أبو حيان التّوحيدي، الكاتب ذو الاعتبار، عاش على وجه الخصوص في بغداد، في الريّ، وفي شيراز التي بها مات حوالي 414 هـ ( 1023 م ). يبدو أنّه راكم خيبة على خيبة، ولو أنّه تردّد على شخصيات متنفّذة، لم يجن من ذلك إلاّ حياة تقتير، والكتب التي كان ينسخها للغير لم تؤمّن له إلاّ موارد هزيلة. إنّه الذي تحامل عليه القدر حتّى بعد موته، فلم يوفّر له ذكرا، كما أشار إلى ذلك ياقوت الحموي: نادرا ما كان يُلتفت إليه وأعماله أُهملت كما لو أنّها جالبة للنّحس أوالشؤم (1).
من الممكن أن يُوصف التّوحيدي بأنّه إنسان وحيد؛ لم يكن يحبّ أحدا، وما كان يُحبّه أحد. كان الكاتب العربي الأكثر إساءة للنيّة أوالظنّ، وأضحى البارع في فنّ الثّلب والذمّ، كما تشهد على ذلك الصّور الشّخصية التي رسمها لمعاصريه، والمحتشدة بكمّ من التّهم العنيفة والضارّة. أحيانا، يعطي الانطباع بأنّه، ضدّا على عادته، يمتدح هذه الشخصية أوتلك، وفجأة ينبثق التّفصيل المنتقص من القيمة، ويبرز الملمح القاتل. هذا ما يتمّ تبيّنه، بوجه خاص، في "أخلاق الوزيرين"، حيث يتعرّض بالهجوم لوزيرين مشهورين؛ ابن العميد والصّاحب ابن عبّاد. كتاب مستفظع، وإن استثار كلّ غبطة القارئ المتواطئ بالطّبع.
يظل الكتاب الأكثر أهميّة للتّوحيدي هو "الإمتاع والمؤانسة". إنّه مجموعة من الأحاديث مع وزير حول مسائل أدبية، نحوية، وفلسفية. يردّد الكاتب فيها أصداء القضايا التي كانت ترجّ الحياة الثقافية لعصره.
يعتقد بعض الباحثين بأنّه قد يكون كتب أيضا "حكاية أبي القاسم" (2)، الكتاب الفريد من نوعه المنسوب إلى أبي المطهر الأزدي الذي هو، فضلا عن ذلك، كاتب مجهول. هذه الفرضية قويّة لأنّ الكتاب يحمل أسلوب التّوحيدي من خلال الصورة الشخصية الهجائية، والقدح، والنّادرة الكاشفة للسرّ، والسّخرية اليائسة، والوقاحة والميل إلى الانتقاص. قد يكون التوحيدي خشي أن يتحمّل عبء هذا الكتاب المزعج، الفاحش، وغير القابل للتّصنيف في حاصل الأمر: مأدبة كبرى، ومُسارّة غريبة، وسرد صاعق، باختصار، تحفة.
عند نهاية حياته، أحرق التّوحيدي كتبه، معتبرا أنّها لم تعد عليه بمنفعة مادية ولا بتقدير واعتبار. شرح ذلك بتفصيل لمتأدّب امتعض من صنيعه (3). لكن، ماذا يعني هذا السّلوك المدمّر؟ كانت كتبه منتشرة، وكانت نسخ منها متوفّرة عند هذا أوذاك من الأدباء. من الممكن أن يكون، في لحظة حنق، أحرق نسخه الشخصية من كتبه: تصرّف ليس من المتعذّر إصلاحه. لكن، ربّما يكون قد دمّر الكتب التي لم يكن قد أظهرها للنّاس: إذا ما كانت الحالة هي هذه الحالة، فالأمر يستوجب التأسّف الشّديد.
غير أنّ ما هو أكثر إلغازا هي هذه الرّسالة التي كُتبت من أجل أن تفسّر وتسوّغ الإعدام بالحرق الذي انقاد إليه. مفارقة أن يكتب المرء ليروي حرق مؤلفاته (4)
هوامش من وضع المترجم:
1 ـ لم يحظ أبو حيان التوحيدي بترجمة موسعة و متوازنة، وهو المتوفي سنة 414 هـ إلاّ في مستهل القرن السابع وتحديدا عند ياقوت الحموي المتوفي سنة 626 هـ في كتابه " معجم الأدباء ". ولذلك استغرب هذا الأخير سكوت المؤلفين عن ذكره فقال: " و لم أر أحدا من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب " 15/6 ( طبعة دار المامون، 1988).
2 ـ عبد الفتاح كيليطو: المقامات، السرد و الأنساق الثقافية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، 1993، ص 31 ـ 37 . تجدر الإشارة إلى أنّ "حكاية أبي القاسم البغدادي" حققها آدم ميتز في ألمانيا سنة 1902 ونسبها إلى أبي المطهر الأزدي الذي هو راوي الحكاية لا مؤلفها. لكن في 1980 أعاد تحقيقها عبود البشالجي، ونسبها، وفق قرائن قوية، إلى أبي حيان التوحيدي وهي المسماة "الرسالة البغدادية" ( دار الكتب، بيروت ).
3 ـ رسائل أبي حيان التوحيدي، تحقيق إبراهيم الكيلاني، من دون تاريخ. انظر أيضا مجلة فصول ، المجلد الرابع عشر، العدد الثالث، خريف 1995.
4 ـ هل أحرق أبو حيان التوحيدي كتبه حقا ؟ هذا هو السؤال ـ اللغز الذي أخال أنّ الأستاذ عبد الفتاح كيليطو يومئ إليه في نهاية مقالته المقتضبة. لماذا لا تكون رسالة التوحيدي، والتي يشرح فيها دواعي "إحراقه" لكتبه، ( المؤرخة سنة 400 هـ ) فقط رغبة منه في إعلان وجوده وإثارة الفضول تجاه شخصه وهو الذي كان يعيش حياة الاستتار بعد أن نُفي من بغداد "لسوء اعتقاده" ولانقطاع صلته بالأدباء المشهورين في زمانه (وهو المقيم بشيراز) وانتهاء مطاردة الصاحب ابن عباد (توفي 385 هـ) له ولكتبه بسبب "أخلاق الوزيرين" ؟
من الممكن أن يُوصف التّوحيدي بأنّه إنسان وحيد؛ لم يكن يحبّ أحدا، وما كان يُحبّه أحد. كان الكاتب العربي الأكثر إساءة للنيّة أوالظنّ، وأضحى البارع في فنّ الثّلب والذمّ، كما تشهد على ذلك الصّور الشّخصية التي رسمها لمعاصريه، والمحتشدة بكمّ من التّهم العنيفة والضارّة. أحيانا، يعطي الانطباع بأنّه، ضدّا على عادته، يمتدح هذه الشخصية أوتلك، وفجأة ينبثق التّفصيل المنتقص من القيمة، ويبرز الملمح القاتل. هذا ما يتمّ تبيّنه، بوجه خاص، في "أخلاق الوزيرين"، حيث يتعرّض بالهجوم لوزيرين مشهورين؛ ابن العميد والصّاحب ابن عبّاد. كتاب مستفظع، وإن استثار كلّ غبطة القارئ المتواطئ بالطّبع.
يظل الكتاب الأكثر أهميّة للتّوحيدي هو "الإمتاع والمؤانسة". إنّه مجموعة من الأحاديث مع وزير حول مسائل أدبية، نحوية، وفلسفية. يردّد الكاتب فيها أصداء القضايا التي كانت ترجّ الحياة الثقافية لعصره.
يعتقد بعض الباحثين بأنّه قد يكون كتب أيضا "حكاية أبي القاسم" (2)، الكتاب الفريد من نوعه المنسوب إلى أبي المطهر الأزدي الذي هو، فضلا عن ذلك، كاتب مجهول. هذه الفرضية قويّة لأنّ الكتاب يحمل أسلوب التّوحيدي من خلال الصورة الشخصية الهجائية، والقدح، والنّادرة الكاشفة للسرّ، والسّخرية اليائسة، والوقاحة والميل إلى الانتقاص. قد يكون التوحيدي خشي أن يتحمّل عبء هذا الكتاب المزعج، الفاحش، وغير القابل للتّصنيف في حاصل الأمر: مأدبة كبرى، ومُسارّة غريبة، وسرد صاعق، باختصار، تحفة.
عند نهاية حياته، أحرق التّوحيدي كتبه، معتبرا أنّها لم تعد عليه بمنفعة مادية ولا بتقدير واعتبار. شرح ذلك بتفصيل لمتأدّب امتعض من صنيعه (3). لكن، ماذا يعني هذا السّلوك المدمّر؟ كانت كتبه منتشرة، وكانت نسخ منها متوفّرة عند هذا أوذاك من الأدباء. من الممكن أن يكون، في لحظة حنق، أحرق نسخه الشخصية من كتبه: تصرّف ليس من المتعذّر إصلاحه. لكن، ربّما يكون قد دمّر الكتب التي لم يكن قد أظهرها للنّاس: إذا ما كانت الحالة هي هذه الحالة، فالأمر يستوجب التأسّف الشّديد.
غير أنّ ما هو أكثر إلغازا هي هذه الرّسالة التي كُتبت من أجل أن تفسّر وتسوّغ الإعدام بالحرق الذي انقاد إليه. مفارقة أن يكتب المرء ليروي حرق مؤلفاته (4)
هوامش من وضع المترجم:
1 ـ لم يحظ أبو حيان التوحيدي بترجمة موسعة و متوازنة، وهو المتوفي سنة 414 هـ إلاّ في مستهل القرن السابع وتحديدا عند ياقوت الحموي المتوفي سنة 626 هـ في كتابه " معجم الأدباء ". ولذلك استغرب هذا الأخير سكوت المؤلفين عن ذكره فقال: " و لم أر أحدا من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب " 15/6 ( طبعة دار المامون، 1988).
2 ـ عبد الفتاح كيليطو: المقامات، السرد و الأنساق الثقافية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، 1993، ص 31 ـ 37 . تجدر الإشارة إلى أنّ "حكاية أبي القاسم البغدادي" حققها آدم ميتز في ألمانيا سنة 1902 ونسبها إلى أبي المطهر الأزدي الذي هو راوي الحكاية لا مؤلفها. لكن في 1980 أعاد تحقيقها عبود البشالجي، ونسبها، وفق قرائن قوية، إلى أبي حيان التوحيدي وهي المسماة "الرسالة البغدادية" ( دار الكتب، بيروت ).
3 ـ رسائل أبي حيان التوحيدي، تحقيق إبراهيم الكيلاني، من دون تاريخ. انظر أيضا مجلة فصول ، المجلد الرابع عشر، العدد الثالث، خريف 1995.
4 ـ هل أحرق أبو حيان التوحيدي كتبه حقا ؟ هذا هو السؤال ـ اللغز الذي أخال أنّ الأستاذ عبد الفتاح كيليطو يومئ إليه في نهاية مقالته المقتضبة. لماذا لا تكون رسالة التوحيدي، والتي يشرح فيها دواعي "إحراقه" لكتبه، ( المؤرخة سنة 400 هـ ) فقط رغبة منه في إعلان وجوده وإثارة الفضول تجاه شخصه وهو الذي كان يعيش حياة الاستتار بعد أن نُفي من بغداد "لسوء اعتقاده" ولانقطاع صلته بالأدباء المشهورين في زمانه (وهو المقيم بشيراز) وانتهاء مطاردة الصاحب ابن عباد (توفي 385 هـ) له ولكتبه بسبب "أخلاق الوزيرين" ؟