يُنظر إلى عبد القاهر الجرجاني على أنه بلاغي وليس نحويا، ومكانته لا تكاد تذكر في تاريخ النحو العربي، ولا يشكل شخصية مرجعية علمية عند التعرض لقضايا النحو. ومن المثير في هذا الصدد ما جاء في التعريف بالطبعة الأولى من كتاب (دلائل الإعجاز ) التي كتبها السيد محمد رشيد رضا. كتب : أما الكتاب ( دلائل الإعجاز ) فيعرف مكانته من يعرف معنى البلاغة وسر تسمية هذا الفن بالمعاني، وأما من يجهل هذا السر ويحسب أن البلاغة صنعة لفظية محضة قوامها انتقاء الألفاظ الرقيقة أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالج بهذا الكتاب.
تبدو غرابة هذا القول حينما نقرأ في مقدمة الكتاب أن عبد القاهر الجرجاني نفسه أدرج كتابه في النحو وليس في البلاغة. يقول : هذا كلام وجيز يطلع به الناظر على أصول النحو جملة، وكل ما به يكون النظم دفعة، وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له، حتى رآها في مكان واحد، ويرى بها مشئما قد ضم إلى معرق، ومغربا قد أخذ بيد مشرق.
ويقول في صفحة أخرى: ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذُكر، أنه لا يُتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفرادا أو مجردة من معاني النحو، فلا يقوم في وهم ولا يصح في عقل، أن يتفكّر متفكّر في معنى " فعل " من غير أن يريد إعماله في " اسم "، ولا أن يفكر في معنى " اسم " من غير أن يريد إعماله في " اسم " ولا أن يفكر في معنى " اسم " من غير أن يريد إعمال " فعل " فيه وجعله فاعلا أو مفعولا، أو يريد منه حكما سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ، أو خبرا، أو صفة، أو حالا، أو ما شاكل ذلك.
وسوف يوضح لنا الجرجاني بشطر بيت من الشعر كيف أن المعنى يتوقف، أو بالأحرى " يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو " حينما نزيل ألفاظه من مواضعها.
لاحظ الجرجاني أن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلمات المفردة؛ أي وهي متجرّدة من معاني النحو " إنما منطوقا بها على وجه يأتي معه تقدير معاني النحو وتوخّيها فيها " . ويستطرد قائلا : " ولم تجئ إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فردا، ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر.
إذا كان ذلك كذلك؛ فمن أين جاء اللبس في حشر كتاب " دلائل الإعجاز في كتب البلاغة والجرجاني في علماء البلاغة ؟ من أن عبد القاهر الجرجاني أراد أن يكون النحو علم علوم اللسان العربي؛ أعني العلم الشامل لكل فنون اللغة العربية. ومن أنه استطاع مستندا إلى فكرة العقل الإنساني الذي يهيمن على كتابه على أن يصوغ قضية الإعجاز بعد أن كانت مثقلة بالدين. من وجهة النظر هذه لا يمكن أن تكون " المرآة " في عبارة الجرجاني إلا مجازا لهذا العلم الشامل الذي تُرى فيه الأشياء المتباعدة، وتُضم إليه أي أن النحو يصف الكلام العربي ويتذوقه ويؤوله.
هيأت اللغة العربية لعبد القاهر الجرجاني سبل تحليل كلامها وفنها وجمالها من منظور النحو. ومن المفارقة أن الشعر والقرآن الكريم وليس الكلام بعامة هما ما سمحا له بذلك؛ لأنهما يظهران التمايز، وفيما يبدو لي فإن العنوان الذي اختاره الجرجاني ( دلائل الإعجاز ) يشير إلى عدم معرفته بتسمية ما كان واعيا أنه ينجزه؛ أعني النحو مدخلا لتحليل الكلام الجميل.
تكمن أهمية عبد القاهر الجرجاني في تاريخ النحو العربي في تأكيده على مفهوم الحذف الذي يعتبر أهم مظهر من مظاهر التأويل النحوي. وهو ينص على ذلك صراحة في عنوان فصل من فصول كتابه (القول في الحذف) أظنه أجمل فصل كتب في تاريخ النحو العربي .
مكمن الروعة في هذا الفصل أن عبد القاهر الجرجاني وعى وظائف مفهوم الحذف ليس من جهة النحو فحسب، إنما من ناحية الجمال أيضا. فغموض اللغة كما تكون عادة في الكلام الجميل والكلام المعجِز يحتاج إلى وضوح العقل، ولم يجد الجرجاني أفضل من علم النحو المستند إلى العقل ليوضح وحدات الفن التركيبية، فالعقل ليس دلاليا أو وصفيا فحسب؛ إنما أيضا جمالي.
ينطلق الجرجاني من فرضية مفادها أن هناك ثلاثة مستويات للغة العربية الأول: الكلام بعامة في الحياة اليومية. ةالثاني الكلام الجميل كالشعر. والثالث الكلام المعجز كالقرآن. فحيثما يوجد مستوى من هذه المستويات فإن العقل يعمل. وبلغة الجرجاني فالعاقل يرتب في نفسه ما يريد أن يتكلم به. فضلا عن ذلك فكل مستوى منها قادر على أن يحقق الهدف الذي يريده العقل الذي أنتجه، ويسعى لكي يحقق فكرة المستوى اللغوي الكامل.
يعني هذا أن عمل النحوي هو أن يتقصّى الحد الذي يقترب فيه أحد هذه المستويات من فكرة كمال المستوى اللغوي ذاته. هناك اختلافات بين هذه المستويات، ويقر الجرجاني بذلك؛ إلا أنه لا يفرض معيارا من خارج كل مستوى، إنما يستمده من طبيعة المستوى الداخلية.
لا أحد قبل الجرجاني فكر في أن الحذف يمكن أن يهيئ معرفة. ومقارنة فصل الجرجاني بالفصل الذي خصصه ابن جني للحذف " باب في شجاعة العربية " يرينا إلى أي حد تحول عمل الهاوي ( ابن جني ) إلى عمل محترف ( الجرجاني) وأن ما أطلق عليه ابن جني " شجاعة العربية " ليست إلا فكرة بدائية نضجت وأتت أكلها عند عبد القاهر الجرجاني، وشجاعة العربية عند ابن جني لم يكن لها أن تقاوم شجاعة المعرفة عند الجرجاني.
يختفي وراء بناء نقهوم النحو عند الجرجاني قناعة تتمثل في إعجاز اللغة ودلائل إعجازها، وليس ما فُهم على أنه إعجاز مستوى لغوي معيّن . هذه القناعة هي أن اللغة معجزة الإنسان. قد لا يقبل الجرجاني أن ننسب إليه هذه القناعة؛ لذلك سأكتفي من كتابه بمفهوم الحذف من حيث هو مفهوم مؤسس للنحو العربي ، وهو مفهوم أعتقد أن من النادر أن نجد نحويا لا يسلم بأهمية هذا المفهوم .
علي الشدوي / السعودية
تبدو غرابة هذا القول حينما نقرأ في مقدمة الكتاب أن عبد القاهر الجرجاني نفسه أدرج كتابه في النحو وليس في البلاغة. يقول : هذا كلام وجيز يطلع به الناظر على أصول النحو جملة، وكل ما به يكون النظم دفعة، وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له، حتى رآها في مكان واحد، ويرى بها مشئما قد ضم إلى معرق، ومغربا قد أخذ بيد مشرق.
ويقول في صفحة أخرى: ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذُكر، أنه لا يُتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفرادا أو مجردة من معاني النحو، فلا يقوم في وهم ولا يصح في عقل، أن يتفكّر متفكّر في معنى " فعل " من غير أن يريد إعماله في " اسم "، ولا أن يفكر في معنى " اسم " من غير أن يريد إعماله في " اسم " ولا أن يفكر في معنى " اسم " من غير أن يريد إعمال " فعل " فيه وجعله فاعلا أو مفعولا، أو يريد منه حكما سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ، أو خبرا، أو صفة، أو حالا، أو ما شاكل ذلك.
وسوف يوضح لنا الجرجاني بشطر بيت من الشعر كيف أن المعنى يتوقف، أو بالأحرى " يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو " حينما نزيل ألفاظه من مواضعها.
لاحظ الجرجاني أن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلمات المفردة؛ أي وهي متجرّدة من معاني النحو " إنما منطوقا بها على وجه يأتي معه تقدير معاني النحو وتوخّيها فيها " . ويستطرد قائلا : " ولم تجئ إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فردا، ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر.
إذا كان ذلك كذلك؛ فمن أين جاء اللبس في حشر كتاب " دلائل الإعجاز في كتب البلاغة والجرجاني في علماء البلاغة ؟ من أن عبد القاهر الجرجاني أراد أن يكون النحو علم علوم اللسان العربي؛ أعني العلم الشامل لكل فنون اللغة العربية. ومن أنه استطاع مستندا إلى فكرة العقل الإنساني الذي يهيمن على كتابه على أن يصوغ قضية الإعجاز بعد أن كانت مثقلة بالدين. من وجهة النظر هذه لا يمكن أن تكون " المرآة " في عبارة الجرجاني إلا مجازا لهذا العلم الشامل الذي تُرى فيه الأشياء المتباعدة، وتُضم إليه أي أن النحو يصف الكلام العربي ويتذوقه ويؤوله.
هيأت اللغة العربية لعبد القاهر الجرجاني سبل تحليل كلامها وفنها وجمالها من منظور النحو. ومن المفارقة أن الشعر والقرآن الكريم وليس الكلام بعامة هما ما سمحا له بذلك؛ لأنهما يظهران التمايز، وفيما يبدو لي فإن العنوان الذي اختاره الجرجاني ( دلائل الإعجاز ) يشير إلى عدم معرفته بتسمية ما كان واعيا أنه ينجزه؛ أعني النحو مدخلا لتحليل الكلام الجميل.
تكمن أهمية عبد القاهر الجرجاني في تاريخ النحو العربي في تأكيده على مفهوم الحذف الذي يعتبر أهم مظهر من مظاهر التأويل النحوي. وهو ينص على ذلك صراحة في عنوان فصل من فصول كتابه (القول في الحذف) أظنه أجمل فصل كتب في تاريخ النحو العربي .
مكمن الروعة في هذا الفصل أن عبد القاهر الجرجاني وعى وظائف مفهوم الحذف ليس من جهة النحو فحسب، إنما من ناحية الجمال أيضا. فغموض اللغة كما تكون عادة في الكلام الجميل والكلام المعجِز يحتاج إلى وضوح العقل، ولم يجد الجرجاني أفضل من علم النحو المستند إلى العقل ليوضح وحدات الفن التركيبية، فالعقل ليس دلاليا أو وصفيا فحسب؛ إنما أيضا جمالي.
ينطلق الجرجاني من فرضية مفادها أن هناك ثلاثة مستويات للغة العربية الأول: الكلام بعامة في الحياة اليومية. ةالثاني الكلام الجميل كالشعر. والثالث الكلام المعجز كالقرآن. فحيثما يوجد مستوى من هذه المستويات فإن العقل يعمل. وبلغة الجرجاني فالعاقل يرتب في نفسه ما يريد أن يتكلم به. فضلا عن ذلك فكل مستوى منها قادر على أن يحقق الهدف الذي يريده العقل الذي أنتجه، ويسعى لكي يحقق فكرة المستوى اللغوي الكامل.
يعني هذا أن عمل النحوي هو أن يتقصّى الحد الذي يقترب فيه أحد هذه المستويات من فكرة كمال المستوى اللغوي ذاته. هناك اختلافات بين هذه المستويات، ويقر الجرجاني بذلك؛ إلا أنه لا يفرض معيارا من خارج كل مستوى، إنما يستمده من طبيعة المستوى الداخلية.
لا أحد قبل الجرجاني فكر في أن الحذف يمكن أن يهيئ معرفة. ومقارنة فصل الجرجاني بالفصل الذي خصصه ابن جني للحذف " باب في شجاعة العربية " يرينا إلى أي حد تحول عمل الهاوي ( ابن جني ) إلى عمل محترف ( الجرجاني) وأن ما أطلق عليه ابن جني " شجاعة العربية " ليست إلا فكرة بدائية نضجت وأتت أكلها عند عبد القاهر الجرجاني، وشجاعة العربية عند ابن جني لم يكن لها أن تقاوم شجاعة المعرفة عند الجرجاني.
يختفي وراء بناء نقهوم النحو عند الجرجاني قناعة تتمثل في إعجاز اللغة ودلائل إعجازها، وليس ما فُهم على أنه إعجاز مستوى لغوي معيّن . هذه القناعة هي أن اللغة معجزة الإنسان. قد لا يقبل الجرجاني أن ننسب إليه هذه القناعة؛ لذلك سأكتفي من كتابه بمفهوم الحذف من حيث هو مفهوم مؤسس للنحو العربي ، وهو مفهوم أعتقد أن من النادر أن نجد نحويا لا يسلم بأهمية هذا المفهوم .
علي الشدوي / السعودية