كان "شدوان" نائماً بجسده, لكن رأسه صاحٍ..الجسم ناء بأحمال النهار الطويل الذي بدأ قبل أن تلقي الشمس بأول خصلة من شعرها الوهّاج على الحقول الداكنة المبللة بالندى, وعلى الأشجار والجداول والترعة القبلية.
الجسم ناء وتورّمت عضلات الذراعين, وأخذت شرايين الفخذين تنتفض بحركة الدم صاعدةً هابطة, فأقعى "شدوان" على سرير السّعف بعد العشاء. وعَمِل الملحُ والبصل وخبز الذرة أعمالها فتخدّر "شدوان" وتمدّد, لكن رأسه بقي صاحياً.
لا تستطيع جدران الطين والقَشّ أن تمنع العواء. لا تستطيع حزمةُ البنات المنحدرةُ من صُلبه, المكوّمة في غطاء قطني على الحصير الأغبر أن تمنع العواء. لا تستطيع زوجته بدفئها العَطِن ورائحة البصل التي تفوح منها على سرير السَّعف أن تمنع العواء. وما كان العواء صاخباً, وما كان يشبه حتى العواء!..
فوالده المسن يعلم ما يجوز وما لا يجوز, وهو أيضاً خبير بالبئر وما عليها من غطاء؛ وفق هذا فليس الألم بجديد عليه. ستون سنة تكفي وتزيد كي يتدرب الإنسان على استيعاب الألم وكتمانه, حين لا تكون هناك فائدة من إزعاج الآخرين به, لكن لا بأس بين الحين والحين من آهةٍ هنا..وآنَّةٍ هناك.
إنما الأنَّات إِبرٌ, والآهة مخراز..إِبرُ مدببات كلها تمزق خَدَرَ "شدوان" وتتسلق بأسنانها على أعصابه حتى تصل إلى أذنيه فتثقبهما, فيبقى الرأس صاحياً.
قال " شدوان" لنفسه : يتمنى الشيخ المريض طبيباً, لكنه يخجل من الإفصاح, هذا كلام الابن "شدوان" فالفرع يهتز حين تصيب الأصلَ صدمة ما. لكنَّ "شدوان", الرجل المعلق في حياته من عرقوبه, أخذ يفكر: "ما فائدة الطب في سن الستين؟".
منذ أيام ذهب الشيخ بألمه المعتاد إلى عيادة كل الناس , ووقف في الطابور حتى جاء دوره, فلم يتسع الوقت ليبسط ألمه كاملاً على مائدة الطبيب العجول, وأعطوه مزيجاً يعالج كل الأمراض. عاد الشيخ من العيادة يسحب آلامه وكف عن التوجع, لكن "شدوان" كان متأكداً أن الألم ما يزال, فالرجل صبور, وصحَّ ما توقعه, فالألم بالأمس أطلَّ واخترق نطاق الكتمان وانتشر في الدار, فذهب العاجز إلى عيادة كل الناس مرة ثانية, وعاد بدواء جميع الأمراض.
وانقسم "شدوان" على نفسه وهو يرهف أذنيه لألم أبيه. قال الابن "شدوان" : لابد لهذا العاجز من طبيب خاص. فأجاب "شدوان" المعلق من عرقوبه: أسوق عليك النبي أن تسكت, فمن أين لنا بأجر طبيب خاص؟..أراد "شدوان" أن ينفض السخط فحرّك أخشابه المغطاة ولم تستجيب له إحدى ساقيه لأنها قد ماتت, فأخذ يدلكها لعيدها إلى الحياة.
وفوق مصطبة الفرن كان الأب قد أطلق العنان لألمه, وفي ظنه أن الجميع نيام وأخذت الإبر والمخازير تسبح في ظلام المأوى, تتخبط في جدارن الطين والقش وتصطدم بالذرية مندفعة إلى سرير السعف لتثقب أذني الابن " شدوان".
قال المعلق من عرقوبه : من أين لنا أجر الطبيب الخاص؟ قال الابن : الأمر لا يخلو, معي جنيهان, لهما ضرورة, أي نعم..لكن أبي ضرورة أيضاً.!! قال المعلق من عرقوبه : وهل يصحو طبيب خاص في مثل تلك الساعة؟! قال الابن: حين نصل يكون قد صحا.
نهض "شدوان" الابن و"شدوان" المعلق من عرقوبه ومشيا في جسدٍ مُوَحَّد فوق حزمة الذريَّة إلى الحاصل الخلفي, وتلمسا معاً في ظلام الحاصل مربط الحمار, وأيقظاه, فنهض الحمار على قوائمه غاضباً وأخذ ينهق, فمضى "شدوان" الموحد يقوده خارج الحاصل وهو يزجره.
حمل "شدوان" والده المسنَّ خارج الكأوى ودثَّره, ووضعه على الحمار بإحكام, على حين كان المعلق من عرقوبه في عجلة الحياة, يرقبه من داخله, وكأنه يسخر منه.
لكنه مع ذلك نخس الحمار بعصاه فراح يتحرك متكاسلاً.. أداروا للقرية ظهورهم وأخذوا يخبّون على الدرب المندّى, ويخترقون الحقول, ويزعجون الصمت على السكك المرصوفة, ولم يكف الشيخ عن إرسال إبره ومخاريزه, كان في ظن "شدوان" أن المسيرة سوف تغرق أباه في الأمل وتخذَر ألمه, ولكن السكة كانت طويلة والليل بارداً. وفي الفجر لاحت الجيزة, وحين دخلها الحمار بمن عليه ومن وراءه, كان النهار قد اتضح, وكان "شدوان" قد بدأ يتوجّع أيضاً.
كشف الطبيب على المريض بعد أن دفع "شدوان" في الخارج جنيها, قال الطبيب: هذا الشيخ بحاجة إلى عمليّة, ومضى يؤنب "شدوان" على التأخير. قال "شدوان": ماكنا نعرف! قال الطبيب: الآن عرفت, فما رأيك؟ قال "شدوان": اعملها فوراً, فمعي جنيه آخر.
ضحك الطبيب بوقار وهو يعلن أن أجر العملية عشرون. فأُسْقِطَ في يد "شدوان" الابن وجحظ قلبه, فقال "شدوان" المعلق من عرقوبه: أسوق عليك النبي, احمل والدك وهيا عُد به.
قال الطبيب: أنا مُقَدَّر..سأجعلها خمسة عشر. احسم أمرك فليس أمام أبيك وقت, صاح المعلق من عرقوبه: والله يا شيخ ما معنا شي. قال "شدوان": سأبيع الحمار. قال المعلق من عرقوبه : مجنون أنت؟! هل لنا غيره؟!
صاح الابن: أبي والحمار في ميزان واحد, ما ترى أنت؟! قال المعلَّق: لم يبق من الرجل نفع.. قال الابن: لكنه ما يزال الأب..كما أن الحمار حماره.
انتهز الطبيب الفرصة, وأصدر أمره بتجهيز غرفة العمليات. قال الابن: سأعود حالاً بالنقود. ركب "شدوان" الحمار إلى السوق وعاد بلهث بالنقود في يده. دخل "شدوان" على الطبيب وناوله النقود, وابتسم الطبيب بوقار وهو يدس النقود – التي كانت حماراً – في جيبه وقال بفخر: نجحت العمليّة, لكن الرجل قد مات.
حمل "شدوان" الجثة على كتفيه وغادر الجيزة ومضى يقطع الطريق راجعاً والجثة على كتفيه. وكان المعلَّق من عرقوبه قد انفصل عنه وأخذ يؤنبه.
قال المعلَّق من عرقوبه: أنا أعرف أبي جيداً, لم يشأ الرحيل قبل أن يأخذ حماره معه
الجسم ناء وتورّمت عضلات الذراعين, وأخذت شرايين الفخذين تنتفض بحركة الدم صاعدةً هابطة, فأقعى "شدوان" على سرير السّعف بعد العشاء. وعَمِل الملحُ والبصل وخبز الذرة أعمالها فتخدّر "شدوان" وتمدّد, لكن رأسه بقي صاحياً.
لا تستطيع جدران الطين والقَشّ أن تمنع العواء. لا تستطيع حزمةُ البنات المنحدرةُ من صُلبه, المكوّمة في غطاء قطني على الحصير الأغبر أن تمنع العواء. لا تستطيع زوجته بدفئها العَطِن ورائحة البصل التي تفوح منها على سرير السَّعف أن تمنع العواء. وما كان العواء صاخباً, وما كان يشبه حتى العواء!..
فوالده المسن يعلم ما يجوز وما لا يجوز, وهو أيضاً خبير بالبئر وما عليها من غطاء؛ وفق هذا فليس الألم بجديد عليه. ستون سنة تكفي وتزيد كي يتدرب الإنسان على استيعاب الألم وكتمانه, حين لا تكون هناك فائدة من إزعاج الآخرين به, لكن لا بأس بين الحين والحين من آهةٍ هنا..وآنَّةٍ هناك.
إنما الأنَّات إِبرٌ, والآهة مخراز..إِبرُ مدببات كلها تمزق خَدَرَ "شدوان" وتتسلق بأسنانها على أعصابه حتى تصل إلى أذنيه فتثقبهما, فيبقى الرأس صاحياً.
قال " شدوان" لنفسه : يتمنى الشيخ المريض طبيباً, لكنه يخجل من الإفصاح, هذا كلام الابن "شدوان" فالفرع يهتز حين تصيب الأصلَ صدمة ما. لكنَّ "شدوان", الرجل المعلق في حياته من عرقوبه, أخذ يفكر: "ما فائدة الطب في سن الستين؟".
منذ أيام ذهب الشيخ بألمه المعتاد إلى عيادة كل الناس , ووقف في الطابور حتى جاء دوره, فلم يتسع الوقت ليبسط ألمه كاملاً على مائدة الطبيب العجول, وأعطوه مزيجاً يعالج كل الأمراض. عاد الشيخ من العيادة يسحب آلامه وكف عن التوجع, لكن "شدوان" كان متأكداً أن الألم ما يزال, فالرجل صبور, وصحَّ ما توقعه, فالألم بالأمس أطلَّ واخترق نطاق الكتمان وانتشر في الدار, فذهب العاجز إلى عيادة كل الناس مرة ثانية, وعاد بدواء جميع الأمراض.
وانقسم "شدوان" على نفسه وهو يرهف أذنيه لألم أبيه. قال الابن "شدوان" : لابد لهذا العاجز من طبيب خاص. فأجاب "شدوان" المعلق من عرقوبه: أسوق عليك النبي أن تسكت, فمن أين لنا بأجر طبيب خاص؟..أراد "شدوان" أن ينفض السخط فحرّك أخشابه المغطاة ولم تستجيب له إحدى ساقيه لأنها قد ماتت, فأخذ يدلكها لعيدها إلى الحياة.
وفوق مصطبة الفرن كان الأب قد أطلق العنان لألمه, وفي ظنه أن الجميع نيام وأخذت الإبر والمخازير تسبح في ظلام المأوى, تتخبط في جدارن الطين والقش وتصطدم بالذرية مندفعة إلى سرير السعف لتثقب أذني الابن " شدوان".
قال المعلق من عرقوبه : من أين لنا أجر الطبيب الخاص؟ قال الابن : الأمر لا يخلو, معي جنيهان, لهما ضرورة, أي نعم..لكن أبي ضرورة أيضاً.!! قال المعلق من عرقوبه : وهل يصحو طبيب خاص في مثل تلك الساعة؟! قال الابن: حين نصل يكون قد صحا.
نهض "شدوان" الابن و"شدوان" المعلق من عرقوبه ومشيا في جسدٍ مُوَحَّد فوق حزمة الذريَّة إلى الحاصل الخلفي, وتلمسا معاً في ظلام الحاصل مربط الحمار, وأيقظاه, فنهض الحمار على قوائمه غاضباً وأخذ ينهق, فمضى "شدوان" الموحد يقوده خارج الحاصل وهو يزجره.
حمل "شدوان" والده المسنَّ خارج الكأوى ودثَّره, ووضعه على الحمار بإحكام, على حين كان المعلق من عرقوبه في عجلة الحياة, يرقبه من داخله, وكأنه يسخر منه.
لكنه مع ذلك نخس الحمار بعصاه فراح يتحرك متكاسلاً.. أداروا للقرية ظهورهم وأخذوا يخبّون على الدرب المندّى, ويخترقون الحقول, ويزعجون الصمت على السكك المرصوفة, ولم يكف الشيخ عن إرسال إبره ومخاريزه, كان في ظن "شدوان" أن المسيرة سوف تغرق أباه في الأمل وتخذَر ألمه, ولكن السكة كانت طويلة والليل بارداً. وفي الفجر لاحت الجيزة, وحين دخلها الحمار بمن عليه ومن وراءه, كان النهار قد اتضح, وكان "شدوان" قد بدأ يتوجّع أيضاً.
كشف الطبيب على المريض بعد أن دفع "شدوان" في الخارج جنيها, قال الطبيب: هذا الشيخ بحاجة إلى عمليّة, ومضى يؤنب "شدوان" على التأخير. قال "شدوان": ماكنا نعرف! قال الطبيب: الآن عرفت, فما رأيك؟ قال "شدوان": اعملها فوراً, فمعي جنيه آخر.
ضحك الطبيب بوقار وهو يعلن أن أجر العملية عشرون. فأُسْقِطَ في يد "شدوان" الابن وجحظ قلبه, فقال "شدوان" المعلق من عرقوبه: أسوق عليك النبي, احمل والدك وهيا عُد به.
قال الطبيب: أنا مُقَدَّر..سأجعلها خمسة عشر. احسم أمرك فليس أمام أبيك وقت, صاح المعلق من عرقوبه: والله يا شيخ ما معنا شي. قال "شدوان": سأبيع الحمار. قال المعلق من عرقوبه : مجنون أنت؟! هل لنا غيره؟!
صاح الابن: أبي والحمار في ميزان واحد, ما ترى أنت؟! قال المعلَّق: لم يبق من الرجل نفع.. قال الابن: لكنه ما يزال الأب..كما أن الحمار حماره.
انتهز الطبيب الفرصة, وأصدر أمره بتجهيز غرفة العمليات. قال الابن: سأعود حالاً بالنقود. ركب "شدوان" الحمار إلى السوق وعاد بلهث بالنقود في يده. دخل "شدوان" على الطبيب وناوله النقود, وابتسم الطبيب بوقار وهو يدس النقود – التي كانت حماراً – في جيبه وقال بفخر: نجحت العمليّة, لكن الرجل قد مات.
حمل "شدوان" الجثة على كتفيه وغادر الجيزة ومضى يقطع الطريق راجعاً والجثة على كتفيه. وكان المعلَّق من عرقوبه قد انفصل عنه وأخذ يؤنبه.
قال المعلَّق من عرقوبه: أنا أعرف أبي جيداً, لم يشأ الرحيل قبل أن يأخذ حماره معه