توفيق الحكيم - "نصيـب".... قصة قصيرة

في حياة كل رجل لحظة يشعر فيها فجاة بانه مثل غطاء الطبق الذي لا يجد طبقه والويل لمن يفطن الى هذا الشعور الا متاخرا انه يترك عندئذ كل شيء وينقلب مجنونا بتلك الفكرة المسيطرة "البحث عن شطره الاخر".
بطل هذه القصة من هذا النوعية من الرجال شاب طموح تخرج في الجامعات مهندسا بارعا درس في مصر ثم الخارج وكان في مقدمة اقرانه دائما لا يعرف غير العمل ولا تنظر عيناه غير طريق مستقبله الناجح وقد ركض في هذا الطريق بالفعل حتى بلغ درجة "مدير اعمال".
وكاد يشرف على الخامسة والثلاثين وهو مستغرق هذا الاستغراق في عمله الهندسي واذا بغتة تدهمه هذه اللحظة الحاسمة واذا هذا الغطاء الذي كان يجري على "سنه" ناهبا الارض كانه كل شيء قد اصطدم بجدار تلك اللحظة العجيبة فوقف ودار حول نفسه دورات ثم انبطح على ظهره ورن معدنه رنينا مكتوما وكانه يهمس "ما انت الا غطاء الطبق" وافاق المهندس بعدئذ وليس في رأسه غير فكرة واحدة " الزواج".
دهش اصدقاؤه لرنين هذه الكلمة في فمه فهم لم يسمعوها قط منه ما الذي حدث! وهم الذين طالما فاتحوه من قبل في هذا الامر فلم يجدوا منه غير الصدوف وعدم المبالاة لقد كان كلما ذكرت امامه "الزوجة" او النصف الاخر او شريكة احياة يبدو عليه كان الموضوع لا يعنيه ولا يفهم مغزاه و يبسم احيانا ابتسامة المتعجب لغلو الناس في الوصف واسرافهم في التعبير.
لقد كان يحس احساسا اكيدا انه كامل بنفسه وانه واحد صحيح لا نصف ولا ثلث ولا كسر من عدد انه درس الحساب والجبر والرياضيات العليا فمن ذا يقنعه بانه اقل من رقم وانه نصف فقط وان هنالك نصفا آخر في مكان ما ينقصه ليكون الناتج واحدا صحيحا.
هذه المسالة الحسابية الآدمية من الذي وضعها؟ ولماذا؟ ولمصلحة من؟ لا...لا....انه لا يظن الطبيعة مشغوفة لهذا الحد هي الاخرى بعلم الحساب لتجعل من الرجال والنساء ارقاما او كسورا من ارقام تجمع بينها وتطرح كان هذا كلامه فيما مضى اما الان فهو يقول لاصحابه "صدقتم..الحياة حساب..الحياة مسالة حسابية ...انا كسر انا نصف، اجمعوني من فضلكم على النصف الاخر" لكن بقيت المعضلة الكبرى كيف العثور على ذلك النصف؟ وهل يترك الامر للمصادفة؟ او عليه هو بالسعي؟ هل القدر هو الذي يخط على لوح الوجود-بالطباشير- جامعا الانصاف بعضها الى بعض؟...او ان على الرقم المشطور ان ينفلت هو بنفسه من تحت اصبع القدر طباشيرته ويسرع زاحفا على اللوح باحثا عن بقيته!.
ولبث المهندس اياما لا يلقي على معارفه المتزوجين غير هذا السؤال الذي لا يتغير "كيف عرفت زوجتك" وكانت الاجابات مختلفة فمنهم من يقول "رايتها في سهرة عند بعض الاقارب او الاصدقاء" ومنهم من يجيب "قابلتها في سوق خيرية فاعجبتني فسالت عنها" ومنهم من يذكر "كانت على البلاج فتبعتها وعرفت عنوانها" ومنهم-وهم الندرة في هذا الزمان ممن يؤمنون بالنصيب او اليانصيب ولا يرضون بطرائق الاختيار الحديثة-من همس له "والله البركة في الخاطبة ام شلبي".
وحار المهندس في هذه الاساليب جديده وقديمها لكنه لم ينكر ولم يرفض ولم يعترض، لقد قبلها كلها، كل سبيل يؤدي الى شطره الاخر لن يتردد في سلوكه، لقد فتح عينيه واسعتين وذهب بهما يجوس خلال السهرات والطرقات والشواطىء والاسواق.
أعلى