محمد مستجاب - الوصية الحادية عشرة...

توقفت الشمس في منتصف السماء تماما، ولقد حاولت أن أعي ما حولي ولكن ظروفا كثيرة كانت تعرقل فهمي.. إلا، أن كل ذلك لم يمنع نظري من التسلل إلى الاتساع المذهل للعالم الفسيح، باحة أو صالة أو ملعب روماني كان المنظر أمامي، ولقد همست لي أمی بأن كل هذه الجبال التي تحيط بالباحة أو الصالة أو الملعب الروماني لم تكن شاهقة من قبل كما هي شاهقة الآن، لقد كانت الشمس يا بني تلعب مع النجوم دونما ننظر إلى ليل أو نهار.

ولكن - وأشارت - لقد ارتفعت الجبال تحجرت خلفها النجوم، وصلب الأشرار الشمس في صدر السماء، وتحولت هذه الباحة المذهلة الاتساع إلى خراب أصغر مزعج تعلن خلاله خفافيش سوداء محزنة وكأنها بيت من بيوت مختار شلقامي.

وعندما تهاوی نظري من السماء بدأت ألمح -صاحبنا- الذي حدثوني عنه من قبل، في شمال الباحة المذهلة الاتساع كان هو - لا يزال - جالسا، ليس بالتحديد - جالسا - وإنما مربوط على مقعد قديم (1)، نوع من الحبال القديمة المتماسكة يلف صاحبنا في مقعده ويثبته به ويصنع منها كتلة واحدة، والأغرب من ذلك أن المقعد - بمن عليه - قد ثبت في الأرض بمسامير حديدية صدئة، مسامير غليظة منفرة يوشك تداخل ظلها أن يرسم على الأرض طرقا ووديانا، ولقد أزعجني أن صاحبنا لم يكن يتحرك، وقالت لي أمي أنها لا تدري إن كان نائما أو متناوما، ولكنه بالتأكيد لم يكن - مثلا - ميتا.

ولقد جاءت أيام طويلة على صاحبنا لم يكن هناك سواه، ولكني، استطعت أن ألمح على البعد آخرين غيره، لم تكن لديهم مقاعد، إنما يتحركون، وعندما ركزت نظري عليهم اتضح لي أنهم ليسوا فقط يتحركون بل إن شفاههم فقط يسل وأذرعهم وأفخاذهم، هم يرقصون ويثرثرون ويتشاجرون ويتخاطفون أشياء ويتبادلون كلمات بذيئة وقصائد شعرية ويحتسون مشروبات لا لون لها، عالم غريب بدأ يملا الساحة ويدوس على رمالها مما أزعج أمي، الكل يصطدم بالكل، والأقدام تخبط في الأقدام، والألفاظ تلتئم في الأفواه، والغبار يثور من بين الأقدام والملابس تتساقط على الأرض - ولقد ضغطت علی نفسي کی لا أصرح فإن واحدا منهم أنا متأكد أنني رايته قبل الآن يبيع صورا عارية في حواري القاهرة - تقدم من صاحبنا النائم أو المتناوم والمثبت على مقعده، وإذ بالصمت يغمر الكل قلنا لك لا تحاول.. إن أي حركة منك تعني أن يصطدم رأسك بالسكين فتمزقك.. وعاد إلى باقي الناس حيث تحطم الصمت وتحول إلى كتل من الضوضاء، الرقص والثرثرة والاصطدام والكلمات البذيئة والخبط على الأجهزة، والعواء ، والضحكات والغبار .. ولقد حاول صاحبنا أن يتحرك، وحاول قبل أن يتحرك أن يفتح عينيه، وحاول أن يؤرجح ذاكرته إلى الخلف وأن يتذكر عالمه الخاص "سوسن" وهي تطل من البلكونه في فجر كل يوم عندما كان يملك حبيبته، عالمه وعالمهما المندمجان معا ليتحولا إلى دقائق صغيرة متوترة من الأمل والشوق والصدق والبراءة، حيث تزح بعد ذلك ليجلس جلسته، ولتتحول "سوسن" إلى ارتباكات تملأ كل عالم.

(1) قالت أمي أن هذا المقعد كان مزخرفا بتمائم قديمة وآيات قرآنية وأدعية ذهبية ورسومات إعجازية، ولكني سراحة لم أقترب بشكل ألمس فيه ذلك.


أغسطس 1969م
أعلى