نصوص كيليطو المزدحمة بإحالات نصيّة مضمرة (هي بمثابة العديد من القنابل الموقوتة التي تسعى إلى تفجير مسعى كلّ معالجة تحليلية مهما كانت ساذجة)، تتركني غالبا مُتحيّرة، غير أنّ مؤلّفه الأخير "أنبئوني بالرؤيا" (1) أبقاني مبهوتة . لم أدر من أيّ طرف أتناوله.
الرّسم الموضوع على الغلاف الأوّل استنسخ لوحة لـ "ليون كاري" تتسمّى ألف ليلة وليلة، العمل الذي يرمزإلى قلب اهتمامات الكاتب. تحيل اللوحة على حكاية الصعاليك الثلاثة ونلمح فيها هارون الرّشيد المهيب، جالسا على عرشه، بينما عند قدميه تربض امرأة تمسك بزمام كلبتين سوداوين، هاتين الأختين المسحورتين. اختيار الناشر للوحة "ليون كاري"، هو في حدّ ذاته ضرب من توجيه للتأويل. يلعب نص ألف ليلة وليلة، بحسب اعتقاده، دورا أساسيا في "أنبئوني بالرؤيا".
إذا كان كيليطو لم يستشعر الحاجة إلى تحديد النوع الذي ينتمي إليه محكيّه، اعتنى الناش، فيما يخصّه، بتعيين ذلك وبدقة في الصفحة الرابعة من الغلاف: "في هذا الكتاب، الذي يتموضع بين المقالة والحكاية، يقارب الكاتب الليالي من جديد وعلى طريقته، بمعنى من زوايا غير متوقعة وبدعابة لذيذة، مزاوجا بين الذكريات وحكايات السّفر والأحلام وتأمّلات في الكتابة وفي القراءة ... إلاّ أنّ " أنبئوني بالرؤيا" ليس بين بين، إنّه ببساطة، خارج أيّ معيار! كيليطو، وبمكر نادر وذكاء ساحر، يبحث على الإيقاع بالقارىء، على تقويض استقراره، على مجاوزته لحدوده، على تحريضه على التفكير، على الفعل، على السعي إلى الفهم. هذه اللعبة توضّح العمل الدّقيق غاية الدقة والمُحكم، ذا الحذق اللافت للنظر في التأليف، في الاختيار الدّال لأصغر كلمة اقتضاها الكاتب .
العنوان الملغز يغري بقدر ما يقلق. الضمير المنفصل " moi " يُقيم صلة هيمنة بين المؤلّف والقارىء. يتعلّق الأمر بالخضوع لأمر، صادر عن سلطة عليا، وذلك بإنتاج "حديث أوقول" وبرواية أوحكي "حلم". أل التعريف تشير إلى رؤية مفردة، دقيقة، لكن ما هي ؟
العمل مؤلّف من أربعة "أجزاء"، كلّ واحد منها يحكي رواية مختلفة لنفس الحكاية. أتحيّر في التسمية التي سأختار. هذه "الأجزاء" الأربعة تحمل جميعها عنوانا. إذن أهي أقاصيص ؟ لا، لأنّها مترابطة. نعم، لأنّها تؤلّف في الوقت عينه وحدات دلالية مستقلة ذاتيا. أهي فصول ؟ أهي أقسام ؟ الجواب هو، في كلّ مرّة، اختيار تأويلي. طمس الحدود وتشويشها، تخطي التّخوم، تجاوز النّواهي، هذه كما يبدو، الغايات الأدبية لكيليطو. هذه النزعة الحاضرة من قبل في مجموعة "محكياته" الأولى المعنونة بـ " خصومة الصّور" تتأكّد هنا .
يلزم انتظار الوصول إلى قلب العمل للتّعرّف أخيرا على ما تحيل عليه العبارة الواهبة اسمها للكتاب والتي تنتظم معناه. على غرار هذا الأمير، بطل حكاية مزعومةغير معروفة من حكايات ألف ليلة وليلة والذي ،على تخوم فضاء غريب، ورغم الخوف والتردّد، صمّم خوض تجربة الاكتشاف، فإنّ القارىء يدرك أنّ القيام بالتأويل هو أن يكون دوما في مخاطرة. التوريط، هذه التقنية المألوفة لدى الكاتب، تخلق أثر مرآة مقعّرة التي، عوض أن تقود نحو المعنى، تساهم في رجّ القارىء وزعزعته. العنوان، في الواقع، ردّده الملك البابلي نبوخند نصر ليعبّر عن متطلّب غريب : "متطلّب نبوخنذ نصر لم يُسمع به من قبل: الجدير بتأويل الأحلام هو من في مستطاعه أن يتنبّأ بها: "احكوا لي الحلم، وسأعلم أنه في مقدوركم أن تقدّموا لي التفسير" موصلا هذه الفكرة إلى منتهاها، وفي حماسة برهنته أضاف كمْلو بمكر "وبالمناسبة إنّه ليس بأهل لتأويل أثر ما، والإحالة إلى الليالي، إلاّ من في إمكانه أن يكتبه. هذه الملاحظة الأخيرة ملتبسة وملغزة، بل حتّى مُقلقة "
أليس الجدير بتأويل أثر ما هو القادر على كتابته ؟ المُتطلّب هو في الحقيقة خارق وغريب و"حكيي "mon dire هو من ثمّ باطل. لكن، كيف سيُمسي العمل المكتفي بذاته ؟ أليس الأدب عود على بدء أبدي؟ شخصية الجزء الرابع ناص، واحدة من الوجوه المتعدّدة للناقد الأدبي، يجزم : "أشعارك، أكرّر ذلك، لها هذه المزيّة النّادرة، أن تثير الرّغبة في كتابة الشعر". يمتلك نصّ كيليطو فعلا هذه "الخاصية النادرة": أن يثير شهية الكتابة !
في الجزء الثاني المعنون بـ "الجنون الثاني لشهريار"، يعرض السارد، الأستاذ الجامعي بإسهاب تقريرا حول أطروحة مقدّمة من قبل واحد من طلابه القدامى، إسماعيل كمْلو. العرض الذي أنجزه حول العمل هو مناسب ، بالنسبة إليه، ليُطلعنا على ملاحظات اللجنة : "لوحظ عليه أيضا أنّ العنوان المختار لهذا الجزء "عطاف ودانيال"(2) لم يكن ملائما، لأنّه، في المحصّلة، لم يتحدّث لا عن الأوّل، ولا عن الآخر. كان من الأولى أن يتعنون هذا الجزء "نبوخند نصر وهارون الرّشيد"، بل من الأحسن أن يكون له كعنوان، كما اقُترح ذلك بلطف : "أنبئوني بالرؤيا".
العنوان "الذي أشارت به اللجنة بلطف" ليس هو الذي وضعه إسماعيل كمْلو للجزء الثاني من أطروحته، لكنّه عنوان كتاب كيليطو. من السّارد ؟ أهو انعكاس لكيليطو ؟ أرتاب، بالتجربة ، من هذا النوع من الفخ. المعنى هو في مكان آخر. الكاتب يوحي مرارا بأنّ الأمر يتعلّق بحلّ ألغاز، بتفكيك للمكائد الأدبية المدبّرة من قبله : "الملك ألقى لغزا على العرّافين وحذرهم بانّه سيقتلهم إذا لم يجدوا له حلاّ " .
كيليطو، وعلى غرار سفنكس (3) يطرح لغزا على القارىء وينبّهه بأنّه سيقتله إذا لم يكتشف المعنى المناسب للنص. لكن، أهناك معنى مناسب ؟ الجنون الثاني لكيليطو يقوم على الإيحاء باعتبار نفسه نبوخند نصر، موجبا على عرّافيه أن يمنحوه الدلالة الصائبة السّديدة لكتابه، أوكأنّه شهريار، الملك المجنون، آمرا نسّاخه بأن يحكوا له محتواه. القارىء قد أنذر كي يُجلي معنى النص بإنشاء حكي يرفع الحجاب عن دلالة الألغاز المختلفة الموضوعة من قبل المُؤلّف ويكشف السرّ الخفيّ. لعبة بصدد الأدب، بصدد الكتابة، بصدد القراءة... عديد من مظاهر الخلق الأدبي تمّ التعرّض لها في أسلوب ذي إشراق مذهل .
الشخصية الرئيسية في "أنبئوني بالرؤيا" ستكون، في المحصّلة، هي كتاب الليالي. لنا الحق أن نثير السّؤال حول الهوية الحقيقية لهذا النص. على أيّ شيء يحيل ؟ على ألف ليلة وليلة ؟ واحدة من أشكال التّحريف تقتضي، بالتحديد، اللعب على الإحالة على الأعمال المذكورة. باختصار ألف ليلة وليلة إلى مركب إسمي واحد : الليالي، فإنّ السّارد يربك القارىء قليل الانتباه واليقظة. لكن من الذي يتكلّم ؟ هذا السؤال يثير واحدا من الرهانات الكبرى للنص. بالفعل، إذا رجعنا إلى الجزء الأول "إدا في النافذة" ، فالمتكلّم هو مثقف قام بدراسات عليا، هو ربّما أستاذ جامعي، والذي استدعي لإلقاء محاضرات عن الليالي في أمريكا : "بفضل هذا الكتاب، دُعيت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدا، بفضل مقال (أصله أطروحة المتريز)، "النوم في ألف ليلة وليلة" . يظهر أنّ قراءة الليالي لها علاقة مباشرة مع "الكتابة" عن الليالي .
في "الجنون الثاني لشهريار"، "معادلة الصيني" وفي "رغبة بقاء لا قيمة لها"، الأجزاء الثلاثة الأخرى التي تؤلّف العمل، لنا على ما يلوح، نفس المتكلّم، لكن هويّته مشوّشة بالإحالة الدّائمة على الشخصية الثانية التي هي إسماعيل كمْلو. هذا التّمثيل المُجزّأ، المُتكسّر تضاعف بحضور شخصية نسوية يتغيّر اسمها مع بقائه هو ذاته : "امرأة شابّة ذات ملاحة مدوّخة أهلّت. قدّمها لي السيد هامويست بإسم Ida أو Ada , Aida , Edda
هذا الحضور، هو في المقابل، أقلّ حدّة في الجزء الثاني. لنا، بين نساء أخريات، "السيدة L " ، التي ربّما ليست شيئا آخر غي " Elle " ، الزائرة الغامضة المذكورة في بداية الكتاب. يبحث الكاتب، باللّعب على رنين الكلمات، على تعزيز وتدعيم الغموض الذي يحيط بهذه الشخصية الشبحية التي لن نعرف عنها، بالأحرى، أيّ شيء آخر. هي نفسها تستحضر من تُدعى Edda . يمكننا أن نفترض أنّ إيدّا تلازم هذا الفصل وإن لم تُذكر إلاّ عند النهاية. بالمقابل، نصادف أدا وعايده، الوجهين النسائيين المهيبين في الفصول اللاحقة . الضّيق الذي يستشعره القارىء أمام عجزه عن تحديد وبدقة هوية الشخصيات هو أمر مقصود من قبل الكاتب، بغرض أن يحثه على القراءة، على التأويل بالاعتماد على نفسه، على تجنّب السهولة التي تقضي بتفسير تخييل بتخييل آخر أي بالسيرة الذاتية ! موضوعة القرين أوالصّنو double الموجودة في كلّ مكان، تفاقم الانزعاج .
أن تؤوّل يستلزم أن تورّط ذاتك بشكل كلّي. هذا الحشد الفكري تحقّق في "الجنون الثاني لشهريار". دراسة أطروحة كمْلو هي لعبة. أوّلا لعبة تهشيم ما يتّصل بالمؤسسة الجامعية، بعيوبها، بهفواتها ولكن أيضا لعبة متوقّدة مع القارىء الفطن : هكذا ــ ما يظهر أنّ السارد يقوله ــ يجب التصرّف قبل تأويل نص ما، وإلاّ، فنحن مجانين على غرار شهريار. التماس المعنى عسير، جدلي، سحريّ حتى، غير أنّ أكتشافه هو تألق وارتجاج .
" ليس من المصادفة أخيرا، إذا ما كنتُ قد كتبت دراسة عن النوم ! كنتُ فيها أتحدّث بشكل غير مباشر عن نفسي في خضمّ معالجتي لمسألة أكاديمية". يمكن للنصوص العلمية إذن أن تكون مناسبة "للحديث عن الذات" وبالتالي لمزج الأنواع، لطمس السّبل وجعلها غائمة. إنّ بناء المعنى هو الآخر عمل طويل ومتعب؛ فهو يحرّك الذات، يستحوذ عليها ويلازمها على هيئة الشخصية التي عثرت على حكاية "نور الدين والحصان" غير المعروفة : "الارتياب الذي ينتابني فيما يخصّ وضع النص، لا يعوقني، مع ذلك، عن التعبير، إنطلاقا من معالجته الداخلية، عن جملة من الفرضيات. أنا لا أمتلك سوى كلام الشارح المجهول الذي يشدّد على ميزته الأصيلة (هذا هو التفسير الذي أمنحه لاستعماله في تعليقه للأقواس المزدوجة، لعلامة التعجب ولنقط الحذف) لكن، ربّما كان يريد القول بأنّها تشبه حكايات الليالي، أنّ فيها أسلوبها، ومن ثمّ فهي جديرة بأن ترد برفقتها. أنا في عجز أن أجزم، بهذا المعنى أوذاك ولو أنّي اشتُهرت بين زملائي، خطأ، كعارف بالعمل " .
يتحوّل النص إلى مرآة حيث القارىء، وقد تقمّص السّارد، يتخيّل هو نفسَهُ في خضم قيامه بتقصّ جواني لكشف لغز فكري محض. يمضي السارد بالتحريف حتى طرح نفس الأسئلة كما القارىء تماما : "الأكثر مشقة هو كشف هوية الشارح ".
يصير "أنبئوني بالرؤيا" إذن كضرب من طريقة استعمال لمختلف تقنيات التأويل حيث يفكك كيليطو،، عبر نصوص متعدّدة ومن طبيعة مختلفة، المسلك الفكري الذي يقود إلى اكتشاف المعنى، على غرار شخصية "شرفة ابن رشد" التي تلعب مع قارئها، تدفعه بالتّدريج، قد جعلته مترقبا، إلى "كشف" غير متوقع، مُبلبل يغمر باللذة الباحث كما القارىء : "تريد حقا أن تعرف بماذا يتعلّق الأمر. صبرا !"(4)
تكمن المتعة في المعالجة التحليلية (لأنّها هي التي تنتج النص) أكثر ممّا تكمن في حلّ اللغز. الوصول هو، على شاكلة العلاقة الغرامية ، انقباض ذهني وأيضا جسدي "... وفجأة استشعرتُ كدمة ملء صدري".
الترجمان، في قصة ابن بطوطة، المسافر بغاية استكشاف مدهش للعالم، يدرك هدفه بعد ارتحالات ذهنية متواصلة. وفي مقابل "كدمة ملء الصّدر" في "شرفة ابن رشد" هناك "ارتجاج" في "أنبئوني بالرؤيا" : "في هذه اللحظة، أحسستُ بارتجاج في كلّ كياني. كنتُ أستمع لزملائي لمّا، فجأة، فرض تقارب غير متوقع نفسه عليّ، إنارة لظلمة ظاهرة".
دلالة النص المُدرك ك"كشف" مترادف الأضداد، يلفي نفسه ثمرة بناء مسيطر عليه بإحكام، حصّة المُؤلّف الخالق سيّد عمله، نبوخند نصر الحاكم لشعب من النسّاخ. تفاصيل موضوعة بدقة، تُيسّرالاكتشاف. مثلا، عندما يلمّح السارد في الجزء الثاني بأنّه تلقى كشفا، يعرف القارىء الفطن أنّ ركيزة أولى تمّ وضعها في بداية النص حين يطرح السارد على نفسه هذا السؤال : "كمْلو بعث لي أيضا بخارطة لدمشق التي إليها انتقل، كما يقول، لأجل أن يحاور القصّاصين الشعبيين، وخاصة واحدا منهم،Naha . هذا حيّرني : ألا زال هناك قصّاصون شعبيّون في مقاهي الشرق الأوسط بينما الأقمار الاصطناعية كنست كلّ شيء في طريقها ؟ "
اللّغز تمّ حلّه عند النهاية : Naha " ألا يكون جناسا ، صحيح أنّه ناقص ، لإسم الماروني حنّاHanna ، القصّاص الذي أطلع غالان، المترجم الأوّل لليالي، على العديد من الحكايات الرائعة ؟" .
كيليطو يلعب مع قارئه، يتعمّد تضليله وإغواءه بكلّ رويّة : "الشارح هو قارىء لنيتشه والذي أراد أن يصنع خدعة بإعادة تغيير موضع حكاية الفيلسوف. هذه الحكاية لن تكون إذن إلاّ المحكي المُموّه للحادثة المأساوية من حياة نيتشه . نيتشه كشخصية من شخصيات الليالي ..." (5)
سنخطىء إذا اعتقدنا العثور على سرّ الحكاية لأنّ المعنى يظلّ مطروحا للكشف، في مكان آخر، في نصوص أخرى. كلّ العمل موضوع تحت علامة مسرحة للعمليات الفكرية التي كرّس الكاتب نفسه لها كي "يُجلي" (بمعنى يستعرض) ذكاء لا يقرّ له قرار، يستخفّ بالمكان والزمان، يتحرّك برشاقة عجيبة في صلب عالم الأفكار. على هذا المنوال، يكتشف قارىء كيليطو أنّ الأمر لا يتعلّق، بالنسبة إليه أيضا، بأن يصل ولكن بأن يعالج ويحلّل الحيل الأدبية الموظفة من قبل الكاتب لصنع وصوغ المتعة الموهوبة للذي أوالتي تقرأ .
الفصل الأوّل المعنون بـ "إدا في النافذة" يحمل، في الظاهر، عنوانا غير متلائم، لأنّه لم يُحل إلى إداIda إلاّ مرّة واحدة، حين يعتقد السارد أنّه يلمحها في نافذة. يجب انتظار الفصل الثالث "معادلة الصيني" لتسجيل حضور التي تُدعى أدا Ada، جارة السارد والصدى المباشر لـ إدا، وراء نافذة. ملاحظة لجنة المناقشة المتعلّقة باختيار عنوان الجزء الثاني من أطروحة إسماعيل كمْلو هو أيضا طرفة عين من قبل السارد (الكاتب) للقارىء . هذا التقاطع بين الأسماء (أهو صدى لتقاطع غيرمتلائم لعناوين المؤلّف نفسه ؟) يساهم في تصوّر هندسة للنص مختلفة عن هندسة مجموعة قصصية كلاسيكية. أكثر من ذلك، يبدو كتاب "أنبئوني بالرؤيا" كتتمة منطقية لنص "شرفة ابن رشد" الذي ينتهي عند مشهد نافذة رابعة ظلت مغلقة يكتنفها الغموض .
موضوعة النافذة المفتوحة أوالمغلقة ترمز، إلى حدّ ما، إلى موقف السارد تجاه الآخرين. فهو يرضى، منقطعا عن العالم الخارجي الذي لا يأبه به حقا، بحقل رؤية ضيّق، منصرفا بشكل حصري إلى الكتب، لاضوضاء أوبالكاد، وفي جميع الأحوال لا رائحة تصل إليه ولا صوت. من النّادر أن تقرأ عند كيليطو إحالات على زهور، على عطور، على أطعمة، على ألوان أوعلى وصف" حسّي" لأيّ شيء مادي. كلّ شيء يتمّ لديه من خلال الكتب. كتاباته تلغط بأصوات أدبية وشخصياته المنزوية في فضاء ضيّق تكتفي بخرجات خفيّة قبل أن تعود بسرعة إلى فضائها الحميمي. نصوصه تنسج وتحوك، من عمل إلى عمل، مهما كان النّوع الذي تنتمي إليه، قماشة لا تني تتوسّع كلّما ظهر كتاب جديد. عمله، في جملته، يوحي بتماسك كبير، سواء تعلّق الأمر بغنى الموضوعات المُعالجة أوبتنوّع الأشكال المُوظفة. الرجل من نافذته يرقب، يصغي، يفحص متجنّبا كلّ اختلاط .
هذا الرّجل، أيوجد حقا ؟
كلّ شيء ليس إلاّ لعبة من كلمات
!
* أستاذة الأدب و كاتبة روائية
هوامش : ( من وضع المترجم)
1 ـ عنوان كتاب كيليطوDites _ moi le , songe , Actes Sud , 2010عنوان ساحر وفاتن يحتمل في ترجمته للغة العربية عدة صيغ منها :"أنبئوني بالحلم" ...ثمّ هناك صيغة "أنبئوني بالرؤيا" التي اختارها الأستاذ عبد الكبير الشرقاوي كعنوان للترجمة التي صدرت مؤخرا عن دار الأداب.
2 ـ حكاية عطاف كما وردت في ترجمة غالان (الليلة 546 ) تروي أن هارون الرشيد تناول يوما كتابا وهو يطالعه بكى ثم ضحك. وزيره جعفر استفسر عن سرّ هذا البكاء والضحك، فما كان من الخليفة إلاّ أن غضب غضبا شديدا لأنّ مثله لا يُسأل وكان العقاب تهديد الوزير بالقتل إن أبصره سوى إن أدرك الذي أبكاه وأضحكه. الوزير انتقل إلى دمشق وهناك جرت له أحداث هي نفسها المسرودة في ذلك الكتاب العجيب. أمّا حكاية النبي دانيال، كما وردت في العهد القديم، فتروي حكاية الملك بنوخند نصر الذي رأى حلما مفزعا فجمع العرافين والمنجمين لا ليفسّروا له الحلم، بل ليحكوا له حلمه كما رآه قبل أن يقوموا بتعبيره. لمّا عجزوا وكانوا معرّضين للقتل، تقدّم النبي دانيال وأطلع الملك على حلمه .
3 ـ سفنكس كائن خرافي في الميثولوجيا الاغريقية له جسم أسد ، وأجنحة، ورأس امرأة وصدرها كان يطرح الألغاز .
4 ـ شرفة ابن رشد ، دار توبقال ، 2010
5 ـ هناك تواشج بين حكاية "نورالدين والحصان" وبين حصان نيتشه : "ستضرب لي المثل بنيتشه يرتمي منتحبا نائحا ليحتضن حصانا يعذبه حوذي منهيّج" . عبد الفتاح كيليطو ، حصان نيتشه ، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ، دار توبقال ، 2003 ، ص182 .
المرجع :
Le Magazine Littéraire du Maroc , N° 5 , Automne 2010 , P: 34 _ 37
بقلم : ثوريا أولهري (أستاذة جامعية وكاتبة روائية)
الرّسم الموضوع على الغلاف الأوّل استنسخ لوحة لـ "ليون كاري" تتسمّى ألف ليلة وليلة، العمل الذي يرمزإلى قلب اهتمامات الكاتب. تحيل اللوحة على حكاية الصعاليك الثلاثة ونلمح فيها هارون الرّشيد المهيب، جالسا على عرشه، بينما عند قدميه تربض امرأة تمسك بزمام كلبتين سوداوين، هاتين الأختين المسحورتين. اختيار الناشر للوحة "ليون كاري"، هو في حدّ ذاته ضرب من توجيه للتأويل. يلعب نص ألف ليلة وليلة، بحسب اعتقاده، دورا أساسيا في "أنبئوني بالرؤيا".
إذا كان كيليطو لم يستشعر الحاجة إلى تحديد النوع الذي ينتمي إليه محكيّه، اعتنى الناش، فيما يخصّه، بتعيين ذلك وبدقة في الصفحة الرابعة من الغلاف: "في هذا الكتاب، الذي يتموضع بين المقالة والحكاية، يقارب الكاتب الليالي من جديد وعلى طريقته، بمعنى من زوايا غير متوقعة وبدعابة لذيذة، مزاوجا بين الذكريات وحكايات السّفر والأحلام وتأمّلات في الكتابة وفي القراءة ... إلاّ أنّ " أنبئوني بالرؤيا" ليس بين بين، إنّه ببساطة، خارج أيّ معيار! كيليطو، وبمكر نادر وذكاء ساحر، يبحث على الإيقاع بالقارىء، على تقويض استقراره، على مجاوزته لحدوده، على تحريضه على التفكير، على الفعل، على السعي إلى الفهم. هذه اللعبة توضّح العمل الدّقيق غاية الدقة والمُحكم، ذا الحذق اللافت للنظر في التأليف، في الاختيار الدّال لأصغر كلمة اقتضاها الكاتب .
العنوان الملغز يغري بقدر ما يقلق. الضمير المنفصل " moi " يُقيم صلة هيمنة بين المؤلّف والقارىء. يتعلّق الأمر بالخضوع لأمر، صادر عن سلطة عليا، وذلك بإنتاج "حديث أوقول" وبرواية أوحكي "حلم". أل التعريف تشير إلى رؤية مفردة، دقيقة، لكن ما هي ؟
العمل مؤلّف من أربعة "أجزاء"، كلّ واحد منها يحكي رواية مختلفة لنفس الحكاية. أتحيّر في التسمية التي سأختار. هذه "الأجزاء" الأربعة تحمل جميعها عنوانا. إذن أهي أقاصيص ؟ لا، لأنّها مترابطة. نعم، لأنّها تؤلّف في الوقت عينه وحدات دلالية مستقلة ذاتيا. أهي فصول ؟ أهي أقسام ؟ الجواب هو، في كلّ مرّة، اختيار تأويلي. طمس الحدود وتشويشها، تخطي التّخوم، تجاوز النّواهي، هذه كما يبدو، الغايات الأدبية لكيليطو. هذه النزعة الحاضرة من قبل في مجموعة "محكياته" الأولى المعنونة بـ " خصومة الصّور" تتأكّد هنا .
يلزم انتظار الوصول إلى قلب العمل للتّعرّف أخيرا على ما تحيل عليه العبارة الواهبة اسمها للكتاب والتي تنتظم معناه. على غرار هذا الأمير، بطل حكاية مزعومةغير معروفة من حكايات ألف ليلة وليلة والذي ،على تخوم فضاء غريب، ورغم الخوف والتردّد، صمّم خوض تجربة الاكتشاف، فإنّ القارىء يدرك أنّ القيام بالتأويل هو أن يكون دوما في مخاطرة. التوريط، هذه التقنية المألوفة لدى الكاتب، تخلق أثر مرآة مقعّرة التي، عوض أن تقود نحو المعنى، تساهم في رجّ القارىء وزعزعته. العنوان، في الواقع، ردّده الملك البابلي نبوخند نصر ليعبّر عن متطلّب غريب : "متطلّب نبوخنذ نصر لم يُسمع به من قبل: الجدير بتأويل الأحلام هو من في مستطاعه أن يتنبّأ بها: "احكوا لي الحلم، وسأعلم أنه في مقدوركم أن تقدّموا لي التفسير" موصلا هذه الفكرة إلى منتهاها، وفي حماسة برهنته أضاف كمْلو بمكر "وبالمناسبة إنّه ليس بأهل لتأويل أثر ما، والإحالة إلى الليالي، إلاّ من في إمكانه أن يكتبه. هذه الملاحظة الأخيرة ملتبسة وملغزة، بل حتّى مُقلقة "
أليس الجدير بتأويل أثر ما هو القادر على كتابته ؟ المُتطلّب هو في الحقيقة خارق وغريب و"حكيي "mon dire هو من ثمّ باطل. لكن، كيف سيُمسي العمل المكتفي بذاته ؟ أليس الأدب عود على بدء أبدي؟ شخصية الجزء الرابع ناص، واحدة من الوجوه المتعدّدة للناقد الأدبي، يجزم : "أشعارك، أكرّر ذلك، لها هذه المزيّة النّادرة، أن تثير الرّغبة في كتابة الشعر". يمتلك نصّ كيليطو فعلا هذه "الخاصية النادرة": أن يثير شهية الكتابة !
في الجزء الثاني المعنون بـ "الجنون الثاني لشهريار"، يعرض السارد، الأستاذ الجامعي بإسهاب تقريرا حول أطروحة مقدّمة من قبل واحد من طلابه القدامى، إسماعيل كمْلو. العرض الذي أنجزه حول العمل هو مناسب ، بالنسبة إليه، ليُطلعنا على ملاحظات اللجنة : "لوحظ عليه أيضا أنّ العنوان المختار لهذا الجزء "عطاف ودانيال"(2) لم يكن ملائما، لأنّه، في المحصّلة، لم يتحدّث لا عن الأوّل، ولا عن الآخر. كان من الأولى أن يتعنون هذا الجزء "نبوخند نصر وهارون الرّشيد"، بل من الأحسن أن يكون له كعنوان، كما اقُترح ذلك بلطف : "أنبئوني بالرؤيا".
العنوان "الذي أشارت به اللجنة بلطف" ليس هو الذي وضعه إسماعيل كمْلو للجزء الثاني من أطروحته، لكنّه عنوان كتاب كيليطو. من السّارد ؟ أهو انعكاس لكيليطو ؟ أرتاب، بالتجربة ، من هذا النوع من الفخ. المعنى هو في مكان آخر. الكاتب يوحي مرارا بأنّ الأمر يتعلّق بحلّ ألغاز، بتفكيك للمكائد الأدبية المدبّرة من قبله : "الملك ألقى لغزا على العرّافين وحذرهم بانّه سيقتلهم إذا لم يجدوا له حلاّ " .
كيليطو، وعلى غرار سفنكس (3) يطرح لغزا على القارىء وينبّهه بأنّه سيقتله إذا لم يكتشف المعنى المناسب للنص. لكن، أهناك معنى مناسب ؟ الجنون الثاني لكيليطو يقوم على الإيحاء باعتبار نفسه نبوخند نصر، موجبا على عرّافيه أن يمنحوه الدلالة الصائبة السّديدة لكتابه، أوكأنّه شهريار، الملك المجنون، آمرا نسّاخه بأن يحكوا له محتواه. القارىء قد أنذر كي يُجلي معنى النص بإنشاء حكي يرفع الحجاب عن دلالة الألغاز المختلفة الموضوعة من قبل المُؤلّف ويكشف السرّ الخفيّ. لعبة بصدد الأدب، بصدد الكتابة، بصدد القراءة... عديد من مظاهر الخلق الأدبي تمّ التعرّض لها في أسلوب ذي إشراق مذهل .
الشخصية الرئيسية في "أنبئوني بالرؤيا" ستكون، في المحصّلة، هي كتاب الليالي. لنا الحق أن نثير السّؤال حول الهوية الحقيقية لهذا النص. على أيّ شيء يحيل ؟ على ألف ليلة وليلة ؟ واحدة من أشكال التّحريف تقتضي، بالتحديد، اللعب على الإحالة على الأعمال المذكورة. باختصار ألف ليلة وليلة إلى مركب إسمي واحد : الليالي، فإنّ السّارد يربك القارىء قليل الانتباه واليقظة. لكن من الذي يتكلّم ؟ هذا السؤال يثير واحدا من الرهانات الكبرى للنص. بالفعل، إذا رجعنا إلى الجزء الأول "إدا في النافذة" ، فالمتكلّم هو مثقف قام بدراسات عليا، هو ربّما أستاذ جامعي، والذي استدعي لإلقاء محاضرات عن الليالي في أمريكا : "بفضل هذا الكتاب، دُعيت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدا، بفضل مقال (أصله أطروحة المتريز)، "النوم في ألف ليلة وليلة" . يظهر أنّ قراءة الليالي لها علاقة مباشرة مع "الكتابة" عن الليالي .
في "الجنون الثاني لشهريار"، "معادلة الصيني" وفي "رغبة بقاء لا قيمة لها"، الأجزاء الثلاثة الأخرى التي تؤلّف العمل، لنا على ما يلوح، نفس المتكلّم، لكن هويّته مشوّشة بالإحالة الدّائمة على الشخصية الثانية التي هي إسماعيل كمْلو. هذا التّمثيل المُجزّأ، المُتكسّر تضاعف بحضور شخصية نسوية يتغيّر اسمها مع بقائه هو ذاته : "امرأة شابّة ذات ملاحة مدوّخة أهلّت. قدّمها لي السيد هامويست بإسم Ida أو Ada , Aida , Edda
هذا الحضور، هو في المقابل، أقلّ حدّة في الجزء الثاني. لنا، بين نساء أخريات، "السيدة L " ، التي ربّما ليست شيئا آخر غي " Elle " ، الزائرة الغامضة المذكورة في بداية الكتاب. يبحث الكاتب، باللّعب على رنين الكلمات، على تعزيز وتدعيم الغموض الذي يحيط بهذه الشخصية الشبحية التي لن نعرف عنها، بالأحرى، أيّ شيء آخر. هي نفسها تستحضر من تُدعى Edda . يمكننا أن نفترض أنّ إيدّا تلازم هذا الفصل وإن لم تُذكر إلاّ عند النهاية. بالمقابل، نصادف أدا وعايده، الوجهين النسائيين المهيبين في الفصول اللاحقة . الضّيق الذي يستشعره القارىء أمام عجزه عن تحديد وبدقة هوية الشخصيات هو أمر مقصود من قبل الكاتب، بغرض أن يحثه على القراءة، على التأويل بالاعتماد على نفسه، على تجنّب السهولة التي تقضي بتفسير تخييل بتخييل آخر أي بالسيرة الذاتية ! موضوعة القرين أوالصّنو double الموجودة في كلّ مكان، تفاقم الانزعاج .
أن تؤوّل يستلزم أن تورّط ذاتك بشكل كلّي. هذا الحشد الفكري تحقّق في "الجنون الثاني لشهريار". دراسة أطروحة كمْلو هي لعبة. أوّلا لعبة تهشيم ما يتّصل بالمؤسسة الجامعية، بعيوبها، بهفواتها ولكن أيضا لعبة متوقّدة مع القارىء الفطن : هكذا ــ ما يظهر أنّ السارد يقوله ــ يجب التصرّف قبل تأويل نص ما، وإلاّ، فنحن مجانين على غرار شهريار. التماس المعنى عسير، جدلي، سحريّ حتى، غير أنّ أكتشافه هو تألق وارتجاج .
" ليس من المصادفة أخيرا، إذا ما كنتُ قد كتبت دراسة عن النوم ! كنتُ فيها أتحدّث بشكل غير مباشر عن نفسي في خضمّ معالجتي لمسألة أكاديمية". يمكن للنصوص العلمية إذن أن تكون مناسبة "للحديث عن الذات" وبالتالي لمزج الأنواع، لطمس السّبل وجعلها غائمة. إنّ بناء المعنى هو الآخر عمل طويل ومتعب؛ فهو يحرّك الذات، يستحوذ عليها ويلازمها على هيئة الشخصية التي عثرت على حكاية "نور الدين والحصان" غير المعروفة : "الارتياب الذي ينتابني فيما يخصّ وضع النص، لا يعوقني، مع ذلك، عن التعبير، إنطلاقا من معالجته الداخلية، عن جملة من الفرضيات. أنا لا أمتلك سوى كلام الشارح المجهول الذي يشدّد على ميزته الأصيلة (هذا هو التفسير الذي أمنحه لاستعماله في تعليقه للأقواس المزدوجة، لعلامة التعجب ولنقط الحذف) لكن، ربّما كان يريد القول بأنّها تشبه حكايات الليالي، أنّ فيها أسلوبها، ومن ثمّ فهي جديرة بأن ترد برفقتها. أنا في عجز أن أجزم، بهذا المعنى أوذاك ولو أنّي اشتُهرت بين زملائي، خطأ، كعارف بالعمل " .
يتحوّل النص إلى مرآة حيث القارىء، وقد تقمّص السّارد، يتخيّل هو نفسَهُ في خضم قيامه بتقصّ جواني لكشف لغز فكري محض. يمضي السارد بالتحريف حتى طرح نفس الأسئلة كما القارىء تماما : "الأكثر مشقة هو كشف هوية الشارح ".
يصير "أنبئوني بالرؤيا" إذن كضرب من طريقة استعمال لمختلف تقنيات التأويل حيث يفكك كيليطو،، عبر نصوص متعدّدة ومن طبيعة مختلفة، المسلك الفكري الذي يقود إلى اكتشاف المعنى، على غرار شخصية "شرفة ابن رشد" التي تلعب مع قارئها، تدفعه بالتّدريج، قد جعلته مترقبا، إلى "كشف" غير متوقع، مُبلبل يغمر باللذة الباحث كما القارىء : "تريد حقا أن تعرف بماذا يتعلّق الأمر. صبرا !"(4)
تكمن المتعة في المعالجة التحليلية (لأنّها هي التي تنتج النص) أكثر ممّا تكمن في حلّ اللغز. الوصول هو، على شاكلة العلاقة الغرامية ، انقباض ذهني وأيضا جسدي "... وفجأة استشعرتُ كدمة ملء صدري".
الترجمان، في قصة ابن بطوطة، المسافر بغاية استكشاف مدهش للعالم، يدرك هدفه بعد ارتحالات ذهنية متواصلة. وفي مقابل "كدمة ملء الصّدر" في "شرفة ابن رشد" هناك "ارتجاج" في "أنبئوني بالرؤيا" : "في هذه اللحظة، أحسستُ بارتجاج في كلّ كياني. كنتُ أستمع لزملائي لمّا، فجأة، فرض تقارب غير متوقع نفسه عليّ، إنارة لظلمة ظاهرة".
دلالة النص المُدرك ك"كشف" مترادف الأضداد، يلفي نفسه ثمرة بناء مسيطر عليه بإحكام، حصّة المُؤلّف الخالق سيّد عمله، نبوخند نصر الحاكم لشعب من النسّاخ. تفاصيل موضوعة بدقة، تُيسّرالاكتشاف. مثلا، عندما يلمّح السارد في الجزء الثاني بأنّه تلقى كشفا، يعرف القارىء الفطن أنّ ركيزة أولى تمّ وضعها في بداية النص حين يطرح السارد على نفسه هذا السؤال : "كمْلو بعث لي أيضا بخارطة لدمشق التي إليها انتقل، كما يقول، لأجل أن يحاور القصّاصين الشعبيين، وخاصة واحدا منهم،Naha . هذا حيّرني : ألا زال هناك قصّاصون شعبيّون في مقاهي الشرق الأوسط بينما الأقمار الاصطناعية كنست كلّ شيء في طريقها ؟ "
اللّغز تمّ حلّه عند النهاية : Naha " ألا يكون جناسا ، صحيح أنّه ناقص ، لإسم الماروني حنّاHanna ، القصّاص الذي أطلع غالان، المترجم الأوّل لليالي، على العديد من الحكايات الرائعة ؟" .
كيليطو يلعب مع قارئه، يتعمّد تضليله وإغواءه بكلّ رويّة : "الشارح هو قارىء لنيتشه والذي أراد أن يصنع خدعة بإعادة تغيير موضع حكاية الفيلسوف. هذه الحكاية لن تكون إذن إلاّ المحكي المُموّه للحادثة المأساوية من حياة نيتشه . نيتشه كشخصية من شخصيات الليالي ..." (5)
سنخطىء إذا اعتقدنا العثور على سرّ الحكاية لأنّ المعنى يظلّ مطروحا للكشف، في مكان آخر، في نصوص أخرى. كلّ العمل موضوع تحت علامة مسرحة للعمليات الفكرية التي كرّس الكاتب نفسه لها كي "يُجلي" (بمعنى يستعرض) ذكاء لا يقرّ له قرار، يستخفّ بالمكان والزمان، يتحرّك برشاقة عجيبة في صلب عالم الأفكار. على هذا المنوال، يكتشف قارىء كيليطو أنّ الأمر لا يتعلّق، بالنسبة إليه أيضا، بأن يصل ولكن بأن يعالج ويحلّل الحيل الأدبية الموظفة من قبل الكاتب لصنع وصوغ المتعة الموهوبة للذي أوالتي تقرأ .
الفصل الأوّل المعنون بـ "إدا في النافذة" يحمل، في الظاهر، عنوانا غير متلائم، لأنّه لم يُحل إلى إداIda إلاّ مرّة واحدة، حين يعتقد السارد أنّه يلمحها في نافذة. يجب انتظار الفصل الثالث "معادلة الصيني" لتسجيل حضور التي تُدعى أدا Ada، جارة السارد والصدى المباشر لـ إدا، وراء نافذة. ملاحظة لجنة المناقشة المتعلّقة باختيار عنوان الجزء الثاني من أطروحة إسماعيل كمْلو هو أيضا طرفة عين من قبل السارد (الكاتب) للقارىء . هذا التقاطع بين الأسماء (أهو صدى لتقاطع غيرمتلائم لعناوين المؤلّف نفسه ؟) يساهم في تصوّر هندسة للنص مختلفة عن هندسة مجموعة قصصية كلاسيكية. أكثر من ذلك، يبدو كتاب "أنبئوني بالرؤيا" كتتمة منطقية لنص "شرفة ابن رشد" الذي ينتهي عند مشهد نافذة رابعة ظلت مغلقة يكتنفها الغموض .
موضوعة النافذة المفتوحة أوالمغلقة ترمز، إلى حدّ ما، إلى موقف السارد تجاه الآخرين. فهو يرضى، منقطعا عن العالم الخارجي الذي لا يأبه به حقا، بحقل رؤية ضيّق، منصرفا بشكل حصري إلى الكتب، لاضوضاء أوبالكاد، وفي جميع الأحوال لا رائحة تصل إليه ولا صوت. من النّادر أن تقرأ عند كيليطو إحالات على زهور، على عطور، على أطعمة، على ألوان أوعلى وصف" حسّي" لأيّ شيء مادي. كلّ شيء يتمّ لديه من خلال الكتب. كتاباته تلغط بأصوات أدبية وشخصياته المنزوية في فضاء ضيّق تكتفي بخرجات خفيّة قبل أن تعود بسرعة إلى فضائها الحميمي. نصوصه تنسج وتحوك، من عمل إلى عمل، مهما كان النّوع الذي تنتمي إليه، قماشة لا تني تتوسّع كلّما ظهر كتاب جديد. عمله، في جملته، يوحي بتماسك كبير، سواء تعلّق الأمر بغنى الموضوعات المُعالجة أوبتنوّع الأشكال المُوظفة. الرجل من نافذته يرقب، يصغي، يفحص متجنّبا كلّ اختلاط .
هذا الرّجل، أيوجد حقا ؟
كلّ شيء ليس إلاّ لعبة من كلمات
!
* أستاذة الأدب و كاتبة روائية
هوامش : ( من وضع المترجم)
1 ـ عنوان كتاب كيليطوDites _ moi le , songe , Actes Sud , 2010عنوان ساحر وفاتن يحتمل في ترجمته للغة العربية عدة صيغ منها :"أنبئوني بالحلم" ...ثمّ هناك صيغة "أنبئوني بالرؤيا" التي اختارها الأستاذ عبد الكبير الشرقاوي كعنوان للترجمة التي صدرت مؤخرا عن دار الأداب.
2 ـ حكاية عطاف كما وردت في ترجمة غالان (الليلة 546 ) تروي أن هارون الرشيد تناول يوما كتابا وهو يطالعه بكى ثم ضحك. وزيره جعفر استفسر عن سرّ هذا البكاء والضحك، فما كان من الخليفة إلاّ أن غضب غضبا شديدا لأنّ مثله لا يُسأل وكان العقاب تهديد الوزير بالقتل إن أبصره سوى إن أدرك الذي أبكاه وأضحكه. الوزير انتقل إلى دمشق وهناك جرت له أحداث هي نفسها المسرودة في ذلك الكتاب العجيب. أمّا حكاية النبي دانيال، كما وردت في العهد القديم، فتروي حكاية الملك بنوخند نصر الذي رأى حلما مفزعا فجمع العرافين والمنجمين لا ليفسّروا له الحلم، بل ليحكوا له حلمه كما رآه قبل أن يقوموا بتعبيره. لمّا عجزوا وكانوا معرّضين للقتل، تقدّم النبي دانيال وأطلع الملك على حلمه .
3 ـ سفنكس كائن خرافي في الميثولوجيا الاغريقية له جسم أسد ، وأجنحة، ورأس امرأة وصدرها كان يطرح الألغاز .
4 ـ شرفة ابن رشد ، دار توبقال ، 2010
5 ـ هناك تواشج بين حكاية "نورالدين والحصان" وبين حصان نيتشه : "ستضرب لي المثل بنيتشه يرتمي منتحبا نائحا ليحتضن حصانا يعذبه حوذي منهيّج" . عبد الفتاح كيليطو ، حصان نيتشه ، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ، دار توبقال ، 2003 ، ص182 .
المرجع :
Le Magazine Littéraire du Maroc , N° 5 , Automne 2010 , P: 34 _ 37
بقلم : ثوريا أولهري (أستاذة جامعية وكاتبة روائية)