بعد أن سألها الطبيب عن أعمارنا .. أجابته وثمة قلق في عينيها:
- سيكمل الأربع سنوات بعد شهرين ثم حملته لتجلسه إلى جانبها.
أمسكتُ يده بشدة وقلتُ له: لا تتركني لوحدي معهما في الغرفة!
ابتسم مدركًا أن وجودهما قربي بدأ يزعجني .. سيما وأن نظرات الطبيب كانت موجهة صوبنا .. لقد تيقنتُ أن حديثنا كان يصل إليه .. وتلك المرأة التي تقول إنها امي تبكي طوال الوقت ..
حاول أن يشتتَ انتباهي عنهما فقال لي : انظر إلى تلك اللوحة .. هل يعجبك ذلك الزورق التائه وسط الأمواج؟
.هل تعرف مَنْ يكون ذلك البحار؟ .. إنه أنتَ!!
سرقني منه صوت المرأة وهي تسأل الطبيب:
- ما الذي أثار انتباهه في اللوحة ؟!
هكذا هو طوال الوقت .. عيناه تتكلم وشفتاه صامتتان ..
التفتتْ إليّ تحدثني والدموع في عينيها:
- انظر إليّ حبيبي .. أنا أمك!
قاطعها الطبيب:
- هو لا يسمع إلا نفسه .. متوحد معها قبل أن يولد..
- صدقت يا دكتور .. متوحد معها قبل ولادته .. هو لا يعرف حتى اسمه!
شدّني صديقي بقوة من يدي ليهمس في أذني: إبقَ معي .. لا تلتفت إليهما ..
ثم سحبني من يدي وسرنا معًا صوب غابة كبيرة .. تسلقنا شجرة جوز عملاقة .. هربت العصافير حينما بدأت الأغصان تهتز .. شعرنا بفرحة كبيرة ونحن نرى حبات الجوز تتساقط فوق رؤوسنا .. انشغلنا بعدها بالجري وراء أرنب أبيض سرعان ما اختفى بين الحشائش .. ضحكنا كثيرًا حين رأينا سلحفاة منقلبة على ظهرها.. لكن طائرًا عملاقًا وضعنا فوق ظهره ليحلق بنا فوق جبال شاهقة .. كانت الغيوم تملأ السماء .. سألني صديقي وهو يحيط كتفي بذراعيه: هل أنت سعيد برؤية النهر؟ لم أرد .. كنت مشغولًا بمراقبة النوارس تحلق فوق سفينة بعيدة بينما الشمس توشك على المغيب .. تركنا الساحل لنعود من حيث أتينا.
كانت أمنا والطبيب بانتظارنا .. سألتُ صديقي:
- مابها أمنا .. لماذا تبكي؟!
ردّ بعدم اكتراث:
- إنها حزينة!
- ماذا يعني حزينة ؟!
قال وقد بدا محتارًا من سؤالي: لا أدري! هكذا سمعتها تقول للطبيب ..هؤلاء مجانين .. يريدون التفريق بيني وبينك .. لا يعرفون أن سعادتنا تكمن في بقاء أحدنا داخل الآخر .. إياك أن تتركني .. لنغادر عالمهم فنحن لا نتحدث لغتهم ولا هم يفهمون لغتنا.. دعنا نذهب إلى النهر ونركبَ ذلك القارب .. نهرب به بعيدًا من هنا.. لكن قبل أن ينفذ قوله سحبته أمي من يدي وغادرنا نحن الثلاثة الغرفة!
.............
نُشرت في مجلة سطور الأدبية
العدد التاسع والثلاثون ٠٠
2 آيار 2024
- سيكمل الأربع سنوات بعد شهرين ثم حملته لتجلسه إلى جانبها.
أمسكتُ يده بشدة وقلتُ له: لا تتركني لوحدي معهما في الغرفة!
ابتسم مدركًا أن وجودهما قربي بدأ يزعجني .. سيما وأن نظرات الطبيب كانت موجهة صوبنا .. لقد تيقنتُ أن حديثنا كان يصل إليه .. وتلك المرأة التي تقول إنها امي تبكي طوال الوقت ..
حاول أن يشتتَ انتباهي عنهما فقال لي : انظر إلى تلك اللوحة .. هل يعجبك ذلك الزورق التائه وسط الأمواج؟
.هل تعرف مَنْ يكون ذلك البحار؟ .. إنه أنتَ!!
سرقني منه صوت المرأة وهي تسأل الطبيب:
- ما الذي أثار انتباهه في اللوحة ؟!
هكذا هو طوال الوقت .. عيناه تتكلم وشفتاه صامتتان ..
التفتتْ إليّ تحدثني والدموع في عينيها:
- انظر إليّ حبيبي .. أنا أمك!
قاطعها الطبيب:
- هو لا يسمع إلا نفسه .. متوحد معها قبل أن يولد..
- صدقت يا دكتور .. متوحد معها قبل ولادته .. هو لا يعرف حتى اسمه!
شدّني صديقي بقوة من يدي ليهمس في أذني: إبقَ معي .. لا تلتفت إليهما ..
ثم سحبني من يدي وسرنا معًا صوب غابة كبيرة .. تسلقنا شجرة جوز عملاقة .. هربت العصافير حينما بدأت الأغصان تهتز .. شعرنا بفرحة كبيرة ونحن نرى حبات الجوز تتساقط فوق رؤوسنا .. انشغلنا بعدها بالجري وراء أرنب أبيض سرعان ما اختفى بين الحشائش .. ضحكنا كثيرًا حين رأينا سلحفاة منقلبة على ظهرها.. لكن طائرًا عملاقًا وضعنا فوق ظهره ليحلق بنا فوق جبال شاهقة .. كانت الغيوم تملأ السماء .. سألني صديقي وهو يحيط كتفي بذراعيه: هل أنت سعيد برؤية النهر؟ لم أرد .. كنت مشغولًا بمراقبة النوارس تحلق فوق سفينة بعيدة بينما الشمس توشك على المغيب .. تركنا الساحل لنعود من حيث أتينا.
كانت أمنا والطبيب بانتظارنا .. سألتُ صديقي:
- مابها أمنا .. لماذا تبكي؟!
ردّ بعدم اكتراث:
- إنها حزينة!
- ماذا يعني حزينة ؟!
قال وقد بدا محتارًا من سؤالي: لا أدري! هكذا سمعتها تقول للطبيب ..هؤلاء مجانين .. يريدون التفريق بيني وبينك .. لا يعرفون أن سعادتنا تكمن في بقاء أحدنا داخل الآخر .. إياك أن تتركني .. لنغادر عالمهم فنحن لا نتحدث لغتهم ولا هم يفهمون لغتنا.. دعنا نذهب إلى النهر ونركبَ ذلك القارب .. نهرب به بعيدًا من هنا.. لكن قبل أن ينفذ قوله سحبته أمي من يدي وغادرنا نحن الثلاثة الغرفة!
.............
نُشرت في مجلة سطور الأدبية
العدد التاسع والثلاثون ٠٠
2 آيار 2024