[HEADING=2]محمد روزنامجي[/HEADING]
[HEADING=2]
ما أكثر ما ابتلعت دوامة الحياة أدباء وفنانين موهوبين ، فضاعوا ، وتبددت مواهبهم قبل أن يعطوا ما كان بإمكانهم أن يعطوه ، ومن هؤلاء القاص محمد روزنامجي .
قليلون من يعرفون هذا الرجل اليوم ، وأقل منهم من يتذكرونه . وقد أسعدني كثيراً أن يتذكره الأستاذ القاص المبدع محمد خضير ويكتب عنه مقالاً في مجلة تعنى بفن القص ، وأعني مجلة ( إمضاءات ) .
محمد روزنامجي قاص من الجيل الذي ظهر في أواخر أربعينيات القرن العشرين ، جيل فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري ومهدي عيسى الصقر ، ولكنه لم يصب من الشهرة ما أصابوه ، لأنه كان ينشر قصصه في أوقات متباعدة ، وكان ينأى بنفسه عن الأضواء ، وينغمس في روتين عمله الوظيفي وحياته اليومية .
علق اسمه بذاكرتي منذ عام 1953 فقد قرأت له إحدى قصصه في مجلة الآداب اللبنانية ، وكانت بعنوان ( أرض .. وبشر .. وزمن ) وقرأت له عام 1954 قصة أخرى في مجلة الأديب اللبنانية بعنوان ( قطار الجنوب ) . ولاحظت أنه أعاد نشر قصة ( أرض .. وبشر .. وزمن ) في مجلة ( الكاتب العربي ) عام 1954 وصادف أن قرأت له يومئذ أكثر من مقال في نقد القصة ، فرسخ اسمه في ذاكرتي . غير أنني لم أقرأ له بعد ذلك ، أي بعد عام 1954 ، أي شيء ، فقد توارى وانغمس في حياته الوظيفية ، فنسيه حتى الأدباء .
ولكن الباحثين لم ينسوه ، فكتب عنه عبد القادر حسن أمين في كتابه ( القصص في الأدب العراقي الحديث ) الصادر عام 1956 نحو صفحتين ، تطرق فيهما إلى بعض قصصه ، ولامه على تشاؤمه ، ونظرته السوداوية إلى الحياة ، ودعاه إلى إعادة النظر في موقفه .
أما الدكتور عبد الإله أحمد فذكره في مواضع من الجزء الأول من كتابه ( الأدب القصصي في العراق ) ولكن غالباً ما كان يذكره في الهوامش وليس في المتن ، ومع ذلك كتب عن قصصه عدة صفحات في الجزء الثاني من هذا الكتاب ووصف كتاباته النقدية والقصصية بالسذاجة والسطحية .
كان روزنامجي من المتأثرين بالفكر الوجودي ، وكان أسلوبه القصصي هو الذي لفت نظري إليه ، فقد كانت له طريقته الخاصة في السرد : جمل قصيرة ، تكرار كلمات بعينها كالسأم والفراغ والزمن ، منولوجات متقطعة ، ونقاط كثيرة تفصل بين الجملة والجملة ، كما لو أن التنقيط يتصل بتداعيات شخصياته ويعبر عنه ، وتقرب هذه التداعيات من أن تكون هذياناً في بعض الأحيان ، وهو يظن أنه متأثر في ذلك بأسلوب السناريوهات السينمائية ، وكان هذا في الواقع ما يميزه عن قصاصي جيله ، وأظنه سبق عبد الملك نوري في هذا النوع من الكتابة .
لا أتذكر على وجه الدقة مَن مِن محرري مجلة ( ألف باء ) قد اكتشفه في وزارة العدل . هو الزميل زيد الفلاحي في أغلب الظن ، فقد كان في مهمة صحفية ذات علاقة بهذه الوزارة ولما عاد سألته عما كلف به فأخبرني بأنه أنجزه وساعده في إنجازه مدير في الوزارة يدعى : محمد روزنامجي ، وهو مسؤول عن إعلام الوزارة في ما أظن . كان ذلك في أوائل عام 1974 ، وكنت يومئذ رئيس تحرير هذه المجلة .
وعند ذلك سألت الفلاحي أهو نفسه القاص محمد روزنامجي ؟ فقال أظنه هو ! فقلت إذن أنت مكلف بإجراء حوار معه ، فرحب الفلاحي يذلك وكأنه يريد أن يكافئه . وبعد أن أعطيته فكرة عامة عن روزنامجي ، أقترحت عليه الأسئلة الأساسية التي ينبغي أن يوجهها إليه ، ويطلب منه إحدى قصصه لنشرها في العدد الذي ينشر فيها الحوار ، وهذا ما كان ، فأنجز الفلاحي الحوار ، وجاء من روزنامجي بقصة عنوانها ( أفكار بلا أقنعة ) فنشرت القصة في العدد الذي نشر فيه الحوار .
فرح روزنامجي بنشر الحوار والقصة ، فزارني في مكتبي في المجلة ليشكرني ، وكأنه لم يكن يصدق ما حصل ، لفرط شعوره بالإحباط في ما أظن . وجرى بيني وبينه حديث طويل سألته فيه عما إذا كان ما يزال يكتب القصص ، فقال لي إنه ترك الكتابة ، قالها بيأس ، وسألته عن الأسباب ، فابتسم وهو يقول : لا أدري ، ربما هي الظروف ، ظروف الحياة ومتطلباتها . وسألته عما إذا كانت لديه قصص أخرى غير منشورة ، فأجاب بالإيجاب ، فقلت : إذن يمكنك نشرها في المجلة ، ونشرنا له في ما بعد قصتين أخريين . ثم سألته : لم لا تنشر قصصك في كتاب يجمعها ؟ فقال بأسى : فات الأوان ، ولهذا الزمن كتّابه ، وأنا لست منهم . ثم تضاحك وقال : هذا زمن فلان ، وذكر اسم صديق من أصدقائي كتاب القصة ! فقلت له : لا لم يفت الأوان بعد ، فأنت لك أسلوبك الخاص الذي يختلف عن أساليب الآخرين ، وما أيسر أن تجمع قصصك وتنشرها . يمكن أن تنشرها عن طريق وزارة الثقافة والإعلام . قال : لا أعرف أحداً فيها ، فقلت : ولكنهم يعرفونك ، وأنا على استعداد لتقديمها إليهم بنفسي . وعندئذ اقتنع بما اقترحته عليه ، وقدم مجموعته فنشرت بعد شهور قليلة ، وكانت بعنوان قصته ( أرض .. وبشر .. وزمن ) . ففرحت عند صدورها وكأنني أنجزت عملاً يخصني .[/HEADING]
[HEADING=2]
ما أكثر ما ابتلعت دوامة الحياة أدباء وفنانين موهوبين ، فضاعوا ، وتبددت مواهبهم قبل أن يعطوا ما كان بإمكانهم أن يعطوه ، ومن هؤلاء القاص محمد روزنامجي .
قليلون من يعرفون هذا الرجل اليوم ، وأقل منهم من يتذكرونه . وقد أسعدني كثيراً أن يتذكره الأستاذ القاص المبدع محمد خضير ويكتب عنه مقالاً في مجلة تعنى بفن القص ، وأعني مجلة ( إمضاءات ) .
محمد روزنامجي قاص من الجيل الذي ظهر في أواخر أربعينيات القرن العشرين ، جيل فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري ومهدي عيسى الصقر ، ولكنه لم يصب من الشهرة ما أصابوه ، لأنه كان ينشر قصصه في أوقات متباعدة ، وكان ينأى بنفسه عن الأضواء ، وينغمس في روتين عمله الوظيفي وحياته اليومية .
علق اسمه بذاكرتي منذ عام 1953 فقد قرأت له إحدى قصصه في مجلة الآداب اللبنانية ، وكانت بعنوان ( أرض .. وبشر .. وزمن ) وقرأت له عام 1954 قصة أخرى في مجلة الأديب اللبنانية بعنوان ( قطار الجنوب ) . ولاحظت أنه أعاد نشر قصة ( أرض .. وبشر .. وزمن ) في مجلة ( الكاتب العربي ) عام 1954 وصادف أن قرأت له يومئذ أكثر من مقال في نقد القصة ، فرسخ اسمه في ذاكرتي . غير أنني لم أقرأ له بعد ذلك ، أي بعد عام 1954 ، أي شيء ، فقد توارى وانغمس في حياته الوظيفية ، فنسيه حتى الأدباء .
ولكن الباحثين لم ينسوه ، فكتب عنه عبد القادر حسن أمين في كتابه ( القصص في الأدب العراقي الحديث ) الصادر عام 1956 نحو صفحتين ، تطرق فيهما إلى بعض قصصه ، ولامه على تشاؤمه ، ونظرته السوداوية إلى الحياة ، ودعاه إلى إعادة النظر في موقفه .
أما الدكتور عبد الإله أحمد فذكره في مواضع من الجزء الأول من كتابه ( الأدب القصصي في العراق ) ولكن غالباً ما كان يذكره في الهوامش وليس في المتن ، ومع ذلك كتب عن قصصه عدة صفحات في الجزء الثاني من هذا الكتاب ووصف كتاباته النقدية والقصصية بالسذاجة والسطحية .
كان روزنامجي من المتأثرين بالفكر الوجودي ، وكان أسلوبه القصصي هو الذي لفت نظري إليه ، فقد كانت له طريقته الخاصة في السرد : جمل قصيرة ، تكرار كلمات بعينها كالسأم والفراغ والزمن ، منولوجات متقطعة ، ونقاط كثيرة تفصل بين الجملة والجملة ، كما لو أن التنقيط يتصل بتداعيات شخصياته ويعبر عنه ، وتقرب هذه التداعيات من أن تكون هذياناً في بعض الأحيان ، وهو يظن أنه متأثر في ذلك بأسلوب السناريوهات السينمائية ، وكان هذا في الواقع ما يميزه عن قصاصي جيله ، وأظنه سبق عبد الملك نوري في هذا النوع من الكتابة .
لا أتذكر على وجه الدقة مَن مِن محرري مجلة ( ألف باء ) قد اكتشفه في وزارة العدل . هو الزميل زيد الفلاحي في أغلب الظن ، فقد كان في مهمة صحفية ذات علاقة بهذه الوزارة ولما عاد سألته عما كلف به فأخبرني بأنه أنجزه وساعده في إنجازه مدير في الوزارة يدعى : محمد روزنامجي ، وهو مسؤول عن إعلام الوزارة في ما أظن . كان ذلك في أوائل عام 1974 ، وكنت يومئذ رئيس تحرير هذه المجلة .
وعند ذلك سألت الفلاحي أهو نفسه القاص محمد روزنامجي ؟ فقال أظنه هو ! فقلت إذن أنت مكلف بإجراء حوار معه ، فرحب الفلاحي يذلك وكأنه يريد أن يكافئه . وبعد أن أعطيته فكرة عامة عن روزنامجي ، أقترحت عليه الأسئلة الأساسية التي ينبغي أن يوجهها إليه ، ويطلب منه إحدى قصصه لنشرها في العدد الذي ينشر فيها الحوار ، وهذا ما كان ، فأنجز الفلاحي الحوار ، وجاء من روزنامجي بقصة عنوانها ( أفكار بلا أقنعة ) فنشرت القصة في العدد الذي نشر فيه الحوار .
فرح روزنامجي بنشر الحوار والقصة ، فزارني في مكتبي في المجلة ليشكرني ، وكأنه لم يكن يصدق ما حصل ، لفرط شعوره بالإحباط في ما أظن . وجرى بيني وبينه حديث طويل سألته فيه عما إذا كان ما يزال يكتب القصص ، فقال لي إنه ترك الكتابة ، قالها بيأس ، وسألته عن الأسباب ، فابتسم وهو يقول : لا أدري ، ربما هي الظروف ، ظروف الحياة ومتطلباتها . وسألته عما إذا كانت لديه قصص أخرى غير منشورة ، فأجاب بالإيجاب ، فقلت : إذن يمكنك نشرها في المجلة ، ونشرنا له في ما بعد قصتين أخريين . ثم سألته : لم لا تنشر قصصك في كتاب يجمعها ؟ فقال بأسى : فات الأوان ، ولهذا الزمن كتّابه ، وأنا لست منهم . ثم تضاحك وقال : هذا زمن فلان ، وذكر اسم صديق من أصدقائي كتاب القصة ! فقلت له : لا لم يفت الأوان بعد ، فأنت لك أسلوبك الخاص الذي يختلف عن أساليب الآخرين ، وما أيسر أن تجمع قصصك وتنشرها . يمكن أن تنشرها عن طريق وزارة الثقافة والإعلام . قال : لا أعرف أحداً فيها ، فقلت : ولكنهم يعرفونك ، وأنا على استعداد لتقديمها إليهم بنفسي . وعندئذ اقتنع بما اقترحته عليه ، وقدم مجموعته فنشرت بعد شهور قليلة ، وكانت بعنوان قصته ( أرض .. وبشر .. وزمن ) . ففرحت عند صدورها وكأنني أنجزت عملاً يخصني .[/HEADING]