الطيب صالح - (زينب بت صبير)...

كان في بلدنا غابة كبيرة من أشجار الطلح نمت وازدهرت. لأن الحكومة كانت تمنع منعا باتا قطع أي شجرة إلا بإذن خاص.
في حالة نادرة من تلك الحالات النادرة قطع العريس طلحة.. فقد كان من طقوسهم في الأعراس .. أنهم يمشون إلي الغابة في زفة عظيمة فيقطعون شجرة طلح. ويعودون بها إلي دار العروس.
وأذكر وأنا صبي في الأربعينات كان عرس كانت له شنة ورنة. من تلك الأعراس التي يؤرخ لها. وتظل أصداؤها تتردد زمنا طويلا.
كان العريس إسماعيل ود صبير من أهلنا ناس ( كرمكول) وكان أخا وحيدا بين عدة أخوات.
كانت العروس بنت المرحوم عبد الله عباس الذي كان يومئذ من كبار موظفي الجمارك. كان عبدالله من أوائل خريجي كلية غردون من أهلنا.
إضافة إلي أن أم العروس كانت ابنة عبد الحليم ود فضل عمدة العفاض. ذلك الذي أعطى العرس بهاءه ورونقه وأصداءه البعيدة.
فوق ذلك كله أن أخت العريس، زينب بت صبير عملت لأخيها سيره لم يحدث مثلها من قبل ولا من بعد.
كانت زينب شابة وضيئة الحسن
متزوجة ولكن لا أظن أن سنها تزيد علي خمسة وعشرين عاما.
أذكر لونها العسلي وثغرها البراق ووقفتها النبيلة. وصوتها العجيب الذي تعجز الكلمات عن وصفه.
بدت لي تحت ضوء المصابيح. ولا بد أنها ظهرت كذلك لأهل البلد كلهم ، كأنها طيف ملائكي حل علينا من كوكب آخر.
سرنا معها كالمسحورين يحدونا صوتها الأسطوري. من دار العروس في (كرمكول) شاقين البلد من الغرب الى الشرق حتى وصلنا الغابة عند ( دبة الفقرا).
ظلت زينب تغني كأنها ترتجل.. حتى قطعنا الطلحة وعدنا بها إلي (كرمكول). ربما أكثر من ثلاث ساعات، وربما أربع.
وصوتها يزداد عمقا ومدي وجاذبية والصور والمعاني تصل إلي وجداننا منها مثل رفيف أجنحة القطا..
جيد لي
جيد لي بي ذاتو
يا نمر الخلا الفارد جناحاتو .
حين صرت أكبر سنا وأكثر إدراكا ، فهمت أن زينب بت صبير صنعت (فنا) عظيما في تلك الليلة. خلقت أسطورة لأخيها، فإذا هو أجمل وأكرم وأشجع وأغني.
وأدخلت أهل البلد قاطبة في نسيج عالمها الأسطوري.
فإذا بلدنا كما نعرفها وزيادة. وإذا نحن جميعا كما نعرف أنفسنا وأثر. فكذلك يصنع الفن العظيم.
إنما الحياة كانت بالفعل حلوة في تلك الأيام. حلوة حلاوة لا يعرف طعمها إلا من ذاقها. فماذا كان عندنا يومئذ ولم يعد عندنا اليوم؟
لم يمهل القدر زينب بت صبير . اختطفها الموت فجأة بعد أشهر معدودات من تلك الليلة المشهورة دون علة واضحة، رحمها الله.
كانت زينب حقيقة طيفا ألم بالبلد ثم عاد من حيث أتى . لا توجد اليوم أعراس كالعرس الذي غنت فيه زينب، في أي من قري شمال السودان. فقد فرغت القرى من أهليها الذين تفرقوا أيدي سبأ.
اختفت الغابات علي الضفتين وهاجرت القمارى بشجرها.
النيل الرحيم الودود عادة، ظل في العهود الأخيرة يطمس المعالم ويمحو الآثار، كأنه يريد أن يقول شيئا. كأنه ضاق بحبسه بين الضفتين.
فمتى تفتح القنوات للنهر و للبشر؟ متى تهدأ ثورة النيل؟ ومتى تعود القمارى إلى أشجارها.

الطيب صالح
أعلى