«حيّ القصبة، هناك وراء الخرائب الرومانية، في أقصى الشارع يجلس أحد الباعة القرفصاء، أمام عربته الفارغة. زقاق مسدود من أحد طرفيه. يُفتح من الطرف الآخر على الشارع، مؤلفاً معه زاوية قائمة.
كومة من الجثث تغطي واجهة الجدار. أذرع، ورؤوس تتحرك حركات يائسة.
يصل بعض الجرحى ليموتوا في الشارع. يُلقى ضوء على الجثث التي يصدر عنها أولاً أنين خافت، لا يلبث أن يتجسد شيئاً فشيئاً، ويصبح صوتاً متميزاً هو صوت الأخضر الجريح».
الأخضر: هنا شارع الوندال. إنه شارع في مدينة الجزائر، أو قسنطينة. في سطيف، أو غلمة، في تونس، أو الدار البيضاء، لا فرق.
آه… إنّ الفسحة لتضيق عن إظهار شارع الشحاذين، والمقعدين بجميع أبعاده، وزوايا رؤيته!
لتضيق عن سماع نداءات العذارى المسرنمات. لتضيق عن السير خلف توابيت الأطفال. عن استيعاب همهمات المحرضين، تلك الهمهمات المقتضبة التي تختلط بموسيقى المنازل المغلقة.
هنا ولدتُ. هنا ما زلت أزحف لأتعلم الوقوف على قدمي، حاملاً نفس جرح «الصرّة» الذي فات زمن خياطته منذ أمد بعيد.
إنني أعود إلى النبع الدامي. إلى أمّنا المستعصية على الفساد. إلى المادة النقية التي لا شائبة فيها، فهي حيناً تولد الدم والقوة، وهي تتحجر أحياناً في احتراق الشموس الذي يحملني إلى المدينة المضيئة في حضن الليل المنعش.
أنا الرجل القتيل لغير ما سبب واضح. وسأبقى كذلك ما دام موتي لم يُعطِ أية ثمرة.
كحبّة قمح صلبة سقطت تحت ضربات المنجل، لتتموّج إلى الأعلى، وتستعد من جديد لتلقّي الضربة التالية على البيدر. إنها تضم الجسد المسحوق إلى الشعور بالقوّة التي تسحقه في انتصار شامل حيث تعلّم الضحية جلادها استخدام الأسلحة، وحيث لا يعرف الجلاد أنه هو موضوع التعذيب.
إنّ الضحية لتموت، وهي تجهل أنّ المادة ترقد منيعة في الدم الذي يجف، والشمس التي تشرب.
هنا شارع الوندال، شارع الأشباح، شارع المجاهدين. هنا شارع قطيع الصبية المختونين، والعرائس اللواتي تزوجن منذ أيام. هنا شارعنا.
لأول مرّة أشعر به يخفق كالشريان الوحيد في ارتفاع الضغط، حيث أستطيع أن ألفظ الروح فيه، دون أن أفقدها.
لم أعد جسماً.
إني الآن شارع.
إنّ مدفعاً سيكون ضرورياً لهم بعد اليوم إذا أرادوا قتلي.
وإذا ما قتلني المدفع، فسأبقى أيضاً هنا، كشعاع كوكب يمجّد الخرائب، ولن تستطيع أية قذيفة أن تصيب مأواي بعد الآن، إلا إذا ترك أحد الأطفال المبكرين في النضج جاذبية الأرض ليتبخر معي في شذى نجمة، وسط موكب من مواكبنا الفريدة، حيث لا ينظر أحد إلى الموت إلا كلعبة مسلية.
هنا زقاق «نجمة»، نجمتي.
إنه الشريان الوحيد الذي أريد أن ألفظ روحي فيه.
إنه زقاق يسوده الظلام الدائم. زقاق تفقد منازله بياضها كالدم، بعنف كعنف الذرّة على وشك الانفجار.
هنا في الظلّ، تتمدد الجثث التي لا يريد رجال الشرطة رؤيتها.
لقد تنقّل الظلّ على شعاع النهار الوحيد، ومكثت كومة الجثث على قيد الحياة، تطوف بها موجة عارمة من الدم، كتنين مصعوق يلملم قواه ساعة الاحتضار، غير عالم بعدُ ما إذا كانت النار ستأتي على رفاته كلها أم على إحدى القشور الحية التي يتألق بها عرينه. (…)
وفي انتظار البعث، يجب عليّ ـ أنا الأخضر القتيل ـ لكي أُنشَر من وراء القبر، وأقوم برثاء نفسي، يجب عليّ أن أجمع فيّ إلى مدّ الرجولة جَزْرَ الجماعة لكي تستطيع جاذبية القمر أن تجعلني أحلّق فوق قبري في الأعالي، ممتداً إلى أبعد مدى.
هنا أبدأ بإحصاء نفسي. لم أعد أنتظر النهاية.
٭ مستهلّ مسرحية «الجثة المطوّقة»، 1955. ترجمة د. ملك أبيض، وزارة الثقافة، دمشق 1962.
حبيس اللغة… طليق المخيّلة
لم يكن الروائي والمسرحي الجزائري الكبير (1929ـ1989) قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره حين اعتقلته سلطات الانتداب الفرنسية، بسبب مشاركته في انتفاضة سطيف، سنة 1945. لكنّ أشهر السجن لم تزرع فيه ذلك الحسّ الثوري الذي سيلازمه حتى مماته، ضدّ الاستعمار الفرنسي وضدّ أشكال الطغيان والاستبداد كافة، فحسب؛ بل قادته إلى إطلاق سراح المخيلة، وإلى الأدب والإبداع، فكتب أولى قصائده داخل الزنزانة، وخلف القضبان اختمرت مشروعاته الروائية والمسرحية، التي ستتجسد بعدئذ في أعمال لامعة مثل «الجثة المطوّقة»، 1955؛ «نجمة»، 1956؛ «مسحوق الذكاء»، 1959؛ «الأجداد يزدادون ضراوة»، 1959؛ «الرجل ذو الحذاء المطاطي»، 1970؛ «محمد: إحملْ حقيبتك»، 1971؛ وسواها.
كتب ياسين باللغة الفرنسية، في الجزائر أوّلاً، ثمّ في فرنسا التي اضطرّ إلى الإقامة فيها، متخفياً معظم الوقت، ومطاردَاً من الاستخبارات الفرنسية بسبب مواقفه وكتاباته المناهضة للاستعمار واحتلال الجزائر. وعن هذا السجن اللغوي، الذي أُجبر عليه كثير من كتّاب الجزائر، أمثال مالك حداد ومحمد ديب وآسيا جبار؛ يقول ياسين: «إنّ استخدام اللغة الفرنسية هو في صالح الآلة السياسية للاستعمار الجديد، وهذا يزيد اغترابنا. إلا أنّ استخدام اللغة الفرنسية لا يعني أننا أزلام قوّة أجنبية، وأنا أكتب بالفرنسية لأخبر الفرنسيين أنني لست منهم». ولهذا فإنه، فور عودته إلى الجزائر بعد استقلالها، سارع إلى الكتابة بلغة مركّبة ومَزْجية، تجمع بين العامية والفصحى والأمازيغية، وتطلق المخيّلة على وسعها.
من حيث المستوى الفني يقرّ ياسين بتأثره العميق بأدب وليام فوكنر، في الرواية؛ وبقصائد رامبو وفرلين، في الشعر، وبأعمال بريخت وغارسيا لوركا، في المسرح. نجمة، في الرواية الشهيرة، كانت المرأة التي اختزنت رموز الجزائر كافة، بما في ذلك عشاقها الأربعة الذين يمثّلون أنماط البلد الوطنية، وأطواره، وفصوله؛ ولكنها، أيضاً، كانت المرأة الأنثى في مستويات إنسانية عديدة ذات صلة بروح الشعب الجزائري، وآماله وآلامه. من جانب آخر، لم يجد ياسين غضاضة في أن يطلق على واحدة من أهمّ أعماله، «الجثة المطوّقة»، صفة المسرحية الثورية لأنه آمن على الدوام برسالة الفنّ في الحياة الاجتماعية عموماً، وبالتحولات التحررية والثورية لبلده الجزائر. وعن هذه المسرحية كتب إدوار غليسان، الشاعر الكاريبي الكبير الراحل: «هنالك مؤلفات تغوص إلى أعماق عصرنا بقوّة، وتقيم نفسها جذوراً لا محيد عنها لهذا العصر، تمثّله بدقة، وتستخلص منه نشيده العميق. إنّ ميزتها الرئيسية، كما أرى، تتلخص في أنها تنظر إلى العالم وكأنه جهد، أو عمل يجب أن يُنجز، لا كسرّ غامض ينبغي أن نجاهد بلذّة لاكتشافه».
كاتب ياسين
كومة من الجثث تغطي واجهة الجدار. أذرع، ورؤوس تتحرك حركات يائسة.
يصل بعض الجرحى ليموتوا في الشارع. يُلقى ضوء على الجثث التي يصدر عنها أولاً أنين خافت، لا يلبث أن يتجسد شيئاً فشيئاً، ويصبح صوتاً متميزاً هو صوت الأخضر الجريح».
الأخضر: هنا شارع الوندال. إنه شارع في مدينة الجزائر، أو قسنطينة. في سطيف، أو غلمة، في تونس، أو الدار البيضاء، لا فرق.
آه… إنّ الفسحة لتضيق عن إظهار شارع الشحاذين، والمقعدين بجميع أبعاده، وزوايا رؤيته!
لتضيق عن سماع نداءات العذارى المسرنمات. لتضيق عن السير خلف توابيت الأطفال. عن استيعاب همهمات المحرضين، تلك الهمهمات المقتضبة التي تختلط بموسيقى المنازل المغلقة.
هنا ولدتُ. هنا ما زلت أزحف لأتعلم الوقوف على قدمي، حاملاً نفس جرح «الصرّة» الذي فات زمن خياطته منذ أمد بعيد.
إنني أعود إلى النبع الدامي. إلى أمّنا المستعصية على الفساد. إلى المادة النقية التي لا شائبة فيها، فهي حيناً تولد الدم والقوة، وهي تتحجر أحياناً في احتراق الشموس الذي يحملني إلى المدينة المضيئة في حضن الليل المنعش.
أنا الرجل القتيل لغير ما سبب واضح. وسأبقى كذلك ما دام موتي لم يُعطِ أية ثمرة.
كحبّة قمح صلبة سقطت تحت ضربات المنجل، لتتموّج إلى الأعلى، وتستعد من جديد لتلقّي الضربة التالية على البيدر. إنها تضم الجسد المسحوق إلى الشعور بالقوّة التي تسحقه في انتصار شامل حيث تعلّم الضحية جلادها استخدام الأسلحة، وحيث لا يعرف الجلاد أنه هو موضوع التعذيب.
إنّ الضحية لتموت، وهي تجهل أنّ المادة ترقد منيعة في الدم الذي يجف، والشمس التي تشرب.
هنا شارع الوندال، شارع الأشباح، شارع المجاهدين. هنا شارع قطيع الصبية المختونين، والعرائس اللواتي تزوجن منذ أيام. هنا شارعنا.
لأول مرّة أشعر به يخفق كالشريان الوحيد في ارتفاع الضغط، حيث أستطيع أن ألفظ الروح فيه، دون أن أفقدها.
لم أعد جسماً.
إني الآن شارع.
إنّ مدفعاً سيكون ضرورياً لهم بعد اليوم إذا أرادوا قتلي.
وإذا ما قتلني المدفع، فسأبقى أيضاً هنا، كشعاع كوكب يمجّد الخرائب، ولن تستطيع أية قذيفة أن تصيب مأواي بعد الآن، إلا إذا ترك أحد الأطفال المبكرين في النضج جاذبية الأرض ليتبخر معي في شذى نجمة، وسط موكب من مواكبنا الفريدة، حيث لا ينظر أحد إلى الموت إلا كلعبة مسلية.
هنا زقاق «نجمة»، نجمتي.
إنه الشريان الوحيد الذي أريد أن ألفظ روحي فيه.
إنه زقاق يسوده الظلام الدائم. زقاق تفقد منازله بياضها كالدم، بعنف كعنف الذرّة على وشك الانفجار.
هنا في الظلّ، تتمدد الجثث التي لا يريد رجال الشرطة رؤيتها.
لقد تنقّل الظلّ على شعاع النهار الوحيد، ومكثت كومة الجثث على قيد الحياة، تطوف بها موجة عارمة من الدم، كتنين مصعوق يلملم قواه ساعة الاحتضار، غير عالم بعدُ ما إذا كانت النار ستأتي على رفاته كلها أم على إحدى القشور الحية التي يتألق بها عرينه. (…)
وفي انتظار البعث، يجب عليّ ـ أنا الأخضر القتيل ـ لكي أُنشَر من وراء القبر، وأقوم برثاء نفسي، يجب عليّ أن أجمع فيّ إلى مدّ الرجولة جَزْرَ الجماعة لكي تستطيع جاذبية القمر أن تجعلني أحلّق فوق قبري في الأعالي، ممتداً إلى أبعد مدى.
هنا أبدأ بإحصاء نفسي. لم أعد أنتظر النهاية.
٭ مستهلّ مسرحية «الجثة المطوّقة»، 1955. ترجمة د. ملك أبيض، وزارة الثقافة، دمشق 1962.
حبيس اللغة… طليق المخيّلة
لم يكن الروائي والمسرحي الجزائري الكبير (1929ـ1989) قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره حين اعتقلته سلطات الانتداب الفرنسية، بسبب مشاركته في انتفاضة سطيف، سنة 1945. لكنّ أشهر السجن لم تزرع فيه ذلك الحسّ الثوري الذي سيلازمه حتى مماته، ضدّ الاستعمار الفرنسي وضدّ أشكال الطغيان والاستبداد كافة، فحسب؛ بل قادته إلى إطلاق سراح المخيلة، وإلى الأدب والإبداع، فكتب أولى قصائده داخل الزنزانة، وخلف القضبان اختمرت مشروعاته الروائية والمسرحية، التي ستتجسد بعدئذ في أعمال لامعة مثل «الجثة المطوّقة»، 1955؛ «نجمة»، 1956؛ «مسحوق الذكاء»، 1959؛ «الأجداد يزدادون ضراوة»، 1959؛ «الرجل ذو الحذاء المطاطي»، 1970؛ «محمد: إحملْ حقيبتك»، 1971؛ وسواها.
كتب ياسين باللغة الفرنسية، في الجزائر أوّلاً، ثمّ في فرنسا التي اضطرّ إلى الإقامة فيها، متخفياً معظم الوقت، ومطاردَاً من الاستخبارات الفرنسية بسبب مواقفه وكتاباته المناهضة للاستعمار واحتلال الجزائر. وعن هذا السجن اللغوي، الذي أُجبر عليه كثير من كتّاب الجزائر، أمثال مالك حداد ومحمد ديب وآسيا جبار؛ يقول ياسين: «إنّ استخدام اللغة الفرنسية هو في صالح الآلة السياسية للاستعمار الجديد، وهذا يزيد اغترابنا. إلا أنّ استخدام اللغة الفرنسية لا يعني أننا أزلام قوّة أجنبية، وأنا أكتب بالفرنسية لأخبر الفرنسيين أنني لست منهم». ولهذا فإنه، فور عودته إلى الجزائر بعد استقلالها، سارع إلى الكتابة بلغة مركّبة ومَزْجية، تجمع بين العامية والفصحى والأمازيغية، وتطلق المخيّلة على وسعها.
من حيث المستوى الفني يقرّ ياسين بتأثره العميق بأدب وليام فوكنر، في الرواية؛ وبقصائد رامبو وفرلين، في الشعر، وبأعمال بريخت وغارسيا لوركا، في المسرح. نجمة، في الرواية الشهيرة، كانت المرأة التي اختزنت رموز الجزائر كافة، بما في ذلك عشاقها الأربعة الذين يمثّلون أنماط البلد الوطنية، وأطواره، وفصوله؛ ولكنها، أيضاً، كانت المرأة الأنثى في مستويات إنسانية عديدة ذات صلة بروح الشعب الجزائري، وآماله وآلامه. من جانب آخر، لم يجد ياسين غضاضة في أن يطلق على واحدة من أهمّ أعماله، «الجثة المطوّقة»، صفة المسرحية الثورية لأنه آمن على الدوام برسالة الفنّ في الحياة الاجتماعية عموماً، وبالتحولات التحررية والثورية لبلده الجزائر. وعن هذه المسرحية كتب إدوار غليسان، الشاعر الكاريبي الكبير الراحل: «هنالك مؤلفات تغوص إلى أعماق عصرنا بقوّة، وتقيم نفسها جذوراً لا محيد عنها لهذا العصر، تمثّله بدقة، وتستخلص منه نشيده العميق. إنّ ميزتها الرئيسية، كما أرى، تتلخص في أنها تنظر إلى العالم وكأنه جهد، أو عمل يجب أن يُنجز، لا كسرّ غامض ينبغي أن نجاهد بلذّة لاكتشافه».
كاتب ياسين