علي محمد عبده - زواج سعدية...

ما كاد سعيد يدخل إلى الحانوت الذي يقيم فيه مع زملائه العمال بعد عودته من العمل لقضاء فترة الظهر حتى استقبله كل من في الحانوت من الصبية والكبار بالهتاف والتصفيق.
" مبروك يا سعيد مبروك يا سعيد " واستمروا في صياحهم دون أن يعرف ماذا يعنون.
ووقف في باب الحانوت وزملاؤه منتشرين على القعائد المرصوصة على جانبه أو مستلقين على الحصر القديمة المتآكلة المفروشة في جانبه الآخر وهم لا يزالون يصيحون ويهتفون.
قال وقد أخذ يقلب كفيه مستفسراً منهم عن ما حدث:
ــ طيب ايش في ؟ ايش استوى ؟ مبروك على ايش؟
ولكن تساؤلاته ضاعت في ضجيجهم. وأردف بلهجة حانقة.
ــ شوفوا بأسب ــ بعدين باتحنقوا فالتفت إليه مقبل وقال:
ــ أختك سعدية .
ــ عيب ذكر الخوات ما بينناش.
ــ من صدق أكلمك.
ــ مالها؟
ــ تزوجت من الحاج هزاع فضحك سعيد وقال:
ــ باس هذا. قلت مدري أيش في.
قال سعيد ذلك ليتخلص من لجاجتهم ولكنه لم يصدق الخبر أبداً. وقال لنفسه: لا يمكن أن يحدث هذا ولعل الأولاد أرادوا أن يمازحوني كما هي العادة ولم يجدوا طريقة لإغاضتي أنكى من أنهم بيشبعوا زواج أمي العجوز أو أختي الطفلة.
إن سعدية لا تزال في عامها الثالث عشر والحاج هزاع قد تجاوز عمره الخمسين ولا يمكن أن تقبل أمي زواجه من سعدية أبداً.
ودارت في ذهنه خواطر كثيرة وعادت به الذاكرة إلى القرية التي تركها منذ ثلاث سنوات وعمره تسع سنوات على أمل أن يعمل ويكسب ويعول أمه وأخته. وتذكر حياته مع أمه وأخته ، وتصور أخته أن تكون ماتت أو مرضت أو تزوجت من أي شخص في القرى المجاورة ولم يستطع أن يتصورها زوجة للحاج هزاع.
لو صح ذلك كيف سيكون حالها في بيت الحاج هزاع ــ إن حالهم ليس أحسن من حالنا ــ وإلى جانب ذلك فهو رجل شائب في آخر حياته يحتاج إلى ممرضة أكثر من حاجته إلى زوجة.
دارت في ذهنه كل هذه الخواطر وزملاؤه مستمرين في معاكسته وتقديم التهاني بطريقة أو بأخرى.
وزاد اعتقاده أن المسألة مجرد مزاح من قبلهم إلا أن مقبل عاد فأكد له النبأ من جديد.
وقال لنفسه:
" لأتأكد من ذلك من الوافدين من القرية إذ لا يعقل أن أمي ستتجاهلني " .
وحاول أن يخرج من الحانوت باحثاً عن الوافدين من القرية ليتأكد من صحة النبأ منهم.
وأخذ كل من في الحانوت يصرخ على طريقته.
ــ لا تنسانا يا سعيد من الهداية أوبه تأكلها وحدك.
وقال آخر:
ــ أيش يا سعيد رائح الإذاعة ترسل ببطاقة تهنئة في برنامج تهاني.
وقال ثالث:
ــ هات البطاقة نكتب أسماءنا كلنا وتكون واحدة.
وقال له مسعود:
ــ ليس ما تزوجت عليه أمك وهي في عمره بدلاً من بنتها الصغيرة ! فضج الحاضرون بالضحك وقالوا بصوت واحد:
ــ والله فكرة يا سعيد ــ أيش رأيك فيها.
فلم يلتفت سعيد لقولهم بل هَّم بالخروج وأمسك به صالح محاولاً منعه من الخروج قائلاً له:
فين رائح هذه الساعة الدنيا شمس.
ــ يظهر أن المسألة من صدق بأشوف الذين جاءوا من البلاد.
ــ ليش ما أنتش مصدق؟
ــ أمي لابد ما تشاورني.
فعقب مسعود بسخرية.
ــ لأنك رجل البيت ورب ألأسرة لازم تشاورك !!
ــ رب الأسرة وعلى عينك.
فأعتدل مسعود في جلسته وقال:
ــ ما تقدرش تشبع بطنك وتعيش على بقية أكل الشغالة وقلت رب الأسرة!! .
ــ مش شغلك أنت أرسل فلوس أو ما ارسلش، آكل بقية أكل الشغالة مش شغلك، المهم أننا ما آكلش معك.
ــ شأتأكل معي ؟ شادهفك إلى الشارع لو جلست تأكل معي.
ــ أنت من يأكل معك من العيال الصغار ولا واحد. تتقرع خمير وشاهي وتتغدى بقل وروتي أو تأكل بقية أكل الشغالة ومشاهرتك تخبيها.. أما نحن مشاهرتنا قليل.
ــ طيب روح تأكد من الخبر ورجعت بانحتفل بزواج أختك وسنخليها رخصة بعد الظهر وما بانروحش الشغل باقي النهار.
ولم يكن في مقدور سعيد إلا أن يضحك معهم ويجاريهم في مزاحهم مخفياً عنهم ما يعتمل في نفسه من غيض وحنق.. إذ لو أظهر لهم ما في نفسه لزادت سخريتهم واتسعت شماتتهم.
واتجه نحو الخارج باحثاً عن من يسأله، فأكد الوافدون صحة النبأ وأن الزواج سيتم خلال أسبوع.
فازداد اضطرابه وقلقه، وأخذ يتصور حالة سعدية وهي تزف إلى الحاج هزاع ويتصور نفسه صهراً له.. فلم يطق احتمال ذلك ولم يجرؤ على العودة إلى الدكان خوفاً من ألسنة رفاقه.
وأخذ يتسكع في الطرقات بملابس العمل وكأنه يبحث عن حل لهذه المشكلة.. وقال في نفسه لابد من أن أمنع هذا الزواج. ولكن هل أسافر إلى البلاد لأمنع ذلك. وإذا سافرت فمن أين أجد أجرة السيارة وإذا تغيبت عن العمل فستخصم من راتبي الشهري أجرة أيام الغياب.. فالأحسن أكتب رسالة لأمي أطلب فيها أن تمنع الزواج وإلا سأترك البلاد لهم.
ولم يكد يكتب لأمه رسالة حتى كانت رسالة أمه في يده تقول فيها : " أني لا أحب لسعدية إلا كل خير. ولكن قل لي أيش أعمل يا سعيد أنت تعرف حالتنا وتعرف أننا نعيش على الصدقات. وقد تراكمت علينا الديون وحق الفطرة والمخاملة من سنة إلى سنة وجزى الله الحاج هزاع عنا كل خير فقد التقف عننا حق بيت المال سنة وراء سنة وقد بلغ ماله عشرين ريالاً وإذا لم نزوج سعدية فمن أين لنا هذه الفلوس الذي يسألنا ومن أين نأكل؟
" يا سعيد أنت تعرف حالتنا والبنت لابد لها من رجال يسترها ويعولها وكل البنات تزوجين مثل ما تتزوج سعدية. وقد عقدنا لها على الحاج وهذا نصيبها ولا نقدر نعمل حاجة والسلام " .
لو كان الواحد معه عشرين ريال ما بايحصل الذي حصل ؟ لا ولكن ما فيش عشرين ريال. سعدية يعلم الله كيف سيكون حالها وأنا أين أودي وجهي من العيال شيكونوا عشي وصباح يعيروني بالحاج ولابد أمي ما تتدين من جديد. وبعدين أيش باتعمل با تتزوج هي لتسدد الدين وإلا أيش با تعمل؟
وبينما هو غارق في تفكيره أقبل عليه محمد وجلس بجانبه على القعادة في باب الحانوت وقال له:
ما لك يا سعيد جالس هكذا مدة أسبوع الذي با يقول مدري أيش استوى عليك؟
ــ طيب قل لي كيف واحد يقدر ما يفكرش ولا يهم إذا كانت المشاكل تركب فوق ظهره ولا تنزل منه أبداً.
ــ أيش من مشكلة ؟ تزوجت أختك ؟ كل واحد مننا تزوجت أخته. أو يظهر إنك زعلت من كلام الأولاد؟
وأردف قائلاً:
تصدق يا سعيد أن العيال كلهم يقولوا لو يستوي أيش ما يستوي في البلاد إنك مش ممكن تزعل أو يشوفك تضحك وتصافط وتآكل مشاهرتك كلها وقالوا إنك مش ممكن تزعل على أختك.
ــ أنا ما عاد أفكر بزواج أختي ولكن بحالتنا جواب أمي خلاني أطوس ولا أدري أيش أعمل.
ــ أيش فيه الجواب ؟
ــ ولا شيء . بس أمي تشكي من التعب مع أنها ما قد شكت أبداً جعلتني أفكر بحالتنا كلنا. هي عجوز وأختي صغيرة وأنا مثل ما تشوف أيش أقدر أعمل .
وصمت سعيد لحظة وأردف :
بالله عليك لو كان معانا عشرين ريال كانت أمي باتزوج أختي لأجل تسديد الدين الذي عليها؟ أرسلتني عدن لتتخلص مني قبل ثلاث سنوات. وزوجت أختي لتتلخص منها أو لتعيش معها. وبعدين أيش بتعمل بنفسها لتتخلص منها والتفت نحو محمد بكل جسمه الصغير وقال: قل لي يا محمد أيش يقدر واحد يعمل؟ يرزق نفسه.
ــ استغفر الله يا سعيد.
ــ بس أيش يعمل واحد مشاهرتي 40 شلن ما تكفيش حق أكل وقد سمعت مسعود كيف يعيرنا بمن نأكل معاهم.
ــ كلنا بالهوى سوى يا سعيد الفرق بيننا هو زواج أختك أثار لك الهموم يوم ويومين وتنسى كل شيء.
ــ كيف يقدر واحد ينسى مشاكله.
ــ ما يقدرش ولكن بدل ما يشغل الإنسان نفسه ويهم ويهتم بدون ما يقدر يعمل شيء يخلي الأمور تسير زي ما تشتي واللي يقع يقع.
تنهد سعيد.. وصمت ولم يرد.



..............................................................
(•) نشرت في مجلة الحكمة العدد(42) السنة الخامسة ، أغسطس 1975م.
أعلى