رواية "الشتات" 2023 للروائي المصري مجدي جعفر، هي الجزء الثاني من مشروع روائي كبير، بدأ برواية "على شفا حفرة" التي صدرت عام 2011. هناك تشابك في موضوعات الرواية من التصوف والصراع المجتمعي والصراع من أجل الهوية والانتماء في بيئة ريفية مصرية. سأقوم هنا بقراءة مقتضبة للبنية السردية، وتطور الشخصية، والعناصر الموضوعية، والسياق الثقافي لـ "الشتات".
"الشتات" ليست مجرد سرد أدبي بل تحاكي حقبة تاريخية بعد سقوط الثورة العرابية وأيضا الاحتلال الانجليزي لمصر وسياسة الاحتلال التي عملت على سياسة "فرّق تسد" بين أفراد المجتمع المصري (المسلم والمسيحي).
البنية السردية
تبدأ الرواية بمشهد حيوي وغامض حيث يصل رجل عجوز متهالك، موصوف بعبارات ناقدة بشكل ساخر " رث الثياب، ذقنه بيضاء مُرسلة بغير عناية، منكوش الشعر، مشتعل بالبياض، نتن الرائحة، محدودب الظهر، فمه مظلم مثل قبر، لا يستطيع أن ينطق جملة واحدة مكتملة المعنى، ولا يستطيع مستمعه أن يصبرعليه، ولا يحتمله ولو لدقائق."(ص1)، إلى قرية "العايق". ألقى وجوده وأفعاله اللاحقة بظلالها على القرية، مما أدى إلى ظهور جدل وخرافات مختلفة بين القرويين. إن تقديم هذه الشخصية يمهد الطريق لسلسلة من الأحداث التي تمزج الواقع مع ما هو خارق للطبيعة، وهو فكرة شائعة في أسلوب جعفر السردي.
يستخدم جعفر سردًا غير خطي، ويتنقل بين جداول زمنية ووجهات نظر مختلفة لبناء قصة متعددة الطبقات. لا تعمل هذه البنية على تعميق فهم القارئ للشخصيات فحسب، بل تؤكد أيضًا على الشعور السائد بالتفكك والتشرذم الذي يعاني منه الأبطال، مما يعكس الموضوع الرئيسي للشتات.
تطوير شخصية
الشيخ سعدون
ويعتبر الشيخ سعدون شخصية محورية يجسد التقاطع بين السلطة الدينية والتلاعب الاجتماعي. تم تصويره كشخصية تستخدم نفوذها للتحريض على الانقسام بين المسلمين والمسيحيين في القرية، وتسليط الضوء على قضايا التعصب الديني وديناميكيات السلطة. توفر أفعاله ودوافعه عدسة نقدية يستكشف من خلالها جعفر تأثير التعصب الديني على الوئام المجتمعي. ومثل هذه الشخصية يمكن أن نجدها في أي مجتمع سواء عربي أو غيره، وسواء في مجتمع مسلم أو غير مسلم، فمثل هذه الشخصية هي شخصية إنتهازية تظهر وسط مجتمع نسبة الجهالة فيه مرتفعة فيستغل تلك الهشاشة التي يعيشها المجتمع ويتبنى المعتقد السائد فيه ويبدأ بإدخال الخرافات والمعتقدات الجديدة بحسب تفسيراته التي تحرف ليس فقط المجتمع عن مساره وإنما تظهر جدلا واسعا داخل الدين وبذلك يظهر الانقسام الكبير داخل المجتمع الواحد.
البنت الفقرية
تعتبر الشخصية المعروفة باسم "البنت الفقرية" محورية في استكشاف الرواية للتصوف والقوة. تدربت على الفنون المظلمة على يد الرجل العجوز، وأصبحت شخصية ترمز للخوف والانبهار في القرية. رحلتها من ضحية للإهمال المجتمعي إلى شخصية خرافية تستخدم قوة خارقة للطبيعة تعكس موضوعات الفاعلية والمقاومة ضد الهياكل الأبوية.
أبو رقبة
أبو رقبة، الشخصية المرتبطة بـ "البنت الفقرية"، تمثل الذكورة الريفية وتعقيداتها. علاقته بها، التي تميزت بمزيج من الهيمنة والرغبة والاعتماد في نهاية المطاف على قدراتها السحرية، تؤكد على ديناميكيات النوع الاجتماعي والتفاعل بين السلطة والجنس في القرية.
العناصر الموضوعية
التصوف وخارق للطبيعة
أحد أقوى موضوعات الرواية هو استخدام التصوف والظواهر الخارقة للطبيعة لتعكس القضايا المجتمعية. يؤدي إدخال الرجل العجوز للسحر إلى القرية إلى تعطيل النظام الاجتماعي وكشف التوترات الكامنة التي ذهبت مع الزمن. ولهذا الموضوع أهمية خاصة في سياق الريف المصري (العربي)، حيث يتقاطع الفولكلور والخرافات غالبًا مع الحياة اليومية.
الصراع الديني والاجتماعي
يتعمق جعفر في النسيج الديني والاجتماعي للقرية، ويصور الاحتكاك بين المسلمين والمسيحيين. ويتجسد هذا الصراع من خلال شخصيات مثل الشيخ سعدون الذي يستخدم الدين أداة للسيطرة والانقسام. تنتقد الرواية استغلال المشاعر الدينية لتحقيق مكاسب شخصية وما يترتب على ذلك من تفكيك المجتمع.
الهوية والانتماء
عنوان "الشتات" في حد ذاته يلمح إلى موضوع النزوح والبحث عن الهوية. تتصارع الشخصيات في الرواية مع شعورهم بالانتماء، سواء كان ذلك داخل مجتمعهم، أو في عيون أحبائهم، أو داخل الإطار المجتمعي الأكبر. تعكس الرواية تجربة الشتات الأوسع، ليس فقط بالمعنى الجغرافي ولكن أيضًا من حيث الاغتراب الثقافي والعاطفي.
الجنس والسلطة
ديناميات النوع الاجتماعي منسوجة بشكل معقد في السرد. إن تحول "الفتاة الفقيرة" من شخصية عاجزة إلى شخصية تتحكم في القوى الغامضة يتحدى الأدوار التقليدية للجنسين. تسلط قصتها الضوء على النضال من أجل الوكالة النسائية والطرق المعقدة التي يتم من خلالها التفاوض على السلطة في المجتمع الأبوي.
السياق الثقافي
إن "الشتات" لمجدي جعفر متجذر بعمق في الواقع الثقافي والاجتماعي المصري. يوفر المحيط الريفي، بعاداته ومعتقداته وهياكل السلطة الخاصة به، خلفية غنية للرواية. يجسد تصوير جعفر لحياة القرية الفروق الدقيقة في المجتمعات الريفية المصرية، بما في ذلك الترابط بين الدين والخرافات والحياة اليومية.
وتعكس الرواية أيضًا القضايا المعاصرة التي تواجه مصر، مثل التعصب الديني والنضال من أجل العدالة الاجتماعية. ومن خلال وضع هذه القضايا في سياق ريفي، يؤكد جعفر أن هذه ليست مجرد اهتمامات حضرية أو حديثة ولكنها تحديات واسعة النطاق تؤثر على جميع طبقات المجتمع.
الرمزية والصور
إن استخدام جعفر للرمزية والصور جدير بالملاحظة. على سبيل المثال، يثير وصف الرجل العجوز إحساسًا بالانحطاط والهلاك، ويرمز إلى الفساد والانحدار الأخلاقي الذي يجلبه إلى القرية. إن تحول "البنت الفقيرة" إلى شخصية ذات قوة من خلال إتقانها للسحر يرمز إلى إمكانية المقاومة والتغيير داخل الهياكل القمعية.
القرية نفسها، التي كانت في البداية مكانًا للبساطة والروتين، أصبحت نموذجًا مصغرًا لقضايا مجتمعية أكبر وهي تتصارع مع الاضطرابات الناجمة عن الاضطرابات الغامضة والاجتماعية. يعكس هذا التحول في شخصية القرية موضوعات الرواية الأوسع المتعلقة بالتغيير والبحث عن الهوية.
اللغة والأسلوب
يتميز السرد الروائي لـ جعفر بجودته المشاعرية (الغنائية) وقدرته على إثارة إحساس قوي بالمكان والشخصية. إن استخدامه للهجة والتعابير المحلية يضيف أصالة إلى السرد، ويمنح القارئ معنى أعمق قادم من السياق الثقافي للقرية. ويجسد الحوار، على وجه الخصوص، إيقاعات وفروق دقيقة في الخطاب الريفي المصري، مما يعزز واقعية الشخصيات وتفاعلاتها.
خاتمة
"الشتات" لمجدي جعفر هي رواية غنية ومعقدة تنسج معًا موضوعات التصوف والصراع الاجتماعي والبحث عن الهوية على خلفية الريف المصري. من خلال السرد متعدد الطبقات، والشخصيات المقنعة، والسرد المثير للذكريات، تقدم الرواية استكشافًا عميقًا للقوى التي تشكل الحياة الفردية والمجتمعية. إن قدرة جعفر على مزج ما هو خارق للطبيعة مع ما هو اجتماعي، وبصيرته الثاقبة في الطبيعة البشرية والديناميات المجتمعية، تجعل من "الشتات" مساهمة كبيرة في الأدب المصري والعربي المعاصر.
د . حاتم الشماع