صديقة علي - بورصة... قصة قصيرة

لا ينقصها فطنة كي تغضّ الطرف عن تغيرات أصابت المدير، فهم للشهر الثالث على التوالي يعملون لساعات طويلة وبصمت؛ رغم أن الأجر بخس، كان قد نجح ببيعهم الأمل. فآمنت بمشروعه وقررت العمل في مختبره؛ لكنه منذ مدة قصيرة بات لا يقدّر صدقها وتفانيها في العمل، ويلمّح على الدوام، بأنّها تحتكر اختراعها في ثنايا فكرها، شكوكه جعلها غير قادرة على النظر في وجهه، حتى أنّها لم تعد تثق به؛ فانصرفت تكرر تجربتها والقهر يطوف في حناياها، توقفت فجأة عن العمل ونوت أن تقدم استقالتها.

تقدمت من منضدة التسليم وأجالت بنظراتها مودعة أرجاء المختبر، وما أن انحنت لتسلّم دورق تجربتها الأخيرة، حتى سقطت دموعها في الدورق، فعكّرت السائل الشفاف، لاحظ المهندس ما حصل، فاستوقفها كي يتأكد من شكوكه، وما هي إلا لحظات. حتى بدأ اللون الورديّ يغزو الدورق، فحمله بلهفة ونزل به إلى القبو ليضعه على عجل في خزان المحرّك، غير آبه بزميلته التي غادرت دون وداع.
حاول المدير ثنيها عن قرارها بتكرار محاضرته التي طالما صدّع رأسها بها:
"فكّري معي دكتورة في حال استغنائنا عن الوقود الأحفوري، فكّري كيف سيصبح هذا السائل الرخيص الثمن قادرًا بكميته القليلة على تشغيل محرّك ضخم، فكري كيف سنغيّر وجه العالم!
فقط فكّري دكتورة كم من الحروب ستتوقف!
فكّري كيف سينعم الفقراء المساكين بالدفء، و كيف ستتغير حياتهم!
لن نذهب بعيدًا فكري بأنك سترتاحين من أدراج بيتك العالي ".
"لقد فكرت، ولكن هل هذا جلّ ما تفكر به أنت؟ كيف آمنت بك يوما"!
قالت في نفسها وهي محدقة في عينيه، وكأنّها تراهما للمرة الأولى، وانصرفت تهزّ رأسها بأسف.
لم تكن قد ابتعدت كثيرًا عن المختبر، حين سمعت هدير المحرّك يتعالى من القبو؛ خفق قلبها بسرعة، فعادت بلهفة، لتجد المدير والمهندس في ذهول وهما يراقبان المحرّك الذي يعمل بكفاءة عالية. انتبها لوصولها وبصوت واحد صرخا: الدمع.
أدركت نجاح اختراعها أخيرا.
تشكلت فرق (الجمع)، كُلّفت المجموعة الأولى بالمقابر، والثانية بدور الأيتام، والثالثة بالمشافي ورياض الأطفال، و الرابعة كانت مجموعة عشوائية تطرق أبواب المنازل، أما الخامسة فقد قصدت المطارات.
باتت المدينة مشغولة بالحديث عن ذرف الدمع، وعن مناديل خاصة توزع على الجميع وكانت أغرب مناديل يمكن ان يكفكف بها دمع أحد ما، فهي إسفنجة رقيقة متصلة بماسورة صغيرة بلاستيكية مرقّمة.
مع استمرار التجارب السريّة، توصلوا في المختبر إلى تسعيرة منظّمة لجودة الدمع، وذلك وفق كفاءة التشغيل، فكانت دموع الأطفال هي الأقل سعراً، ثم دموع النساء والأغلى هي دموع الرجال، ورفضت كل العبوات الممزوجة برائحة البصل أو الدخان. فالجودة هي المعيار.
توقف الناس عن متابعة أخبار الحروب، وصارت بورصة الدمع شغلهم الشاغل، منهم من قال إنهم يستخدمونها في مساحيق التجميل، ومنهم من قال بأنّها تُستخدم في صناعة الأسلحة الكيماوية، لكن أغلب الفقراء لم يشغلهم الأمر، كانت فرحتهم كبيرة إذ قايض الوسطاء الدمع بالخبز.
تعرّض الأطفال للضرب المبرح، راحت النسوة تستجدي عيون أزواجهن، راج سوق الأفلام الرومانسية والهندية، كسد سوق الضحك فدموع الفرح لا تجدي نفعاً، وبات سوق الدمع يحقق أعلى قفزات في البورصة.
صارت الحصيلة مرضية لأغلب الفرق العائدة إلى المختبر، لكن وعلى غير المتوقع عادت فرق المقابر بخفيّ حنين، فقد جفّت المآقي آن علمها بإنّ لمائها ثمنا.
بعد إخفاقات عدة حققت فرق الجمع من دار المسنين أعلى العائدات؛ فاقتراح مديرة الدار أتى بثماره: لم لا تنتجون وسائد للجمع؟
خجل مدير المختبر من حصيلة عالية لوسادة زوجته؛ وخفية عن المهندس قام بنفسه بإفراغ دموع زوجته في أواني خاصة بالسيدات.
لم تكن زوجته تعلم بأمر الوسادة الرقيقة المدسوسة تحت رأسها، كانت قد قررت التوقف عن الشكوى له، فمنذ أمد بعيد لم يعد يصغي إليها.
"تاجرت بحياتي، بشبابي، بكل أحلامي؛ لكن أن تتاجر بآلام أنت مسببها فهذا لا يغتفر، هذا ما أرسلته له قبل أن تغادر البيت في صمت.
لم يكترث للأمر، فنشوة النجاح جعلته يتجاهل كلّ المعوقات، بل أغلق هاتفه في وجه رسائلها، وراح يعدّ براميل الوقود البديل التي كانت تزيد يومًا بعد يوم، ومعها تتصاعد أحلامه الكبيرة، لكن ما يفسد سعادته هواجس المهندس التي تتزايد باضطراد، وحده من كان يسمع أصوات النحيب القادمة من المستودع ليلاً، فكانت مخاوفه تثبط من حماسه للعمل. وفي كل اجتماع كان يصرخ كي يؤكد لهم أن ما يسمعه ليس بهلوسة، كما يتهمه المدير.
- صدّقوني إن ما أسمعه ليلاً لهو أمر خطير... خطير للغاية.
قالت الدكتورة وهي ساهمة الطرف:
- كأنّنا اشترينا دموع الناس وأوجاعهم معًا.
خطر للمدير وهو يلقي برأسه على وسادة زوجته، أنه لم يعد يتذكر متى كان آخر بكاء له؛ ولاحظ أن غياب زوجته لم يحدث فارقا لديه، بل غدا الأرق رفيقه منذ أن بدأت أطماعه في الازدياد.
بخطوات متوترة راح يذرع الغرفة جيئة وذهاباً، يفكر بزيادة أرباحه، تطالعه نشرات الأخبار، قتل ودمار وخراب، أطفال المخيمات يموتون جوعاً، ورجال تبكي قهرًا، أنهار من دموع الثكالى والأرامل تهرق سدى على أرصفة الهجرة.
"لم لا أفكر بالاستيراد؟"
قال لنفسه.
بالقرب منه حرب إبادة، لم لا يستثمرها؟
قد يصل إلى عقود مع محطات إعلامية كبيرة، ومع أهم شركات الأسلحة، انتفخ صدره فخرًا وهو يتخيل نفسه يوقع العقود وعينه على المختبر، الذي جثم في حديقة بيته في هدوء.
خطواته تزداد سرعة مع حدة النقاش بين ضيفين كطرفي النزاع، لم يصغ لجدالهما؛ بل لعراكهما، فالصراخ المتفاقم يؤكد له استمرارية المواد الخام لمعمله المرتقب، كتم صوت التلفاز، وعاد راضياً إلى سريره يراقب الصور الصامتة لأشلاء وجثامين كاملة وأحياء يفرّون من الموت.
غطّ في النوم لبرهة، يطرق أذنيه نحيب قادم من بعيد، أفاق من غفوته ليتبين مصدر الصوت هل هو من مختبره؟ أم من تلفازه؟ "أيعقل أن تصحّ اهلاسات المهندس؟" توجس شرًا، وخاف من افتضاح سرّ الاختراع إن فاقت المدينة على انتحاب مخزنه.
أجفله طرق مرعب على الباب، وما أن همّ بالنزول من سريره، حتى زلزل بيته وكيانه دويّ انفجار مهول.
من شرفتها في الطابق السابع، راحت الدكتورة تراقب تراقص ألسنة اللهب، المنبثقة من أشلاء المختبر، وبأسى راحت نظراتها تحلّق مع سحابة سوداء، سحابة تضافرت مع ليل المدينة لتغطّي وجه السّماء.

صديقة علي / اللاذقية 2024
التفاعلات: مادلين الطنوس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...