عبدالجبار الحمدي - صندوق حكايا

كان لوالدي، حمله طويلا في عجاف سنينه التي رامته حزن متجدد، لم يشرع قط في تغيير حرفته رغم كثرة مآسي حكايا الصندوق... الصندوق الاسود، هكذا كان يطلق عليه حينما سألته فقال:
اسمع يا بني هذا الصندوق فيه اسرار لو تفشت لربما احدثت كارثة.. لم اصبر فقلت على عجالة لكنه صندوق حكايا للأطفال.. اشار لي باصبعه ان اصمت ففعلت فأتم كلامه.. الجميع يعتقد ذلك وربما صدقوه أيضا لكن لكل حكايا مرام وسر خلفها، فالاطفال يرون ما يسرهم ويضحكهم، والكبار يرون ما يخيفهم و يرعبهم، ان هذا الصندوق عالم اسود كما هو صندوق الطائرات صعب كسره ولو كان الضغط او النار عليه بشكل كارثي، ساقص عليك حكاية قصيرة، خذ ما تفهمه عنها، لعلك تصل الى المغزى منها..
ذات مرة وانا اقف على زاوية شارع يكاد يكون فرعيا على ناصية بقايا رصيف مناديا بدرهم استمتع بحكاية.. العبرة فيها والحكمة منها، اكتشف اسرار الكون الآخر
فجأة توقف سيدة جاوز عمرها الأربعين منه غير انها مكتنزة الجسم، مفاتنها بارزة، جميلة بطلاء الوجه.. توقفت لبرهة دون ان توجه لي اي كلمة، لكنها كسرت صمتها وقالت:
- اي عالم تقصد؟ و اي سر يمكن لصندوق حكاياك ان يفشي للعامة من الناس؟
- عفوا سيدتي إنه صندوق ملئ بقصص وحكايا كل ما عليك هو ان تضغطي احد تلك الازار الملونة فتشاهدي ان لكل زر حكاية وقصة يرويها صوت مخدوش متحشرج من كثرة إعادته لقصها، فلا علم لي ما هي الحكايا التي ترغبين في سماعها ومشاهدة بعض صورها؟..
- يبدو ان لديك فراسة حتى تلقي باللوم على صوت لا صاحب له و صورة ربما أضاعت ألوانها، تغيرت معالمها مثل الراوي
- لا أخفيك القول هي كذلك، صارت الصور باهتة وقد عاصرت عقود بعضها يركب بعض دون وجه حق، حتى ولاداتها اكثرها جاءت من بيوتات دعارة وزنا محرم، وتلك لها حكايا في الصندوق بعنوان أبناء الملاجئ لقطاء ارصفة وشوارع
- افهم ما ترمي به.. أظنك تعنيني، لعل مظهري يبديك قولك هذا، لكن صدقني ما كنت ابيع جسدي لولا حاجتي إطعام أفواه عائلتي الكبيرة فأخوة لي كانوا ثلاثة جميعهم متزوجين... كنت الفتاة المدللة بينهم مع والدي حين كنت صغيرة، كبرت وهم تزوجوا ومن ثم انجبوا اطفالا كثر... حالتنا جيدة مقارنة بما حولنا من مآسي في مجتمع وبيئة نتانة سادتها واصحاب السلطة كانت رائجة، حتى جاء هادم اللذات إن صح التعبير معه قذيفة اسقطها بيد احد زبانيته الجدد المتأرجحين على احد تلك الولاءات فقتلت جميع خوتي و والدي و امي... لم يبقى سواي والاطفال هم سبعة، حرت بهم طويلا، مَلّ اقرباء لنا منا، دفعوا بي الى الشارع لأتسول، اغتصبوا بيتنا الصغير، رموا بي الى غرفة صغيرة كالقبر مع ابناء اخوتي... مللت التسول فعالمه بغيض والعبودية فيه اصعب من عبودية الحبشي بلال في بداية اسلامه، رجال متخفين يركبون الفاره من السيارات، يلبسون الوفير والفاخر من الثياب، يستعبدوننا، يحسبون انفاسنا إن لم نفعل ما يقولون... حتى يوم هربت الى غير رجعة، فترة كنت اشعر ان الموت يتربص بي فهم كقابض الارواح حتى زلقت رجلي الى امرأة رأفت في حالي واخذتني وابناء اخوتي في ليلة مظلمة الى مكان شعرنا فيه بالرفاهية و النظافة.. اطعمتنا افضل أكل والبستنا اجمل الثياب، هكذا بقيت و إياهم لفترة حتى ظهرت مخالب الاختيار إما...و إما فكنت مطواعة لا خيار لي إما ان تبيع اولاد اخوتي قطع غيار و انا مثلهم او انساق لرأيها.. ففعلت، هل هذه الحكاية لديك شبيهها في صندوقك الاسود.. اكثر من عشرين سنة وأنا أنام على اسرة مختلفة و احيانا كثيرة في زوايا أزقة افرع شوارع.. ومرات في غرف فنادق... لا يمكنني ان أحصي عددها لكن يمكنك ان تحزر فانت كما يبدو لي خبير بحكايا مثل حكايتي أليس كذلك؟؟
- لا ادري بماذا اجيبك؟ لكن لدي الكثير مثل حكايتك فغالبا ما يشاهدها و يستمع لها من دفعت به الحال لأن يكون احد القوادين الذي يتبختبر بمهنته و الحاشية التي تسير على ظله في زمن رجال الظل في قباب سلطة.
- حسنا إذن أسألك ان تضيف حكايتي الى صندوقك الاسود واعني هنا صدرك فبالتأكيد لديه أسرار حكايا تفوق صندوقك الخشبي... الى اللقاء
هذه يا بني حكاية من حكايا الصندوق، سأعهد به إليك حتى تكمل رسالتي في طرح اللامتغيرات في زمن التغيير الكاذب.. واوصيك ان تورثه ابنك من بعدك إن كان لك حظ في ارتباط غير معنون.

القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...