أدب السيرة الذاتية أ. د. ثناء محمود قاسم - المدينة الجامعية... (1..14)

(١)

المدينة الجامعية هى أسوأ مكان ممكن أن تقضي فيه أربع سنوات -أو أكثر - من عمرك، وأسوأ تجربة ممكن أن تمر على ولد أو بنت في هذه المرحلة الباكرة. وتفسير هذا الحكم معروف وواضح، وهو أن المدينة الجامعية تقوم على استيعاب أعداد هائلة من الطلاب أو الطالبات، ثم توزع وتجمع بين البعض في حجرة واحدة بشكل عشوائي لا يخضع لأى معايير-وهم معذورون في ذلك - هذه الأعداد وهذه التجميعة كل فرد فيها ينتمي إلى محافظة مختلفة، وبيئة مختلفة، وثقافة مختلفة، وطباع مختلفة وأخلاق وعادات مختلفة ، لكن تجمعهم كلية واحدة . فتصبح الحجرة مكانًا أقل ما يوصف به أنه الجحيم، وبخاصة إذا ما كان التنافر هو الصفة الوحيدة التي تجمعهم. ويزداد الإحساس بهذا الجحيم مع أمثالي ممن لا يستطيعون العيش بشكل كامل وبكل تفاصيل العيشة وخصوصيتها في هذه الأجواء غير الصحية؛ من عدم التوافق والسلوكات العدوانية والنفوس المريضة. فقضيت أول عهدي فيها مع اثنتين؛ واحدة من المنيا وكانت إلى حد ما هادئة، لكن سلبية ومكتئبة طوال الوقت؛ لأنها لم تكن راغبة في الكلية، وفعلًا ذهبت في العام التالي إلى بلدها ولم تعد مطلقًا. وأخرى من البحيرة كانت غاية في البشاعة. مرت الأيام في نكد وكدر لا يمكن تحمله، لكنها مضت بمبدأ التعايش مع الأمر الواقع.
بعد أسابيع جاءتني طالبة لا أعرفها تسكن في الغرفة المقابلة ، تسألني بلهفة المستغيث بالقشة من الغرق : أنتِ صحيح من السويس؟ فأجبتها نعم . بعدها تغير كل شيء...

***

(2)

لم يكن يفصل بين حجرتينا سوى متر واحد ، ومع ذلك أحسست بها كأنها جاءتني تسعى من سفر بعيد ، وعرفت من سؤالها اللهفان مدى ما تعانيه في حجرتها من شعور بالوحدة وعدم الانسجام : أنت صحيح من السويس ؟ سؤال لم أفهمه إلا بمحمل واحد واضح ، هو مدى شعورها بالغربة وفقدان البوصلة في بحر متلاطم الأمواج ، حتى أنها تبحث عن أى نقطة رسو من شيء قريب تعرفه ، محافظتها فحسب ؛ فهى لم تكن تعلم من أمري شيئًا تطمئن معه أو تجزع ، مجرد إحساسها أنني من محافظتها وحده كان إحساسًا مطمئنًا لها . وكانت هذه هى البداية . دخلت حجرتي تسأل ولم تعد إلى حجرتها خالية الوفاض من رفيق وأليف وصديق .فازداد مع الوقت تقاربنا ولم نفترق إلى الآن . لقد ظنت أنها وحدها من وجدت ضالتها ، أو أن سفينتها قد رست عندي ، ولم تعلم أنني أيضًا كنت أنتظرها ، فكانت مكافأة الله وعطيته لصبري وجلدي فيما أعانيه من شركاء الحجرة . وكنت قد بدأت أتعايش مع النكد الممض ، وهذا حالي دائمًا مع الابتلاءات ؛ التوكل على الله والرضا بما قسم . انتقلت صديقتي إلى العيش معي شيئًا فشيئًا ، وكانت ضيفًا خفيفًا علىّ وعلى شركائي في الحجرة ، فلم تكلفهما شيئًا ، ولم تحدث ضجيجًا أو مشكلة . شاركتني سريري ، ورافقتني في طريقي إلى الجامعة ذهابًا وإيابًا . وكانت تستيقظ معي كل صباح على الخناقة المعتادة من الطالبة البحيرانية . التي كانت تتفنن كل صباح في ابتداع مشكلة جديدة . كانت صديقتي تجلس على سريري صامتة تتابع سير الخناقة بحزن وضيق وهى تحتسي الشاى قبل النزول إلى الجامعة ، وكانت لا تتدخل مطلقًا ، كانت وقتها من بنها لا السويس
وهذا هو الأفضل . كانت هذه الطالبة البحيرانية لا تبتسم أبدًا ، وكانت ملامح وجهها ينفر بعضها من بعض ، ولم نر أنا وصديقتي ابتسامتها وودها المصطنع إلا في الفرقة الثالثة ، حين كانت تنزل إلى غرفتي لاستعارة المكواة الخاصة بي . وكنت أتبادل أنا وصديقتي نظرات تحمل فهم وتفسير هذه الابتسامات وهذا الود الطارئ طبعًا . ولم يمر العام الدراسي إلا بحدوث حدث جميل أسعدني جدًا...

***

(3)

لم أكن أعرف من أمر صديقتي الكثير ، ولم أكن قد اختبرت - بعد - شيئًا من طباعها أو سلوكها أو دخائلها مما سينضح حتمًا وتكشفه الأيام . كان يكفيني منها - وقتها -طلبها للأمان النفسي والطمأنينة بجوار بنت بلدها ؛ لأن هذه المفردات التي طلبتها - في رأيي- ليست من تطلعات الخبثاء . وكان يكفيني - أيضًا - ما تبديه ملامح وجهها من الطيبة والارتياح . وجه صبوح ، استقرت ملامحه الدقيقة المنمنمة على بشرة بيضاء مشربة بالحمرة ، اعتلى جسمًا قصيرًا يميل إلى البدانة . كان كل هذا يصرخ فتنةً ويتفجر أنوثةً طاغية في ملابسها وهى ذاهبة إلى الجامعة . وكانت ملابسي على النقيض تمامًا من بلوزتها الشفافة ، والجيب القصير ؛ فقد آثرتُ منذ سنوات ارتداء الإسدال ، وهو غطاء ينسدل في قطعة واحدة من الرأس إلى القدم . لم أكن أحنق عليها أو أشعر تجاهها بأى غضاضة أو أرى فيها نقيصة . ولم أحدثها يومًا عن ارتداء الحجاب وما شابه . فأنا لم أر منها ما يستوجب عدم مصاحبتها إلى الجامعة ، على الرغم من أن مثل هذه الملابس الكاشفة عن عورات المرأة وفتنتها كانت - ولا تزال - تثير استيائي وضجري . ليس بدافع الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي فحسب ، لكن بدافع الحشمة والتعفف ووجوب حجب هذه المفاتن عن أعين الرجال من غير المحارم ، حتى ولو كانت هذه المرأة ليست على دين الإسلام ، فالمرأة - عندي - هى المرأة ، ومفاتنها وخصوصية تفاصيل جسمها هى هى ، وغيرة الرجل مسلم أو غير مسلم يجب أن تكون هى هى .
فكيف تقبلتُ منها هذا؟ّ!
وازنت فيها - دون أن أشعر أو أقصد - بين عدة أمور ، فجاءت النتيجة لصالحها . هى طيبة وعلى خلق ، وسلوكها منضبط تمام الانضباط ، وكانت الملابس المحتشمة (الحجاب) لم يكن قد اتسع نطاقها في منتصف الثمانينات ، وكثير من البنات والأسر لم يكونوا ينتبهون فيما يخص الملابس بأكثر مما تتحقق بها الأناقة والمظهر الجميل . وكل هذا لا يقدح في خلق أو تربية ، هو فقط عدم انتباه أو تفكير في الأمر . وأدركت من وقتها أن الملابس الكاشفة ليست دائمًا دليلًا قاطعًا على سوء الخلق أو التربية.
ومضت الأيام والأسابيع والشهور . وأنا أتمنى من كل قلبي أن تتنبه صديقتي إلى تغيير نمط ملابسها ، دون أن أجرحها أو أتطفل على رغباتها . وكنت بما كانت عليه من انسجام مع هذه الأزياء والملابس أرى أن أمامها عمرًا طويلًا حتى تدرك ما أتمناه لها.
وقبيل انصرام العام الأول سافرت صديقتي - على غير عادتنا - إلى السويس وحدها ، وكنا قد واصلنا بين أسرتينا بالتعارف والتزاور ، وأصبحت كل من أسرتي وأسرتها يعرف أفرادها بعضهم بعضًا . تركتني صديقتي - هذه المرة - بضعة أيام ، ثم عادت . ويا للمفاجأة . لقد عادت بملابس فضفاضة وخمار طويل . وأخبرتني أن هذا الحجاب هو أبسط هدية ممكن أن تقدمها لي . عرفتُ وقتها أن ما كان يجمع بيننا هو نقاء الجوهر وصفاء السريرة . هى ما كانت تحتاج إلى أكثر من بروز المثال والنموذج ، يتحرك أمامها ، وتعيش معه ،حتى تعرف طريقها .
ولم تكن صديقتي في ملابسها الجديدة قد اعتورها النفاق أو التدليس ، فترتدي حجابًا بلا حجاب ، وتتغطى بساتر بلا ساتر . فقد فهمتْ جوهر الحشمة والتعفف ؛ لأنها لم تكن يومًا بعيدة عنها ، ارتدت ما أطاح بفتنتها تمامًا ، والتزمت هذه الملابس الفضفاضة وتمسكت بها إلى الآن ، وبعد أن صارت جدة.
لست أدري كيف اختفت - فجأة - صورة صديقتي التي عرفتها بها ، فحين أطلت على بصورتها الجديدة كأنني لم أرها قط بغيرها.
مضت بنا الأيام ، و كانت لدي أنا وصديقتي مع اقتراب انصرام هذا العام الجامعي مشكلة ، من ستكون شريكتنا الثالثة في الحجرة العام المقبل ؟ فقد عرفنا أن من تحضر مبكرًا تستطيع تسجيل اسم من تريد في حجرتها، شريطة وجود أماكن فارغة في الحجرة . ونحن لم نعرف ممن خالطناهن واحدة يمكننا أن نأخذها معنا.
وكانت هناك مفاجأة من العيار الثقيل في انتظارنا...

***

( 4 )

مع انصرام العام الأول ، غادرتُ مع صديقتي المبنى (الثامن ) المخصص لدرعميات الفرقة الأولى .غادرنا وكلٌ منا ممسك بيد الآخر في اطمئنان يكفينا الثلاث سنوات المتبقية ، ويقينا عثرات الطريق نحو إتمام الدراسة ، التي تفرض علينا قسوة السكن الجماعي .
غادرنا ونحن اثنتان فلم أعد وحدي ، ولم تعد وحدها . وكانت هذه هى الحسنة الوحيدة التي خرجنا بها من عام عاركنا وعاركناه كي نخرج سالمتين . لم يحرمنا القلق والتوجس من شريكتنا الجديدة في الغرفة للعام المقبل انشراح الصدر وبهجة القلب ، فقد ضمنّا الغلبة على الأقل ، إذا ما ساء حظنا معها . فلن تكون صديقتي هذه المرة ضيفة ، تلقى ما كانت تلقى من الشريكة البحيرية حسب ما كان يمليه عليها سوء المزاج ، وتقلبات الحال . فكثيرًا ما كانت ترتكب من الحماقة ما يُغضب صديقتي ويردها إلى حجرتها الأصلية، إيثارًا للسلامة واحتفاظًا بعزة النفس . وكنت أذهب في كل مرة أسترضيها وأطيب خاطرها , وأردها إلى حجرتي معززة . فقد كنت لا أخلو من شدة بأس ومن قوة شخصية بقدر يسمح بذلك ، لكن كنت أعيدها بالتودد لا التجبر ، فلم يكن ليصلح أن أفرض صديقتي عليهما ، كنت أتحايل على الجوانب الإنسانية المختبئة داخلهما ، كي أجعل وجود صديقتي مرحبًا به بيننا.
لن تكون صديقتي - بداية من هذا العام - ضيفة ، لكن صاحبة حجرة ، الحجرة التي أسكن فيها ، ولصاحبة الحجرة حقوق ووضعية تختلف تمامًا عن الضيفة ، فلن يهدد بقاءها في الحجرة أحد . ومع ذلك كنا نشفق أنا وصديقتي على حالنا من هذه الثالثة ، التي يمكنها أن تصيبنا بشيء من التنغيص والتكدير حين تشاركنا معيشتنا وتفاصيلنا الشخصية ، إن كانت على شاكلة ونوعية الشريكة البحيرية والأخرى . وتوكلنا على الله .
قبيل بدء العام الدراسي الثاني ذهبنا لنسجل أسماءنا في واحدة من حجرات المبنى (الثاني) المخصص لدرعميات الفرقة الثانية ، وكانت المفاجأة السارة ، التي لم ترد مطلقًا في حيز التوقعات أو حتى الأمنيات؛ عرفنا أن المبنى المخصص لنا هذا العام حجراته ثنائية لا ثلاثية . فطرنا فرحًا ، وكأن السماء كانت تتسمع خطونا وتظلنا بحنوها ورحمتها ففتحت أبوابها لرجائنا . ولا غرو في ذلك ، نعم فالأمر يستحق هذا القدر من الاهتمام والقلق . فنحن في حياتنا ربما نستطيع التعامل مع سخافات الناس وتحمل غباء قلوبهم في المساحات الواسعة خارج أسوار البيت ، لكنه لا يمكن تقبل ذلك في الأمتار القليلة التي تضم راحتنا وتلقائيتنا وتفاصيل يومنا ، سكوننا وحركاتنا ، شرودنا وتأملاتنا ، ضحكنا وبكاءنا . يكفينا بيتنا - تلك البقعة الصغيرة من أرض الله – نتنسم فيه عبير الراحة.
وكذلك السكن الجامعي ، فكل ما كان يهمني وصديقتي الراحة والهدوء والسلام في حجرتنا الصغيرة ، التي لا يشغلنا معها ما يدور خارجها من سخافات و صراعات وسوء طباع في باقي أرجاء المدينة الجامعية . وتلك قاعدة نفسية منطقية ، تشبه إلى حد ما سيكولوجية المحبين ، والفلسفة التي تجمعهم في علاقة غير منطقية . فأنا كثيرًا ما أتأمل حال المحب ، أو الواقع في أسر الحب . كيف يشعر بالاستغناء عن الناس والعالم كله إذا ما كان حبيبه معه ؟! كيف يختزل الكون في شخص واحد؟! شخص يتحكم في مفتاح سعادته أو شقائه، حزنه أو فرحه. فإذا ما مضت بهما العلاقة في سعادة وهناء ، يشعر أنه يمتلك الدنيا فما فيها ، ويكسو وجهه البهاء والأمل والإقبال رغم مصاعب العيش ، بل لا يراها أصلًا . وإذا ما افترقا يشعر أنه قد فقد حياته وسعادته ، يغزو العبوس والظلام وجهه وقلبه ، وتنطفئ روحه وجذوة الأمل داخله ، يشعر أن الدنيا لا يوجد فيها ما يستحق البقاء ، ولا يشعر بأى نعمة موجودة حوله ، كيف لشخص واحد أن يكون له هذا التأثير الجهنمي ؟! علاقة عجيبة جدًا . هذا المعنى هو ما صاغه الشاعر السوداني ، الهادي آدم في جملته :
أنا لولا أنت ، لم أحفِل بمن راح وجاء .
و ما قاله - كذلك - الشاعر عبد الفتاح مصطفى :
هواك نسى الزمان طبعه
وخذ منه الأمان لينا
ودارى عننا دمعه
وخلاه ما دري بينا
التغيير هنا لم يصب الزمان حتى يغير من طبعه ، لكنها الحالة الشعورية والدائرة السحرية التي يدخل فيها المحبون ، فتجعلهم لا يشعرون إلا بالجمال والأمان ونعيم الدنيا وبهجتها ، وكأن الكون كله طوع يمينهم .
وفي الحقيقة ، لا الغدر اختفى ، ولا الدمع اكتفى ، لكنها أوهام المحبين .
وكذلك كنت أنا وصديقتي نكتفي بثنائيتنا في حجرتنا الصغيرة جدًا ، فلا نرى أى صعوبات أو مشاكل خارج حدود حجرتنا .

***

(5)

كانت حجرتنا الثنائية صغيرة جدًا ، تسع – بالكاد – السريرين ، فلم تسمح المساحة الضيقة بوضعهما - كما هو معتاد - على التوازي ، لذلك وضعا على شكل زاوية قائمة ، أما خزانة الملابس فكانت كما هو معروف في السكن الجماعي ، عبارة عن تجويف داخل الحائط ، فلا يشغل حيزًا ، ومنضدة تصلح أن تكون مكتبًا أو حاملًا لبعض الأغراض . وتبقى لنا متر طول ومتر عرض في الوسط . فلا نستطيع الخطو والتحرك داخل الحجرة بشكل مريح ، كان هذا القدر من المساحة هو المتاح للحجرات الثنائية . ومع ذلك كنا راضيتين بهذه المساحة المحدودة ؛لأنها هى ثمن الفوز بالثنائية ، فصدقت معنا الحكمة القائلة : لا تضيق عين الإبرة بمتحابين ، ولا تسع الدنيا متباغضين . وصدق من قال : اختر الرفيق قبل الطريق ، والجار قبل الدار .
إن هذه الحكمة التي تبدأ من جمال الجرس الصوتي الخارجي ، الذي يجمع
في تركيب قصير بين الرفيق والطريق ، وبين الجار والدار ، تحدد لنا في صميمها المسار الصحيح في مشوار عمرنا بطوله . وهى الحكمة التي أضاع إيماني بها سنوات طويلة من عمري عازفة عن الزواج ، ودفعتني إلى الانتظار الطويل للرفيق الذي يحسن صحبتي في رحلتي ، والجار الذي آنس بجواره . فرفضت أصحاب المال الوفير ، وأصحاب السكن الرفيع ، حين فتشت فيهم عن الرفيق فلم أجده . فماذا يحقق لي المال؟ّ! وكيف تسعدني القصور الصماء ؟! فلا قيمة عندي تعلو على قيمة الإنسان نفسه ، فهو الذي يمنح الأشياء قيمتها لا العكس . هو الرفيق والجار ، الأنيس والجليس .
هيأت لنا هذه المساحة الضيقة ما لم تهيئه الحجرة الواسعة التي ضاقت بنا وضقنا بها العام الماضي . ولم تكن الكلية إلا مكانًا للدراسة لا مساحة فيها للدردشة ، ندخلها في بداية المحاضرات صباحًا ونغادرها عند انتهائها مساءً، وكانت المحاضرات متتالية متصلة ، لا براح فيها إلا للمواقف والتعليقات الفكهة الضاحكة . فهيأت لنا الحجرة فرص التعارف والتقارب أكثر وأكثر ، فكنا نأخذ بأطراف الأحاديث بيننا ، وعرفنا عن بعضنا تفاصيل كانت مجملة ، ودقائق كانت مهملة .
كانت صديقتي مخطوبة قبل دخولها الكلية ، وكأنها أبت قبل أن تغادر إلى المدينة الواسعة إلا أن تحمل في إصبع كفها الأيمن شريان التواصل بينها وبين حبيبها ، ابن الجيران . نعم ابن الجيران ، لكن قصتهما في الحب ليست كالقصص التي نعرفها، ولا تشبه قصص ابن الجيران، التي تنتهي في الغالب قبل أن تبدأ. والتي ترتبط في نسجها بتطلع المراهقين إلى النضج، وسرعان ما يختفي البريق والسحر مع اختفاء أثر مرحلة المراهقة. كانت صديقتي مجرد فرد في أسرة ربطتها علاقة حسن الجوار مع أسرة خطيبها ، الذي كان هو أيضًا مجرد واحد من أفراد أسرته . لم يذهبا إلى المشاعر الجميلة بل تسربت هى إلى قلبيهما دون قصد ، لا نستطيع أن نصفهما بالحبيبين ، فقد كانا كأخوين ، بينهما كل ما يجمع بين الأخوة من تراحم وود وحماية وسند وحب ، وظلا على هذه الحالة العجيبة التي يمكن أن ترى فيها كل المشاعر والمعاني الجميلة تحت مظلة مغايرة لقصص الحب الملتهبة.
لم أدرك طبيعة العلاقة بينهما مما كانت تسرده لي صديقتي من حكايات ، لكن مما أظهره لي التعامل بينهما عبر الأيام والسنين . فقد كان هو الموفد الرسمي من أهلها للقيام بكل ما يتعلق بها في غربتها ، فهو الوحيد الذي يقوم على شئونها ، ويأتي لزيارتها . لقد شاهدتُه أكثر من مرة بحكم علاقتي الحميمة بصديقتي ، فعرفته وعرفني بشكل خاطف . هو نسخة جيدة من الممثل رشدي أباظة ، في الوجه والرأس دون القامة ، فقد كانت قامته ملائمة لقامة صديقتي . لم أشعر مطلقًا طوال مدة إقامتنا في المدينة الجامعية أنهما حبيبان أو خطيبان ، بل كنت أراه أباها أو أخاها ؛ فالحبيبان أو الخطيبان لا يجمعهما إلا مسار واحد من العلاقة ، أما الأب أو الأخ فلهما مسارات عميقة لا مسار واحد . كانت علاقتهما حزمة متشابكة لا تستطيع رؤية جزء منها منفصلًا عن النسيج .
إنه الرفيق الذي يستقيم معه الطريق ، والجار الذي يحلو معه الجوار .

***

(6 )

هون علينا السكن والسكينة ، والأمان والطمأنينة الكثير من متاعب الغربة وقسوتها ، فلم نعد نشعر مطلقًا أنه ينقصنا شيئ مما يحتاجه المغترب . حالة من الاستقرار البدني والنفسي حجّمت سفرنا إلى مدينتنا ، وقلّصت الحنين والاشتياق إلى الدفء الأسري . فقد كانت كل منا للأخرى بديلًا جيدًا للأهل والبيت والبلد ، نعلم تمامًا أنه بديل مؤقت ، لكنه على كل حال كان مختلفًا عن حالنا في العام الأول ، حيث كنا نتحايل على الظروف والحجج لكي نأخذ تصريحًا بالسفر ، ونطير إلى السويس. فالاغتراب يطول بنا إلى عام دراسي كامل ممتد . الآن صنعنا من ثنائيتنا عائلة بكل ما تحمله الكلمة من معاني العزوة والأبهة والحماية والقوة والرسوخ والتجذر. ربما أسهم في ذلك استشعار طيب الصحبة ونقاء الشركة التي خلت من سخف العتب والمراجعة ، والخلاف والشجار والوقوف على سفاسف الأمور مما هو شائع بين الشركاء . وربما أسهم في ذلك أيضًا حالة الرضا والاستغناء التي تتملكني حين تقل حيلتي وتقصر يدي عن الوضع المثالي .
كنا نضحك ونضحك في اليسر ، أما في العسر فقد كنا نضحك ونضحك ونضحك . فأنا لا تسمح طبيعة شخصيتي بتسلل أو تسرب أى طاقة سلبية من اكتئاب أو قلق أو شكوى أو غم أو هم إلى المكان الذي أعيش فيه أو أتواجد فيه . فهذه الشعور تتكاثر بالعدوى . فإذا دخل عليك واحد منها اصطحب معه الآخر أو الآخرين ، وكبلوك بشبكة معتمة لا تفلتك ولا تفلتها .
كانت تربطنا بجيراننا علاقة طيبة ، بغير اختلاط أو تعامل ، ليس أكثر من تبادل التحايا وأمنيات الخير للصباحات . ومضت بنا الأيام صباحاتها ومساءاتها ، لطيفة هينة ، ضاحكة مستبشرة . حتى جاءنا من لا نرضى ، وزارنا من لا نحب . مرضت صديقتي ، شعرت بألم في ساقيها ، فلم تستطع النهوض ذات صباح وتستعد للذهاب إلى الكلية كالمعتاد ، لم تستطع النهوض ولا الوقوف على قدميها . ولم نكن نعرف السبب ، حتى ذهبنا بها إلى مستشفى الجامعة وقد كان ملاصقا لمجمع المدينة الجامعية ، وعرفنا أنها قد أصيبت بالروماتيد ، وهو التهاب شديد يصيب المفاصل .
فتغيرت أمورنا ويومياتنا وعاداتنا ، وتغير حالنا . فلم تستطع صديقتي مغادرة الفراش ، لنذهب معًا إلى الكلية سيرًا على الأقدام ، نطلع وننزل سلم الكلية ، تحركنا قاعات المحاضرات المتغيرة ، نذهب إلى مطعم المدينة الجامعية لتناول وجبة الغداء . كل هذا تغير . كان على أن أدير هذا الأمر الطارئ ، إدارة لا هدف لها ولا غرض إلا توفير كل سبل الراحة وتخفيف المعاناة عن صديقتي . فأما ما يتعلق بتوفير سبل الراحة ، فقد جعلني أخطط لتحريك كل شيء تجاه صديقتي إذا ما تعذر أن تتحرك هى نحوه . فهى لن تستطيع الذهاب – في هذه المرحلة - إلى شيء ، لكن باستطاعتي أن أحرك أنا نحوها كل شيء . كانت كل المحاضرات تأتيها إلى سريرها مع كل ملاحظات الأستاذ وتفاصيل اليوم . كانت وجبة الغداء هى التي تأتيها إلى الحجرة ، على الرغم من مخالفة هذا لقوانين المدينة أو قواعدها . فقد كانت وجبة الغداء تسلم فقط لصاحبة الوجبة ، التي لابد أن تكون حاملة لبون الغداء ، وهو دفتر نتسلمه كل شهر لهذا الغرض . ويمنع منعًا غليظًا خروج الوجبة خارج قاعة الطعام ، خلافًا لوجبة العشاء التي كنا نتسلمهما كل مساء - مع فطور صباح اليوم التالي - ونأخذها إلى حجراتنا . فماذا أفعل وهناك أكثر من عين ورقيب يمنع خروج الغداء ؟ كنت في كل مرة أذهب إلى المطعم لم أكن على ثقة من أنني سأفلح في الحصول على الوجبة لصديقتي . لكن في الحقيقة ، لم أرجع لها مرة دونها ، وأحيانًا مع وجبتي أنا ، حتى نأكل معًا في الحجرة . كنت أعتمد مرة على إنسانية البعض الذي يتفهم الأمر بعد أن أشرحه له ، ومرة بالحيلة والمخالفة إذا ما كان المشرف في هذا اليوم ليس من أهل التقدير والتعاطف. كان طبق الماء والصابون يقدم إليها لتغسل يديها وهى مكانها. وهكذا في كل شيء. أما ذهابها إلى الحمام وقد كان في نهاية الطرقة، فقد استعصى أن أسندها في المشي حتى تبلغه، فجسمها سيتكسر أو ينخلع، وقدماها لا تسعفان تمامًا في المشي ، ففكرت في طريقة لتنقلاتها الضرورية دون إيذاء أو ألم لها. كنت أنقلها وهى جالسة على مقعد ، وأدعو جيراننا أن يحملنها بالمقعد معي. فكانت تذهب بذلك إلى الحمام بسرعة ويسر ودون مشقة عليها. وكنت أستخدم نفس الطريقة وهى ذاهبة إلى المستشفى، كنت أجهزها ثم أترك لجيراننا تنزيلها من المبنى وانتظاري لحين العودة بسيارة أجرة إلى باب المبنى، وفي هذا مخالفة أكبر تفوق كثيرًا مخالفة تسريب وجبة الغداء . أن تدخل سيارة أجرة أو ملاكي إلى داخل سكن البنات فهذه كارثة . لكنني كنت أطيل التفاوض والشرح مع حارس البوابة الرئيسة ، حتى أفلح في الدخول بالسيارة . وكنا نفعل نفس الشيء حين كنا نذهب إلى اختبارات الفصل الدراسي . وكانت هذه السنة هى الوحيدة التي كانت فيها اختبارات العام فصلية ( أى نهاية الفصل الدراسي ) . كانت تجربة لم تكررها الكلية حتى تخرجنا . وكانت السيارة الأجرة تقلنا إلى مبنى الكلية ، ثم أحملها بمساعدة أهل الخير إلى مكان لجنة اختبارها ، ثم أذهب أنا إلى لجنتي ، وكنا نعود بنفس الطريقة . وكانت الاختبارات هى السبب الذي منع صديقتي من السفر إلى أهلها مع بداية ظهور المرض . فقد كانت الاختبارات على الأبواب . وعندما انتهت الاختبارات جاء الموفد الرسمي (خطيبها) بسيارة وأخذها إلى السويس ، ولم تعد إلا بعد انصرام عدة أسابيع من الفصل الدراسي الثاني ، وقد وجدت كل ما فاتها من محاضرات بين يديها . هذا ما يتعلق بتوفير سبل الراحة لصديقتي . أما ما يتعلق بتخفيف المعاناة ، فلم يكن التعب أو المرض هو أكثر ما تعانيه صديقتي أو تتحمله . فقد كنت أدرك تمام الإدراك أن أهم ما يشغلها ويتعبها هو قناعتها بأنها تحملني ما تراه ثقيلًا . كانت تشفق علىّ ، تكشفها عيونها ودموعها قبل كلامها . فرأيت أن تخفيف هذه المعاناة يجب أن يكون هو الهدف الآخر في ذهني . ولم يكن تحقيق هذا الهدف أمرًا عسيرًا ؛ لأنني فعلًا لم أكن أشعر بأى تعب أو مشقة تجاه ما أقوم به معها ، كان أكثر ما يزعجني هو شعورها بأنها أصبحت حملًا وعبئًا على . لذلك وبرغم صدق مشاعري ، زودت جرعة الضحك ومساحة الأجواء المرحة ، فكانت تضحك حتى يوقف الضحك دموعها وهى تنهمر . كنت لا أثير قلقًا وتوترًا حين كنا نحملها مع البنات ، كنت أدفعهم إلى التهريج والمرح ، وكأننا نؤدي لعبة لطيفة ، فكانت صديقتي تستشعر هذه الأجواء المرحة الخفيفة فتوقن أنها ليست حملًا وليست عبئًا ، و أن ما هذا إلا أمر طارئً سيمر . وفعلًا عادت صديقتي بعد بداية الفصل الدراسي الثاني متعافية كثيرًا ، صحيح لم تشف تمامًا ، لكنها كانت قادرة على الحركة .

***

(7)

مع مشكلات السكن الجماعي وسلبياته، كانت المدينة الجامعية مكانًا آمنًا تمامًا ، نستطيع التجول بحرية في حديقتها والمساحات الواسعة صباحًا ومساءً، نهارًا وليلًا. نستطيع أن ننام في حجراتنا دون خوف أو توجس، تستطيع الواحدة منا أن تستيقظ في أى وقت من أوقات الليل، وتسير وحدها في طرقة طويلة حتى تصل إلى حمام الدور الذي يكون في آخر الطرقة بجوار السلم. حمام واسع متعدد الحجرات والأحواض. كان المبنى لا تغلق أنواره ليلًا، تسير فيه تحت أضواء ساطعة. ويمكن أن نلتقي بواحدة أو اثنتين تؤنس الطرقة بذهاب أو عودة من الحمام، كانت الحركة تكثر والإئتناس يعلو في الطرقة، حيث السهر والسمر بين البنات، وتُفتح الحجرات المقابلة بعضها لبعض، فإذا كانت هناك من تغط في نومها وتغلق حجرتها، فإنها تنام في حراسة الأصوات والحركة. كانت جلبة البنات تبث الحياة في الحوائط والأركان وتوقظها معنا في الليل وتبدو كأنها من لحم ودم. كانت الحركة والونس في الليل أكثر منه في النهار . ظل الوضع في المبنى الثاني (مبنى الفرقة الثانية) على تلك الحال حتى سرى كلام قوى بين أرجاء المبنى عن شبح يظهر في الليل، يتجول في الطرقات وفي كل الأدوار. كلام ليس بالهزل ولا المزاح، كلام لم نقنع معه أنه ممكن أن يكون مجرد إشاعة أطلقتها واحدة من البنات. فقد أكدت أكثر من واحدة بصوت جاد وصادق ومرتعد، أنها تسمع الشبح في عز الليل يضحك وينطلق ويعربد ويصدر أصواتًا غير مفهومة . سرى الخوف والرعب مع الكلام حتى جاب المبنى بأكمله وأصبح هو الحدث الأعظم في يومياتنا. حل الرعب محل الأمان والطمأنينة. أصبح الذهاب إلى الحمام وبخاصة ليلًا عملية انتحارية بامتياز، لا تستطيعه واحدة بمفردها. فكنا نذهب إليه قبل النوم في جماعة، حتى في أوقات الصباح أو النهار. ومما زاد الطين بلة أن إدارة المدينة أزمعت قبل انصرام العام الجامعي على تجديد دورات المياه في المبنى، فقامت بتكسير الأرضيات وهدم بعض الحوائط وعزل الكهرباء، وأصبح المكان بالمخلفات والردم والظلام الدامس مكانًا شبه مهجور، يصلح تمامًا أن يكون سكنًا جيدًا للأشباح. ولست أدري ما السبب الذي يدعو الإدارة أن تقوم بعملية التجديد أو الترميم أثناء تواجد البنات خلال العام الدراسي؟! لماذا لا تؤجل هذا العمل إلى الإجازة الصيفية عقب المغادرة؟ّ! لكننا أصبحنا محاصرين بالأمر الواقع، فقد تم هدم دورة المياه إلى آخر العام. وأصبح المكان مثيرًا للخوف حتى لو لم يكن هناك كلام عن وجود شبح، فما بالنا بالجمع بين الاثنين ؟ فبدأنا نربط بين توقيت ظهور الشبح وهدم دورة المياه، فهل خرجوا علينا منها، أم أن الأشباح قد استغلت هذا المكان المهجور وسكنوا فيه؟ وكان نتيجة هذا أن خلت الطرقات تمامًا من الحركة ليلًا، وساد الصمت الرهيب والسكون المستريب، وغلقت أبواب الحجرات . لكن المشكلة الكبرى إذا ما اضطرت واحدة منا إلى الذهاب إلى الحمام ليلًا وحدها، لا تستطيع أن توقظ زميلتها وتقلق راحتها لمجرد مرافقتها. نجح الشبح في أن ينهي يومنا مبكرًا، وأن يخرس أصواتنا، ويكبل حركاتنا, وأبقى لنا مساحة محدودة من الطمأنينة لا تخرج عن حدود باب الحجرة المغلق علينا، مادمنا بالداخل فنحن في أمان.
وذات ليلة صماء خرساء ساكنة نائمة، استيقظتُ على صوت أقدام تتجول في طرقتنا، أنصتُ لوقع الخطوات الواثقة وهى تقترب من باب حجرتي، وأنا أصوب عيني تجاه عقب الباب، في انتظار مرور الشبح ومن ثم الابتعاد والتجاوز، لكنه لم يمض لحال سبيله كما توقعت، فقد توقف عند باب حجرتي، ورأيت ظله يتحرك وهو على بعد متر تقريبًا مني، ثم سمعت صوت تكسير وعملية ما تتم على الباب. لا أستطيع نسيان هذه اللحظات التي كاد قلبي فيها أن يتوقف، كتمت أنفاسي خوفًا من أن يسمعها الشبح ويعرف أنني لست نائمة وأنني أراه، فيخترق الباب متجاوزًا المتر الذي يفصلنا ويدخل إلى ويؤذيني. ولم أستطع الحركة ولا حتى تحريك نظري إلى صديقتي التي كان رأسها مجاورا لرأسي وهى نائمة، وعلى بعد سنتيمترات، وتعجبت كيف عجزتْ يدي عن الحركة لكي أضعها على صديقتي وأوقظها، الخوف والرعب والفزع شلوا حركتي تمامًا. ثم مضى الشبح متجاوزًا الحجرة. ولست أدري كيف قضيت بقية الليل في هذه الأجواء؟ في الصباح قصصت على صديقتي ما حدث، ومن هوله لم تصدق حتى فتحنا باب الحجرة لنخرج، فوجدنا أن الأطباق البلاستيكية التي تحمل آيات من القرآن الكريم، التي جلبتها معي من السويس مكسورة ومتناثرة. كنا نستعين بهذه الأطباق في التبرك والتزين بوضعها على الورق المزركش الذي كنا نكسو به باب الحجرة كعادة بعض البنات في المدينة. فتأكد لنا ما كنا نسمع عن خبر الشبح، فليس من المعقول أن يكون الشبح مجرد بنت تتلاعب بنا، لسببين؛ الأول هو أنها تخاف أن تسير وحدها بين الطرقات والأدوار في هذا الوقت وتقوم بهذه الحركات. والثاني هو توقعها أنه ممكن أن ينكشف أمرها بسهولة إذا ما فكرت وقررت أى حجرة من الحجرات الكثيرة أن تفتح الباب فجأة ولو على سبيل حب الاستطلاع والتثبت من شخصية البنت التي تتلاعب بنا، ومن ثم تعرض نفسها لعقوبة أقلها الفصل من المدينة. وبخاصة أنه كان بيننا بنات فيهن جرأة وقوة. لكن في الحقيقة رغم كل هذا، لم تفكر واحدة منا ولم تجرؤ على فتح باب الحجرة فجأة أثناء تجول سيادة حضرة الشبح .

***

(8)

مضت بنا الأيام أنا وصديقتي في المبنى الثاني دون مخالطة أو اندماج مع جيراننا في الحجرات المجاورة ، ولست أدري هل فرضنا نحن على الواقع عزلتنا أم فرضها هو علينا ؟ فرغم كثرة العدد ، ورغم حرصنا على احترام علاقة الجوار، لم نقترب من أحد اقترابًا يلغي المسافات والخطوط ، فآثرنا الاحتفاظ بخصوصيتنا وثنائيتنا ، ربما فرض علينا هذا قناعتنا بأن منظار الابتعاد يرينا محاسن الناس أكثر من معايبهم ، وأن منظار المخالطة ربما يرينا ما يكشفه المجهر المسلط على خلية الحرباء أو الحدأة . وقناعتنا –أيضًا- بأنه لا يغرينا الدخول في جماعات تبدو متآلفة منسجم بعضها مع بعض ؛ فليس شرطًا أن ما يألفه الآخرون نألفه نحن ، وأن ما يتقبله الآخرون نتقبله نحن ، فكن لنا على سبيل (الطيور على أشكالها تقع ) ، و(أخو الجهالة في الشقاوة ينعم) .
ولم نتعمد الاختلاط الحذر الذي جرى بيننا وبين الحجرة المقابلة لحجرتنا ، فقد تسلل إلينا دون أن نعرف متى ؟ وكيف؟ ولماذا؟ فقد كنا نتشارك أحيانًا الطعام والكلام والضحكات والذهاب إلى الكلية . واحدة منهما من فارسكور محافظة دمياط ، فتاة عادية جدًا في شكلها وسلوكاتها، لكنها جبارة في تسللها إلى قلبك بأريحية المتربع على العرش لا يزحزحه أحد ، بل لا يقدر . أما الثانية فكانت من المنصورة بنتاجها الذي يجسد الأنثى بالملامح الفرنسية المحضة ، لا ظل فيها ولا أثر للملامح المصرية . كانت بيضاء بياضًا مشوبًا بصفرة لا حمرة ، قصيرة جدًا ، نحيفة جدًا ، شعرها ذهبي ناعم يمتد لأكثر من نصف طولها . كان صوتها غريبًا مميزًا ، أخاله حين تتكلم أنه يخرج من أى مكان إلا الحنجرة ، بشيء من التركيز أستطيع تبين أنه ربما كان يخرج من الأنف ، ضحكتها مكتومة ، ابتسامتها عجيبة ، تخالها حين تبتسم أنها على وشك القيام بأحد أعمال الساحرة الشريرة . أراها بمجمل شكلها طفلة دون عمرنا ، وكأنها قد وُضعت بيننا على سبيل الخطأ . والأعجب أنها كانت مخطوبة . كنت أرى أنها لم تبلغ بعد مبلغ الفتاة التي يمكن أن يفكر فيها أحد زوجةً . لكن أحدهم يبدو أنه رأى في شكلها الملون مالم أستطع أنا رؤيته فدعاه إلى خطبتها.
كنت أتعامل وصديقتي معهما سواءً بسواء ، لا نقدم واحدة منهما على الأخرى ، ولا نفضل واحدة منهما على الأخرى ، ولانزيد بينهما أو ننقص في التعامل الودود . كنا لا نشكو شيئاً ولا نعاني شيئًا . حتى بدأنا نستشعر اقتراب الفتاة الدمياطية منا ، وانسحاب المنصورية ، ومضينا ثمت قلنا : لا يعنينا . فربما كان وهمًا ، وربما كانت ثمة أمور خاصة بينهما لا نعرفها .
وفي يوم كنا نجلس في حجرتنا مع الفتاة الدمياطية ، ثم دخلت علينا شريكتها المنصورية تستدعيها ، وأنا وصديقتي غير مباليتين بالأمر تمامًا ، ولا يدفعنا الفضول لمعرفة أى شيء . وفي الوقت نفسه أخذت دورق المياه الفارغ ونزلت إلى الدور الأرضي حيث مبرد المياه ، وحيث التزود بالمياه الباردة المنعشة ، وهذا أمر كنا نتبادله أنا وصديقتي . وفي طريق عودتي إلى الحجرة لمحت الفتاتين تتجاذبان الحديث قرب السلم ، بانفعال مكتوم من الفتاة المنصورية ، وانفعال مكشوف من الفتاة الدمياطية ، وهذا أمر بدا لي عجيبًا ، فعطفت إليهما بابتسامة وبراءة ، وقلت مداعبة وأنا أواصل السير دون توقف :
- الموضوع شكله كبير .
وما كنت أتوقع أنا وصديقتي مطلقًا ما كان يدور في كواليس معيشة الفتاتين ولا نعرف ما أصاب علاقتهما من تطور مضطرب . حتى انفجرت الفتاة الدمياطية وهى تحكي لنا عما كانت تخفيه عنا ، وما عادت تقوى على مداراته أكثر من ذلك . ألقت على مسامعنا عجب العجاب من كلام عن شبكة الحقد والغل التي كانت تتحلق بها شريكتها المنصورية . فقد حكت لنا أنها تغير على شريكتها الدمياطية من تعلقها بي دونها ، وأنني آخذ قدرًا كبيرًا من اهتمامها دونها، فلم تعد – وللعجب- تملكها كما كانت تريد .
عجيب أمر البنات في المدينة الجامعية حين تخطيء الواحدة منهن فهم شراكة الحجرة ، وحين تخطيء فهم التواصل وطبيعة العلاقات .
تحكي لنا وكأنها بركان انفجر بحمم الكتمان . ثم أردفت قائلة أنني حين مررت عليهما منذ قليل بدورق المياه ، اتهمتني غيبًا أنني نزلت من أجل اللحاق بالدمياطية وجعلت من الذهاب بالدورق حجة ليس أكثر . حيث قالت لها :
- إنها لحقت بك لأنها لم تقو على بُعدك ولا تركك لي ولو لحظات .
حكت لنا عن معاناتها مع هذه العقلية المختلة والنفسية المريضة ، وكيف أننا كنا لها مخرجًا ومهربًا منها.
حقًا ، كم تعاني الكثير من البنات في السكن الجماعي ، الذي يجبرهن أحيانًا على معاشرة أضادهن ومن هن لسنا على أشكالهن !!!
بدأتُ أراها- أنا أيضًا- مريضة ، مريضة تستحق الشفقة لا العنف ، فحين انهارت عصبيًا وغادرت الحجرة والمبنى إلى مكان في المدينة للتعافي إلى أخر العام ، ذهبتُ لزيارتها ، في حين رفضتْ الدمياطية التعاطف أو الزيارة ؛ فقد كانت على ثقة من أنها تدعي الانهيار ، وكنت أرى أنا أيضًا ذلك . كنت أراها كما يقولون: كهينة .
ومع اقتراب انتهاء العام الدراسي لم يكن يشغلنا أنا وصديقتي هاجس عن الشريكة الثالثة التي تسكن معنا العام المقبل في مبنى الفرقة الثالثة ذي الحجرات الثلاثية . فلم نخترها ولم تخترنا صراحةً ، لكن كأن اتفاقًا صار بيننا وعهدًا صامتًا سرى ، أنها حتمًا ستكون قدرنا الجميل الذي سيطور من ثنائيتنا ، ويزيد أيامنا في المدينة الجامعية بهاءً نصنع منه ذكريات لا ينقطع أثرها مدى العمر .

***

( 9)

ظل هاجس السكن الآمن يطاردني أنا وصديقتي بداية كل عام ، فعلى الرغم من أننا عرفنا مَن التي ستشاركنا حجرتنا في الفرقة الثالثة ، فقد كان القلق يصاحبنا ؛ لأننا لا نستطيع التأكد من سلامة التنفيذ . فطاردتنا الهواجس مع اقتراب العام الدراسي الجديد. فما الذي يضمن لنا وجود حجرة فارغة تمامًا حتى نسجل فيها أسماءنا لحجزها ؟! أليس من الجائز ألا نجد سوى مكانًا واحدًا فارغًا أو مكانين ؟ حيث نجد من سبقتنا وسجلت اسمها ، ومن ثم يتم شغل الكثير من الأماكن في الحجرات فلا نستطيع الانفراد بحجرة لثلاث، فتفرض علينا إدارة المدينة الجامعية -عندئذٍ - إحداهن وتكون هى ثالثتنا ، أو تفرض على كل واحدة منا اثنتين أخريين من الطالبات فنفترق أنا وصديقتي أيضًا.
هواجس تبدو فارغة لكنها مرعبة لمن يعرف مرارة العيش مع شخصيات غير مناسبة وغير ملائمة ، فهذا جدير أن يفسد علينا كل شيء في أيامنا وليالينا وفي حياتنا الجامعية ، فضلًا عن النكد وتعكير المزاج والتوتر العصبي الذي يمكن أن يصاحبنا طوال العام .
كانت إدارة المدينة الجامعية تسمح قبل بدء العام الدراسي بحجز الحجرة التي نريدها شريطة وجود مكان شاغر فيها ، على أن يتم تدوين الاسم بالقلم الرصاص في دفتر الحجز ، لتوسع من فرص التراجع أو تعديل الرغبات فيما بعد . حتى إذا بدأ العام واستقر أمر الاختيار يتم تحبير الأسماء ولا يمكن التراجع فيها بعد ذلك بسهولة. بكّرتُ أنا وصديقتي في الذهاب إلى المدينة الجامعية قبل بدء العام الدراسي لضمان حرية الاختيار والحجز ، وكنا ننزل في شقة أسرتي الفارغة بالقاهرة لهذا الغرض، وكنا نعود بعدها إلى السويس ؛ لأن المدينة لا تفتح أبوابها للسكن إلا مع بداية الدراسة . ذهبنا بقلق وجزع خشية عدم التوفيق . وظلت الهواجس تلاحقنا حتى بعد تسجيل أسمائنا أنا وصديقتي وشريكتنا التي ظفرنا بها العام السابق؛ لأن الأسماء كانت تدون بالقلم الرصاص ، حيث يسهل التلاعب في تغييرها لأغراض خاصة برغبات باقي الطالبات. ولم نكن نطمئن إلا في بداية العام الدراسي فعليًا ورؤية أسمائنا محبرة وينقضي الأمر .
أقمنا في الفرقة الثالثة بالمبنى السابع بالدور الأرضي ، وكان الدور الأرضي من اختياري أنا . وما حدث في الفرقة الثالثة تكرر بحذافيره في الفرقة الرابعة في مسألة تسجيل رغبات السكن، بخطواته وإجراءاته ورغباته وأهدافه وجزعه وقلقه ، حتى المبنى نفسه تكرر؛ حتى الحجرة تكررت . ذهبنا مبكرًا أنا وصديقتي واخترنا الحجرة نفسها ؛ لأننا كنا قد قضينا فيها مع شريكتنا عامًا سعيدًا هادئًا في الفرقة الثالثة، فأردنا تكرار التجربة الرائعة نفسها. لقد نشأت بيننا وبين الحجرة ألفة تكونت من شدة ارتباطنا وتآلفنا بعضنا ببعض، فرأيناها كأنها من ممتلكاتنا . فكانت حجرتنا في المبنى السابع التي أقمنا فيها عامين على التوالي هى أجمل وأثمن مكانًا يقع في ذاكرتي وذكرياتي .
كانت شريكتنا من محافظة دمياط ، وكنت أسمع عن أهل دمياط الوصف بالبخل ، ومن الأقوال الشائعة عنهم قولهم لضيوفهم :
أجيب لك شاى ولا أنت مش كييف؟ تتعشى ولا تنام خفيف؟
لكن شريكتنا كذّبت دون أن تدري كل هذه الأقاويل ، ونسفت كل ما وصلني من صورة مشوهة متداولة بين أناس آثروا وصم العديد من محافظات مصر بصفات لست أدري على أى أساس وضعوها . وبدأت أدرك في هذه السن أنه ليس كل ما يتداول بين الناس يمكن أن يكون صحيحًا و يمكن التعامل على أساسه .
نعم فقد كانت شريكتنا كريمة جدًا سخية جدًا ؛ سخية في ذوقها ، سخية في صدقها، سخية في محاسن أخلاقها ، سخية في جمال عطائها وبذلها ، سخية في هدوئها . لا أزال أتذكرها حين كانت تعود من دمياط عقب زيارة سريعة ، محملة باللحم الأحمر والسمك المشوي والأرز الأبيض، والأغرب أنها كانت تحمل معها في حقائبها آنية من مرقة اللحم ، فنجتمع على أشهى طعام . كان أبوها يعمل قصابًا – بمستوى متواضع- لديه محل صغير بجوار بيتهم في قريتهم بفارسكور . كانت تظهر قرويتها بشكل واضح للرائي، في شكلها وهيئتها وملابسها ، والأعجب أن ملامحها أيضًا كانت تبدو قروية ، ولست أدري كيف؟ فأنا أعرف أن الشخص رجلًا كان أو امرأة ممكن أن تظهر قرويته في ملابسه ، فى طبيعة شخصيته ، فى عاداته وسلوكاته . أما أن تظهر على ملامح وجهه فهذا عجيب . ومع ذلك لم ينقص هذا – عندي- من جمالها وأنوثتها ورقتها ، فكنت أراها ( هانم ) تفوق من تسكن أرقى أحياء القاهرة . فكثيرًا ما نرى من تركب أفخم السيارات وترتدي أفخر أنواع الثياب ، ومن يبدو شعرها ووجهها لامعًا متأنقاً ، لكن حين تسمعها تتكلم في موقف ما ، تجد مستوى متدنيًا من التربية والأخلاق والذوق . فمقاييس الهوانم ، ومعايير التقييم – عندي- لها كيفية أخرى . فإذا لم تكن شريكتنا هى الهانم فمن تكون إذن ؟!
كنت أراها جميلة ، حتى حين كانت تتعصب في موقف ما ، كنت أراها في أجمل حالاتها وأكثرها براءة ، وكنت أضحك من طريقتها عند تعبيرها عن الغضب . كانت ست بيت ممتازة في الطهى والنظافة وسرعة الحركة والعافية في العمل ، تعلمت منها كيفية عمل أجمل صينية بطاطس ، حيث كانت تضيف إليها بعض قطع الثوم وأعواد الشبت . وإلى الآن لايمكن ألا تأتي على بالي مخلفة ابتسامة حزينة على وجهي حين أطهو صينية البطاطس وأضيف إليها قطع الثوم والشبت .
كانت شريكتنا رغم عشرتنا لثلاث سنوات تهابني وتحترمني وتقدرني ، والأعجب أنها كانت تستحي مني خشية أن تبدو أمامي بأي شيء معيب . حتى أنها بعد تخرجنا اتصلت بي تليفونيًا في السويس ، وأخبرتني أنها في القاهرة لتسلم شهادة التخرج ، لم أكد أسمع صوتها من شدة الخجل والاستحياء . بحثت عنها كثيرًا بعد التخرج ، وبعد أن أخذتني السنون والدنيا لسنوات ، لم أمل البحث عنها . أرسلت مرة لها رسالة بقدر ما تذكرت من عنوان ، وباسمها الثلاثي ، أستحثها على التواصل معي ، وأحث أى إنسان تقع في يده رسالتي أن يشفي صدري بمعلومات تدلني على مكانها . لم أعرف أحدًا من محافظة دمياط إلا وسألته عنها . حتى حين ذهبت إلى دمياط لشراء بعض أثاث بيت الزوجية ، وكان صاحب أحد المعارض يقلنا بسيارته الخاصة من الجيزة إلى دمياط ، ومررنا بدمياط ، وقرى دمياط ، وتنسمت عبير هواء ربما حمل أنفاسها، وكأنها تطل علىّ من إحدى المنازل ، لم تشغلني فرحة انتقاء أثاث بيتي الجديد عن أن أسأل عنها صاحب المعرض ، لكن لا الوقت ولا الظروف كانت لتمهلني لأنزل وأبحث عنها . وكثيرًا ما أتساءل بيني وبين نفسي : كيف مضت بها السنون والحياة ؟ هل صارت زوجة ؟ إنها ستكون أجمل زوجة .هل صارت أمًا ؟ إنها ستكون أجمل أم . هل رزقها الله زوجًا استطاع أن يرى جمالها وجمال صفاتها ؟ هل تمتع بطيب عشرتها أم وقع نصيبها في أحد العميان ؟
سلمت حبيبتي أينما كنت .

***

(10)

كنت في مرحلة ما قبل الجامعة ، تحديدًا منذ ارتدائي الخمار والجلباب في الصف الثاني الإعدادي ، كثيرة الذهاب إلى المسجد ، لصلاة الجمعة والعيدين وحضور الندوات وغير ذلك ، حتى تعلق قلبي تمامًا بكل تعاليم الإسلام وشريعته من عبادات ومقاصد ، شكلًا ومضمونًا.
ودخلت الجامعة دون أن أبتعد عن هذا النهج قيد أنملة ، بل زاد بالقراءة والتأمل وسلامة القلب والفطرة بفضل الله تعالى ، زدت في المظهر بارتداء الإسدال ، وفي المضمون بالتزام العبادات والتعامل الطيب مع من حولي ، مهما كان اختلافهم عن نهجي؛ لأن هذا في ذاته من صميم مقاصد الشريعة الإسلامية . كنت في الكلية والمدينة الجامعية معروفة بهذا الالتزام . أصلي بالبنات - أحيانًا - وبخاصة صلاة الفجر في ردهة المبني . وصليت بهن مرة في يوم من أيام شهر رمضان المبارك ، حيث تم اختياري لإمامة صلاة الفجر في إحدى ساحات المدينة بحضور جمع كبير من البنات ، وكان يومًا رائعًا لي ، وذكرى طيبة . وكنت أحتفي بالليالي المباركة ، ففي مرة - مثلًا – دعوت بنات المبنى للاحتفاء بليلة النصف من شعبان في ركن من الأركان بتوزيع بعض المشروبات وقراءة القرآن وقيام الليل .
وذات ليلة من ليالينا في المدينة ، نما إلى أسماع البنات في حجراتهن صوت إحداهن وهى تغني لأم كلثوم من الأطلال:
وانتبهنا بعد ما زال الرحيق ، وأفقنا ليت أنا لا نفيق
يقظةٌ طاحت بأحلام الكرى ، وتولى الليلُ ، والليُل صديق
وإذا النورُ نذيرٌ طالعٌ ، وإذا الفجرُ مطلٌ كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها ، وإذا الأحباب كلٌ في طريق
إلى أخر القصيدة .
حتى إذا ما طار الصوت محلقًا في المكان ، خرجن إلى الطرقة لمعرفة مصدر الصوت والغناء ، وتتبعن الصوت حتى وصلن إلى حجرتي ، ففوجئن بأن التي تغني هى أنا . وعرفت بعدها أن كل واحدة كانت حين تسأل تخبرها الأخرى بأن التي تغني هى فلانة ، فتسرع إلى حجرتي ، وتجمعن حتى امتلأت ، وظل البعض يتوافد حتى ازدحمن خارج الحجرة . تعلو وجوههن ابتسامة إعجاب وتعجب في آن واحد . لكن في الحقيقة لم يصدر من أى واحدة منهن أى امتعاض أو اعتراض أو استنكار أو رفض لكون التي تغني لأم كلثوم هى نفسها التي يعرفن فيها التدين والالتزام . وتكرر الأمر مرات ومرات لكن دون تعجب .
نعم كنت أغني أحيانًا في نشوة الراحة النفسية التي كانت تهيمن علينا في حجرتنا مع صديقتي وشريكتنا.
كنت قد بدأت أدندن لنفسي فاستحسنتا الفتاتان صوتي ، ثم بدأت صديقتي تطلب مني الغناء. فأحيانًا كنت أغني بصوت لا يكاد يخرج عن حدود الحجرة ، لكن هذا ما كان يوافقني دائمًا ولا يوافق صوتي الذي كان قَدْرُ الطرب والنغم فيه يتطلب التحرر والانطلاق.
أنا لست محترفة، ولا أفضل الغناء إلا لنفسي، ولا أدعي أن صوتي جميل، لكني أطرب لصوتي، فتطرب نفسي . ففيه على أية حال نغمة مطربة لا تخطئها الأذن ، وبخاصة حين ينطلق الصوت مخترقًا حدود مكاني.
قالت لي إحداهن ببشاشة وابتسامة رائقة، حين كنت أدندن وأنا أقف على أحد الأحواض أغسل بعض أدوات الأكل :
- إن صوتك جميل مثل صورتك .
لقد أعجب صوتي أم كلثوم- نفسها - حين كنت في حجرتي مرة منذ سنوات قليلة مضت ، أدندن -بانسجام -مقطعًا من أغنيتها (هجرتك) :
وصبحت بين عقلي وقلبي تايه حيران
أقول لروحي من غلبي انس النسيان
وعندما فرغتُ نظرتُ من شرفتي ، فوجدتُ الست تطل علىّ من الشرفة المقابلة ، بنظارتها وغطاء رأسها ، وابتسامة . ترفع يدها ملوحة لي بتحية الاستحسان . نعم لقد حدث ذلك ، حدث في منامٍ لم أفهم معناه إلى الآن.
أتذكر حين كنت في الصف الأول الإعدادي في حصة الموسيقى ، طلب منا مدرس الموسيقى ترديد نشيد : بلادي بلادي . وكان المدرس كفيفًا وصوته رخيمًا ، يشبه – حين يغني- فخامة صوت العود ورخامته، فقمت مع باقي الطالبات بتنفيذ ما طلب. وكان يمر بيننا متابعًا، فوجدته يقف عندي ويسألني عن اسمي ، ويطلب مني ترديد النشيد بشكل منفرد . وبعد أن غنيت النشيد أثنى على صوتي وقال أن به رنة مطربة للأذن . لكني لم أنشغل بهذا الرأى.
أنا أميل إلى الطرب، لا الغناء ، ولا ترتبط الدندنة عندي و( السلطنة ) بوقت فرح أو وقت حزن ، لكن حين تتملكني حالة طارئة تلح علىّ بأحد الجمل الطربية لا أستطيع الإفلات منها ، وهى حالة تحتاج إلى شيء من الراحة والعافية تسري في البدن , فالغناء - عامة - يحتاج إلى عافية . وقتها ينطلق صوتي في أى مكان وفي أى وقت .
كانت صديقتي تطلب مني –أحيانًا- مقاطع معينة تحب أن تسمعها. والحالة التي كانت تطرأ على صديقتي وتدعوها إلى طلب الاستماع ،غير مرتبطة أيضًا بحالتي الحزن أو الفرح لديها ، ولا كانت تختار وفق حالتها العاطفية . فقد كانت- مثلًا - رغم سعادتها مع خطيبها تطلب الاستماع إلى أغنية شادية ( آخر ليلة ) وهى أغنية حزينة تتحدث عن الفراق .
ظلت هذه الحالة مصاحبة لي منذ مولدها في المدينة الجامعية .
ولا أزال على تلك الحالة إلى الآن ...أدندن وأطرب لصوتي .

***

(11)

السخان . وما أدراك ما السخان ؟ وماذا كان يعني لطلاب المدينة الجامعية أيامنا ؟ هو الذي يقوم مقام البوتجاز المستخدم في البيت ، لكن الفارق بينهما هو نفس الفارق بين السلحفاة والأرنب في مسابقات الجري . هو عبارة عن قاعدة حجرية في حجم الطبق الصغير ، تعلوها دوائر موضوعة بشكل حلزوني ، يلتف معها سلك ، فإذا أردنا تشغيله أوصلناه بالكهرباء ، فيبدأ السلك في الاحمرار شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى درجة السخونة المطلوبة . وعندما نضع عليه براد الشاي ننتظر شربه حوالي نصف الساعة ، هذا إذا سلمه الله وأتم العملية بنجاح . فقد كان في الأغلب يصيبه عطل ، وأحيانًا يفرقع في وجوهنا ، ونصاب بالكدر لأننا لن نتمكن من شرب الشاي بعد وجبة الفطور أو الغداء . وكنا إذا أصابه عطل خفيف أصلحناه بأنفسنا ، أما إذا أصابه الشلل التام ، فلا نيأس منه ، كنا نذهب به إلى عامل الكهرباء في المدينة لإصلاحه ، فإما نعود به فرحين ؛ لأننا سنشرب أخيرًا الشاى ، أو نعود بمراسم جنائزية حين يخبرنا عامل الكهرباء بأنه قد انتهى أمره ، فنعود بخيبة وحسرة على عدم إتمام الحالة المزاجية العليا التي يمنحنا إياها كوب الشاى .
وكنا نستخدمه -أيضًا- في تسخين اللانشون الذي كنا نتسلمه لوجبتي العشاء والفطور ، حيث نقوم بتحميره في السمن ؛ لأنه عبارة عن لحم نيء ولابد من تعريضه للتسخين ، وأيضًا لكي يصير طعمه سائغًا . وكنا نستخدمه -كذلك- في تسخين الفول ، ونتحمل البطء الشديد في مجرد التسخين . وأكثر من هذه الاستخدامات الخفيفة لم نكن نستخدمه ، لأن طاقته لا تتحمل. فلم نكن نرهقه ، بل كان هو الذي يرهقنا .
كنا ننوع في السخانات عند تجديد الشراء ، فنضحي بمبلغ أكبر لشراء سخان أكبر أو أكثر جودة أو سخان بسطح من الاستانلس بديلًا للسلك . لكن في كل الأحوال كنا نصل إلى نفس النهايات المؤسفة.
رحلة طويلة من العذاب قضيناها مع رفيق الدرب (السخان) . لكنه كان رفيقًا غادرًا خائنًا للعيش والملح والشاى . مما جعلني أعلن حالة العصيان والتمرد والرفض لهذا السخان المتعب ، وأحضرت بداية من الفرقة الثالثة بوتجاز شعلة ، كان لدينا في بيتنا الكائن بالقاهرة . من وقتها تغيرت يومياتنا ، وانتعش مزاجنا ، وانتقلنا نقلة كبرى وعظيمة ، فقد صار الشاي يغلي في دقيقة واحدة ، وكنا نستخدمه استخدامًا واسعًا ، كنا نطبخ عليه صينية البطاطس ، والأرز ، وكل ما نريد من أصناف الطعام . ولم يعكر مزاجنا عطل أو فرقعة أو تباطؤ .أدخلته خلسة من إدارة المدينة التي كانت تحظر استخدام الغاز ، حرصًا على سلامة الطالبات والمباني ، لكني كنت أرى أنه ليس هناك ما يمنعنا من استعماله مع الحرص والحذر . وأنه إذا كانت إدارة المدينة محقة تماماً في وضع المحاذير للسلامة ، فإن الأمر ليس بهذه الخطورة . كنا نخرجه خلسة من البوابة في حقيبة سفر لكي نملأه من سوق الجيزة بالغاز كلما نفد ، كنا نملأه بالتناوب . وكل مرة كنا نضحك من الطريقة البوليسية المريبة التي كنا نخرج بها البوتجاز أو ندخله إلى المدينة .
ظل احتساء الشاي عقب وجبتي الفطور والغداء عادة ملازمة لي إلى الآن ، لا أزيد عن كوبين في اليوم إلا فيما ندر، وليس من عادتي شرب الشاى أو القهوة ليلًا؛ لأنه يحول دون النوم المبكر والهاديء . وعلى الرغم من المحاذير الصحية والطبية التي تمنع تناول الشاى عقب الأكل مباشرة، وعلى الرغم من الاعتراضات التي يقابلني بها الآن أولادي أحياناً حين أفعل هذا، فإني في الحقيقة لا ألتزم مطلقًا بهذا الأمر ، وأقدم بأريحية وقناعة شديدة الحالة المزاجية على الناحية الطبية ؛ لأن في رأيي أن الصحة نفسها تتطلب سلامة المزاج لا سلامة المعدة . وأنا تعجبني كلمة (ديل كارنيجي) التي تقول: (إن ألم المعدة لا يأتي مما تأكله ، بل مما يأكلك ). فاعتدال المزاج والراحة النفسية هما أساس الصحة والعافية لا غير، وأكثر فائدة للجسم من الاحتفاظ بالبروتين والحديد وخلافه من ألوان الفيتامينات .
حدث أن مرضت في فترة الامتحانات بالفرقة الرابعة ، ولم أعلم السبب إلى الآن. هل مرضت لأني امتنعت تمامًا عن أكل الفراخ البيضاء التي كانت تُقدم لنا في وجبة الغداء في المدينة ، عقب انتشار هوجة الهرمونات التي تحقن بها الفراخ ، فانخفضت بذلك نسبة البروتين في جسمي ؟ أم هو نظرة حاسدة من المراقب الذي كان يقف بالقرب مني في لجنة الاختبار ، يتأمل ورقتي المنظمة ، المحبرة بالإجابات التي تبدو واثقة الخطى ، والذي أخذ يقلب فيها ، ويثني على ، ويسألني عن بلدي وعن عمل الوالد ، ثم يدعو بالتوفيق ؟ لست أدري ، لكنني تعبت على أثرها ، وأكملت الامتحانات وأنا لا أقوى على الوقوف أو الحركة، يعلو وجهي الشحوب والسمرة، ويبدو كأنني خرجت للتو من المقبرة. لكني أدين بالفضل لهذا المرض، فقد أنقذني في اختبار مقرر من المقررات كنت –لولاه- سأخسر الكثير من الدرجات، وكان سيحول هذا دون تعييني في الجامعة . كان مقرر الأدب الحديث . أديت الاختبار بشكل يرضيني، وجئت عند آخر سؤال في ورقة الأسئلة ، فوجدت أن الدكتور قد سأل عن مسألة جوابها من عشر نقاط. كتبت وكتبت وكتبت، حتى إذا ما اقتربت النقاط من الانتهاء قل العزم في استيفاء النقاط الأخيرة. وهذا طبيعي ، لأن في مثل هذه الحالة الإيجاز يكون مناسبًا أكثر. ثم وضعت القلم للاستراحة قليلًا فقد داهمني مغص شديد و أمسكت بطني من الألم ، وأنا أتوجع : آه ...أه ...أثناء هذا التوقف وقعت عيني على السؤال ذي العشر نقاط ، لأتفاجأ أنني قد فهمته خطأ ، فالدكتور يطلب أساسًا النقطة العاشرة فقط . وعلينا إذن استيفاؤها تمامًا وحدها ودون إيجاز . فنسيت الألم ووجدت انتباهًا يسري في ذهني ، وبسرعة قمت بعمل اللازم في السؤال . خرجت من اللجنة لأتفاجأ بأن الدفعة كلها متجمهرة متذمرة من طريقة صياغة الدكتور المخادعة الملتوية في السؤال ، والذي أخطأ أغلبهم فهمه ، ومن ثم سيخسرون درجة السؤال ؛ لأنهم كتبوا النقاط التسع ولم يوفوا النقطة الأخيرة (المطلوبة) حقها .
تأملت المشهد ، وتعجبت وقتها من الموقف وما حدث لي ، فقد كان المغص والألم سببًا في اجتيازى الاختبار بتفوق ، ومن ثم تم تعييني في الكلية .
فالمحن حين يشاء الله يحولها إلى منح .

***

(12)

صديقتي . نعم صديقتي ، رغم كل من كُنّ معي وحولي هى فقط التي أصفها بالصديقة ؛ لأسباب كثيرة أعرفها ولا أعرفها ، أدركها ولا أدركها . فهى التي عرفتُها منذ أيامي الأولى في المدينة ، فتكون بهذا أكثر من صاحبتني منهن. وهى – أيضًا- تشبهني في الكثير من الصفات . تلقائية ، تتحدث على سجيتها ، فلا تقلب في الكلام - مداهنةً - قبل أن تقذفه على لسانها ، لا تتدخل فيما لا يعنيها ، لا تؤذي أحدًا ولا تحقد على أحد . أحلامها وأمنياتها و تطلعاتها لا تتعدى حدود حاجتها ، فلا تزن نفسها بالأخريات ، ولا تضع نفسها في مقارنة مع الأخريات ، لا يهمها من تقدمت ومن تأخرت ، من نجحت ومن لم تنجح ، من حققت شيئًا ومن لم تحقق . تركز في حياتها هى فحسب ، تضع لكل مرحلة في حياتها سلمًا من الطموح وتسعى بجد وعزم في ارتقائه . ضحكتها من القلب وغضبها من القلب . كنت أكتشف مع الوقت أننا نرى البعض بنفس المنظار ، و أن لنا فيهن نفس الرأي. تحب المرح جدًا ولا يخرجها إلى الضيق والغيظ إلا اصطدامها بأفعال الخبثاء واللئام من الناس ، ممن يظلم أو يمشي بالفتنة والوقيعة ، ممن يدعي البراءة وهو ملوث ، ممن يلبس ثوب الملاك وهو شيطان . هنا فقط يتبدل حالها.
وما عدا ذلك كل شيء يرضيها وأى شيء يكفيها.
صديقتي . نعم صديقتي ، فهى التي أحبتني لذاتي ودون أي مصلحة ، أحبتني كما لم يحبني أحد . كنت أحس بصدق مشاعرها حين تفرح لفرحي ، وتألم لما قد يؤلمني ، ولا تقصر في دفعه عني . مخلصة غاية الإخلاص ، صادقة غاية الصدق ، نقية غاية النقاء . هونت عليّ أيام غربتي ، ولَطَفَ بي ربي بوجودها رِفقتي وصحبتي. كان التعامل بيننا سلسًا لا عُقَدَ فيه ولا تعقيد ، لا كدر ولا تكدير . ما أجمل أن يرافقك من ترتاح إلى جواره ، بل من تأمنه على روحك وقلبك ونفسك وأيامك وتفاصيلك .
كانت صديقتي تحب مصاحبتي و صحبتي ، كنا نذهب إلى الكلية معًا ونعود معًا ، نقضي في الحجرة أوقاتنا معًا . كنا نسافر إلى بلدتنا معًا ونعود معًا ؛ لذلك لم ترض صديقتي أن تفرقنا المحاضرات ، حيث كانت الفرقة الدراسية تنقسم إلى عددٍ من الشُعب حسب ترتيب الأسماء ، فتختلف مواعيد المحاضرات والسكاشن تبعًا لذلك . فلا يمكنها – كما لم يمكن لغيرها- الانتظام في جدول يخص شعبة أخرى ؛ لأن هذا يؤدي إلى تعارض وخلل وبخاصة في السكاشن.
نعم لم ترض صديقتي أن تفرقنا المحاضرات ، فماذا كانت تفعل ؟ كانت تقوم بدراسة دقيقة وبحث عميق في جداول محاضرات الشُعب كلها ؛ لكي توفق مواعيد محاضرات تجمعنا . وكانت كل عام تستغرق الشهر الأول من الدراسة في إنجاز هذه المهمة ، فكنا نراها طوال الوقت في الكلية والمدينة الجامعية ، ممسكة بالأجندة والقلم الفرنساوى منهمكة في توفيق المحاضرات ، حريصة أشد الحرص على اغتنام أكبر عدد ممكن من المحاضرات التي تجمعنا . ولم تطلب مني مرة تحريك أي موعد لمحاضرة تخصني في جدولي ، كانت هى فقط التي تحرك محاضراتها . وعندما كنا نراها في هذا الانهماك أقول مازحة : إنها تذاكر ، تذاكر جدول . حتى صار هذا عادة و إجراءً ثابتًا لها بداية كل عام . تودعني بحزن في المحاضرة التي نفترق فيها ، وتقابلني بفرحة وسرور في المحاضرة التي تجمعنا . كنت أراها تطل من بعيد وعلى وجهها الطفولي أجمل ابتسامة ، كأنها لم ترني منذ زمن بعيد.
فكيف لا تكون الصديقة هى فحسب؟!

***

(13)

جمعتني أنا وصديقتي الكثير من الذكريات التي لا تُنسى والمواقف المضحكة التي ما إن نتذكرها معًا أو نحكيها لأحد إلى الآن تأخذنا نوبة من الضحك الهستيري.
من أبرز هذه الذكريات ما يتعلق بمحاضرات مقرر (علم الأصوات) في الفرقة الثالثة . فلا أظن أنني وصديقتي استفدنا أو حتى سمعنا معلومة واحدة طوال العام ؛ لسبب واحد ، هو أننا كنا بمجرد دخولنا المدرج وجلوسنا على المقعد يأخذنا نوم عميق ، فلا نستيقظ إلا على أصوات حركة الطلاب ووقع أقدامهم على الأرض الخشبية عند مغادرتهم المدرج عقب انتهاء المحاضرة . كنا ننام على الرغم من أن هذه المحاضرة هى المحاضرة الأولى في جدول اليوم ، وعلى الرغم من الازدحام نتيجة الأعداد الرهيبة للطلاب ، وعلى الرغم من التزامنا وحرصنا على المحاضرات ، واحترامنا المكان ومراعاة السلوكات الطيبة .
لم يكن سبب النوم الذي كان يهبط علينا أن المدرج كان في البدروم حيث الأجواء الهادئة ، أو طبيعة المقرر المملة والمعقدة ، حيث كان يُعنى بتشريح الجهاز التنفسى بالرسم التوضيحي لمعرفة مخارج الأصوات ، والتي كنت أرى أنه يناسب كلية الطب أكثر ، ولم يكن السبب –أيضًا- أداء الدكتور وصوته الحنون الهاديء المتزن ، الذي كان يجلب الاسترخاء الممهد للنوم ، لم يكن كل هذا فحسب ، لكن كان بسبب طبق الفول الذي كنت أنا وصديقتي نحرص على التهامه قبل الذهاب إلى الكلية في هذا اليوم من كل أسبوع . كل المحاضرات في كليتنا كانت تبدأ من الساعة الثامنة ، فكنا - وكل البنات - ننصرف في وقت واحد ، وفي عجلة من أمرنا ، لذلك كان فطورنا خفيفًا سريعًا ، ثم نهرول إلى الجامعة . لكن في هذا اليوم تحديدًا كانت المحاضرة الأولى لي ولصديقتي متأخرة عن أقراننا ساعة ، فكنا نحرص على عمل وجبة فطور محترمة ، على رأسها طبقٌ شهيٌ من الفول بالطماطم والبصل ، وأنا أعشق الفول . نأكله بتمعن وتأنٍ وتمتعٍ ، ثم نشرب الشاى على مهل كأننا في إجازة ، ثم نمضي إلى الكلية في كامل النشاط والحيوية والانطلاق والروقان .
ولست أدري أين كان يختفي هذا النشاط ؟! وأين كانت تذهب هذه الحيوية فور دخول الدكتور وشروعه في المحاضرة ؟! فقد كنا نتوسد ذراعينا بوضعهما على الدرج ، و يبدو أن كوب الشاي لم يكن يجدي شيئًا أو يصمد أمام طبق الفول بالبصل.
ومن عجب أن النوم كان يهبط عليّ أنا وصديقتي في نفس اللحظة ، ونفيق منه في نفس اللحظة ، لتنظر الواحدة منا إلى الأخرى ، فترى احمرار العينين والوجه من أثر الاستغراق في النوم . ولم نكن نعلم سبب الإحساس بالضيق الذي كان ينتابنا وقت الإفاقة، هل هو لوم النفس وتأنيبها لارتكاب مثل هذا السلوك الغريب علينا ، والذي تضيع بسببه المحاضرة ؟ أم بسبب إزعاج الطلاب بأصوات حركتهم أثناء انصرافهم ، مما يجعلنا نستيقظ في عز النوم ولم نأخذ كفايتنا منه؟
بعد خروجنا من هذا المدرج المسكون بأشباح النوم ونحن نترنح من بقايا سطوته ، نرتقي السلم لندخل محاضرة الصرف والعروض للأستاذ القدير (رحمه الله) المعروف بخفة ظله وأجواء المرح التي يشرح فيها ، لتدب اليقظة والنشاط في الذهن والبدن ، ثم تبقى معنا حالة اليقظة والانتباه إلى آخر اليوم .
حتى إذا ما أتى يوم هذه المحاضرة من الأسبوع التالي ، تكرر نفس الموقف بتفاصيله . كل مرة كنا نلوم أنفسنا و نأخذ عهدًا غليظًا عليها ألا ننام في المحاضرة المقبلة . فكنا – لا محالة - ننام وفي نفس اللحظة .
حاولنا كثيرًا إيجاد حل جذري وصارم يضمن عدم تكرار الأمر، لكن دون جدوى. أكثر من مرة نذهب إلى المحاضرة بتحدٍ معلن وصريح للنوم ، عاقدين العزم على التمسك باليقظة باختيار المقاعد الأمامية مثلًا . ولو كان بأيدينا لقعدنا في الصفوف الأولى في مواجهة الأستاذ عسى أن يمنعنا الحياء أو الخوف من النوم ، لكن كان يتعذر هذا مع تزاحم الطلاب عند دخول المدرج ، فلا يمكننا إلا تقريب المكان بقدر الاستطاعة ، ولا فائدة فقد كنا ننام أيضًا . مرة أخرى ندخل بنفس العزم والإصرار بنية التركيز تركيزًا شديدًا مع الدكتور محاولين الفرار من النوم بالاندماج مع ما يقول ، كنا نبحلق بالنظر ونرفع الجفن ونشده لنمنعه من الإطباق. لكن ونحن على هذه الوضعية من محاولات التركيز واليقظة المفتعلة ، كان فجأة وفي ظروف غامضة يختفي كل شيء، يختفي الدكتور بالطلاب بالمدرج بكل ما حولنا ، ولا نكتشف أننا وقعنا - كالمعتاد - في براثن النوم إلا مع وقع أقدام الطلاب على الأرض عند انتهاء المحاضرة .
كنا كل أسبوع نشرع في حل جديد أو مخرج من هذه الحالة ، لكننا في الحقيقة ما اقتربت محاولاتنا مرة واحدة من الامتناع أو التنازل عن التهام طبق الفول بالبصل.

***

(14)

رغم آواصر المحبة والتقارب والتوافق التي جمعتني بصديقتي و شريكتنا الدمياطية وغيرهما ، استطاعت كل منا الاحتفاظ بكيانها وسمات شخصيتها وتفردها . فلم تفرض إحدانا على الأخرى أي طابع يخصها ، لا في الميول ولا العادات ولا الاهتمامات ، ولا في طعام أو شراب . ولم تحاول استمالة الأخرى إلى ما يتفق معها . و في رأيي أنه ليس ثمة تناقض بين الاثنين ، بل إن هذا هو عين التوافق والانسجام. فقد احتفظت كل منا بعالمها الخاص بما فيه من أحلام وآمال وتطلعات. ولم تنشغل إحدانا بانتزاع الأخرى من عالمها وإدماجها في عالمها هي .
فلم تشاركاني – مثلًا - حب القراءة ، وشغف ابتياع الكتب سواء من معارض الكلية أو من أمام سور الجامعة ، حيث كان من الممكن أن أفني مصروفي في سبيل اقتنائها . كنت دائمًا أثناء خروجنا من باب الجامعة أمر على بائع الكتب الذي يفترش الرصيف ، أبدأ بالطواف بعيني سريعًا على الكتب المرصوصة أثناء المضي، استرق النظر إلى العناوين والأغلفة ، ثم أُبطئ المسير لتعلق عيني بأحدها ، ثم أقرر الشراء . كان هذا المشهد يتكرر كثيرًا ، حتى أنهما كانتا تمسكان بي لتمنعاني عن مجرد مطالعة العناوين ؛ لأنهما تعرفان النتيجة ، وهي تدمير مصروفي . وكنت أعذرهما في منعي من هذا التهور ، حتى أنني اقترحت – مرة - أن نغير الطريق تجنبًا لوقوعي في حبائل الشراء.
ذات يوم دعتني صديقتي إلى مشاهدة حلقة من مسلسل (ليالي الحلمية) ، وكانت قد شاهدت بعض حلقاته في إحدى سفرياتها إلى السويس وأعجبها ، وأرادت استكمال متابعته في المدينة ، حيث كان العرض الأول له ، وحيث كان في حجرة (الدادة) تلفاز مسموح لنا بمشاهدته . نزلتُ على رغبتها وذهبتُ معها ، لأجد الحجرة ممتلئة بالبنات ، زحام وجلوس عشوائي ، لم استرح لمنظر التجمع ولا هيئة البنات في الجلوس ، ثم اتخذت أنا وصديقتي مكانًا وبدأنا المتابعة . فلم تعجبني الحلقة ولا المسلسل ، صحيح أنا متابعة جيدة لأعمال الكاتب أسامة أنور عكاشة الدرامية، لكن حين يكتب أعمالًا ذات طابع عاطفي أو إنساني أو فلسفي ؛ مثل مسلسل (الحب وأشياء أخرى) و (سفر الأحلام ) و( رحلة السيد أبي العلا البشري) و(ضمير أبلة حكمت) وغيرها على نفس الشاكلة . لكن نوعية المسلسلات التي تروي حواديت وقصصًا متعددة ومتداخلة ، ليس فيها من غرض سوى سرد الحدوتة فلا تجذبني . لا أميل إلى الحكايات الشعبية ، ولا قصص الحارات والفهلوية ، ولا العوالم ، ولا الوجوه التي تشبه وجوه السوابق و البلطجية. فلم يجذبني (سليم البدري) وقصصه مع (نازك السلحدار )، ولا لعبة القط والفار بينه وبين العمدة (سليمان غانم ) ، ولا سوقية ( سماسم العالمة ) وصبيتها (حمدية).
لم أسخف -وقتها - من ذوق صديقتي في نوعية المسلسلات ، ولم أظهر أى استياء من ذلك ، لكني اكتفيت بعدم معاودة المتابعة مرة أخرى ، وظلت هي تذهب وحدها كل ليلة . وتمر الأيام والسنون ليكون هذا المسلسل أيقونة الدراما المصرية ، يتابعه بشغف جمهور عريض . عرفت وقتها أن ذوق صديقتي يوافق ذوق الكثير من المصريين من محبي هذه النوعية الملحمية من الدراما المصرية . أما أنا فعلى الرغم من كل هذا ، وعلى الرغم من متابعتي الأجزاء الثلاثة من المسلسل بعد مرور سنوات لم أستطع الانجذاب إليه أو الإعجاب به ، أو معاودة مشاهدة أى مشهد منه . وكذلك مسلسل ( أرابيسك) ، هذا على الرغم من تصريح الممثل (صلاح السعدني ) أن هذين المسلسلين هما أهم أعماله وأحبها إليه.
أنا تجذبني نوعية من المسلسلات لا أجد كثيرين يشاركونني الانجذاب إليها ، وأحيانًا أشعر أنه لا يشاهدها أحد غيري؛ ليس لسبب سوى أنها ليست على شاكلة مسلسل (ليالي الحلمية). وكما كانت صديقتي تذهب وحدها لتشاهد مسلسلها، كنت أذهب أنا وحدي إلى حجرة (الدادة) لأشاهد مسلسل من النوعية التي تجذبني ، لم أرغم صديقتي على مصاحبتي في المشاهدة كما لم ترغمني هي على مصاحبتها ومشاركتها مشاهدة مسلسلها، ولم تغير هى ذوقها ولو على سبيل مصاحبتي كما كانت تحب ، كانت تفضل البقاء في حجرتنا لقضاء أعمال أخرى ، فلم تشاركني المشاهدة ولا أحد من البنات ، كانت حجرة (الدادة) أثناء عرض هذا المسلسل خالية إلا مني ، و كان هذا يروق لي ؛ لأني لا أحب الضجيج ولا قطع استرسال المتابعة والتأمل . أتذكر هذا المسلسل و اسمه ( الموج والصخر) . بطلته صاحبة وجه جميل وحضور رقيق يملأ شاشة التلفاز نورًا حين تطل به . الممثلة (نسرين) من الوجوه التي تجعلنا نشمئز و ننفر من كل الوجوه الممسوخة التي نشاهدها الآن على التلفاز . ومن المصادفات اللطيفة أن البطلة كانت طالبة مقيمة في بيت للطالبات ، مما ألقى بظلال من التلاقي والتشابه في الأجواء المحيطة بي وقتها. يتناول هذا المسلسل قصة واحدة ، وموضوع واحد ومحدد ، يتغلغل داخل النفس البشرية ، يستكشف دقائق الخير والشر ، الحب والحقد ، النفعية وحب الذات بتدمير الآخر . يستعرض الحقد الدفين داخل شخصية البطل ، وكيف يتسلل إلى أهل البراءة والحب والخير ليقنعهم أنه منهم ، ثم ينكشف أنه يستهدف تدميرهم من حيث لا يعلمون لمجرد الشعور بالانتصار . في هذا السرد والطرح النفسي لقصص أناس تملؤهم الغيرة والحقد يعيشون معنا وحولنا وبيننا ، كنت أستوعب بتأمل حركة الشخصيات والأحداث ، في حكاية ليس الغرض منها الحكي ، بل هى تجربة إنسانية ؛ خلاصتها إن هناك من أهل الشر والحقد من يكون قويًا بشره ، يهزم ويهدم من يشاء من أهل الخير بمهارة وتمكن في غفلة من الآخر المنخدع فيه ، والذي كان يجب عليه الحرص والتنبه لهذه النوعية الثعبانية ، فيصمد أمامها صمود الصخور أمام الأمواج ، تهزمها وتكسرها مهما كانت قوتها . وما أكثرهم في حياتنا .
لم تفرض إحدانا على الأخرى ذوقها ، ولم تحاول استمالتها ولا مناقشتها ، لكن كنت أنا وصديقتي نذهب –دون شريكتنا الدمياطية التي كانت لا تميل ميلنا، ودون سائر البنات أيضًا- لنتابع – معًا- مسلسلًا كوميديًا ، نقضي وقتًا من الضحك والترويح ثم نعود.
كذلك لم تشاركاني الاستماع إلى الراديو الذي بدأ ارتباطي به في هذه المرحلة ، فقد كان عهدهما به لا يتعدى الاستماع إلى صوت الشيخ محمد رفعت وهو يرفع آذان المغرب في شهر رمضان المبارك، ونحن نفترش الأرض حول مائدة الإفطار، ثم نتابع مسلسل إذاعة الشرق الأوسط . أتذكر أننا استمعنا في شهر رمضان خلال سنتين متتاليتين إلى مسلسل ( أفواه وأرانب ) و مسلسل(الصبر في الملاحات) قبل تحويلهما إلي أفلام سينمائية .
أما أنا فقد كان الراديو صاحبي في الليل حيث الهدوء والسكون والتأمل . كما قال الشاعر جبران خليل جبران : (سكن الليلُ ، وفي ثوب السكون تختبي الأحلام ) و اكتشفت مع مرور السنين أنني كائن ليلي .
كان لي في أغلب الليالي وقت مخصص أسهره وحدي مع الراديو والكتاب الذي أقرأه على مكتبي في ضوء مصباح بجانبي ، وبصوت خفيض لا يزعج شريكاتيّ أثناء نومهما. أتابع ما يعرض من مواد إذاعية . نقلني الراديو إلى عالم آخر من السحر والجمال والأنس ، ظل معي إلى ما بعد المدينة الجامعية ، فرافقني في سكني في بيت الأسرة بالقاهرة بعد التخرج واستلام العمل بالجامعة والصحافة . فنَمت ذائقتي وأذني على برامج الصباح ، والأصوات الإذاعية المميزة التي كانت تقدم عبر البرامج وجبات سريعة ممتعة . والإذاعة أقرب إلى نفسي من التلفاز ، على الرغم من أن المشاهدة بالعين تغلب الاستماع بالأذن . وقد يقارب رأيي هذا قول الشاعر الكفيف بشار بن برد:
يا قوم ، أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وفي تجاربي الحالية مع برامج التلفاز والإذاعة التي تستضيفني أحيانًا، أُقدم شأن الإذاعة على التلفاز وأحسب له أكبر الحساب والتحسب ، حيث يتاح لك أمام الكاميرا مالا يتاح لك أمام الميكروفون ، فقد يتنازع المُشاهِدَ الصوتُ والصورةُ معًا ، فيتمدد الضيف على راحته في الكلام والحديث ، أما في الإذاعة فيقع التركيز على الصوت فقط بلا منازع ، فيرهف المستمع السمع ، ويكاد يتسلم الكلام حرفًا حرفًا ، لا يتقبل اللحن في النطق ولا يستسيغ الإسفاف ولا الهنات . ففي الإذاعة دقة من المتحدث في الكلام تقابل دقة من المستمع في الإنصات .
هكذا مضت بنا الأيام في حالة من التعايش والهدوء ، يجمعنا احترام خصوصية الآخر ، ولا يفرقنا تباين الأذواق والاهتمامات .
وللحديث بقية ...

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...