أحمد حسن الزيات - صديق الكلاب.. قصة

شرب عبد الواحد وسقانا ثلاثة أقداح من الشاي المعطر. ثم أطلق من حنجرته القوية جشأة طويلة عريضة كخوار العجل، ثم حضأ النار بأنامله وشيع ضرمها في بقية الفحم؛ ثم أشعل منها (سيكارته) العربية وأرسل في رفق دخانها الرقيق الأدكن. وبانت على معارف وجهه شهوة الكلام. وكان كلبي الصغير قد لاذ من قرص البرد بجانب الموقد، فهو ينطوي وينتشر تبعا لما يغلب على جو الغرفة من نفخ النسيم أو لفح اللهب. فرأيته يطيل النظر إليه في طرف ساكن ووجه ساهم. فقلت له مداعبا: لعلك ذكرت بالكلب حبيبتك وهي في خبائها بين كلابها وشائها. فابتسم ابتسامة العذراء الخفرة وقال: الحمد لله ما ذكرت على فقري حياة البر مذ هجرتها، ولكني ذكرت رجلا كان في بغداد يدعى (أبا الكلاب). فسألته وما حديث أبي الكلاب هذا يا عبد الواحد؟ فلمع في عينيه البشر، لأن سروره كان في أن يتحدث وتسمع. وذهب به شيء من التيه لأن شعوره بأنه يعلم ما لا نعلم يرفعه قليلا فوق قدره، لذلك تراه عند الحديث يجلس جلسة النظير، ويلهج لهجة الأمير، ويقرر تقرير العالم.

قص عليَّ هذه الأقصوصة وهو منها على يقين جازم، وما كان أسرني وأسرك لو استطعت أن أنقلها إليك بلغته الجميلة التي تأخذ من لحن بغداد ومن لحن البادية. على أني سأحاول ما أمكنني القدرة أن أترجمها ترجمة صادقة تكشف عن أثرها في نفسه وفعلها في نفسي.

كان في بغداد منذ خمسين عاما أسرة كريمة تعتز بنسب العرب من جهة الأب. وتتصل بنسب الترك من جهة ألام فهي مزاج معتدل من عقليتين متباينتين لا يجمع بينهما غير الدين. والدين في مثل هذه الحال يكون أوثق عقدا وأمتن أسبابا لقيامه مقام الجنسية الجامعة والعصبية القريبة؛ فالوالدان صالحان تقيان لا يفهمان من العروبة إلا النبوة والقرآن، ولا من التركية إلا الخلافة والسلطان، ولا يعرفان عن بغداد وفروق إلا أنهما بلدان في وطن واحد، والولدان جميلان باران يكبر الذكر منهما الأنثى بخمس سنين، وقد درجا معا من مهد الفضيلة، ثم ترعرعا في حنان الأبوين على كفاف من العيش يؤتيه متجر غير نافق.

لم يشغل عبد الواحد باله كثيرا بتفصيل حياة هذه الأسرة الصغيرة. فكان كلامه عنها مرسل مجملا لا يحلل طبيعة شخص، ولا يحدد تاريخ حادث، ولا يعين مكان منزل، حتى أسماء الأب والابن والبنت لم يجد في ذكرها ما يفيد الحديث!.

فهو يحذف ما يزعمه فضولا ويسير قدما إلى هيكل الموضوع وعقدة الحادث، فيقول أن الغلام كان عمره اثنتي عشر ربيعا حينما صحب خاله إلى الأستانة. والأستانة يومئذ كانت منتجع الخواطر ومهوى القلوب الطامحة إلى السطوة أو الثروة أو العلم. فهل كانت هجرته إلى دار الخلافة تثقيفا لنفسه، أو تخفيفا عن أبيه، أو مساعدة لخاله، على تدبير متجره وماله؟ كل ذلك يجهله راوي الحديث فما يعلم الا أنه شدا شيئا من العلم في إحدى مدارس القسطنطينية تحت عين وليه وعونه، ثم أندفع في غمار المدينة الصاخبة يداور الأمور ويتلمس المكاسب، ثم أوغل في مدن البلقان وشعاب الأناضول، حينا في خدمة الجيش، وحينا في طلب العيش حتى أنقطع علم ما بينه وبين أهله. كان الغريب النازح يهاجم الأخطار في كل فج ويصارع الأقدار في كل لج، وكل همه أن يجمع من المال ما يضمن له ولأسرته خفض العيش في ظلال بغداد الجميلة. فلما ملأ الدهر يديه بما أمل كان وا أسفاه ربيعه قد أدبر، وربعه قد أقفر، وحلمه قد تبدد!! فان والديه البائسين قد ألح عليهما من بعده الحزن والضر والفقر حتى انطفأ سراجهما في حولين متعاقبين بعد انقطاع خبره لبضع سنين. وأما البنية اليتيمة فقد حنا عليها بعض ذوي المروءات من أهل البيوتات فضمها إلى حرمه، وواسى يتمها الحزين بعطفه وكرمه.

عاد المهاجر إلى وطنه يحمل في جيبه المال وفي قلبه الآمال فما وطأت قدماه ثرى العراق الذهبي حتى ازدحمت الذكريات على خاطره، ومرت الحوادث المزعجات أمام ناظره، ولكن شعوره في لذة العودة إلى الأرض التي ابصر عليها الدنيا، والسماء تقبل منها الروح، والهواء الذي رف عليه بالصبا، والماء الذي نضح قلبه بالنعيم، والأسرة الحنون التي يراه إليها الشوق. والمستقبل الباسم الذي ينتظره في بغداد، قد شعب فؤاده وشفى كبده ومسح ما به.

عرف المحلة والدار بعد لأي لطموس المعالم القديمة. ثم قرع الباب بيد مرتجفة فإذا المالك الجديد يخرج إليه! فاقبل عليه المسكين لهفان ضارعا يسأله: هنا كان مهبط نفسي فأين أبى؟ وهنا كان مسقط رأسي فأين أمي؟ وهنا كان لي مهد وأخت وملعب وجيرة، فقل لي بربك يا سيدي أين تحمل بكل هؤلاء القدر؟ وكان بين المسئول والسائل حوار قصير عرف منه البائس أن ريح المنون قد عصفت بأهله. فارتد إلى الفندق لا يملك دمعة ولا قلبه، ثم قضى حينا من الدهر ذاهب القلب يكابد غصص الكرب ويعالج مضض الهموم حتى رأم الزمان والأيمان جروح صدره.

وقع في نفس الوحيد الحزين أن يتزوج ليعيد إلى سجل الوجود اسم أسرته فاقترحت عليه جارة له عجوز أن تخطب إليه فتاة يقولون أن بينها وبين بني فلان عاطفة رحم. ويؤكدون أنها تنزع إلى عرق كريم لطبعها المهذب وجمالها المحتشم فاطمأن قلب الخطيب إلى رأي الخاطبة واختلفت العجوز بينه وبين ولي الفتاة حتى تم الوفاق وسمي الصداق وعينت ليلة الزفاف.

زفت العروس إلى زوجها فبهره ما رأى من جمال وأحس من ظرف وسمع من أدب، فافتر في وجهه السرور وحمد الله على حسن توفيقه، ثم أتقضى شهر العسل على خير ما يجد زوج من زوجه.

وفي ليلة تجاذب العروسان أطراف السمر وشققا بينهما الحديث حتى أفضى إلى علاقتها بوليها فلان (بك) فأحب الزوج أن يعرف درجة القرابة بينهما، فغضت الفتاة من طرفها وشاعت حمرة الخجل في وجهها، وقالت في صوت خافت متهافت من الخزي والخوف: الحقيقة أنه ليس بيني وبين هذا الرجل قرابة!! وإنما هو نبيل محسن أواني ورباني بعد ما فجعني البين في أخي، والموت في أبي، وأنا يومئذ في حدود الثانية عشر. ثم تتابعت الأسئلة من الزوج، وتسارعت الأجوبة من الزوجة وكان كل من أنجاب عن خبايا الغيب حجاب امتقع لونه وأقشعر بدنه، واشتد وجيب قلبه، وكانت هي كلما رأت منه ذلك نسبته إلى إنخداعه في أصلها فمضت تفصل المأساة وتصور الفاجعة بالكلام والدمع، عسى أن تعطف قلبه على مصابها، فلا يفكر في طلاقها وعذابها، ولكنها لم تكد تلمس الحجاب الأخير حتى رأت زوجها قد وقف شعره وانتفخ سحره وارتعدت أطرافه، ثم أنفجر صارخا يقول: وا ويلتاه! وا مصيبتاه! لقد تزوجت أختي!. . . . ثم خر مغشيا عليه. فلما ثاب إليه بعض رشده نظر إلى أخته فوجدها فاقدة الوعي فتركها وابتدر الباب وخرج مسرعا لا يلوي على شيء ولا يلتفت إلى أحد!.

خرج طريد القدر من بيته خروج (أوديب الملك) من قصره ثم هام في الطرق الضيقة المتشابكة يسأل الرائح والغادي عن مفتي بغداد، فلما ادخل عليه باح له بسر الخطيئة فهول عليه التركي بعقابها، وبالغ في جرائرها وأعقابها. ثم أفتاه بعد الاستشارة والاستخارة والرؤيا أن الله لا يكفر هذا الجرم إلا إذا صدف عن متاع الحياة، وخرج عن أثيل الملك، واستتر بأخلاق الثياب، وقضي بقية عمره في جمع الخبز للكلاب الشوارد!

أذعن الخاطئ البريء لحكم الفقيه الأحمق ونزل للزوجة الأخت عما يملك، وارتدى طمرا من غليظ الكرباس وجعل على عاتقه مخلاة ومضى يقرع كل بيت ويقصد كل مطعم ويجمع الفتات والخبز ثم يقف بالميدان فيقسمه بالسوية على من أجاب الدعوة من كلاب الحي.

لم يمض غير قليل حتى عرفه الناس وألفته الكلاب فصار يمشي في الأزقة وخلفه منها قطيع، وينام في العراء وحوله من شدادها حرس مطيع، وتحين الوجبة العامة فلا تجد كلبا طليقا في بغداد إلا أجاب نداءه. وتناول من يديه المحمومتين غداءه، ولكن الوالي رأى على طول الزمن أن يدي أبي الكلاب على رعيته عافية وربيع فسمن هزيلها وكثر قليلها حتى اختنق بلهاثها النهار؛ وصم بنباحها الليل، وأصاب الناس من عظاظها وأمراضها شر كبير. فأقام في ظاهر المدينة حظيرة واسعة ثم أمر الشرطة فصادوا الضواري وألقوها فيها. فكان أبو الكلاب على عادته يجمع الطعام والعظام ثم يذهب إلى ضيوف الحظيرة فيطعمها ويسقيها ثم يتهالك على الأرض من اللغوب فيرقد مكانه حتى الصباح.

وفي ضحوة يوم من الأيام أولم الوالي لأسراه وليمة السفاح فما نجا من بعدها لاهث ولا نابح، وجاء أبو الكلاب فرأى ألافه الخلصاء على أديم الأرض صرعى لا يتملقن بعين ولا يبصبصن بذنب!! فعظم على المسكين أن يرى مثال الصداقة يموت وشبح الجريمة يحيا فتساقط بجانب السور مهدود القوى صريع اليأس ولبث مكانه لا يأكل طعاما ولا يذوق مناما حتى لحق بربه.



مجلة الرسالة/العدد 2
بتاريخ: 01 - 02 - 1933


ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...