عبدالجبار الحمدي - بعوضة ما....

دخل تحت دثاره لاعنا طنينها، ولكن ما ان يهدأ حتى يخرج منخاره الكبير ليسف الأوكسجين الرطب بعد أن ضاق صدره، كاد ان يختنق، وهلة ثم يعيده الى الداخل وهو يصرخ اللعنة من اين دخلتِ؟ لقد احكمت إغلاق النافذة وحتى الستار قد اسدلته جيدا بيدي، لا أظن أني تركت الباب مواربا فالعادة إغلقه جيدا... ماذا اقول!!؟ إن بيتي كله هذه الغرفة الحقيرة من فندق متآكل الجدران منحط لا سجل له في الاحوال المدنية او الهندسية، إنه بلا هوية مثلي ومثل الذين يقطنون فيه كعلب السردين، ربما أنا من يُحسد كوني أسكن وحيدا دون رفاق سكن ذلك ما ميزني عنهم، لاشك إنه الحسد هو الذي ادخل هذه البعوضة أو ربما هم من زجوا بها من تحت عقب الباب، إنه المكان الوحيد الذي لم أدس شيئا لسد الفسحة التي فيه، اللعنة هذه المرة عليّ كيف لي ان انسى؟!...
الطنين يشتد فوق رأسي، لا ادري الى متى يمكن ان اتحمل وابقى تحت هذه الدثار؟ إني أختنق بأنفاسي، مجنون انا لاشك فهذه المرة الاولى التي اكتشف ان أنفاسي غير محببة ان صح القول بل هي كريهة، اعلم جيدا ذلك بسبب التسوسات التي اكلت رحيي واسناني، ناهيك عن التدخين المزمن لسجائر منتهية الصلاحية مع بقايا أعقاب سجاير مهملة في احيان كثيرة ألتقطها وفيها رمق من حياة، أو ربما المعدة التي تعفنت، لا أظنها قادرة بعد على طحن الفول المتبقي او حبات الفلافل الرخيصة، هي حياة جرت أذيالها معي منذ أن وعيت أن لي اسنان، قيل لي في مرة ان والدي توفي قبل ان أولد ثم لحقته أمي، عشت التشرد منذ الصغر لملمت أذيالي أيام يُتم افرطت عقدها السنين السوداء، أنا ما تسمى بالحياة فقد جف ضرعها فلم ترضعني يوم راحة او ما يطلقون عليه سعادة، هكذا اسمع عنها فأنا لا أعرفها ابدا، أنزويت مثل الكلاب الجرباء السائبة اشمشم أركان بقايا طعام هنا وهناك، كبرت دون علم القدر حسبما أظن، فأنا لا اعرفه؟؟ فلم ألتقي به يوما، فكما قيل أنه يلتقي بالناس كي يذيقهم الويلات لكنه استثنى عني لأني أساسا غارق الى هامتي في سوء طالعي... انتبه!! همس لي الدثار لقد ذهب الطنين هيا أخرج رأسك لتتنفس لقد مللت انفاسك النتنة، دون تردد اخرجت رأسي خجلا فحتى دثاري المشبع حرمانا مثلي قد ضاق ذرعا بأنفاسي وبي، لا ألومه إنه ومنذ لا ادري حصلت عليه من عطاء يد خير وهو بنصف عمر، ربما فاق عمره عمري لكنه يفي بالغرض فقد علمت منه أنه كان يعيش حالة جيدة حتى عاشرني دون أن يتذوق الاستحمام من سنين طوال، شارف على الجرب كما غيره من مقتنياتي... ضحك بصوت عال ثم سمع دثاره يقول: صمتا حتى لا تسمعك البعوضة، أي خبل تتحدث عنه بقولك مقتنياتي، إنك تعيش تحت سقف الفاقة هل جننت!!؟ هل تريد من تلك البعوضة ان تجلب حليفاتها إليك عندما تسمع أنك تملك مقتنيات؟ هذا يعني ان دمك نقي وسمين للغذاء وأقسم لو تذوقت دمك هذه البعوضة لفارقت الحياة في اللحظة، هيا اذهب بعيدا عني، افتح النافذة ذات الستارة العارية والمتخلفة، اعدك انها ستهرب فيما إذا سمعت حديثي معك، دون شعور قمت غير مبالي فتحت النافذة وهي بصريرها تصيح يا الله!!! من ايقظني من سباتِ، اللعنة عليك يا هذا لقد أزعجتني، فككت صواميل فواصلي المطبقة المتيبسة لقد اوجعتني يا هذا؟! إلتفت مستغربا!! ذهب بيده الى القابس النائم ايضا فطرق رأس ضياءه الاعمش مستغربا ما يسمع!! فكل ما حوله يجيد الحديث رغم أنه تحدث مرات عديدة إليها لكنها في تلك المرات لم ترد عليه او تحاوره إلا هذه المرة...
فقال القابس: كم مرة طقطقت لك بفكي حاقدا على نفسي أن اعيش بضيائك الأعمش، طلبت ان تغيرني مرات عديدة لكنك كنت اصم، غير ان الليلة سأبوح لك بالحقيقة، لقد ضقت بك وبحواراتك السمجة، إنك لا تتغير، يبدو ان لعنة القدر قد اصابتك وانت ممن يبتعد عنهم بنوائبه كونك ملعون لاشك...
جلس على حافة بما يسمى السرير ذلك الذي مات منذ ان وطئ جسد سعيد ونام فوقه، شعر في تلك اللحظة أنه سيفارق الحياة تاركا بقاياه فراش متهرئ ينام عليه كتربة قبر يتوسده الى الابد...
الاصوات التي تحدثه صارت كثيرة، دثاره، الشباك، قابس النور، الفراش وحتى الجدران التي مسح عليها مخاطه الذي يخرجه من منخاره تلك التي شهقت شهقة الموت بعد ان تقيأت فعله، صرخت وشققت وجهها اخاديد للحشرات لتسكنها وتأكل ما عليها من برابير، لكنها هربت عنها تاركة ذلك الاخرق سعيد يعبث بسطحها واركانه كما يشاء، لم يخلو سطح جدار او شرخ من اصابعه التي تعبث في كل شيء.. إلا البعوضة التي ألفت مستنقعه الذي يعيش فيه، صرخ بأعلى صوته يكفي لا أريد سماع اي صوت منكم، لقد مللت، إنكم تورِدوني الجنون... ثم راح بهستيرية قهقات ضج بها رأسه، الكل يضحك عليه وبصوت واحد قالوا: أوظننت نفسك إنسانا عاقل؟ إنك احقر من أن تكون إنسانا، إنك متحيون نعم نقر بذلك، لذا لا تثريب عليك سنقوم بالصمت، عادت البعوضة للطنين، حاول ان يمسك بالثار ليغطي نفسه، غير انه رفض ذلك، اتخذ الجميع منه موقفا سلبيا، لم يرغب القابس ان ينطفئ ولا النافذة ان تغلق ولا حتى الفراش رضى بأن يستقبل جسده الرطب، فصاح... حسنا إني استسلم، سأقبل أن تلدغني البعوضة وهذا كلامي لكم جميعا بما فيها البعوضة نفسها، هيا تعالي إفعلي ما تريدين بهذا الجسد، وحتى أثبت لك حسن نيتي سأقوم بنزع ثيابي أبقيه عاريا تماما...
تعرى سعيد إلا من شبه لباس داخلي، ربما كان ميتا هو الآخر منذ زمن، أكلته الأرضة فقد بان عليه ذلك من كثرة الثقوب التي فيه...
شرعت البعوضة تدور وتطن... تطن وتدور، تحاول الاقتراب من أي فسحة جديرة ان تضع أنبوب منخارها فيه لكنها كلما اقتربت تبتعد أكثر، فجميع الاماكن من جسمه لا تشجع، بل لا تستيغ لدغها، فهي ميتة ومقرفة حتى جلد جسمه يبدو ميتا لا حياة فيه، إنه جلد محرفش على عظم فأي دم يسير تحته؟ وأي شرايين عجفاء يخوض الدم رحلته فيها؟! ربما هذا الرجل علي ان ادلو إليه بالدم لا امتصه منه؟! قالت البعوضة الى نفسها... يبدو اني بدأت أرأف بهذا المسكين، فابتعدت عنه وهو متسمر في وسط الغرفة يصيح أين ذهبت؟ هيا خذي ما شئتِ، اشربي دمي لعلك بعدها تتركيني بحالي؟ توقفت البعوضة عن الطنين وهي تقول له:
يبدو انك يا هذا ممن نسيهم الله في الحياة، اوجدك كي تكون عبرة لي ولغيري، أو ربما الى تلك الحشرات التي اراها قد ابتعدت عن مثواها لإنقاذ ما بقي لها من حياة، لملمت كل مقتنياتها ودفنت من فارقوها بسبب فاقتك ونتانتك، اقبروهم الى جانبك، وكما أرى القادم من بعيد ستكون هذه الغرفة قبرك، شعور يراودني إنك تعتاش الحياة بأمل ميت ولعلي حين اقول انك عالة على الانسانية أو الوجود بحد ذاته، ربما اليأس يتملكك او ربما أنك وُجِدت لسبب قد انتفى وهو موت أمك او إنك وُجدت لتكون مثلا في الحياة لأناس افضل منك، اي عبرة وهذا أمر لا يعلمه إلا من خلق الأكوان وماعليها، عموما لا اريد مص دمك، اظنني إن فعلت سأموت وأنا لا اريد ذلك..
جلس سعيد مرة أخرى مطأطأ رأسه باكيا دون دموع فقد جفت آبارها هي الأخرى فقال:
نعم أنا لعنة نفسي، قبلت بكل شيء حتى الحياة التعسة، رضيتها راغبا بأن أكون كأسمي لكن يبدو من اطلق علي هذا الاسم اراد لي ان احظى بالسعادة كمسمى فقط، اما الحزن والبؤس والفاقة هم الرفاق الذين عاشرت والى الابد..
طنت البعوضة بشدة وهي تقترب من أذنه التي غزاها الشعر فاختفى صيوانها وهي تصيح، أنت يا سعيد كتلك ( الما ) التي خلقها الله فوقي لتعتاش عليّ، تحتاج الى من تركن إليه لتعتاش عليه كعالة، فهناك الكثير خلقوا لكي يكونوا عالة والأمر ليس بأيديهم لكنه القدر، وكما يبدو لي انك ممن اختاروا لأنفسهم لتكون كما انت فلا تحزن، سيأتي من لا تحب ليأخذك الى عالم الصمت بعيدا عن الطنين وضجيج الناس والشكوى، ستكون وحيدا تعيش الظلمة دون دثار، لكني اعدك بانك لن تكون وحيدا، فجميع الحشرات التي هجرتك ستكون أنيسك الجديد، سـتاكل منك الكثير دون إرادتك وحتى إن لم تستسيغ لحمك او عظمك، سأنطلق بعيدا الآن عنك أبحث عن دم يوفر لي الغذاء خارج عالمك المزري هذا فإلى لا لقاء يا تعيس.

القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...