مقتطف مصطفى الحاج حسين - مزح كردي... من رواية: (بين أنياب الموت)

بلغ عدد عناصر دورة الأغرار، التي أنا منها إلى ما يقارب الأربعمائة فرد، وكنّا بعد حصة، درس الرّياضة، الذي ننفذه، ونحن بكامل بذلاتنا العسكريّة،وأبواطنا السّوداء الضّخمة، ولكن.. كان مسموح لنا، والحقّ يقال،أن لا نضع على رؤوسنا الحليقة (السّيدارة)، التي يغطس كامل الرأس بها.. كنّا نهرع لإستلام الفطور، المؤلّف من الزّيتون، ومربّى المشمش المهروس، وقطعتين من مثلّثات الجبنة
، واللبنة الشّديدة الحموضة، وكأس من الشّاي الفاتر، مغليّ في نقرة يطفو فوقها الدّسم، ليكتمل غذاء أجسادنا.. وكان علينا أن نتناول فطورنا بسرعة، لنقوم بحلق ذقوننا.. وهذا واجب يوميّ
وقسريّ، ويعاقب كلّ من لا يحلق ذقنه،
بشكلّ نظيف وكامل، والويل كلّ الويل،
لمن تكون عنده شعرة واحدة من ذقنه، تكون نابذة.. ثمّ نلتفت (للبويا) حيث ندهن أبواطنا العسكريّة، ثمّ نقوم بتلميعها، بشكل قويّ وواضح، وكلّ من لا يفعل هذا،سيتعرض لأقسى العقوبات
، ومن بعدها، نهرع إلى الإجتماع الصْباحيْ.. كلّ في مجموعته، ورتله، ومكانه.. وأيضا الويل لمن يخربط، في مكانه، أو يتوه، عن جماعته.. نترادف.. ونقف باستعداد، وكلّ منّا ينظر في نقرة، رأس الذي يقف أمامه.. وبعدها يتقدّم عرّيف الصّفّ، ويصرخ بقوّة، وحزم، وعنفوان:
- انتبه.
فنجمد في أماكننا، نكاد ألّا نتنفس.. فينظر من أمام كلّ رتل، ويعطي أوامره
، لمن يقف بشكلّ غير مستقيم، ليعدّل من وقفته، وبعد ذلك يصرخ بنا:
- دورة الأغرار.. رتلاً ترادف.
نترادف.. تمتدّ أيدينا اليمنى، تلامس كتف من يقف أمامنا، من الزّملاء.. يأتينا الصّوت الجهوري والقويّ:
- آسبل..
فنأسبل.. بشكل سريع، وخاطف.. ويزعق، بصوت يشقّ عنان السّماء:
- استارح.
فنتراخى بعض الشّيء.. ليأمرنا:
- استاعد.
نخبط أبواطنا على الأرض بقوّة.. إلى أن نثير الغبار.. وبحركة سريعة من عرّيف الصّفّ، يستدير إلى الخلف، ويأدّي التّحية العسكريّة، بعنف، وقوّة، وصلابة.. لمن هو أعلى مرتبة منه، صارخاً، وتكون أوداجه منتفخة:
- دورة الأغرار.. جاهزة سيّدي الملازم.
ويأتي دور الملازم، ليكرّر ذات الحركات
، ثمّ يقدّم الدّورة، إلى الأعلى رتبة منه.. وهكذا (دواليك)، إلى أن تنتهي هذه التْمثيليّة اليوميّة، إلى الرّائد الرّكن، قائد دورتنا.. الذي يهتف:
- أمّة عربيّة واحدة.. ذات رسالة خالدة.
فنردّد خلفه.. الشّعار، بقوّة، وبأعلى ما عندنا من طاقة صوت.. فيكمل سيادة الرّائد، وبذات الزّخم:
- أهدافنا.
وعلى الفور نجيبه:
- وحدة.. حرّيّة.. إشتراكيّة.
واليوم.. وكما جرت العادة، كنّا نتأهّب، ونستعدّ، ونتجهّز للإجتماع الصّباحي المقدس.. وقبل وصول أحد من المسؤولين.. وقف زميلنا (حكمت)، وكان يشاركني خيمتي.. وهو يتميز بالمرح، وفي براعته بألقاء النّكتة، وحبّه الشّديد للمزاح وللدعابة، وهو من أخوتنا (الأكرد)، حيث كان نطقه للعربيّة ثقيلاً.. وقف (حكمت) هذا، على رأس الدّورة، واتّخذ دور المسؤول.. وصاح:
- أمّةٌ كرديّة واحدة.
كان هناك بعض من لم يسمع جيداً، هتاف (حكمت)، فردّدوا خلفه:
- ذات رسالة خالدة.
لكن معظم أفراد الدّورة، لم يشاركوا بالتّرديد خلفه.. بل كانت المفاجئة على معظمنا، كبيرة.
وفي هذه اللحظة، وصل إلينا الملازم أوّل (خضر).. فصاح على الفور،
وبصوت يسكنه الغضب:
- أنت.. يا عسكري.. توقّف.. تعال إلى هنا.
زلزلت الأرض.. اهتزّت السّماء.. تيبّس شجر المعسكر.. سقطت أوراقه.. ولم تجرؤ الرّيح، على الإقتراب لحملها، وتنظيف التّراب.. من دموعها.. آهٍ لقد جنى (حكمت) على نفسه، أوقع حاله في ورطة، ما لها قرار.. نعم.. فقد كان الملازم أوّل (خضر)، هو المسؤول الأمنيّ، عن دورة الأغرار.
وجاؤوا البقيّة، من السّادة المسؤولين، وتحلّقوا حول الملازم أوّل (خضر)، و(حكمت)، الذي اقترب منه.. ويسأله الرّائد، عن الأمر:
- سيّدي.. هذا الكلب، هتف لوحدة (الأكراد)!!.
يهزّ قائد الدّورة رأسه، ويقول دعونا ننتهي، من ترديد الشّعار الصّباحي.
فيطلب الملازم أوّل، من (حكمت) أن يقف جانباً، وألّا يشارك بترديد الشّعار.
وقف (حكمت)، قريباً من تجمّعنا، ببذلته العسكريّة المضحكة، بسبب قِدمها، واتّساعها على جسده الممتلئ، وكان شاحب الوجه، يرتعش بشدّة، رغم حرارة الشّمس الحارقة.
وبعد ترديد الشّعار المقدّس، اقترب الرّائد، نظر إلى (حكمت)، تأمّله جيداً، ومشى بعد أن قال له:
- غبي.
أمرنا الملازم أوّل (خضر)، أن نشكّل صندوقاً مفتوحاً، من أجسادنا، وسط الباحة التّرابيّة، ذات العشب اليابس، والمليئ بالشْوك.. بينما انفضّوا عنّه زملائه الضّباط، ظلّوا فقط عناصر صفّ
الضّباط.
أمر الملازم أوّل، من يحضر له، كبلاً رباعيّاً، وفلقة من خشب غليظ وحشن، ذات حبل متين، أغلظ من اصبع الإبهام
.. ودفع بيده القوّية، (حكمت) الذي وقع من تلقاء نفسه، على الأرض، ثمّ نادى على إثنين، ليرفعان له قدميه، ويمسكانهما.. و(حكمت) بصوته المخنوق، يهتف:
- سيّدي.. سيّدي.. أنا كنت أمزح.. مع رفاقي.
وصاح الملازم أوّل (خضر)، بصوت لا داع أن يكون هكذا عالياً، إلى هذه الدرجة:
- كنت تمزح يا قرد؟!.. والله لأجعلك تنسى المزح والضّحك.. ابن القحبة تريد أن يتوحّد (الأكراد)؟!.. ويكون لهم وطن واحد يجمعهم؟!.. مثل وطن اليهود؟!.. يا كلب.. يا حقير.. يا (منيك)
.. يا خائن!!.. لعنة الله عليك، وعلى أبوك الذي خلّفك.
وكان الكبل الرّباعي الأسود، ينهال على قدميَّ (حكمت)، الذي يتوجّع بضراوةٍ، ويحاول إخراجهما من الفلق، الملتفّ على قدميه، مثل الأفعى، والشّخصان
اللذان يمسكان بالفلق، كانا يشدّانه بقوّة حتّى لا يقعان، أو تملص قدميه منه.
- يا سيّدي..دخيلك.. أبوس رجليك أعفي عنّي.. أنا أخطأت، ومنك السّماح يا سيّدي.. كرامة لله، وإلى سيدنا محمد.. ياسيّدي أنا شاب يتيم،استشهد أبي في حرب (تشرين)، واستشهد عمّي بحرب (حزيران)، وقتل أخي بأحداث (الإخوان المسلمين)، منذ أشهر.. وأنا المعيل الأكبر، لأمّي ولأخوتي الصّغار.. وإن كنت لا تصدقني، إذهب إلى (القامشلي) واسأل عنّي.
كلّ هذا الكلام، ولم يشفع (لحكمت)، صراخه، ولا توجّعه، ولا تأوّهه، أو توسّلاته، أو وترجّيه، ولا بكاءه الحاد، أو دمعه الغزير ، والدّم المتفجّر من قدميه، وغياب الوعي عنه، وإغماءه، وإشرافه على الموت.
كانت عدد الضّربات، التي تلّقاها بواسطة الكبل، على قدميه مائة وعشرين ضربة، أنا قمت بعدّها.. هذا دون أن أقوم، بعدّ الضّربات، التي كانت تأتي على جوانبه، أو بطنه، أو وجهه، أو كتفيه، أو رأسه، أو ظهره، أو على خصيتيه، أو فمه، أو، أو، أو.
كنت، ومعظم الزّملاء، في الدّورة، نبكي بلا دمع، بلعنا دمعنا، من شدّة خوفنا، كنّا نتألّم، ونتوجّع، ونتضرّع لله أن يتوقّف عن معاقبته.. لكن من دون جدوى.. وحين أغمي على (حكمت) وفقد وعيه.. طلب الملازم أوّل، إحضار ماء من الخزّان الموجود في السّاحة.
وبعد أن رشوه بالماء، حتى استعاد (حكمت) وعيه.. أخذ الملازم أوّل
(خضر)، المرهق، والمتعب، واللاهث، والمتعرّق، والمحمرّ الوجه، والسّاخط، والغاضب، والحاقد، يخطب فينا، موجهاً كلامه إلى (حكمت)، الذي فاق من غشيّته، وهو معفّر بدمه، المتدفّق من فمه وأنفه، والمنبعث من قدميه المحمرتين، والمتورّمتين:
- بدل أن يشكرنا، هذا الكلب، الخائن لأنَّنا، تركناه هو وأهله، وأبناء جلدته، يعيشون فوق تراب،هذا الوطن العظيم، وكان تعاملنا معهم، معاملة أخويّة، وفي منتهى الطّيبة والإنسانية، سمحنا لهم بدخول مدارسنا، وفتحنا لهم دروب المعرفة والعلم، وتمّ تعينهم في أكبر المؤسّسات،والشّركات، وقبلناهم رفاقاً في (حزب البعث)، وأفرعة الأمن، والشّرطة، وسمحنا لهم شرف، أن يخدموا معنا، في الجيش العربي السّوري ، ويريد هذا السّافل، أن يعيش في دولة (كرديّة) مستقلّة!!.. إنّه والله يستحق الموت، على قذارة فكره، الإنفصالي، والعنصري، والمتخلّف.. وأنا لن أسمح عنه.. ولن أسامحه.. فمن منكم يريد مسامحته؟!.. إن كان فيكم أحد يشفق عليه، ويطالب بمسامحته، فليرفع يده، ويخبرني، قولوا لي.. لا تخافوا، من منكم، عنده مثل هذه الشّجاعة؟!.. قولوا.. ارفعوا أياديكم، فأنتم في أمان.
لم يرفع يده منا أحد، ظللنا جامدين، واقفين تحت أشعة الشّمس، نحترق بصمت وصبر.
تذكّرت صديقي (مصباح) الكردي، المثقّف، والمفكّر، وقلت في داخلي:
- معك حق صديقي،أن تؤمن بالشّوعيّة
وصاح الملازم أوّل (خضر):
كم (كردياً) عندنا، في دورة الأغرار بيننا؟.. تعالوا إلى هنا.. اطلعوا، وانصفّوا أمامي.
خرج إليه عدد ليس بالقليل، يزيد عن الخمسة عشر شخصاً، أدّوا له التّحيّة العسكريّة، ووقفوا أمامه، قرب
(حكمت).
سألهم بتهكّم.. هل أنتم أيضا مثله، يا خنازير؟!.. جاوبوني بشجاعة.. هل يسمح لكم خيالكم، بالتّفكير، أو في الحلم، أن يتمرّد، وأن يثور، وأن يفكر بإنشاء وطن موحد، كما فعلوا اليهود؟!.
لم يرد منهم أحد.. ظلّوا على صمتهم.
قال لهم:
- أليس (صلاح الدّين الأيّوبي) بأفضل واحد منكم؟!.. لماذا لم يفكر بتأسيس دولة كرديّة؟!.. هل تعرفون لماذا.. أنا أقول لكم.. لأنّ (صلاح الدّين الأيوبي)،
كان يفضّل أن ينتسب للعرب، لأنّ في هذا مصلحته، ومصلحت أهله.
- والآن.. من كان منكم، من يخالف، هذا الحشرة الرّأي.. فليأتي، وليبصق عليه، ويركله بقدمه.
ثمّ حدّق بهم بقوّة.. وزعق:
- هيا يا كلاب.. نفّذوا أوامري.
كان الصّفّ ضبّاط، واقفين بلا حركة تصدر عنهم، يتفرّجون مثلهم مثلنا..
يطرقون بنظراتهم نحو الأرض.
ببطء، وخوف، وحذر، وتردّد، وعلى استحياء منهم.. تقدّموا برتلهم، نحو (حكمت)، الرّاقد على الأرض.. وبدأ أوّلهم بالبصاق عليه، ومن ثمّ بركله في
خاصرته.. فصاح به الملازم أوّل:
- أبصق بقوّة يا حيوان.. واجعل بصقتك كبيرة، تغسل له وجهه.. ثمّ لتكن رفستك، مثل رفسة (الجحش)، عنيفة تبعج له خاصرته.. ومن سيعمل بغير هذا.. قسماً لأضعه إلى جواره، وأطلب من الجميع، البصاق عليه ورفسه أيضاً.. هيا أعد ما أمرتك به.. ونفذ.
جاء (حاجب) قائد الدّورة، أخذ التّحيّة
للملازم أوّل، وقال:
- سيّدي.. سيادة الرّائد (عاطف)، أرسلتي أناديك.
حينَ ذهب الملازم أوّل (خضر)، اقتربوا
من (حكمت) عناصر الصّفّ ضبّاط، وأخذوا يتأسّفون عليه، ويلومونه على فعلته، بقولهم:
- الله يصلحك.. ماذا فعلت بنفسك؟!.. هذا الملازم أوّل، هو ضابط أمن الدّورة، وأنت أوّل، من وقع تحت يديه، يريد أن بؤدب الدّورة بك.. ادعو ربك، ألّا يسلّمك للمخابرات العسكريّة.
عندما عاد سيادة الملازم أوّل (خضر)،
عاد إلينا صمتُنا أيضاً وخوفنا، كما ابتعدوا، عناصر صفّ الضّباط، من جانب (مدحت)، الذي ما زال الوجع عالقا به، ولم يبرح جسده، نظر إلينا بعدوانيّة، مريعة ثمّ أشار إليّ بيده، قائلا:
- تقدْم.. نحوي شاعرنا الألمعي.. فأنت مثقف هذه الدّورة الغبيِّة.
خرجت من بين الصّفوف،وقلبي مرتمي منّي على العشب الجاف، وحلقي طافح بالمرارة والتّراب.. دنوت منه، وأدّيت له التّحية، بتلعثم، وارتجاف.
- شاعرنا الفذّ.. شاعر عروبتنا المجيدة، أريدك أن تنشدنا شعراً، على هذا الخائن
الكلب.
قلت باضطراب ودهشة:
- أنا سيّدي؟!.
- نعم أنت.. كم شاعراً عندنا، في هذه الدّورة؟!.. هل يوجد غيرك؟.
تضاعف خوفي، وارتباكي، وقلقي وحيرتي.. فهمست مستغرباً:
- ماذا أقول سيّدي؟!.. أنا أكتب قصائد
عن الحبّ فقط.. ولا أجيد غير ذلك.
هتف.. بفرحة وسعادة.. وكانت بسمته قد بدأت تخطر، على شفتيه:
- عظيم.. هذا ما أريده منك الآن.. أنظم
لي قصيدة عن الحبّ.. حبّ الجندي لوطنه.. ولقائد هذا الوطن المبارك.. ليسمعها هذا الخائن.. الإنفصالي.
أنا في قمة دهشتي، في ذروة ارتباكي،
في أعلى درجات الخوف، في مرتفعات
موتي.. رباه!!.. هل سينقلب الدّور عليّ؟
ماذا أفعل؟!.. ماذا أقول؟!.. من ينقذني
من هذه الورطة؟!.
- سيْدي.. أرجوك.. أنا لا يمكنني أن أقول شعراً، في هذه الحالة.. أنا في غاية الحزن والألم، على زميل لي أخطأ
، أراد أن يمزح كعادته.. لكنّه أخفق، وورّط نفسه بمشكلة، لم يكن يقصدها.
صعق الملازم أوّل، من كلامي هذا،
الذي لا أعرف من أين انبثق، وخرج من
فمي، المقطّب بمسلْة الخرس.
- ماذا تقول يا شاعرنا؟!..أتدافع عن رفيقك؟!.. أأنت متعاطف معه إذاً؟!.. وأنا الذي كنت أظنّك، أكثر واحداً من بين رفاقك، غاضباً من هذا الحقير!.
- سيّدي.. أنا لست متعاطفاً معه.. ولكنّي أشفقَ عليه، من ورطة، أوقع نفسه بها، وهو يظن نفسه، يمزح.
لم يعد بإمكان الملازم أوّل، أن يستمع إليّ ويحاورني.. بدا عليه الإزعاج، والغضب، ونفاذ الصْبر.. فصرخ:
- أقسم بالله.. إن لم تقل لنا قصيدة، سأضعك جنبه، وتنال منا ما سيناله، من حفل تكريميّ.. هيا اشحن قريحتك وأسمعنا.. وتعال إلى هنا.. لتقف أمام جميع رفاقك.
قلت بنزق اليائس، والمحكوم عليه بالإعدام، وأنا أرمق حكمت المدمى الوجه والقدمين:
- لكن يا سيدي.. لم يحدث أن أجبر شاعر على قول الشعر، في وقت تخونه
الكلمات!.
صاح:
- هذا إنذار أخير مني لك.. اقترب إلى هنا.
خرجت مرغماً من بين الصّفوف، وذهبت لأقف قربه لمواجهة الجميع.. وتذكّرت يوم أجبرني ذاك الضّابط، عند مفرق بيتي، في (صلاح الدّين)، عند سور الحديقة.. على تأليف مقطع شعري، في مديح السّيد الرئيس.. وبدأت أحاول تذكر ذلك المقطع، لأتلوه الآن، مدّعياً أنّني إرتجلته الآن.. ولكن كيف سأتذكره، وأنا لم أحتفظ به؟!.. ولم أكتبه على دفتر أشعاري.. لأنِّي لا أعترف به، وأخجل أن أقوله أمام أحداً،
ولهذا ظلّ سراً، بيني وبين نفسي.
كانت عيون الجميع تنظر إليّ، بما فيهم
ضبْاط الصّفّ، و(حكمت) أيضاً.. وعلى رأسهم الملازم أوّل، الذي ملّ من انتظاره لي.. وفجأة، برقت في ذهني جملة شعريّة.. فأشرت بيدي إلى الأرض المتشقّقة من شدّة العطش، وقلت:
- بدمي كتبتُ عنّها
وملأتُ الدّفاتر
بدمي أصنها
من كلّ ريح غادر
أحمي حمى حماها
وأردي نفسي بالمخاطر
أنا العربي الثّائر
أنا البعثيّ القادر
مهما أغووني بالنّفط
لن أتاجر
ومهما حاصروني
لن أهاجر
حركة التّصحيح صنع يدانا
والتّصحيح غنوة كلّ شاعر
حافظ لا يستكين
لا يهاب الجرح
ولا السْكين
وإن تكالب الطّغاة
بالتّكاثر
سيبقى صدره بالنّصر عامر
يهتفُ النّصر
أو المقابر
ومن خلفه كلّ الشّعب
ثائر
يجزل الدْم
وفي سبيله
لا يهمه الموت
ولا فداحة الخسائر
حافظ سيّد الوطن
والوطن بعطائه
زفّ لنا أعظم البشائر.
موجة قَويّة، من التّصفيق الحاد، باغتتني، وأرعبتني.. وارتسمت على وجه الملازم أوّل ابتسامة بحجم شوك الأرض.. وكذلك كان التّصفيق عالياً، من جهة ضبّاط الصّفّ، وحتّى نظرات (حكمت) الباكية، كان فيها بريق ولمعان.
سأحتقر نفسي كثيراً، وأبصق على ذاتي مطوّلاً، وألعن موهبة الشّعر مدى العمر.. يا الهي!!.. أنا أنافق رغماً عنّي.. يا خجلي منك يا صديقي (مصباح).. ويا (حكمت).. ويا وطني.
قال الملازم أوّل، وهو بعد، فاغر فمه بالإبتسام، ونظرات السْرور:
- أحسنت يا شاعرنا (شادي).. لك منّي أجمل هديّة.. فطلب ما تريد.
قلت.. وقد سنحت لي الفرصة.. عساني أستطيع، مسامحة نفسي:
- سيّدي.. إن سمحت لي.. عندي طلب واحد.. لو تكرّمت.
قال، وقد إلتفّ حولنا ضبّاط الصّفّ، اللذين غمروني بنظرات الإعجاب:
- تفضّل شاعرنا.. ما هو طلبك؟.
قلت بجرأة:
- (حكمت) سيّدي.. أرجو منك أن تسامحه، وتعفو عنه.

مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول


* من رواية: (بين أنياب الموت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...