أمين الباشا - سبع قصص قصيرة بلا عنوان

أسمعهم يقولون ما يقولون. أسمعهم الآن.

سمعتهم البارحة. ما يقولونه اليوم هو نفس ما قالوه البارحة.

لكن اليوم، يختلف اختلافًا كليًا عن البارحة.

اليوم السماء تمطر.

البارحة كانت الشمس تلوّن السماء بالأزرق والنور مشع.

ما سمعته اليوم هو محاط بالغيوم السوداء.

البارحة، ما قالوه كان ملوّنًا بألوان الشمس.

٢

‭ ‬كان ينظر إليّ وأنا أحدّثه وفي عينيه هزء.

يهزأ كلما حدّثته.

كلامي لم يكن يومًا يستأهل الهزء.

لهذا، فإني لا أقف، بل أتابع كلامي إلى أن أفرّغ كل ما في لساني.

ولساني لا أستطيع أن أوقفه عن الكلام.

أنا مرتاح له وأرغب ببقائه يتحرّك بالكلمات وإن كانت لا معنى لها.

مع اعتقادي أن كل الكلمات لا معنى لها، لهذا فهي مفيدة وذات مغزى.

أسمعهم يقولون ما يقولون وإن كان اليوم يومًا ممطرًا.

والبارحة كانت الشمس تلوّن الأرض بشعاعها.



‭ ٣ ‬

الموسيقى. هل هناك أنواع من الموسيقى والرسم؟

هل هناك أنواع من الرسم؟

مَن يطرح هكذا سؤال؟

وهل يفيد جواب لسؤال لا فائدة منه سوى أنه سؤال؟

لكل سؤال جواب. ومن قال هذا؟

الأجوبة كثيرة لا تحمل فائدة ما.

الموسيقى والرسم والأدب والفنون كلها نوعان:

الفن الجيّد الصحيح، والفن العاطل.

الفن العاطل لا يسمّى فنًا.

هو لا يحمل اسمًا.

هناك فن واحد. هو الفن الصحيح.

لا يصح الفن إلا عندما يكون صحيحًا، حقيقيًا كالحقيقة، كالجمال.

وماذا أيضًا؟ لا شيء سوى أن الفن حالة نادرة.

كلما مرّت سنوات عديدة يُخلق إنسان فنان.

الإنسان لا يختار شخصه وشخصيته وما يحمله من صفات ومواهب.

هو اختيار، هو مختار أن يكون كما قدّر له أن يكون.



‭ ‬٤

كلما مرّت أيام. أتركها تمر.

لا أمسّها. تمر دون إذن مني أو من أحد.

هي قوية، تحمل العواصف والزوابع والطوفان والزلازل وتبقى تمر.

ويبقى اليوم بعد اليوم مارًا، مخترقًا الليل والنهار. مخترقًا الشمس والقمر. تحمل الأيام فصولاً.

تخص كل فصل بجمال مختلف.

تمرّ.. وتمر..

ولا يشعر بها الإنسان.

يحاول تعدادها لكنها تفرّ منه بكل قوّتها وكبريائها.

لا تكاد تقول «اليوم»، حتى ينقضي ويحتل مكانه يوم آخر.

ثم آخر. ثم آخر.



‭ ‬

٥

أراد أن يكتب رسالة إليها. استعدّ. تهيّأ. نشّط يده.

أخذ قلمًا جديدًا ولمس الورقة بحنان. ثم نظر إليها وإلى بياضها.

رأى فيها صحراء لا نهاية لها. ثم رأى بحرًا دون أمواج.

قرّب كرسيّه من الطاولة، حيث القلم والمبراة والممحاة والورقة البيضاء.

حرّك القلم. وضعه أفقيًا على الورقة. أخذ المبراة ووضعها على قمة القلم، على رأسه. ثم وضع الممحاة على أسفله.

راح ينظر إلى ما فعله. قام من مقعده. فتح الباب وخرج من الغرفة. بعدها، فتح باب البيت وخرج.



‭ ‬٦

لا يعرف السرّ سوى مَن أخفاه. يعرفه ويخبئه في مكان ما في جسده.

يحرص عليه. سادًا كل المنافذ التي يمكن أن يخرج منها، عندئذ يتفتّت ولا يعود سرًا.

وأجمل ما في السرّ، أنه ليس له طعم ولا رائحة ولا جسد ولا روح ولا مقعد ولا مجلس ولا صوت ولا حسّ. صفته الهدوء والسكينة في مخبئه. حارسه أمين عليه. إن تحرّك مرّة وحاول أن يطل بوجهه، فالحارس يعيده إلى حيثما كان.. هكذا.. يبقى الإنسان، كل إنسان حافظًا على سر.. أو لأسرار.. والسرّ، «وهذا ما غاب عن بالي قوله»، وإن كانت صفته الهدوء والسكينة فهو يخفي فرحًا أو حزنًا. السرّ الحامل الفرح سريع العطب، هو لا يبقى سجين مخبئه إلى الأبد، إذ إن حارسه يبوح به وينتهي، بينما سر الحزن وأسبابه أو سر الشرّ، يبقى في زوايا جسد الإنسان وفكره، ينخر فيه إلى أن يموت السر هو والذي أخفاه وحرسه.



‭ ‬٧

قال لي عندما التقيته البارحة إنه سعيد.. سعيد جدًا اليوم، لأنه اكتشف أن قراءته لشعر أحد الشعراء المشهورين في «الصحافة»، لم يستطع أن يكمّل قراءة صفحة واحدة من «ديوانه»، لكنه صمّم أن يقرأ كل الديوان.. قرأه وانتهى وارتسمت على وجهه ابتسامة ثم ابتسامة ثانية ثم ظل يبتسم.. إلى أن رأى أنه بحاجة للذهاب إلى شاطئ البحر، وعادة يذهب إلى شاطئ صخري في منطقة المنارة في بيروت. وقف على صخرة وراح يفصل أوراق الديوان، ينزع الصفحة عن الصفحة، مبتدئًا بالصفحة الأولى، ويسلّمها للهواء فتطير من بين أصابعه وتسقط في البحر وتبتلعها الأمواج، عندها ينزع الصفحة الثانية، ويفعل بها ما فعله بالأولى.. وهكذا.. إلى أن أنهى على الصفحات كلها، عندها نظر مليًا إلى الأمواج ثم إلى أفق البحر ثم إلى الأجواء التي أخذت تتلوّن بألوان المغيب >
أعلى