يطير الحمام يمينا، فيكون (جواب) وتكون نقودا، تأتي على يد الباخرة التي نسميها (البوستة)، يطير الحمام شمالا فيكون رجلا قد مات في مصر المدينة، حينئذ تأخذ النساء الحزن من التصاوير المرسومة على المعابد وخوص النخل الذكر الذي تراه مضفورا على الخصور، من ابتداع، نساء بلدنا "كشتمنة" والتي نقولها على سبيل الاختصار (كوش) ذلك على اسم النوبة الجنوبية القديمة.
يطير الحمام صوب النهر "بحر النيل" فتشق أمي "هانم حسين" الثوب - الشيت نصفين وتدلق مقدار كوب من الماء والصندل على جسدها العريان، تلبس الذهب على اختلافه، "السافا (1) في الرقبة والزمام في الأنف والشبارة تلفها حول الثوب الحرير بمهارة بنت "كنزية" (2) صغيرة، ثم تجري بقدمين حافيتين على رمل الشواطئ تأخذ في قدميها الناس والرمل، تغني وترقص مع بنات الكنوز من نجع "الكرور" ولا تطاوع نفسها فتغوص كما العذاري بثيابها في ضحالة ماء النهر واللاتي يفعلن کي تلمس الخصوبة أجسادهن، وينجبن أشد الفتيان، متى يكون النصيب، الله.. الله.. على أمي هانم حسين بنت "الكنوز" الله.. الله.. عليكن يا بنات "الكنوز" يطير الحمام يمينا، فيكون (جواب) من المصاروة الذين لا يصدقهم أحد بالمرة، أختي بحرية كما اسمى "بحر" تتبع أثر عثمان، فقير حينما يفرق الجوابات يقرؤها بغم، ويقبض بيد، قالت لأمي وهي راقدة مع الدجاج تحت تراب الزير المبتل، المصاروة الذين لا يصدقهم أحد بالمرة يقولون إن هناك عند الشلال حيث يختنق النهر يقام "باهوى" (3) سدا من حجر الصوان القاسي يتحكم في مياه النهر بمقدار يحتجز خلفه كل مياه النهر، فتستدير حينئذ بحيرة لا ترى العين حدودها ثم يعلو النهر، يعلو بفتح فمه للحي والميت، ويغرق في جوفه الناس، والنخل والبيوت والدجاج والمعابد، قالت، أمي الحاجة، "هانم حسين"، الكلام المنقوش على وجه المعبد، يقول: إن الذي يأتي من الشمال، ليس له عهد.
وكقول: أبوك "امبنا " (4) الحاج أن من يذهب إلى الشمال تفسده البنادر، لكن الذي حدث اليوم، كذّب الأسطورة وامبنا الحاج – أبي، وصدق المصاروة، حينما رست على الشاطئ، سفنًا، تماما كالباخرة السودانية "البوستة" التي تغنى لها، لأنها تجلب لنا الأحباب من مصر المدينة .
الليله يا سمراء، يا سمارة الليلة يا سمراء، البوستة قالت توت، الليلة يا سمراء، قال الكنوز الكبار البواخر، غريبة، ولا يجوز الغناء لها ولا يبشر بها الحمام، أبي الحاج ولد الكنوز أكل من وجهي بيده الوحشية، حيث التقطت قطع الحلوى التي يرميها لنا البحارة ثم أطلوا علينا من النوافذ المفتوحة نصف عراة فانزوت النساء رغم المسافة البعيدة في خمرهن، قلن: "يا عيب الشوم"، أفخاذ عارية وصدور عارية، كذلك الوجوه حمراء كقشرة التمرة "السكوتية" (5) العيون خضراء، زرقاء لكنها ليست وادعة طيبة كعيوننا، أختي من أمي وأبي اسمها بحرية، كما اسمي بحر، أختي كما البنات بالنجع تحمل القش الثقيل، والماء من النهر، وتصبر بالغناء على الأولاد المصاروة الغائبين قالت لي: سرًا ووتود (6) قلت: "إيه" (7) قالت المصاروة الذين ليسوا كذابين يتحدثون عن الوطن الجديد في الجوابات، لكن بينه وبين مصر المدينة ليلة واحدة بالقطار ولو يقتلني الشوق للولد المصرواي "التنجل" (8) أخذ أول قطار قبل أن يقول الفجر.. الله أكبر .
صفرت البواخر فوق أسطح البيوت والمعابد، رقصت بحرية في الخفاء، وضع أبي اليدين متشابكتين خلف الظهر، تمتم بآيات يحفظها وقت الشدة، تطلع إلى خالق السماء والأرض، اكتسى الوجه بألوان أعرفها، أبيضت العينان، والوجه كظيم، طار الحمام صوب المعابد واستقر في قدس الأقداس، قال أبي: يحاور الكهنة وسيكون فيضانا عاتيا.
نادتني اختي بحرية "ووتود" روغالي (9) فركضت نحوها أعطتني التمر والفول السوداني قالت، يقول المصاروة في البلد الجديد بيوتا لها مصابيح كمصابيح الباخرة البوستة، ولو نشاء نرسمها كبيوتنا والأطباق والمصالي "والطواقي" التي تراها وعشق الولد المصراوي أخذهم جميعا معي وأزين حجرة العريس.
قلت لو يسمعك إمبنا الحاج لرماك في جوف النهر "بحر النيل" طعاما لسمك "القرموط" (10) الذي جد الكنوز لو تسمعك أمك الحاجة هانم لا تبارك الزواج الذي لا يبدأ بالخوض في النهر والذي لا يغرس فيه الولد المصراوي سيف العرس برمل الشاطئ، قبعت أمي خلف الكانون، دارت حول الرأس وحواف الوجه القمري بمدورة سوداء تماما مثلما تذهب إلى عزاء في أطراف النجع، ثم غنت أغنية حزينة اختلط الغناء بأنين الهشيم في قلب النار.
تراكمت الوحشة في العينين الكاحلتين فانطفأ السحر، سرقت عیناي کرتین لامعتين من الدمع، رغم الوجه المندس في لفافة الخمار، كانت تقول دائما حينما تأخذه منا لحظة غضوب، "يا إلهي" هذه المرة شاركته صمته المثقل، دورت الخصر بحزام من سعف النخيل، أمي كانت تحزن، فتقتسم معه الحزن نصفين متساويين، ثم تعود كمرح طيور الشواطئ، هذه المرة شيئا أكبر من كلمة الحزن، أطفأ وهج العينين الكاحلتين، طرد البسمة من الوجه الضحوك، جعلها لا فرق بينها وبين قوائم الجدران.
قلت لأمي هانم "ووانديويو" (11) جذبتها من طرف الشبارة وسألت عن البواخر، دفعت أمي البوص في جوف الكانون، زادت من إشعال النار، وأعدت السؤال مرة أخرى فعاد صوتي وحده يرتطم بالجدران، كوّرت يدي ببعض الحصى، شهرت اليد المكورة في وجهها، دعت ثم استدارت تولول تجاهه - ولدك "ياهوى" هاجت في عروقه دماء القبيلة، وقبل أن يرميني بعينيه الناريتين لقمني ببعض التمر "الإبريمي" دفعني بالذراع القوي الحاني إلى فوق أشار إلى نخلة قريبة فمثّل نفسه بها ومثلني ومثل أمي هانم حسين، ومثل بحرية ولم يمثل "المصاروة " ثم دعاني أن أتبول على جذعها كي يشتد الساعد في النماء ففهمت وقلت: "يا هوى" أبي لن يهاجر.. الله.. الله على أبي ولد "الكنوز".
قالت أختي بحرية "ووتود "وتنجل" وكانت على خلاف الناس تلبس الذهب والشبارة المعطرة بالصندلية والمهلببة (12) وتغني أغنية قد تكون من فعل المصاروة عن الوطن الجديد، قالت "المصاروة " يقولون أن النهر حين يعلو هذه المرة لا يكون كما الفيضان، خصوبة وأعشابا من الينابيع لكنه أمواج عاتية وغضب، وقتئذ يبتلع كل البيوت الفارغة من الأهل، ثم أتجهت بوجهها الفرح صوب البحارة الذين يكتبون علامات على البيوت، يحصوننا مع البيوت والدجاج والماشية، للبيوت ثمن وللأرض ثمن، للنخلة ثمن، والبلح الصيص ثمن آخر.
قال نقودكم لا تساوى قطرة من النهر ولا حجرا من سقف دار ولم يجدوا حمامة واحدة يكتبونها في الدفاتر، قال، تجدونه مع الكهنة والصلوات في قدس الأقداس كان "إمبنا" الحاج أبي وأب الكنوز جميعا في هذه الساعة من النهار يرسل في طلب الحمار فأتأكد من الحزام الدائر على منتصف البطن، وأتأكد أن القدمين ليس بهما أية بقايا روث، ثم اذكر الله واسم المصطفى واقتاده ليقفني على صهوته فأكاد أسقط فيزعق في وجهي اثبت يا بن المدارس ثم يغني أغنية النخل والمحبين، يريد أن يقول، النخل العالي يحمل البلح الطري وأنا أعطيتك السلام.
فلم تردي علی به، أنا أعطيتك السلام وأقسمت بالنخل، فيقول: وويتي إتعور أقل.. ووجودي إنه قورا (13) قل"
"ايكي سلام في ترنقه.. وإرما سلام في رديمة "
"ووجوي ووبتي.. وودسي"
فتضحك أمي، وتغني، عن طيب خاطر تقول: "كان أبوك يغنيها لي ويملأ بها الدنيا من حلفا "ياهوى" حتى الشلال.. ولم يمتنع إلا حينما تزوجني، ثم نعبر الدروب تقول أمي خلقنا الله في قلب النخلات، وفي عمق النهر ينصرك على من يعاديك..
قالت بحرية: ووتود، نلنو (14)... فنظرت للبحارة الذين يثبتون رأس رمسيس المبتسم في مواجهتها على سطح باخرة قادمة للتو من أبي سمبل، قالت: يرحل رمسيس مع الناس، ووتود الولد المصراوي الغالي له من هذا الوجه، دحرج البحارة أحجار البوابة المزينة بشعار الشمش "آتون" الإله وكان رأس أمرأة من الأسرة الحديثة يتهيأ لدخول السفينة، قال أبي لو يدخلوا قدس الأقداس، يخرج طائر بحجم خفاش متوحش له مخالب تلتقط الناس كالحجارة، ساعتها لا تكون هناك هجرة "ياهوى".
كان أبي في مثل هذه الساعة من النهار، يقول في صوت ساخن من جوفه: یا کنوز یا "باد الله" (15) من سكر مثلي، من مياه النهر من قلبه مثل طهر الصحاري، وقبل أن تجف الكلمة يتلاحق حوله رجال، وينفض رجال هم المصاروة الذين استهوتهم المدن، ثم تتوهج عيون الرجال كوقدة الظهيرة، يأخذ الغناء من أقرب رجل جواره یغني باسم الله واسم الكنوز، ترتعش السواعد، برعشة الأراقيد (16) والرقص حتى الصباح دون قيد، قالت بحرية، يأخذ البحارة الجعارين وحلقات الذهب، وعناقيده التي تبارك المكان كي تكون لنا السعادة في الوطن الجديد ولسوف تربي أمي هانم حسين الحمائم التي تدخل "قدس الأقداس" وتأتي لنا بالفأل الحسن ياهوى، ولا تأتي بسر الفيضان الذي لا يكون.
عاد صراخ البواخر فأقفلت أمي أذنيها، قال أبي في صوت واهن "تانو" (17) فتبعناه لم يبق بالدار سوى (برش) في نصف ضفائره أصبحت الدار خلفنا نقطة ضوء خابية من ذورق صيد بعيد، دارنا بناها أبي حجرا حجرا، مزج طين النهر بهشيم القمح، اقتطع الأحجار من رءوس الجبال ثم مسح على وجه الدار بصلصال أبيض، دارنا كانت رحبة كقلوب الخلق، وبابنا منفتحا كالنهر للأحباب .
هذي الطريق مشيناها سويا، أجدي خلفه، علّني ألحق بمؤخرة الحمار فتنزلق يدي على ملامسة الذيل فأقبع أطفح بكاء، فيعود نحوي راجلا يقول لا تبك يا ولدي في عمرك ثانية، ليس في الكنوز رجل يبكي، ثم يركن بحمارنا حيث المراكب الشرعية في بطون الخلجان الدافئة يشتري لي مركب ورقية، أعومها على سطح النهر، هذا هو جامع القبيلة، بدا مهجورا إلا من الطيور، في داخله كثيرا ما كنت أحاول أن أطاول هامته المديدة كساق نخلة فأفشل أقول: متى أكبر مثلك يا أبي، فيضحك ضحكته الرقراقة كماء النهر، كان الوجه فرحا ولم يتبدل من الحزن.
هذه المدرسة جدران ونوافذ مظلمة باردة، اللوحات الورقية بمكانها، لوحتي عليها آخر وجه باسم من قريتي، قطعا سوف تغرق لوحتي في فم النهر المفتوح، دحرج البحارة قدس الأقداس تجاه البواخر، فقال أبي "إنقيادر" (18) وودع البيوت.
لبس أبي عمامته البيضاء، وجلبابه الأبيض ونعله السوداني، جعل العمامة محكمة على الرأس بإتقان، ولها ذيل نازل على ظهره كما في الحزن، كان يسير مرة ويقف مرة وأنا جواره أعد بيدي على البيوت الخالية هذا بيت "فاطمة نقودي" هذا بيت "دهب جراد " هذا بيت "عثمان الأعرج" هذا بيت أبي سيد الكنوز.
نظرت لرأس أبي مرة، ومرة للبيوت، فكانت تعلو فوق رءوسنا، قلت أبي ليس أطول من النخل، أبي ليس أطول من البيوت، أبي الذي يقول، لبنات الكنوز، الحزن ليس لنا، لم يقدر أن يمنع أي من رقصة الحزن الكبيرة فطرحت يديها وقامتها ودقت الأرض على التوالي وصرخت هيوهبه (19) ثم سقطت ولمت التراب، كانت وحدها وكان أبي وحده وكنت وحدي أختي "بحرية" الفرحة بالوطن الجديد من وراء الكنوز مسّ عيونها نور الشمس الغاربة، فتعفرت بآخر تراب النجع، وكان ظهرها للبواخر التي تصفر من الخلف.. ركضت نحو البيوت الخالية دقت على كل باب ونادت البيوت بأسماء أصحابها قالت "ووزينب تنجل" هوى "ووعثمان بحر" هوى "ووجليلة فقير هوى - هوووى.. فيعود صوتها صدى وكان الكنوز عند النهر وكنا آخر المغادرين.
نظر أبي إلى واجهة بيتنا ونظر إلى خط يدي المكتوب قال، "الله، مهمد" (20) على "النبي صلينا" وأشار مرة أخرى للجملة الأولى، قلت: "مرحبا بالزائرين" ثم أشار إلى الجملة الثانية، قلت "إمبنا حسن بشير" تجاهل صفافير البواخر المنتظرة ونداء البحارة عند الشاطئ، مسح على التراب رسم مواضع البلاد على شاطئ النهر ووضع يده علي الجنوب، قلت، حلفا وبعدها قلت، الفادجا ( 21) وبعدها قلت "قودته " (22) وبعدها قلت "الدكة " (23) وبعدها قلت "كوش"، "كشتمنة" (24)، بلدنا أحسن بلد في الدنيا فقبلني وملأ عينيه مني، قبض على بعض التراب والقش وملأ يده، قالت أمي، أبوك عاد لقلبه وجع الليالي الشتوية، حين بكت بشرته عرقا، ثم سمعت وحدي طقطقة عنيفة لساق نخلة عجوز.
(1) قلادة الذهب تلبس في العنق.
(2) كنزية: نسبة للكنوز الجنس الأول من النوبيين.
(3) ياهوى: يا ناس. (4) إمبنا: أبي
(5) السكوتية: نوع من تمر الجنوب
(6) ووتود: ياوله
(7) إيه: نعم .
(8) التنجل: الحسن.
(9) ووتود: ياوله.
(10) أسطورة تتحدث عن سمك القرموط الذي أكل جد الكنوز النوبيين.
(11) ووانديويو: يا أمي.
(12) المهلببة: نوع من العطر
(13) أغنية نوبية شائعة.
(14) نلنو: انظر.
(15) يا باد الله: يا عباد الله.
(16) الأراقيد: رقصة شعبية نوبية.
(17) تانو: تعالى.
(18) إنعيادر: وداعا.
(19) هيوهبه: رقصة وقت الموت.
(20) الله مهمد: الله محمد.
(21) الفادجا: الجنس الأول من النوبيين.
(22) قودته
(23) الدكة،
(24) كوش، كشتمنة: بلاد من النوبة الكنوز النوبة.
01 أبريل 1985،
يطير الحمام صوب النهر "بحر النيل" فتشق أمي "هانم حسين" الثوب - الشيت نصفين وتدلق مقدار كوب من الماء والصندل على جسدها العريان، تلبس الذهب على اختلافه، "السافا (1) في الرقبة والزمام في الأنف والشبارة تلفها حول الثوب الحرير بمهارة بنت "كنزية" (2) صغيرة، ثم تجري بقدمين حافيتين على رمل الشواطئ تأخذ في قدميها الناس والرمل، تغني وترقص مع بنات الكنوز من نجع "الكرور" ولا تطاوع نفسها فتغوص كما العذاري بثيابها في ضحالة ماء النهر واللاتي يفعلن کي تلمس الخصوبة أجسادهن، وينجبن أشد الفتيان، متى يكون النصيب، الله.. الله.. على أمي هانم حسين بنت "الكنوز" الله.. الله.. عليكن يا بنات "الكنوز" يطير الحمام يمينا، فيكون (جواب) من المصاروة الذين لا يصدقهم أحد بالمرة، أختي بحرية كما اسمى "بحر" تتبع أثر عثمان، فقير حينما يفرق الجوابات يقرؤها بغم، ويقبض بيد، قالت لأمي وهي راقدة مع الدجاج تحت تراب الزير المبتل، المصاروة الذين لا يصدقهم أحد بالمرة يقولون إن هناك عند الشلال حيث يختنق النهر يقام "باهوى" (3) سدا من حجر الصوان القاسي يتحكم في مياه النهر بمقدار يحتجز خلفه كل مياه النهر، فتستدير حينئذ بحيرة لا ترى العين حدودها ثم يعلو النهر، يعلو بفتح فمه للحي والميت، ويغرق في جوفه الناس، والنخل والبيوت والدجاج والمعابد، قالت، أمي الحاجة، "هانم حسين"، الكلام المنقوش على وجه المعبد، يقول: إن الذي يأتي من الشمال، ليس له عهد.
وكقول: أبوك "امبنا " (4) الحاج أن من يذهب إلى الشمال تفسده البنادر، لكن الذي حدث اليوم، كذّب الأسطورة وامبنا الحاج – أبي، وصدق المصاروة، حينما رست على الشاطئ، سفنًا، تماما كالباخرة السودانية "البوستة" التي تغنى لها، لأنها تجلب لنا الأحباب من مصر المدينة .
الليله يا سمراء، يا سمارة الليلة يا سمراء، البوستة قالت توت، الليلة يا سمراء، قال الكنوز الكبار البواخر، غريبة، ولا يجوز الغناء لها ولا يبشر بها الحمام، أبي الحاج ولد الكنوز أكل من وجهي بيده الوحشية، حيث التقطت قطع الحلوى التي يرميها لنا البحارة ثم أطلوا علينا من النوافذ المفتوحة نصف عراة فانزوت النساء رغم المسافة البعيدة في خمرهن، قلن: "يا عيب الشوم"، أفخاذ عارية وصدور عارية، كذلك الوجوه حمراء كقشرة التمرة "السكوتية" (5) العيون خضراء، زرقاء لكنها ليست وادعة طيبة كعيوننا، أختي من أمي وأبي اسمها بحرية، كما اسمي بحر، أختي كما البنات بالنجع تحمل القش الثقيل، والماء من النهر، وتصبر بالغناء على الأولاد المصاروة الغائبين قالت لي: سرًا ووتود (6) قلت: "إيه" (7) قالت المصاروة الذين ليسوا كذابين يتحدثون عن الوطن الجديد في الجوابات، لكن بينه وبين مصر المدينة ليلة واحدة بالقطار ولو يقتلني الشوق للولد المصرواي "التنجل" (8) أخذ أول قطار قبل أن يقول الفجر.. الله أكبر .
صفرت البواخر فوق أسطح البيوت والمعابد، رقصت بحرية في الخفاء، وضع أبي اليدين متشابكتين خلف الظهر، تمتم بآيات يحفظها وقت الشدة، تطلع إلى خالق السماء والأرض، اكتسى الوجه بألوان أعرفها، أبيضت العينان، والوجه كظيم، طار الحمام صوب المعابد واستقر في قدس الأقداس، قال أبي: يحاور الكهنة وسيكون فيضانا عاتيا.
نادتني اختي بحرية "ووتود" روغالي (9) فركضت نحوها أعطتني التمر والفول السوداني قالت، يقول المصاروة في البلد الجديد بيوتا لها مصابيح كمصابيح الباخرة البوستة، ولو نشاء نرسمها كبيوتنا والأطباق والمصالي "والطواقي" التي تراها وعشق الولد المصراوي أخذهم جميعا معي وأزين حجرة العريس.
قلت لو يسمعك إمبنا الحاج لرماك في جوف النهر "بحر النيل" طعاما لسمك "القرموط" (10) الذي جد الكنوز لو تسمعك أمك الحاجة هانم لا تبارك الزواج الذي لا يبدأ بالخوض في النهر والذي لا يغرس فيه الولد المصراوي سيف العرس برمل الشاطئ، قبعت أمي خلف الكانون، دارت حول الرأس وحواف الوجه القمري بمدورة سوداء تماما مثلما تذهب إلى عزاء في أطراف النجع، ثم غنت أغنية حزينة اختلط الغناء بأنين الهشيم في قلب النار.
تراكمت الوحشة في العينين الكاحلتين فانطفأ السحر، سرقت عیناي کرتین لامعتين من الدمع، رغم الوجه المندس في لفافة الخمار، كانت تقول دائما حينما تأخذه منا لحظة غضوب، "يا إلهي" هذه المرة شاركته صمته المثقل، دورت الخصر بحزام من سعف النخيل، أمي كانت تحزن، فتقتسم معه الحزن نصفين متساويين، ثم تعود كمرح طيور الشواطئ، هذه المرة شيئا أكبر من كلمة الحزن، أطفأ وهج العينين الكاحلتين، طرد البسمة من الوجه الضحوك، جعلها لا فرق بينها وبين قوائم الجدران.
قلت لأمي هانم "ووانديويو" (11) جذبتها من طرف الشبارة وسألت عن البواخر، دفعت أمي البوص في جوف الكانون، زادت من إشعال النار، وأعدت السؤال مرة أخرى فعاد صوتي وحده يرتطم بالجدران، كوّرت يدي ببعض الحصى، شهرت اليد المكورة في وجهها، دعت ثم استدارت تولول تجاهه - ولدك "ياهوى" هاجت في عروقه دماء القبيلة، وقبل أن يرميني بعينيه الناريتين لقمني ببعض التمر "الإبريمي" دفعني بالذراع القوي الحاني إلى فوق أشار إلى نخلة قريبة فمثّل نفسه بها ومثلني ومثل أمي هانم حسين، ومثل بحرية ولم يمثل "المصاروة " ثم دعاني أن أتبول على جذعها كي يشتد الساعد في النماء ففهمت وقلت: "يا هوى" أبي لن يهاجر.. الله.. الله على أبي ولد "الكنوز".
قالت أختي بحرية "ووتود "وتنجل" وكانت على خلاف الناس تلبس الذهب والشبارة المعطرة بالصندلية والمهلببة (12) وتغني أغنية قد تكون من فعل المصاروة عن الوطن الجديد، قالت "المصاروة " يقولون أن النهر حين يعلو هذه المرة لا يكون كما الفيضان، خصوبة وأعشابا من الينابيع لكنه أمواج عاتية وغضب، وقتئذ يبتلع كل البيوت الفارغة من الأهل، ثم أتجهت بوجهها الفرح صوب البحارة الذين يكتبون علامات على البيوت، يحصوننا مع البيوت والدجاج والماشية، للبيوت ثمن وللأرض ثمن، للنخلة ثمن، والبلح الصيص ثمن آخر.
قال نقودكم لا تساوى قطرة من النهر ولا حجرا من سقف دار ولم يجدوا حمامة واحدة يكتبونها في الدفاتر، قال، تجدونه مع الكهنة والصلوات في قدس الأقداس كان "إمبنا" الحاج أبي وأب الكنوز جميعا في هذه الساعة من النهار يرسل في طلب الحمار فأتأكد من الحزام الدائر على منتصف البطن، وأتأكد أن القدمين ليس بهما أية بقايا روث، ثم اذكر الله واسم المصطفى واقتاده ليقفني على صهوته فأكاد أسقط فيزعق في وجهي اثبت يا بن المدارس ثم يغني أغنية النخل والمحبين، يريد أن يقول، النخل العالي يحمل البلح الطري وأنا أعطيتك السلام.
فلم تردي علی به، أنا أعطيتك السلام وأقسمت بالنخل، فيقول: وويتي إتعور أقل.. ووجودي إنه قورا (13) قل"
"ايكي سلام في ترنقه.. وإرما سلام في رديمة "
"ووجوي ووبتي.. وودسي"
فتضحك أمي، وتغني، عن طيب خاطر تقول: "كان أبوك يغنيها لي ويملأ بها الدنيا من حلفا "ياهوى" حتى الشلال.. ولم يمتنع إلا حينما تزوجني، ثم نعبر الدروب تقول أمي خلقنا الله في قلب النخلات، وفي عمق النهر ينصرك على من يعاديك..
قالت بحرية: ووتود، نلنو (14)... فنظرت للبحارة الذين يثبتون رأس رمسيس المبتسم في مواجهتها على سطح باخرة قادمة للتو من أبي سمبل، قالت: يرحل رمسيس مع الناس، ووتود الولد المصراوي الغالي له من هذا الوجه، دحرج البحارة أحجار البوابة المزينة بشعار الشمش "آتون" الإله وكان رأس أمرأة من الأسرة الحديثة يتهيأ لدخول السفينة، قال أبي لو يدخلوا قدس الأقداس، يخرج طائر بحجم خفاش متوحش له مخالب تلتقط الناس كالحجارة، ساعتها لا تكون هناك هجرة "ياهوى".
كان أبي في مثل هذه الساعة من النهار، يقول في صوت ساخن من جوفه: یا کنوز یا "باد الله" (15) من سكر مثلي، من مياه النهر من قلبه مثل طهر الصحاري، وقبل أن تجف الكلمة يتلاحق حوله رجال، وينفض رجال هم المصاروة الذين استهوتهم المدن، ثم تتوهج عيون الرجال كوقدة الظهيرة، يأخذ الغناء من أقرب رجل جواره یغني باسم الله واسم الكنوز، ترتعش السواعد، برعشة الأراقيد (16) والرقص حتى الصباح دون قيد، قالت بحرية، يأخذ البحارة الجعارين وحلقات الذهب، وعناقيده التي تبارك المكان كي تكون لنا السعادة في الوطن الجديد ولسوف تربي أمي هانم حسين الحمائم التي تدخل "قدس الأقداس" وتأتي لنا بالفأل الحسن ياهوى، ولا تأتي بسر الفيضان الذي لا يكون.
عاد صراخ البواخر فأقفلت أمي أذنيها، قال أبي في صوت واهن "تانو" (17) فتبعناه لم يبق بالدار سوى (برش) في نصف ضفائره أصبحت الدار خلفنا نقطة ضوء خابية من ذورق صيد بعيد، دارنا بناها أبي حجرا حجرا، مزج طين النهر بهشيم القمح، اقتطع الأحجار من رءوس الجبال ثم مسح على وجه الدار بصلصال أبيض، دارنا كانت رحبة كقلوب الخلق، وبابنا منفتحا كالنهر للأحباب .
هذي الطريق مشيناها سويا، أجدي خلفه، علّني ألحق بمؤخرة الحمار فتنزلق يدي على ملامسة الذيل فأقبع أطفح بكاء، فيعود نحوي راجلا يقول لا تبك يا ولدي في عمرك ثانية، ليس في الكنوز رجل يبكي، ثم يركن بحمارنا حيث المراكب الشرعية في بطون الخلجان الدافئة يشتري لي مركب ورقية، أعومها على سطح النهر، هذا هو جامع القبيلة، بدا مهجورا إلا من الطيور، في داخله كثيرا ما كنت أحاول أن أطاول هامته المديدة كساق نخلة فأفشل أقول: متى أكبر مثلك يا أبي، فيضحك ضحكته الرقراقة كماء النهر، كان الوجه فرحا ولم يتبدل من الحزن.
هذه المدرسة جدران ونوافذ مظلمة باردة، اللوحات الورقية بمكانها، لوحتي عليها آخر وجه باسم من قريتي، قطعا سوف تغرق لوحتي في فم النهر المفتوح، دحرج البحارة قدس الأقداس تجاه البواخر، فقال أبي "إنقيادر" (18) وودع البيوت.
لبس أبي عمامته البيضاء، وجلبابه الأبيض ونعله السوداني، جعل العمامة محكمة على الرأس بإتقان، ولها ذيل نازل على ظهره كما في الحزن، كان يسير مرة ويقف مرة وأنا جواره أعد بيدي على البيوت الخالية هذا بيت "فاطمة نقودي" هذا بيت "دهب جراد " هذا بيت "عثمان الأعرج" هذا بيت أبي سيد الكنوز.
نظرت لرأس أبي مرة، ومرة للبيوت، فكانت تعلو فوق رءوسنا، قلت أبي ليس أطول من النخل، أبي ليس أطول من البيوت، أبي الذي يقول، لبنات الكنوز، الحزن ليس لنا، لم يقدر أن يمنع أي من رقصة الحزن الكبيرة فطرحت يديها وقامتها ودقت الأرض على التوالي وصرخت هيوهبه (19) ثم سقطت ولمت التراب، كانت وحدها وكان أبي وحده وكنت وحدي أختي "بحرية" الفرحة بالوطن الجديد من وراء الكنوز مسّ عيونها نور الشمس الغاربة، فتعفرت بآخر تراب النجع، وكان ظهرها للبواخر التي تصفر من الخلف.. ركضت نحو البيوت الخالية دقت على كل باب ونادت البيوت بأسماء أصحابها قالت "ووزينب تنجل" هوى "ووعثمان بحر" هوى "ووجليلة فقير هوى - هوووى.. فيعود صوتها صدى وكان الكنوز عند النهر وكنا آخر المغادرين.
نظر أبي إلى واجهة بيتنا ونظر إلى خط يدي المكتوب قال، "الله، مهمد" (20) على "النبي صلينا" وأشار مرة أخرى للجملة الأولى، قلت: "مرحبا بالزائرين" ثم أشار إلى الجملة الثانية، قلت "إمبنا حسن بشير" تجاهل صفافير البواخر المنتظرة ونداء البحارة عند الشاطئ، مسح على التراب رسم مواضع البلاد على شاطئ النهر ووضع يده علي الجنوب، قلت، حلفا وبعدها قلت، الفادجا ( 21) وبعدها قلت "قودته " (22) وبعدها قلت "الدكة " (23) وبعدها قلت "كوش"، "كشتمنة" (24)، بلدنا أحسن بلد في الدنيا فقبلني وملأ عينيه مني، قبض على بعض التراب والقش وملأ يده، قالت أمي، أبوك عاد لقلبه وجع الليالي الشتوية، حين بكت بشرته عرقا، ثم سمعت وحدي طقطقة عنيفة لساق نخلة عجوز.
(1) قلادة الذهب تلبس في العنق.
(2) كنزية: نسبة للكنوز الجنس الأول من النوبيين.
(3) ياهوى: يا ناس. (4) إمبنا: أبي
(5) السكوتية: نوع من تمر الجنوب
(6) ووتود: ياوله
(7) إيه: نعم .
(8) التنجل: الحسن.
(9) ووتود: ياوله.
(10) أسطورة تتحدث عن سمك القرموط الذي أكل جد الكنوز النوبيين.
(11) ووانديويو: يا أمي.
(12) المهلببة: نوع من العطر
(13) أغنية نوبية شائعة.
(14) نلنو: انظر.
(15) يا باد الله: يا عباد الله.
(16) الأراقيد: رقصة شعبية نوبية.
(17) تانو: تعالى.
(18) إنعيادر: وداعا.
(19) هيوهبه: رقصة وقت الموت.
(20) الله مهمد: الله محمد.
(21) الفادجا: الجنس الأول من النوبيين.
(22) قودته
(23) الدكة،
(24) كوش، كشتمنة: بلاد من النوبة الكنوز النوبة.
01 أبريل 1985،