سلامة موسي - شخصيات عرفتها : مى زيادة

ومن الشخصيات الفذة التي عرفتُها قبل الحرب الكبرى الأولى شخصية الأديبة الكبيرة مي. وقد بقينا صديقين إلى يوم وفاتها عقب عودتها من مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. ولم تكن مي جميلة ولكنها كانت «حلوة». وكانت تعرف الآداب الإنجليزية والفرنسية، وتقرأ كثيرًا وتقف على الاتجاهات العصرية في أوروبا وأمريكا والشرق. وكانت أيضًا متمدنة من حيث اكتمال وسائل التمدُّن في المعيشة. وكان تمدُّنها وثقافتها يكسوان وجهها وتعبيرها ظرفًا ورقة. وقد استطاعت مي أن تجعل احتراف الأدب عند الفتاة المصرية والسورية زينة أنثوية لا استرجالًا كريهًا. وكانت — في حياة أبويها — تعقد بمنزلها اجتماعات «صالونية» حيث يكون السياسي والأديب والوجيه بعض ضيوفها. وكانت تشترك في جميع المناقشات بل كانت أحيانًا تديرها. وقد تنبه ذكاؤها كثيرًا لاختلاطها بهؤلاء الضيوف. ولم يكن هناك موضوع تعجز عن الاشتراك في معالجته. وتفعل كل ذلك في رقة وجمال وتمدُّن. ومات أبوها فلم يتأثر «الصالون»، ولكن عقب وفاة والدتها تزعزعت مي. ولم يكن ذلك — في ظني — لحزنها على والدتها التي ماتت بعد أن أسنَّت وبعد أن كان موتها منتظرًا. وإن كانت الفرقة بين الأم وابنتها قد تركت أثرها، وخاصة عندما نعرف أن مي لم تتزوج، وأن رفقتها لأمها كانت تعزيها. وليس من السهل على فتاة أن تجد نفسها يومًا ما وهي منفردة مقطوعة في منزلها، وخاصة في وسط — مهما قلنا إنه متمدن — لا يزال شرقيًّا.

على أني أظن أن السبب للتزعزع النفسي الذي أصاب مي كان انتقالها الفسيولوجي من الشباب إلى الكهولة. وهذا الانتقال كثيرًا ما يُخِلُّ بالاتزان الفسيولوجي عند بعض النسوة، وقد ماتت مي منذ أكثر من سنتين بعد سنوات قضتها في مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. ولما عادت زرتها مع صديقي الأستاذ أسعد حسني، وفتحت هي لنا الباب. فرأيت شخصًا لا أعرفه، رأيت سيدة بيضاء الشعر كأنها في السبعين. فسدرت عيني، فغمزني أسعد وهمس: الآنسة مي! الآنسة مي! فسلمت وتضاحكت. ولكنها هي أدركت كل شيء واستولى عليَّ اكتئاب وخجل وجمود وارتسمت في ذهني صورة لعذاب النفس الذي لَقِيَتْهُ هذه المسكينة في مرضها. ولكن سرعان ما زال عني الاكتئاب والخجل والجمود؛ إذ شملني أسف. فإن مي قعدت إلينا وشرعت تقص علينا ما قاسته في المستشفى وكيف ألبسوها «الجاكتة» التي تمنع العربدة عند المجانين، وكيف أضربت هي عن الطعام، ثم — وهنا الأسف والحزن — كانت وهي تروي لنا ما وقع لها وكيف أن أدباء مصر نسُوها وتركوها ولم يسألوا عنها، كانت تضحك مرة وتبكي أخرى، وتكرر هذا منها كثيرًا. وأدركت أنها لا تزال في حاجة إلى المستشفى.
وزاد اعتقادي هذا عندما أصرت على أنه كان لها أقرباء ينوون خطفها من القاهرة، وكانت تذكر أسماءهم وأنهم كانوا يتربصون بها في مكان تعينه، وكانت هي مضطرة إلى المرور بهذا المكان.
وخرجنا نحن الاثنين ونحن في أسف وغَمٍّ لهذه الحال التي كانت عليها مي. ولكن أسفي أنا كان مزدوجًا؛ فإني بقيت طوال المساء وأنا أفكِّر في جمودي وكيف أني لم أتنبَّه عندما رأيتها بالباب فأحييها تحية اشتياق وتقدير وأنها لا بد قد عرفت من جمودي أنها قد تغيرت، وأن جمالها وحلاوتها وظرفها ورقتها قد زالت. وملأتني هذه الخواطر مرارة بل كراهة لنفسي.
فلما كان اليوم التالي قصدت إلى منزلها وأنا طوال الطريق أستعد للقاء أرجو أن أقشع به غمامة الأمس. وهو مع ذلك لقاء لفتاة مريضة مزعزعة. فلما فتحت لي الباب عانقتها في حنان صادق وحب مصطنع.
وتراجعت هي وتأملت وجهي في ابتسام وانشراح واضحين وهي تقول: «مرسي، مرسي يا أستاذ!»
وشعرت أني كفَّرت عن جمودي بالأمس. وقعدت معها وأنا أتحدث في نشاط ومرح. ولكنها عادت إلى البكاء والضحك. فكانت دموعها تنهمر بالبكاء ثم بعد لحظات تتشنج بالضحك. وبعد أسابيع ماتت؛ إذ لم تطق هذه الدنيا التي رافقتها أكثر من ثلاثين سنة وهي تتلألأ فيها بالشباب والجمال، ثم عادت فتركتها منفردة في شيخوختها بلا جمال وبلا تلألؤ.
ومخلفات مي الأدبية كثيرة، ولكنها كانت في حديثها أبرع وأذكى مما كانت في جميع ما كتبت. وكنت أقول لها إن السبب لتفوق حديثها على مقالاتها ومؤلفاتها أنها شرقية تخاف في الكتابة أن تبوح بكل ما تفكر فيه ولكن هذا الخوف يزول عنها في الحديث. وقد صدمتني ذات مرة بملحوظة جعلتني أفكر، هي قولها: «إن مبالغتك في التفاؤل هي في صميمها وأصلها مبالغة في التشاؤم.» وأحيانًا أظن أنها كانت صادقة، كما أنها هي أيضًا كانت مثلي متفائلة ذلك التفاؤل الذي يخفي التشاؤم ويضمره.
وقد يسأل القارئ هنا: لِمَ لم تتزوج مي مع جمالها وثقافتها؟ فالجواب أنها كانت تعيش في وسط شرقي. ولو كانت مي قد نشأت في برلين أو باريس أو لندن لوجدت الكثيرين ممن ينشدون الشرف والسعادة بالزواج منها، والفخر والمجد بالتصاق تاريخهم بتاريخها. ولكن إخواننا اللبنانيين — على الرغم من عصريتهم — لا يزالون شرقيين، ولم يستطيعوا أن يسيغوا زوجة تستقبل ضيوفها في صالون أدبي له حرية الصالونات الأوروبية في المناقشة والاختلاط. وبكلمة أخرى أقول: إن مي عاشت عمرها قبل ميعادها بخمسين سنة.


من كتاب تربية سلامة موسي
أعلى