محمد مزيد - الغرفة المضيئة

فجراً ، عندما نظرتُ من نافذة الصالة، باتجاه الحديقة الكبيرة، اسمي هذه الحديقة " غابة "، في غالب الاحيان، بسبب كثافة الاشجار، طبعا أشجار غير مثمرة ، في تلك الاثناء، رأيت جسدا مطروحا على العشب، بالقرب من الشجرة العملاقة التي أحبها ، ذات الاغصان الخمسة المنبثقة من الجذر ، كان قد لاح لي شيء أحمر ، لايمكن للرجل المسجى او النائم أن يرتدي لباساً أحمر من وسطه حتى منتصف فخذيه، من الصعب أن ترى رجلا يرتدي بنطالا أحمر في هذه الايام ، ويكون نائماً على العشب ، أنا أعرف السكارى ، انهم لاينامون على بطونهم، حين تطيح بهم الخمرة ، ثم أن اللون الاحمر الذي يغطي الجسد ، ينتهي عند الفخذين ، اذن لابد أن يكون النائم امرأة وقد ارتدت تنورة حمراء ، لم ينقشع ستار الظلام بعد، حتى يأتي الفجر الرصاصي ليكشف لي أسرار الليل ، لكنني اتحسس تسرب ظلامه شيئا فشيئا ، في الغبار الفضي .. قررت أن أذهب لارى هذا الجسد النائم، و إذا أكتشفت أنه مسجى، اي انه بلا حراك ، فليس امامي كمحارب قديم غير الهروب كالغزال من مسرح الحدث الغامض ، هروبا الى شقتي التي تقع قبالة هذه الحديقة الكبيرة كثيرة الاسرار ..
غادرت الشقة ، ودخلت الحديقة ، ثم اخذت اسير ببطء على اطراف اصابعي وانا اقترب من الكائن المجهول النائم ، بدأت تتسارع نبضات قلبي ، كان الظلام سترا نافعا لمغامرتي المحفوفة بالمخاطر ، اعلم ان لدي فضولا زائداً عن الحد، صارت المسافة بيني وبين النائم بحدود عشرة امتار ، اكتشفت أن رأس النائم او المسجى يعود الى امراة ذات شعر اسود مفروش على خدها ، بينما الخد الاخر مطروح على العشب ، نائمة على بطنها ، تكشف تنورتها الحمراء عن بياض فخذيها ، وعن وركين يرتفعان بشكل مبهر ، ماذا افعل ؟ هل اقترب اكثر ؟ التفت الى كل الجهات ، لا احد سواي في الحديقة ، لا اثار دم على ملابسها ، اذن لابد انها نائمة ، اقتربت اكثر واكثر ، وقد حبست انفاسي ، صرت عالقا بالحدث الذي امامي ، وليس من شيمي الهروب في مواقف كهذه ، اظنني اعلم ان ليس هناك كاميرات مبثوثة في اشجار الحديقة ، كي تنقل تحركاتي .. اقتربت منها ، ولاحظت انها تتنفس ببطء ، فتنفست الصعداء ، اذن المرأة نائمة وليست مسجاة ، نظرت الى صالة شقتي، فوجدت مصباحها مضاءً ، نسيت اطفاءه كما يبدو ، جلست عند رأسها ، ومسدت على شعرها ، فاصدرت المرأة أنة رقيقة ، وادارت رأسها باتجاهي ، سمعتها قالت شيئا ، فلم افهم ماذا عنيت ، قلت لها " لماذا تنامين هنا ؟ " فابتسمت ، ثم قالت بدون ان تنظر لي " من أنت ؟ " قلت لها مرتبكا " جئت اساعدك اذا كنت بحاجة الى المساعدة ؟ " رفعت رأسها ، وانقلبت لتنام على ظهرها فابتسمت ثانية عندما رأتني، ابتسامة جميلة ساحرة كشفت عن اسنانها البيض " انا ثملت منذ ليلة البارحة ، تركني الوغد رولان هنا ورحل، انتم الرجال لا امان لكم " ثم اغلقت عينيها . بقيت حائرا ماذا يجب علي فعله ، من هو رولان ؟ هل هو زوجها ؟ حبيبها ؟ اردت سؤالها عنه ، لكنني وجدت سؤالي غير منتج ، فما الذي يجب علي فعله اذا ما عرفت من يكون رولان ؟ كنت ابحث في ذهني عن السؤال المنتج ، فقلت لها " هل يمكنك النهوض لاساعدك في تلبية حاجاتك ، اذا كنت جائعة او عطشى ، شقتي هناك" ، واشرت اليها ، فنظرت الى حيث اشرت ، فقلت لها مؤكدا " نعم تلك النافذة المضاءة، في الطابق الاول " ادرات وجهها عن الشقق ،واخذت تنظر باتجاه اعماق الغابة ، كما انها لا تريد ان يتعرف عليها احدا من اهل الشقق ، ثم قالت لي " اذهب ، دعني بمفردي ارجوك ، سيأتي بعد قليل رولان ليأخذني ، انا اعرف انه نائم هنا، في مكان ما في هذه الحديقة " .. التفت الى كل الجهات بحثا عن رولان ، فلا اثر له ، تبدو انها لم تزل ثملة ، لا اريد مفارقتها ، كما اريد ان اتجنب البحث عن الشخص التي فارقها ليلة البارحة ، اي رجل رقيع هذا الذي يترك هذه المرأة الجميلة منطرحة نائمة في العراء لينام بعيدا عنها ؟ تأملت عينيها ، رأيت البحر يسبح بهما ، زرقاويتين ، وتمعنت بشفتيها المتوردتين ، بلا اصباغ ، لن اخبركم ماذا تمنيت لحظتئذ ، بقيت المرأة منطرحة على ظهرها ، ثم فتحت ساقيها الى الاخر ، برغم ضيق تنورتها الحمراء ، لم اكن انظر الى طريقة منامها ، خوفا ان تتمدد عندي الهسهسات وتأخذ مجرى آخر ، يعد قليل ، جاء رجل يترنح بمشيته ، يرتدي بدلة باريسية ، عرفت ذلك من لمعان قماشها البني ، يضع ربطة عنق، عقدتها نازلة بحدود شبر عن رقبته ، على قميص أبيض حريري ، فقلت له " أأنت رولان ،؟ " فأستيقظت المرأة وجلست تنظر اليه وهي تبتسم ، " ها .. شبعت من الخيال " ثم ألتفتت إليّ ، " كان يبحث عن الخيال ، قال لي في الامس انه سيتركني حتى يتزود بالخيال " ثم ضحكت .. قالت " هذا رولان بارت ، المفكر الذي دهسته سيارة في شارع سان جيرمان في العام 1980 ، ولما تم التحقيق عن اسباب وفاته اكتشفوا أنه قتل عمداً من قبل اصدقائه اليساريين البرجوازيين ، فقال لها " كذب .. كذب لم يتحققوا ،ليس هناك اعداء لي ، قولي انهم حساد نعم ، " نظر بارت الى شقتي المضاءة ، وقال عندي كتاب اسمه " الغرفة المضيئة" تشبه هذه الشقة ، انا مغرم بالصور الفوتغرافية " قال ذلك ثم جلس بجانبها وسألني : من أنت ؟" لم أعرف كيف اجيبه ، جلست معهم ، وأخذنا نستمع الى صمت الغابة ، بقينا صامتين نحن الثلاثة ، حتى بدأت الشمس ترسل خيوطها الذهبية ، وينكشف النهار ، نهضا وتركاني جالسا في مكاني ، وقال رولان بارت ، اقرأ كتابي " الغرفة المضيئة" وستعرف لماذا نحن هنا .. حياتنا عبارة عن صور فوتوغرافية .. تترسب في قاع مخيلتنا وتنتج الحياة ثم سارا معا باتجاه أعماق الغابة ، وأختفيا ، وأنا أنظر الى طريقة مشي المرأة وهي تمسك بذراع بارت وتتلوى بعجيزتها كما يتلوى قلبي معها ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...