حتى تكتب قصيدةً واحدة * راينَر ماريَّا ريلكه ـ ألمانيا 1875,1926 #ترجمة: بشير السباعي

... آه، ما أقل شأن القصائد عندما تكتبها في مستهل حياتك. لا بد لك من الانتظار وتكوين حسٍ وجمالٍ لأجل عمر كامل، ولعمرٍ طويلٍ إن أمكن، وعندئذٍ، في نهايات النهاية، ربما تَسَنَّى لك أن تكتب عشرة سطور جيدة. لأن القصائد ليست، كما يظن الناس، مجرد عواطف (العواطف تتكونُ لدى المرء منذ بدايات البداية) – إنها خبراتٌ وتجارب. وحتى تكتب قصيدةً واحدة، لابد لك من رؤية مدنٍ كثيرة، وأُناس وأشياء كثيرة، لابد لك أن تفهم الحيوانات، أن تشعرَ كيف تحلقُ الطيور، وأن تعرف الإيماءة التي ترسلها الأزهار الغضة عندما تتفتح في أول الصباح. لا بد لك من أن تكون قادراً على معاودة التفكير في الشوارع التي تخترقُ الأحياء المجهولة، وفي اللقاءاتِ غير المتوقعة، وفي الوداعاتِ التي رأيتَ منذ زمنٍ طويلٍ أنها سوف تحدث، في أيامِ الطفولة التي لا يزالُ لُغزها بلا تفسير، في الوالدين اللذين كان عليك إيذاؤهما عندما جاءا بفرحةٍ ولم تهنأ بها (لقد كانت فرحةً لإسعادِ أحدٍ غيرك-) ، في أمراض الطفولة التي بدأت على نحوٍ بالغ الغرابة، تصحبها تحولاتٌ جد كثيرة، عميقة وصعبة، في الأيام التي قضيتها في غرفٍ هادئة، منزوية، وفي الصباحات التي قضيتها أمام البحر، في البحر نفسه، في البحار، في ليالي الرحلة التي صعدتْ إلى الأعالي وراحت تُحَلِّقُ مع النجوم، - ويظل غير كافٍ أن تقوى على التفكير في كل ذلك. لا بد من أن تكون لك ذكريات عن ليالي حبٍ كثيرة، كل ليلة مختلفة عن الأخريات، ذكريات عن نساء يصرخن في الكدح، وعن بناتٍ ضامرات، شاحبات، نائمات، وَلَدْنَ لتوهن ويلتئمن ثانية. لكنك لا بد لك أيضاً من أن تكون قد جلست إلى جانب الموتى في الغرفة ذات النوافذ المفتوحة والأصوات الصاخبة المبعثرة. ولا يكفي مع ذلك أن تكون لك ذكريات. لا بد لك من أن تكون قادراً على نسيانها عندما تكون كثيرة، ولابد من أن يتوافر لك الصبر الجميل لكي تنتظر حتى عودتها. لأن الذكريات نفسها ليست مهمة. وعندما تتبدل لتصبح دمنا نفسه، لتصبح لمحةً وإيماءةً ولا اسم لها، ويصبح من المستحيل بعدُ تمييزها عن أنفسنا – عندئذٍ فقط يمكن أن يحدث أن تصعد في قلبها الكلمة الأولى لقصيدة، في لحظةٍ جد نادرة، وتنبثق منها.


ــــــــــــــــــــــ
من "دفاتر مالته لوريدس بريجه"، 1910
أعلى