رانية المهدي - المُعْجِنة...

مازال الحُلم يعاودني وكأنه يريد أن يقفز من عالمه الخيالي في راسي إلى عالم الحقيقة والواقع.
أحلم بدارٍ واسعةٍ لها حوش كبير؛ ليلعب فيه أطفالي على راحتهم بلا قيود أو خوف عليهم من الغرق في الروزافة الكبيرة التي يغرق فيها الكبير والصغير.
أحلم بجزء منفصل للفرن والمحاصيل، أحلم بحظيرة كبيرة لأربي فيها الطيور، والعجول، والأغنام.
أحلم أن أشتري بقرة؛ لتدر اللبن، وأصنع الجبن، والقشدة، والسمن البلدي؛ لأطعم أبنائي وأحمل الباقي للسوق، أبيع وأشتري واكسب نقود حتى أستطيع أن أدخلهم الكُتَّاب مثل أبناء كُبرات البلد.
كل هذه الأحلام والأمنيات التي تملأ رأسي حتى أنها تحرمني النوم لليالٍ عديدة.
حتى جاء ذلك اليوم، وعرض مسعود المحمدي داره القديمة للبيع، وكانت داره خلف داري مباشرة ً، شعرت أنها إشارة من الله وأن الحُلم يمكن أن يتحقق، تحدثت مع زوجي لنشتريها ونضمها إلى دارنا الحالية؛ حتى نحصل على التوسعة المناسبة، وأخذت أحكي له عن حُلمي وما أراه في المستقبل.
زوجي رجلُ طيب وحمله ثقيل؛ فهو الإبن الوحيد لأبيه الذي توفاه الله من سنوات عدة، وله عشر أخوات من البنات وأمهن، الجميع في رقبته ودائمًا يحمل الهم.
لم تكن تلك الظروف هى المشكلة، لكن افتقاره الهمة والقدرة على الحُلم كانت أكبر مشاكله، فقال ساخرًا:
_ الفكرة حلوة يا بت، بس هنجيب منين تمن الدار وأجرة المُعجنة والبنا، بصي خليكِ في الحلم، الحلم ببلاش.
ابتسمت له وقلت:
_ ارضى أنت بس ونفض إيدك خالص، متشغلش بالك بحاجة؛ أنا اللي هتصرف في الصغيرة قبل الكبيرة.
ضحك ساخرًا وقال:
_ إزاي بقى يا شملولة؟
قلت:
_تمن الدار بتمن الحلق والكردان بتوعي، والباقي سهل.
ليرد وهو ينفض جلبابه ويعطيني ظهرة:
_ماشي يا فالحة أنتِ حرة، بس متسألنيش في حاجة.
تم الاتفاق مع صاحب الدار، وتم الشراء ودفع الثمن، وفي اليوم التالي مباشرة.. انتظرت أول شعاع للنور، وارتديت بنطلوني الكستور القديم وعقدت الجلباب عقدة دائرية إلى جانب ركبتي، ثم أحكمت قمطة رأسي وأخذت الماجور وذهبت إلى الترعة؛ أقطع الطين بالفأس وأضعه في الماجور، وأحمله فوق رأسي لأضعه أمام داري.
والناس تنظر لي وتبتسم ويطلقون المباركات والتهاني، حتى الكيادة صفية بنت ستيتة ابتلعت بعض سُمها وقالت لي وهى تجر جاموستها لتشرب من الترعة:
_ بتقطعي الطين بنفسك يا معدولة، ده أنتِ هتتهدي يا بت، وبعدين فين جوزك؟ هو عجن الطوب بقى شغلة الحريم؟!
لأرد عليها:
_الهدة في العمار حلوة يا صفية، عقبالك لما تتهدي زي يارب.
لتنصرف وهى تقول:
_طيب يا أختي.. بخاطرك.
لأستمر في العمل حتى الظهيرة، وكانت كمية الطين التي جمعتها بالماجور كمية كبيرة؛ لأشعرت بالسعادة والهمة التي أخفت أي ألمٍ، وقررت أن أكمل العمل وأن اليوم لن يمر إلا وقوالب الطوب مرصوصة لتأخذ حرارة شمس اليوم التالي من بدايتها.
أحضرت أحمال التبن والكثير من الماء لأخلطهم بالطين، كانت أقدامي تغوص وتخرج ثم تغوص وتخرج والأحلام تتجسد أمامي، فتعطيني الطاقة والقوة حتى حصلت على الخليط المطلوب، وشكلت قوالب الطوب من تلك المُعجنة التي لا يستطيع أن يعجنها أي رجل حتى لو كان ابن بارم ديله.
كررت نفس العمل لأسبوع كامل من بداية النهار حتى نهايته، لا يفصلني إلا إعداد الطعام على عجل والعودة سريعًا، ليكتمل العدد المطلوب من قوالب الطوب، لم يصدق زوجي، ولكنه كالعادة يجيد تكسير المجاديف، أشك أنه حلم يومًا حتى وهو نائم؛ فالحلم يصنع المعجزات ليقول لي:
_ طيب يا فالحة، الأرض وجبناها والطول واتعمل، هنجيب منين أجرة البنا بقى؟
لأرد عليه باستغراب شديد:
_ليه؟! هو أنت مش هتساعدني ياراجل؟!
فيقطب جبينه ويقول:
_ أهو.. مش قلت لك، هتعكيها وتسبيها، أنا قلت لك مليش صالح بالموضوع دِه، وبعدين اللي حضَّر العفريت يصرفه.
_يعني إيه؟
_ يعني اللي عمل الطوب يبنيه، أو فضيها سيرة، أنا مش ناقص هم.
ينفض جلبابه كالعادة ويخرج ويتركني في تلك الحيرة، تنفست وقررت أن أكمل الطريق حتى أصل لما أريد؛ فالحلم كاد أن يصبح حقيقة ولن أتوقف.
وبالفعل، نظفت الأماكن المتهدمة في الدار القديمة، ورسمت أماكن البناء الجديد بالدقيق الأبيض، وبدأت في رص الطوب وكنت أرص معه الأحلام ليعلو السور ويصبح أعلى من رأسي، شعرت بالفرح والفخر فالحلم قارب أن يلامس الحقيقة، لأجد زوجي يدخل ويقترب مني ويرفع معي الطوب ويقول:
_ما تستريحي شوية يا بت، ده أنتِ اتهديتِ.
لم أصدق أذني،ولكنه أكمل حديثة قبل أن أرد عليه وهو يحمل الطوب:
_ خالتي عزمتني على الغدا، دي كانت دابحة لي بطة قد كده، أه.. وباعتة لك السلام.
لأرد عليه وأنا منهمكة في العمل:
_ لا والله، بقى دبحت لك بطاية بحالها، طيب.. ربنا يهني سعيد بسعيدة، عمومًا الله يسلمها يا أخويا.
_ أنتِ زعلانة منها ولا إيه؟!
_ أيوة زعلانة، دي عدت علَيَّ ليلة إمبارح ومهانش عليها تقول لي مبروك ما بتعملي، ولا كانت خلت عجل من ولادها يجي يساعدني، عموما كل واحد بيعمل بأصله.
_ أصل سنية بتها هتطلق، اتعاركت مع دار جوزها وسابت لهم الدار.
وأخذ يكمل الحكاية ويشرح لي معاناة سنية مع حماتها، وكيف أنها تحيا في مأساةٕ تجعلها تبكي ليل نهار، وأن زوجها هددها بالطلاق إذا لم تجد حلا، وأخذ يصف لي حال خالته ووقوعها في عرضه أن يعطيهم ذلك الجزء الخلفي من الدار؛ لينقذ ابنتها وأن ذلك طبعًا بشكل مؤقت؛ لأنه ابن خالها الجدع وهى مثل أخته وملزمة منه في كل الأحوال.
لم أتمالك نفسي لحظتها ونظرت إلى الطين الذي يغطيني من رأسي حتى قدمي، وقلت له وأنا أصرخ:
_ ما تطلق ولا تروح في ستين داهية، ده أنا مغروسة في الطين بقالي شهر، وبايعة الحلق والكردان اللي حيلتي علشان أوسع الدار و أعمل حياة عدلة، أجي ألاقي خالتك وبتها طمعانين فيَّ.. حسبي الله ونعم الوكيل.
ليصرخ في وجهي ويتهمني بكل التهم بدايةً من الأنانية إلى الطمع، وسواد النفس، وضيق العين، ثم أخذ يعدد أن مساعدة الأهل واجبُ ومن الدين، وأن شيخ الجامع أكد على هذا في خطبة الجمعة، وقال أيضًا لابد أن تكون الزوجة مطيعة لزوجها.
لأصرخ فيه:
_ والشيخ ماقلقش إنه حرام سرقة مجهود الناس، يا أخي حسبي الله ونعم الوكيل فيك وفي الشيخ بتاعك.
لأرزع ما في يدي وأنصرف وأنا منهارة، واسمعه يصرخ ويطلق قراره بلا رحمة:
_ الدار وهيخدوها، ولو ما اخدوهاش وبت خالتي اطلقت هكتب عليها وأجيبها تكيدك، وهى الجديدة وأنت القديمة، ولو نطقتِ بكلمة تاني تكوني طالق بالتلاتة.
لتنحبس الكلمات في قلبي، ولا تنقطع دموعي وأنا أراهم يكملون البناء بالطوب الذي صنعته بيدي، لتقوم لهم دار في يوم وليلة ويضيع حلُمي كله بغدوة بط!!
لتنقطع أفكاري فجأة عندما أشعر بتلك اليد التي تلتف حولي وتهمس وتقول:
_ يا عبيطة متزعليش، ده أنت ِ وسنية إخوات، وبعدين أنا شارطة عليها تفتح طاقة بينك وبينها والدار تبقى واحدة.
كان هذا كلام خالت زوجي التي تحاول أن تلطف الأمور، حتى يمر الوقت ويتم البناء، وفعلا صدقت وتركت سنية تلك الفتحة الكبيرة في الجدار الذي بيننا، لنتحدث منها ونتبادل حاجيات الدار، لكن لم يمر الأسبوع الأول حتى اغلقتها بالطين، وقالت لي وهى تملأ الماء من الترعة:
_ معلش يا أختي متزعليش إني قفلت الطاقة، أصل جوزي بيقول البَص على الطيور بيخليها تموت.

رانية المهدي


من المجموعو القصصية تُمن شاي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...