحد المرموزات التي تتضمّن المكان الذي يحوي الأمكنة كلها، وهذه الأمكنة تظلّ، من وجهة نظره، كشفاً لم يتحقق كلّه بعد، ولن يتحقق. على أن بورخيس «الصوفي الإسلامي» يكتب هنا دوماً بلغة الشاعر أو القاص السردي، وإن امتدّ فوق ذرى الكينونة وهاويات العدم في الوقت نفسه. إنه لا ينسى نفسه بأنه قاص وشاعر وحكّاء خصوصي، يقدم «كوميديا» غرائبية زاخرة بالحوار الخيالي، الكرنفالي واللاتجانسي، وغالباً ما تسحب «كوميدياه» هذه، حدثه أو أحداثه نحو مفعول تأويلي استثنائي للمعلومة التاريخيّة التي يتداولها.
شعر الآثار
يظهر التاريخ بطلاً شبه دائم في أدب بورخيس وشعره. وما نعنيه بالتاريخ هنا، هو تاريخ العالم، أي تاريخ الشعوب والحضارات في القارات بأسرها، القديمة منها قبل الحديثة، كما يشمل التاريخ لديه أيضاً، تاريخ الإنسان كنوع، والكائنات الحيّة والمنقرضة على اختلافها كنوع هي الأخرى.
وأجمل ما لفته في كلامي، وأنا أحاوره في مسألة التاريخ وإيحاءاته هنا، سؤالي له: يتحدثون دوماً عن علم الآثار، فما رأيك في أن نقلب المعادلة الآن ونقول شعر الآثار؟.. هنا انتفض بورخيس كمن أصابه مسّ قائلاً: نعم.. نعم، فلنقل شعر الآثار يا صاحبي بدلاً من علم الآثار. شعر الآثار، نعم أقوى وأرسخ وأكثر تدليلاً على ما مضى، وأسطع وأعمق تأثيراً في النفس وفي الحاضر على السواء.
و«شعر الآثار» مسألة لا يمكن تبسيطها هنا. ويدركها، بالتأكيد، علماء ما قبل التاريخ وخصوصاً منهم المؤرخ والشاعر إدوارد كيون، الذي كان يقرأ الأثر بلغة العقل ممتزجاً بالخيال الشعري، الذي يحرك كل شيء في الفضاء العام. ومن هنا كان ينتقل بورخيس من الكلام على آثار التحصينات الرومانية القديمة في بريطانيا، مثلاً، إلى كنوز وادي الرافدين في الجزيرة العربية، ومنهما إلى آثار ساحل البيرو في أميركا اللاتينية، من دون أن ينسى المكسيك وآثار حضارة المايا والإزتيك التي يحفظ أمثولتها عن ظهر قلب. كما يأخذنا الحكّاء الممتع بورخيس إلى آثار المباني الصغيرة الشبيهة بالمراقد في جزر الأوركي وجتلاند في شمالي اسكندينافيا.
كما أشاد بورخيس أمامي بعالم الآثار البريطاني جي. جي. دي كلارك، الذي قام بإحصاء دقيق وتعريف كامل لنوعية عظام الحيوانات التي استخرجت من عدد من المواقع الأثرية لمرحلة ما قبل التاريخ في إنجلترا والدانمرك وسويسرا.. وقال بالحرف الواحد: «إن هذه العظام عبارة عن نصوص تظلّ تؤشر لنا كما لو أنها اللحظة التي انتهى فيها العالم، ويُنتظر من خلال هذه النهاية زرع جديد سيزهر بالتأكيد في أدمغتنا المقفلة واليابسة».
وفي نظر بورخيس أن المؤرخين المشتغلين في أدوار ما قبل التاريخ، «هم بمعنى ما شعراء، وشعراء كبار، وما علينا إلا التقاط مرايا أشعارهم واستيعاب مضامينها، حتى ولو من باب التواطؤ السري معها».
كما أشار بورخيس بإكبار أيضاً إلى جهود العالم الأثري الإنجليزي السير مورتايمر ويلر، هذا الذي قَصَرَ حياته على علم الآثار أو «شعرية الآثار» عند السومريين، ولا سيما موقع المقبرة الملكية في مدينة أور، والتي تعود إلى السلالة الأولى التي حكمت في هذه المدينة في نحو السنة 2500 ق. م. وقد مهّد السير مورتماير للذين جاؤوا بعده ونقّبوا في أور بين سنة 1922 و1929، ولا سيما المنقّب ليوناردو وولي، الذي عثر على آثار نفيسة مصنوعة من الذهب وأخرى مطعّمة باللازورد والصدف، وهي تمثل أرقى ما توصل إليه السومريون في فن النحت والتطعيم والحفر على الذهب. يذكر بورخيس هذا كله بثقة واقتدار، إن لجهة سرد معلوماته حولها والتي تختزنها ذاكرته العجيبة، أو لجهة تحليلاته لها كقاص يجد خياله يلعب هنا كما لا يلعب في أي مكان آخر. كما أنه يبوح – وهنا الأهم – بأن الشعر تجسّده المنحوتة بقوة، تماماً كما يجسّده الحرف أو الكلمة.
هويّة بورخيس الأدبيّة
على الرغم من إشارتنا أعلاه إلى أن بورخيس ابتكر جنساً أدبيّاً جديداً، قوامه الجمع بين القصة والمقالة أو بين المقالة والتقرير الإخباري، فضلاً عن توظيف التاريخ في لعبة «كولاج» معينة داخل النص… إلخ. غير أن نصوصه الأدبيّة إجمالاً، لا معايير تصنيفية لها في النقد والنظريات النقدية، الكلاسيكية منها والحديثة؛ ولذلك احتاروا في تصنيف الرجل: أهو شاعر؟ أم قاص؟ أم روائي؟ أم مسرحي؟ أم مجرد كاتب؟ أم..؟ أم..؟ وهو الأمر الذي أشكل، حتى على لجنة جائزة نوبل التي حجبت جائزتها عن بورخيس في أكثر من دورة، بل دورات ترشّح عديدة، بحسب معلومات غونزاليس، والتي كانت على علاقة ثقافية وثيقة ببورخيس، وتعرف أخباراً كثيرة عنه، أغلبها غير متداول في الإعلام، ومنها أنه عندما فاز الروائي الغواتيمالي ميغيل أنخل أستورياس بجائزة نوبل للآداب في العام 1967، أصيب بورخيس على الفور بالإحباط، ومن ثمّ بالغضب والتبرّم، وعلّق قائلاً أمام الصديقة غونزاليس: «يعطونها للذين لا يستحقونها.. يعطونها لغير القادرين على الإمساك بتلابيب أنفسهم في الأدب والشعر، وحتى الحياة أيضاً». ومضت السيدة غونزاليس تقول: «إن هذا بالقطع ما لم يُصرّح به بورخيس للصحافة.. وما صرّح به لوسائل الإعلام كان لا يقلّ قسوة عما سلف»، قال: «بابلو نيرودا أحقّ بالجائزة من أستورياس.. وإذا ما كان ينبغي للأكاديمية السويدية أن تُعطي جائزتها ليساري أو شيوعي من جنوب القارة الأميركية، فنيرودا بالتأكيد هو الأجدر بها من غيره، وتحديداً من ميغيل أستورياس هذا».
وتعليقاً منّي على هذا «الكلام البورخيسي»، قلت للصديقة غونزاليس: بالتأكيد بورخيس على خطأ كبير هنا، فأستورياس روائي وشاعر عظيم، قدّم شعراً وأدباً مميزاً ومفارقاً، دشّن ما يسمّى بـ«الواقعية السحرية» التي طبعت الرواية الأميركية اللاتينية بطابعها لاحقاً. إنّ أدب أستورياس يحمل نكهة الشعوب الهندية القديمة في جنوب القارة. وروايته «السيد الرئيس» التي بوّأته الفوز بنوبل، بالإضافة إلى كونها تنتمي إلى الأدب الاحتجاجي ضد الديكتاتورية في أميركا اللاتينية (خصوصاً في غواتيمالا)، هي أيضاً رواية الطبيعة والعذوبة الريفية والشجر الأخضر القاتم والأبخرة الصباحيّة وصياح الديكة.. إلخ.
إن معايير نوبل في نهاية التحليل، ليست شرطاً قيمياً دالاً على إبداعية بورخيس من عدمها. وفوزه أو عدم فوزه بنوبل، لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً في ميزان نتاجه الإبداعي المميّز والمفارق، فالرجل على الرغم من الملاحظات النقدية التي انصبّت وتنصبّ على نتاجه الأدبي، يبقى أكبر من جائزة نوبل ومعاييرها.
شهادة نيرودا
منذ لقائي الثاني والثالث مع بورخيس، تأكّد لي أنه يحمل ضغينة كبيرة للأدباء الأميركيين اللاتينيين، ولا سيما لمجايليه منهم، وخاصة بابلو نيرودا وأوكتافيو باث، وكذلك للروائيين غابرييل غارسيا ماركيز وخوليو كولتازار وماريو فارغاس يوسا وإدواردو غاليانو وميغيل أستورياس وغيرهم.. وغيرهم. وسبب هذه الضغينة، طبعاً، إعصار الشهرة العالمية غير المسبوقة التي حصدها بعض هؤلاء في العالم، وحصولهم على جائزة نوبل التي ظلّت عقدة مقيمة في عظام رأسه حتى آخر يوم من حياته.. فضلاً عن نرجسيّته الفاقعة؛ فهو وإن علّق مباشرة بعد فوز أستورياس بنوبل 1967: «إن نيرودا يستحقّها أكثر من الذي نالها، ولا مجال للجدال في ذلك»؛ لم يكتم شعوره المملوء بالغيظ بعد فوز نيرودا بالجائزة 1971 قائلاً للإعلامي رامون شاو: «ما كان ينبغي أن تمنح لنيرودا، وإن كنت أوقن تمام اليقين بأنه ليس من العدل محاسبة الكاتب على أفكاره السياسية».
وينقل رامون شاو عن لسان بورخيس، أن هذا الأخير عندما سافر إلى تشيلي بلد نيرودا، وفي نيّته المسبّقة أن يلتقي بشاعرها الكبير نيرودا: «اختفى نيرودا عن الأنظار كي لا نلتقي، وحسناً فعل، لأن الناس أرادوا رؤيتنا نختلف، فهو كان شاعراً شيوعياً تشيلياً وأنا كنت، وما زلت، شاعراً محافظاً أرجنتينياً، وعلى الضد كليّاً من الشيوعية والشيوعيين».
ويأخذ بورخيس على نيرودا انتهازيّته ومحاباته قائلاً إنه عندما كتب قصيدة ضد ديكتاتوريي أميركا اللاتينية، لم يأت على ذكر الديكتاتور بيرون، وذلك لأسباب شخصية تتعلّق بدعوى قضائيّة في الأرجنتين تخصّ زوجته الأرجنتينية، «ولأجل ذلك لم يشأ نيرودا أن يزعج السلطات في بلدي، حتى لا تحول دون مجيئه إلى بيونس آيرس».
أما نيرودا فلم يكن يكترث ببورخيس ولا بمواقفه وتعليقاته السلبيّة، غير أن الشاعر اللبناني ميشال سليمان، صديق نيرودا الشخصي، ومترجم قصائد كثيرة له إلى العربيّة، يقول إنه فتح موضوع بورخيس مرة مع نيرودا، فأجابه نيرودا: «قيل لي إنه يهاجمني شخصياً في محافل أدبيّة وثقافية عدة.. وحتى أنا بنفسي سمعت له مرة في لقاء إذاعي أجرته معه إحدى المحطّات الإذاعيّة في كولومبيا ما يؤكد ذلك؛ لكنني كنت أفضّل أن يكون نقد بورخيس لي منصبّاً على شعري وبنية قصائدي لا على شخصي». وهل حاولت تسجيل موقف ضده؟ سأل ميشال سليمان صديقه نيرودا فأجابه: «لا.. لا، ليس من عادتي أن أردّ على من ينال منّي بالمعنى الشخصي، ولا يعنيني الذي يهاجمني إلا في حدود فهمي لشخصيته السياسية والأدبية، فبورخيس في نهاية التحليل أديب سياسي مضاد، وإن تزيّا في أدبه غالباً بالأسطورة وأساليب التهويل التاريخي في المجالين العام والخاص، فضلاً عن جرعات الأخيلة.. أخيلته، التي لا تتجاوز في أبعادها القصوى، فقاعاتها الآنيّة فقط».
وحاولت – يقول ميشال سليمان – سماع المزيد من محاكمة نيرودا لبورخيس، غير أنني لم أقع منه إلا على إشارات تكاد تكون مكمّلة لما سبق وذكره، غير أنها إشارات ضاربة وبليغة، ومنها مثلاً قوله: «بورخيس كاتب يتخذ من الفانتازيا حضوراً مقاميّ الطابع، غير أنّ نقطة ضعف هذا الحضور، هو في تكرّره وانفلاشه العائم في الكثير من سرديّاته. وعلى العموم، هو من الذين يطلون وجوههم وأنفسهم كيفما اتفق بالأسطورة، والأسطورة معه تفقد بريقها، رغم انتصارها أحياناً في المشهد الذي يُعمّره. وهو يُقحم مصطلحات فلسفيّة وعلميّة وعناوين تاريخيّة في نصوصه، يُشتمّ منها إيجاد فرادة في الأسلوب، ولكن ذلك غالباً ما ينال من أسلوبه نفسه، ويضرب حقيقة المعنى الأدبي أو الشعري الذي ينتويه. بورخيس باختصار، قاص يمتلك غواية المتعة بلا ضمير، والمعرفة بلا فضيلة، والسياسة بلا مبادئ.. إنه بارع في فلسفة إيهام الآخرين، بل حتى خداعهم، بأن العدميّة هي المعنى الوحيد للعالم».
شهادة غاليانو
ومن الذين حاكموا بورخيس على طريقتهم، الكاتب والروائي الأوروغوايي إدواردو غاليانو، الذي قال في حوار أجرته معه مجلة (منثلي ريفيو) في أكتوبر 2009: «لم يشغل بورخيس أية مكانة في قلبي ووجداني أبداً، ولا أشعر بتلك الكهرباء الدافقة بالحياة في أعماله. أقدّر كثيراً أسلوبه وحذقه ورفقته، وهو مثقف كبير قطعاً، لكنّي أراه رجلاً بمحض رأس، ولا شيء غيره.. لا قلب، لا معدة، رأس وحسب، رأس لامع في غاية الذكاء والفطنة. وأراه أيضاً نخبوياً غارقاً في نخبويته، وعنصرياً ونكوصياً يعتاش على حنينه الدائم والممض لديكتاتورية العسكر، مثل الجنرال «فيديلا» في الأرجنتين والجنرال «بينوشيه» في تشيلي، ولا أشعر بأي قرب تجاهه، وهو بالنسبة إليّ مجرد مثقف قابع في مكتبة».
وفي مقارنة بين نيرودا وبورخيس، يقول إدواردو غاليانو في الحوار نفسه: «كان نيرودا مهموماً بالعالم من حوله في هيئة مختلفة تماماً عن بورخيس، ونرى في قصائده احتفاء بالحياة والفاكهة والبحر والحب. في كل مرة أقرأ فيها نيرودا، أشعر أن هناك شخصاً ما يعيش أهوال الحياة ومباهجها، وكان يكبو مرة، ليعاود الوقوف بعدها ثانية؛ وكان ذا حساسيّة مفرطة تجاه موضوعات الحب والزمن والموت. أشعر دوماً أن نوعاً من كهرباء الحياة تربض دوماً في قلب أعمال نيرودا، وتفتقدها أغلب أعمال بورخيس؛ لكن هذا لا يمنع من القول إنني أحسّ أحياناً شيئاً من هذه الكهرباء المبهجة في بعض أعمال بورخيس، لكنني أتحسسها بطريقة مؤلمة، كشيء حزين يبعث على الأسى الدفين، لكنها تظلّ مفيدة أيضاً للغاية».
شهادة كولتازار
وكانت محاكمة الروائي والقاص الإرجنتيني الكبير خوليو كولتازار لابن بلده بورخيس قاسية وطريفة في آن معاً، ففي حوار أجريته معه شخصياً في باريس في العام 1976 ونشرته في إحدى الدوريات اللبنانية، قال كولتازار ما حرفيته: «بورخيس أديب محافظ وأصولي حتى العظم، على الرغم من ممارسته بعض «تقليعات» خطاب الحداثة وانفجاره. إنه يعاني من شلل رؤيوي في البصر والتبصّر، في الوقت الذي يرى نفسه وقد امتلك الرؤية كلها حتى نفاذها، واتّحد بالقياسات المبلورة لحركة الزمن والتاريخ. وفي الوقت الذي يرهقنا بتكراره مقولة أنه هو وحده من يجبّ فكرة الزمن وينتصر عليه، بينما تراه ينهلع رعباً من هذا الزمن ويستسلم له بلا شروط، عبر خطاب فلسفي – أدبي تزييني باهت وبلا مضمون يذكر أحياناً.
كيف؟ ماذا تقول يا سيد كولتازار؟ وهل لا يرعبك الزمن أنت ككاتب وكإنسان؟ سألت صاحب رواية «الحجلة» فأجابني: «يرعبني الزمن أنا ولا شك، لكنني لا أدّعي الانتصار عليه، لا أدبيّاً ولا تفلسفاً عبر الأدب». ويردف كولتازار: إن بورخيس حاول تقليد السورياليين من شدة إعجابه بهم، لكنه فشل؛ بينما نجح في المقابل في إيجاد «سوريالية محافظة» خاصة به، وهذه السوريالية البورخيسية تعني دوماً السباحة في العدميّة ثأراً منها». وهل تعتبر بورخيس كاتباً وشاعراً عابراً للعصور؟.. أجابني: بالإمكان اعتباره كذلك، مع إضافة أن بورخيس أديب صدامي، ولكن صدامه ليس من النوع الضارب عمقاً في فجاج المعرفة التاريخانية والمرجعيات الحضارية الكبرى للشعوب الأخرى كما كان يدّعي.. وفي رأيي كان على بورخيس أن يتخفّف من النحت بإزميل لاهوت ثقافة الآخرين وإبداعهم، اللهم إلا بانتماء أكثر غوراً وأعمق درساً وأقل نرجسيّة وخلطاً مشوّشاً بين الذات والآخر. وبماذا تعلّق على الذين يقولون «إن بورخيس هو رئة الأدب في أميركا اللاتيتية».. أجابني خوليو كولتازار مازحاً وعلى محيّاه ابتسامة شبه خبيثة: «بورخيس بسمارك الأدب والأدباء في أميركا اللاتينية».
شهادة إلياس خوري
ومن الذين حاكموا بورخيس على طريقتهم المغايرة من العرب هذه المرة، الروائي اللبناني الطليعي إلياس خوري. جاء ذلك في تضاعيف روايته المتميزة: «أولاد الغيتو.. اسمي آدم»، إذ يقول: «الكاتب الأرجنتيني الأعمى خورخي لويس بورخيس سخر من ترجمتنا لكلمتي المأساة والملهاة بكلمتي المدح والهجاء، ما أضاع على فلاسفتنا فهم علم الجمال الأرسطي؛ فقاموا بتشويهه. الأعمى الأرجنتيني سخر من كل المبصرين العرب، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب من أبي العلاء المعري، لا لأن أعمى المعرّة فهم معاني الكلمتين، وأحسن ترجمتهما، بل لأنه أبحر إلى مكان قصيّ وأسّس في «رسالة الغفران» إسراء الأدب إلى الجنّة والجحيم، مفتتحاً الحوار بين الموتى والأحياء الذي هو جوهر الأدب».
هكذا من الطبيعي أن تتباين الآراء النقدية والانطباعيّة في تقييم عالم خورخي لويس بورخيس الأدبي، وهي تظل في نهاية التحليل تُقدّم الدليل الساطع على أهمية الرجل وموقعه المفتاحي المؤثر في الإبداع المكتوب باللغة الإسبانية. وإذا كان الإبهار وظيفة من وظائف الأدب (وهو ما حاول بورخيس أن يقدمه ويراهن عليه، وقد نجح في رهانه هذا بهذه النسبة أو تلك)، فإن الأمر لا يعني، من وجهة أخرى، أن صاحب «كتاب الرمل» كان سطحياً في رحلته الباهرة مع الإبهار، وسعيه المحق من خلال هذه الرحلة للسيطرة على عقل المتلقي ووجدانه.
وكذلك لا أعتقد، من خلال سردياته القصصيّة أولاً، وثانياً من خلال حواراتي المعمّقة معه، أن بورخيس كان كاتباً يفتعل الاغتراب (الاغتراب عن ذاته وعن الآخر). كان في الواقع هو الاغتراب بعينه، الاغتراب مجسّداً في التوتر، وقد نشأ من زمان بين الكائن الغريزي فيه وبين هويته المتخيلة، ثم الناطقة، وهي تأخذ لغتها من مفردات الوجود المتناثر، ليجعل منها بورخيس في المحصّلة بنية أدبية أو شعرية جديدة، بدت وكأنها تظهر إلى الوجود للمرة الأولى.
باختصار، قدّم بورخيس خطاباً أدبيّاً مغايراً، ولم يكفّ عن التطوير الفنتازي فيه، وهذا الخطاب ظلّ على الدوام نتيجة متكررة لمعرفة الذات.. ذاته، التي يجزم هو قبل غيره أنه لم يعرفها قط.
صديق الماموث والديناصور
يظهر التاريخ بطلاً شبه دائم في أدب بورخيس وشعره. وما نعنيه بالتاريخ هنا، هو تاريخ العالم، أي تاريخ الشعوب والحضارات في القارات بأسرها، القديمة منها قبل الحديثة. كما يشمل التاريخ لديه أيضاً، تاريخ الإنسان كنوع، والكائنات الحيّة والمنقرضة على اختلافها كنوع هي الأخرى، وخصوصاً الماموث (حيوان ضخم منقرض)، حيث كرّر بورخيس أمامي أن الماموث صديقه «المقدس والأثير».. وكذلك الديناصور، «هذا الجبار المسالم الذي يحمي الجميع من أخطار الزلازل والفيضانات». ومن أصدقاء بورخيس أيضاً طائر الرخ، وبيضه الكبير والحزين، على الرغم من بياضه اليقق.. وأسرّ لي أنه بصدد كتابة نصوص وقصائد عن أصدقائه الغائبين المنقرضين هؤلاء. والكل، بحسب بورخيس هنا، سواء أكانوا بشراً، حيواناً وطيراً، مجتمعين ومتمظهرين هكذا من خلال أفعالهم وأدوارهم، هم أسلافنا ممن يُحدثنا عنهم علم الإحاثة، كالحافرات الحيوانية والنباتية paleontology». ويستحوذ على بورخيس شعور بأن أفكارنا وإحساساتنا والهيكل الطبيعي والمتوارث للعالم الذي نعيش فيه اليوم، قد تكيّفت على أيدي وأنفاس وآثار أسلافنا. وإذا أردنا التوصل إلى معرفة ما يتعلّق بنا راهناً، فعلينا ألا نتجاهل الأسلاف هؤلاء، علينا ألّا ننفي صلتنا بهم كحدث يومي نابض. وفي كل الأحوال، حتى لو تجاهلنا ذلك، بقصد أو من دون قصد، فنحن لا نستطيع أن نغيّر في المعادلة شيئاً، لأنهم باتوا جزءاً من تركيبتنا وخلايانا وفلزاتنا، بوعي منّا أو من دون وعي. نعم، لقد كان تاريخ العالم الذي مضى، والعالم الذي لا يزال يمضي، هو أعظم مستودع للتجربة البشرية، وربما غير البشرية على الإطلاق.
ما بعد بعد الحداثة
بدأنا نقرأ حديثاً عن تصنيفات نقدية لأدب بورخيس، تضعه في خانة أدب وأدباء ما بعد الحداثة (وبعضهم، مثل الأميركي تشيك غارنر، يطرحه كمثل ساطع على فئة شعراء وكتّاب ما بعد.. بعد الحداثة)؛ وهذا التصنيف هو الأصح نقدياً من وجهة نظرنا، بسبب طبيعة نصوصه المتماوجة ما بين الكلاسيكية بوجهيها القديم والمحدث، وبين السرد الحداثوي في أنساقه المركّبة، والتي تحرص خلالها هذه الأنساق على احتضان انفجار المعنى وإنجازه في نصوص مفتوحة وممتدة على التحرّر من الأدوار، وتشييد عوالم سردية متعدّدة الأصوات، حتى في بيت النص القصير الواحد الذي يبتدعه، ذلك أن ثقافة ما بعد.. بعد الحداثة، هي ثقافة الشعور بالتحرّر غير المحدّد وإنجاز الصدم ومزج الأمكنة بالأزمنة، وإعلاء صوت الفردية بطبيعته الاستفزازية، وجعله يتعمّم على الجميع، وإن بصورة متاهة مهجنّة أحياناً أو عوالم مسحورة أحياناً أخرى، وهو ما يتواءم بشكل مذهل مع فضاء شخصية بورخيس الإبداع