حاتم الصگر - مواقف النفّري ومخاطباته: مرجعيات مركَّبة ونصوص عابرة للأنواع

تتوفر مواقف النفري ومخاطباته على كثير مما يجعل العملين من أبرز قطع النثر العربي أثراً وأشدها حضوراً عبر الأجيال، وتجاوزها لزمنها وسياق كتابتها، وكذلك عبورها للأجناس والأنواع الأدبية وصعوبة تصنيفها، احتكاماً لأسلوبها بشكل خاص. وهي التي لم تلتزم بشكل محدد كما هو شائع في النثر الذي ارتضى كتّابه أن يكون وسيلة تعبير قسيمةٍ أو مناوئة للشعر، غرضها الإيصال والإفصاح عن غرض خارجي بلغة تتوخى المباشرة، مع تزيين بلاغي يرتكز على السجع، وتقابل الفقرات، والعناية بالألفاظ والإطناب أحياناً.
لكن نصوص النفري صيغت بنظام قولي متميز في انضباط تراكيبه على وفق الإشراق الذي تتطلبه الحالة الصوفية المعبَّر عنها في النصوص. وما تتفرد به من مزايا بنائية منحتها القوة التي تمتعت بها، لتَجنّبها السجع والتكلف الذي ميّز بعض الأنواع النثرية العربية.
موضوعياً تهيأت للنصوص تلك المواجد والأشواق والحرقة أو اللهفة والأسئلة التي تميز الخطاب الصوفي العربي، والحنين اللاهب للرؤية والتعرّف، في ثنائية معذبة تقوم على الكشف والحجب والعلم والجهل والتجسيد والتجريد. وتتسلح بالرمزية العالية، وتكتل مفرداتها في عبارات قصيرة، تستند في التوصيل إلى الجمل المتفرقة التي يمكن انتزاعها كوحدات بنائية صغرى، تصنع من تتابعها وحدةً نصية كلّية معروضة لقراءات متنوعة وتأويلات متعددة، رغم انفرادها واستقلالها الظاهري عن بعضها.
وهذه خلاصة قراءة أدبية للنصوص لم تقف عند تفاوت عباراتها في مخطوطاتها أو التباس مصادرها، وصحة نسبتها للنفري، أو ما تم انتحاله عليها وعليه لاحقاً. وهو عين ما يجري للمؤلفات والمدوّنات الكبرى كألف ليلة وليلة. وبسبب شفاهية التوصيل ثم التدوين، وكما يشير الدكتور أسامة غالي المدقق في المتون وما يرافقها من علامات وإحالات وذاكرة في كتابه «النفري منتحَلاً- سؤال في المواقف والمخاطبات»، والتشكيك بعلاقة النصوص بابن عربي الذي ذكر النفري مبكراً، وما قام به شارح المواقف عفيف الدين التلمساني، وصولاً إلى الركون لتفاوت العبارات في النسخ المخطوطة، أو ترتيب المواقف وترقيمها عند نشرها، دليلاً على اضطراب سياقها في أصل الكتاب.
وتمتلك «المواقف والمخاطبات» كمؤلفات أو مدونات كتابية كلَّ ما تتمتع به الكتب الفريدة عبر تاريخ التأليف الإنساني. بدءاً من غموض سيرة مؤلفها، وغموض معانيها والتباس مقاصدها القريبة، خاصة حين تُجرَّد من سياقها الإشراقي، وتغيب مرجعياتها القاموسية التي تحف بالمفردات المتداولة في الخطاب الصوفي المغلق كمفهوم، والمخصص بدقة كمصطلح عرفاني محدود التداول، مرتبط بالحالات المراد تمثيلها في عناء الصوفي ووحدته، وهفوِه للمعرفة.
لكأن نصوص «المواقف والمخاطبات» تضع القارئ في صلب مشكلة التواصل مع ملفوظها، حيث يتوجب أن يكون من عُدَّته القرائية الصعبة أن يتوفر على السياق الخاص بالخطاب والنصوص كتجسيد له، وما فيه من انغلاق بياني رمزي يقرب من اتخاذ لغة داخل لغة الأدب ذاتها. انحصاراً بين قوسي الذكر والحذف، والغيبة والشهود، أو كما ذكر النفري في موقف 34 «ما لا ينقال»: «وقال لي إنْ لم تشهد ما لا ينقال، تشتتَّ بما ينقال..».
بهذا تقدمت «المواقف والمخاطبات» لتكون مرجعاً شديد الحضور في مشغِّلات الكتابة الشعرية خاصة. حيث اكتشفت القراءات الشعرية اللاحقة والمتأخرة ما في النصوص من مزايا تحاذي البناء الشعري، رغم فقدانها للشكل الشعري المعروف بإيقاعاته الوزنية وشكله أو هيئته السطرية. وكذلك افتراقها عن طبيعة النثر الفنية القائمة على الترسل، والترابط الجملي المنطقي، والمعنوي والدلالي، والاستعانة بأدوات البلاغة الشائعة.
وكان على الثقافة العربية أن تنتظر طويلاً قبل أن تكون «المواقف والمخاطبات» في نطاق التداول والقراءة والاستيعاب والتمثّل، ولتدخل مرجعاً في بناء التجارب الشعرية المعاصرة محققة هدف النصوص المضمر، وهو العبور الزمني والتجاوز الشكلي والموضوعي. وهي شأن سواها مما وصلنا عبر وسيط آخر قام المستشرقون الأوائل بتحقيقها وإخراجها من صمتها وتغييبها في المخطوطات المخزونة والمقصاة، لتكون في التناول والتداول والقراءة والبحث، كما هو شأن تراث الحلاج الشعري وأخباره، و«أسرار البلاغة» لعبد القاهر الجرجاني مثالاً وحسب.
كان عام 1934 المناسبة الأولى للتعرف على نثر الصوفي محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّري المولود في نفّر الأثرية أو (نيبور) في الفرات الأوسط قريباً من آثار حضارة سومر، والمتوفى في 354 للهجرة. فقد أصدر آرثر يوحنا آربري المستشرق البريطاني المدرس في الجامعة المصرية، ذلك العام كتابيْ النفّري «المواقف» و«المخاطبات» في طبعة واحدة في دار الكتب المصرية بالقاهرة. ولم يُكتب لتلك النسخة أن تكون محل قراءة وعناية بما يليق بمكانتها في النثر العربي، ولم تدخل مؤثراً في تجارب الشعراء العرب في مراحل النهضة الحديثة، كما أن نصوص النفري ذاته لا أثر لها في رؤية الشعراء في القرن الرابع الهجري الذي عاش فيه جلّ حياته، وهو القرن الذي ضج بدعوات التجديد الشعري والصراع بين القدامة والحداثة. كما أنه مهمش في أدبيات المتصوفة العرفانية من جهة أخرى، ولا ذكر له إلا في مصادر قليلة لم تسهم في إزالة الغموض الذي اكتنف حياته.
ولعلها مفارقة حقاً أن يكون الغموض ذاك معادلاً لغموض متون النصوص. وإذا كان النص الصوفي ذاته ملغزاً لطبيعته الإشراقية والاختباء وراء الأغلفة اللغوية والمصطلحات الخاصة، فإن ذلك يزيد معضلة تلقيه حتى ممن عايش ظهور تلك الأدبيات الصوفية نثراً وشعراً وفلسفة، ومرت به سياقاتها الفكرية والدينية والاختلاف على مصادرها ومرجعياتها وتأويل مراميها.
لكن المؤكد أنها كتابة تحركها المعرفة أولاً، فلا تحدُّها قيم النثر المألوف الهادف إلى الإقناع والتفسير والتوضيح. هنا تتجه الذات إلى باطن إدراكها، وتتعمق في الأسئلة التي انبنت على أساسها معتقدات التصوف، وسبله في المعرفة التي يكون للذات دور أول فيها. فلا يبني المتصوف خطابه على تكرار القناعات السائدة، ويبحث عن طريق فردي خاص يختاره لليقين، وبهذا يتم فهم تلك الحرية التي حفل بها بناء النص الصوفي، وكتابات النفري في كتابيه.
لقد أفلتت النصوص من الشكل اللازم للأنواع النثرية. وقد عاضد اللاشكل في النفّريات عدم تجنيس النصوص وفقاً لما هو مكرس وسائد في جنس النثر. وعبور النصوص للأنواع منحَها الاقتراض الحر من مجاوِراتها النوعية، لاسيما الشعر الذي اقتربت منه النصوص حدّ التشجيع على عدِّها شعراً أو قصائد على وجه الدقة، ليس لها من تقاليد فنية مكررة قد تحيل إلى ما تنتمي له نثرياً، وتصطف متنضدةً مع سواها تحت اسمه أو صفته، فهي (مواقف) وضع النفري شخصه الشعري أو سواه من الإشراقيين المتصوفة سارداً فيها، و(مخاطبات) بين الله وعبده المتلقي للخطاب والنداء.
وكان النفّري بليغاً ومختلفا في اختياره أسلوب الحوار والخطاب، وتمثيل الأصوات السردية المتحدثة أو المتحاورة.
وكذلك في اهتمامه بالتسمية العامة للنصوص دون تسمية خاصة. ولا نملك على وجه التأكيد ما يثبت عائدية العنونة له. لذا أخذت لدى ناشريه أرقاماً في «المواقف»، فيما خلت «المخاطبات» من أية عنونة داخلية أو ثانوية تتقدم النصوص، وتم الاكتفاء بالترقيم أيضاً. وللعنونة نظام خاص متمثل في انتزاع الكلمة الدالة على الموضوع بعد عبارة التصدير في كل موقف (أوقفني في…)، فيأخذ النص ما يلي ذلك عنواناً له. مثل: (موقف العز) وهو الموقف1: (أوقفني في العز وقال لي لا يستقل به من دوني شيء، ولا يصلح من دوني شيء…)، و(موقف البحر) 6: (أوقفَني في البحر ورأيت المراكب تغرق، والألواح تسلم، ثم غرقت الألواح. وقال لي: لا يسلم من ركب).
وحين لا تأتي إشارة القول في المفتتح تذهب العنونة إلى فقرة متأخرة ذات دلالة، مثل الموقف 30 (موقف ادعني ولا تسألني): (أوقفني وقال لي الدنيا سجن المؤمن. الغيبة سجن المؤمن..)، ولكن العنونة جاءت من الفقرة السادسة في الموقف: (وقال لي ادعني في رؤيتي ولا تسألني، وسلْني في غيبتي ولا تدعني).
وربما يعطينا الكتاب دليلاً آخر على أن العنونة لاحقة للتأليف، أو تختلف فيه النسخ. فعنوان الموقف 40 (موقف لا تفارق اسمي) يرد في نسخة أخرى من المخطوطات بعنوان (موقف إن لم ترني فلا تفارق اسمي) كما يشير هامش المحقق. وهذا يحصل في نصوص المخاطبات التي خلت عند النشر من العناوين مكتفية بالأرقام. فيما يشير المحقق في بعض العناوين إلى وجود عنوان في المخطوطات غير المعتمَدة عنده، فنجد أن مخاطبة 13 الخالية كسواها من العنوان، قد كان لها في نسخة أخرى عنوان هو (مخاطبة السر) كما في الهامش. ومخاطبة 4 لها عنوان في مخطوطة أخرى هو (مخاطبة الوجد).
ولعل التسمية بالاجتزاء من استهلال النص قد تسللت إلى وعي شعراء الحداثة، فشاعت عنونة النصوص بما يبدأ به سطرها الشعري الأول. كما فعل محمود درويش كثيراً، لا سيما في قصائد ديوانه «لا تعتذر عما فعلت»، كما في نصّه (الحلم ما هو؟):
الحلم ما هو؟
ما هو اللاشيء هذا
عابرُ الزمنِ
البهيّ كنجمة في أول الحبّ..
وأشهر ما شاع من النصوص عبارة النفري (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) الواردة في موقف 28 (موقف ما تصنع بالمسألة): (أوقفَني وقال لي: إن عبدتني لأجل شيء أشركت بي/ وقال لي كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة/ وقال لي العبارة ستر، فكيف ما ندبت إليه).
وكانت تلك العبارة شرارة أورثت لقاء طويلا متنوعاً بين الحداثة الشعرية ونصوص النفّري التي حلت فيها قادمة من الماضي. وكان أدونيس قد وضعها في مطلع ديوانه «كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل» 1965، وحلل دلالاتها وصياغتها دارساً في سياق المواقف، وشاعت في الشعرية العربية حتى راح النقاد والقراء والشعراء من بعد يعدّون نصوص «المواقف والمخاطبات» إرهاصاً بقصيدة نثر عربية، نالها الحجْب، كما كانت عبارات النفري تدعو وتنشد.
ومن أكثر النصوص الشعرية التي تعالقت بطرافة ومساخرة مقصودة مع العبارة لتصوير الضيق وفقدان الحرية، قصيدة بعنوان (مواقف الرازحي) للشاعر اليمني عبد الكريم الرازحي. ومنها:
5- موقف الحرية
أوقفني في (باب الحرية). وقال لي:
كل الأبواب تؤدي إلى (سجن القلعة).
6- موقف القلعة
أوقفني في بوّابة القلعة. وقال لي:
كلما ضاق الوطن اتسع الحبس.
7- موقف الحبس
أوقفني في باب الحبس. وقال لي:
لك كامل الحرية في اختيار الزنزانة.
8- موقف الزنزانة
أوقفني في باب الزنزانة. وقال لي:
الحرية قيد
وأنت الآن حر
أعلى