عندما شاهد ملعب كرة القدم، في المدرسة التي سبق وأنْ تلقَّى التعليم فيها، خُيل إليهِ وكأنَّ شبحَاً يطالعه بابتسَامة سَاخرة ويقول:
- أهلاً بهدَّاف المَدرسة.
كان ذلك قبل بضع سنوات، يوم كان تلاميذ المدرسة يصفِّقون إعجاباً به وهو ينطلق بالكره مراوغاً هذا ومدافعاً ذاك، حتَّى تستقرَّ في المرمى، هدفاً وراء هدف، وفخراً وراء فخر يزهو به طوال اليوم، فلا يقيم وزنا لأحد سوى نفسه، ليس لحارس المدرسة وهو يشكوه للمشرف لإصراره على تسلُّق السور، ولا للفرَّاش وقد أبدى ضيقه الشديد من سلوكه المستفز، ولا حتَّى للمدرّسين وهم ينصحونه الاهتمام بدروسه.
إنه هدَّاف المدرسة وكفى.
أمّا اليوم فلا هو اللاعب قويُّ الجسم، وافر النشاط، سريع الحركة، ولا حتَّى التلميذ الذي كان بالكاد ينجح في موادِّه الدراسية، إنَّه صورة مختلفة تماما، مشوَّهة لحد الألم.
مسَّت عاتِقَه أصَابعٌ خشنة، فتلفَّت للخلف، وشاهد أستاذ خليل يطالعه بابتسامته الوادعة، كان نعم المربِّي، يجبر الجميع على احترامه، فلا يجرؤ أحد على افتعال المشاكل في حصَّته، والآن وقد غزا الشيب لحيته، وبرزت تقاطيع وجهه، ازداد مهابة في عينيه.
مدَّ يده مصَافحاً وهو يقول:
- أهلاً أستاذنا.. كيف أنت؟
ردّ المدرّس بمودَّة ظاهرة:
- أهلاً بك يا ولدي، أمورك طيبة إن شاء الله؟
- بخير ولله الحمد.
- أراكَ مُرتديا لباس الحرُّاس، هل أنت الحَارس الجديد للمدرسة؟
- أجل أنا هو.
لمح شيئا من الاستياء في عين المدرٍّس فبادر للقول:
- إصابة القدم حرمتني من أمور كثيرة.
- لا بأس يا بني، إنُّه عمل شريف، أنا فقط كنت أتمنَّى لك مستقبلاً أفضل.
أوجعته الكلمة على رغمه؛ لو انُّه استجاب لنصَائحه ونصَائح المدرِّسين الآخرين، وبذل جهده، لتخرَّج بمجموع يؤهِّله للدراسة في الجامعة، لكنَّه بالكاد تمكَّن من النجاح، لقد لازمه العبث طوال سنواته الدراسية، حين أحسَّ بمهاراته الكرويَّة تتطوَّر، وبعيون الجميع ترقبه بإعجاب، وكان حقَّا عليه أن يوقعه عناده في عثرة لا يقوم منها، وهذه المرَّة في قدمه؛ هناك خارج المدرسة، في تلك الأرض الرملية، وذلك الطقس السيء، وسط المطر، أصرَّ على اللعب رغم الإصَابة، ليسقط سقوطا مدوِّيا، يتوقّف معه مستقبله الرياضي، كما هو شأن مستقبله الدراسي، فلا يجد عملاً يعتاش منه، سوى هذه الأعمال، التي لا مستقبل لها.
مضى المدرِّس الفاضل، مُعتذراً بحصَّة جديدة، فعاد وأرسل نظراتِه الحزينة متفقّدة أنحاء المدرسة، ولكن.. من هذا المدرس الواقف بصفّارته ولباسه الرياضي عند باب الصَّالة الرياضية؟ أووه .. لقد عرفه وتذكّره جيداً، وبذلك بلغت المَأساة حدَّها؛ ذلك التلميذ نحيف الجسم، من كان يعابثه بقسوة، ويمسك برأسه فلا يتركه إلاَّ وقد سالتْ دموعه قهراً، ها هو مدرّس لمادة الرياضة، يوجِّه التلاميذ، وكلُّ واحد منهم يصغي اليه بانتباه، أمَّا هو من كان هدّاف المدرسة، فحارس أمن، لا يستطيع مفارقة مكانه!.
وشعر بغصَّة في حلقه، وبرغبة في البكاء، وسارع بالدخول إلى غرفة الحراسة، فارَّا بنفسه، لكنَّ المدرس الشاب أبى إلاَّ إزعاجه، فها هو يتقدَّم إليه، شامتاً لا شك، فحتى وإن بدى هادئاً رزيناً، فإنَّ في عينيه غلاً وحقدا كظيمين، ورغبة في التشفي والانتقام، ولماذا لا ينتقم؟ لو كان في مكانه لما ترك كلمة جارحة ولا قولا فظَّاً دون أن يطلقه ويشفي به غليله، غير أنَّه لم يزد على أن قال...
- السلام عليكم.
فردَّ بصوت ضعيف:
- وعليكم السلام.
ثمَّ مضى المدرّس لبعض شأنه، فهزَّ رأسه ساخراً من نفسه، إذ تصوَّر أن أحداً يعنى به، ثمَّ أمسك بجوَّاله واتصل بشركة الحراسة، وطلب نقله إلى مدرسة أخرى في أسرع وقت.
- أهلاً بهدَّاف المَدرسة.
كان ذلك قبل بضع سنوات، يوم كان تلاميذ المدرسة يصفِّقون إعجاباً به وهو ينطلق بالكره مراوغاً هذا ومدافعاً ذاك، حتَّى تستقرَّ في المرمى، هدفاً وراء هدف، وفخراً وراء فخر يزهو به طوال اليوم، فلا يقيم وزنا لأحد سوى نفسه، ليس لحارس المدرسة وهو يشكوه للمشرف لإصراره على تسلُّق السور، ولا للفرَّاش وقد أبدى ضيقه الشديد من سلوكه المستفز، ولا حتَّى للمدرّسين وهم ينصحونه الاهتمام بدروسه.
إنه هدَّاف المدرسة وكفى.
أمّا اليوم فلا هو اللاعب قويُّ الجسم، وافر النشاط، سريع الحركة، ولا حتَّى التلميذ الذي كان بالكاد ينجح في موادِّه الدراسية، إنَّه صورة مختلفة تماما، مشوَّهة لحد الألم.
مسَّت عاتِقَه أصَابعٌ خشنة، فتلفَّت للخلف، وشاهد أستاذ خليل يطالعه بابتسامته الوادعة، كان نعم المربِّي، يجبر الجميع على احترامه، فلا يجرؤ أحد على افتعال المشاكل في حصَّته، والآن وقد غزا الشيب لحيته، وبرزت تقاطيع وجهه، ازداد مهابة في عينيه.
مدَّ يده مصَافحاً وهو يقول:
- أهلاً أستاذنا.. كيف أنت؟
ردّ المدرّس بمودَّة ظاهرة:
- أهلاً بك يا ولدي، أمورك طيبة إن شاء الله؟
- بخير ولله الحمد.
- أراكَ مُرتديا لباس الحرُّاس، هل أنت الحَارس الجديد للمدرسة؟
- أجل أنا هو.
لمح شيئا من الاستياء في عين المدرٍّس فبادر للقول:
- إصابة القدم حرمتني من أمور كثيرة.
- لا بأس يا بني، إنُّه عمل شريف، أنا فقط كنت أتمنَّى لك مستقبلاً أفضل.
أوجعته الكلمة على رغمه؛ لو انُّه استجاب لنصَائحه ونصَائح المدرِّسين الآخرين، وبذل جهده، لتخرَّج بمجموع يؤهِّله للدراسة في الجامعة، لكنَّه بالكاد تمكَّن من النجاح، لقد لازمه العبث طوال سنواته الدراسية، حين أحسَّ بمهاراته الكرويَّة تتطوَّر، وبعيون الجميع ترقبه بإعجاب، وكان حقَّا عليه أن يوقعه عناده في عثرة لا يقوم منها، وهذه المرَّة في قدمه؛ هناك خارج المدرسة، في تلك الأرض الرملية، وذلك الطقس السيء، وسط المطر، أصرَّ على اللعب رغم الإصَابة، ليسقط سقوطا مدوِّيا، يتوقّف معه مستقبله الرياضي، كما هو شأن مستقبله الدراسي، فلا يجد عملاً يعتاش منه، سوى هذه الأعمال، التي لا مستقبل لها.
مضى المدرِّس الفاضل، مُعتذراً بحصَّة جديدة، فعاد وأرسل نظراتِه الحزينة متفقّدة أنحاء المدرسة، ولكن.. من هذا المدرس الواقف بصفّارته ولباسه الرياضي عند باب الصَّالة الرياضية؟ أووه .. لقد عرفه وتذكّره جيداً، وبذلك بلغت المَأساة حدَّها؛ ذلك التلميذ نحيف الجسم، من كان يعابثه بقسوة، ويمسك برأسه فلا يتركه إلاَّ وقد سالتْ دموعه قهراً، ها هو مدرّس لمادة الرياضة، يوجِّه التلاميذ، وكلُّ واحد منهم يصغي اليه بانتباه، أمَّا هو من كان هدّاف المدرسة، فحارس أمن، لا يستطيع مفارقة مكانه!.
وشعر بغصَّة في حلقه، وبرغبة في البكاء، وسارع بالدخول إلى غرفة الحراسة، فارَّا بنفسه، لكنَّ المدرس الشاب أبى إلاَّ إزعاجه، فها هو يتقدَّم إليه، شامتاً لا شك، فحتى وإن بدى هادئاً رزيناً، فإنَّ في عينيه غلاً وحقدا كظيمين، ورغبة في التشفي والانتقام، ولماذا لا ينتقم؟ لو كان في مكانه لما ترك كلمة جارحة ولا قولا فظَّاً دون أن يطلقه ويشفي به غليله، غير أنَّه لم يزد على أن قال...
- السلام عليكم.
فردَّ بصوت ضعيف:
- وعليكم السلام.
ثمَّ مضى المدرّس لبعض شأنه، فهزَّ رأسه ساخراً من نفسه، إذ تصوَّر أن أحداً يعنى به، ثمَّ أمسك بجوَّاله واتصل بشركة الحراسة، وطلب نقله إلى مدرسة أخرى في أسرع وقت.
تمت