1 / 3
يُعبَّر عادةً عن المعارف التي تصل إليها العلوم في قضايا، وتُقدَّم للإنسان في صورة نتائج صالحة للتطبيق، و«نظرية» أحد المفكرين هي ذلك الذي لم يقُله في ثنايا قوله، وهي ذلك الذي يتعرض له الإنسان بحيث يَهَب له نفسه في سخاء.
ومن أجل أن نجرِّب ذلك الذي لم يقله أحد المفكرين — أيًّا كان نوعه — ونتمكن من معرفته والإحاطة به في المستقبل، فلا بد لنا أن نتفكَّر فيما يقوله، والوفاء بهذا المطلب يقتضي مِنَّا أن نتناول «بالدرس والتحليل» جميع «محاورات» أفلاطون في صورة متَّسقة، ولما كان هذا الأمر مستحيلًا، فإن علينا أن نسلك طريقًا آخر يؤدي بنا إلى ذلك «الجانب» الذي لم يقله أفلاطون ولم يُفصح عنه فكره.
هذا الجانب الذي ظلَّ «مطويًّا»، فلم يقُله أفلاطون؛ يعبِّر عن تحول في تحديد ماهية الحقيقة. وتحقق هذا التحوُّل في ماهية الحقيقة، ومضمونه، وما تأسَّس عليه، هو ما سوف نحاول توضيحه على ضوء التفسير الذي سنقدِّمه ﻟ «رمز للكهف».١
يبدأ الكتاب السابع من «محاورة» أفلاطون عن ماهية «البوليس»٢ بتقديم صورة عن «رمز الكهف» (الجمهورية، ٧، ٥١٤أ، ٢ إلى ٥١٧أ، ٧)،٣ والرمز يروي حكاية، والحكاية تنمو وتتطوَّر في حوار سقراط مع جلوكون، الأوَّل يصورها، والثاني يعبِّر عن الدهشة التي تستيقظ في نفسه، والترجمة التالية٤ توضح النص الأصلي وتشرحه ببعض الإضافات الموضوعة بين قوسين.
سقراط: والآن، قارن طبيعتنا من وجهة التربية٥ بمثل هذه التجربة، تأمَّل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكنٍ أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يُقيمون منذ الطفولة مقيدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم بحيث يبقون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا النظر إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم، بسبب هذه القيود والسلاسل، عاجزون عن التلفُّت حولهم برءوسهم، في إمكانهم مع ذلك أن يُبصروا نورًا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيدين بالسلاسل (أي في ظهورهم) يمتدُّ في الجهة العلوية طريق بُني على طوله — تصور هذا — جدار منخفض شبيه بالحواجز التي يقيمها المهرجون (أصحاب الألعاب البهلوانية والعرائس المتحركة) أمام الناس لكي يعرضوا عليهم ألعابهم.
قال: هذا ما أراه.
– تأمل كذلك كيف يَعْبر الناس على طول هذا الجدار الصغير حاملين مختلف الأشياء، من تماثيل وصورٍ من الحجر والخشب وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظر، ويمر البعض الآخر صامتين.
– صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوع غريب.
قلت: إنهم يشبهوننا، نحن البشر، شبهًا تامًّا، مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينُهم منذ البداية، سواء أكان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم، إلا على الظلال التي تُلقيها النار على جدار الكهف المواجه لهم.
قال: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أجبروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم.
– ولكن ماذا عساهم يَرَوْن من هذه الأشياء التي يحملها الناس (خلف ظهورهم)؟ ألَا يرون هذه «الظلال» نفسها؟
– الأمر كذلك في الواقع.
– لو كان في وسعهم أن يتحدَّثوا مع بعضهم البعض عمَّا يرَوْن، ألا نعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟
– بالضرورة.
– ماذا يكون الأمر إذن لو أن هذا السجن تردَّد فيه صدًى من الجدار المواجِه لهم؟ ألَا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرُّون خلف المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمرُّ أمامهم؟
– لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.
قلت: إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئًا حقيقيًّا سوى ظلال الأدوات (التي يحملها العابرون).
قال: بالطبع هذا أمر ضروري.
قلت: تتبع إذن بنظرتك كيف يفك هؤلاء المساجين من قيودهم ويشفون في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتَفكَّر عندئذٍ كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي، كلما فُكَّت السلاسل عن أحدهم وأُجبر على الوقوف على قدميه فجأة والالتفات برقبته والسير قُدُمًا والتطلع إلى النور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألمًا (شديدًا)، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبل (لو أن ذلك كله حدث له)، فماذا تحسبه يقول لو أن أحدًا أخبره بأن ما رآه من قبل لم يكن إلا عدمًا، وأنه الآن أقرَبُ إلى الوجود، وأن نظره أكثر صوابًا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودًا؟
ولو أن أحدًا عرض عليه الأشياء التي مرَّت عليه واحدًا بعد الآخر واضطره أن يُجيب عن سؤاله عمَّا هو هذا الشيء، ألَا تعتقد أنه سيحار كيف يرد عليه وأنه سيعد ما رآه بعينيه من قبل أكثر حقيقة مما يعرض عليه الآن؟
– بالطبع.
– وإذا أُجبِر أحد على النظر إلى النور (المنبعث من النار)، ألن تؤلمه عيناه ويتمنَّى أن يحولهما عنه ويفر إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يُعرض الآن عليه؟
– الأمر كذلك.
قلت: وإذا حدث أن أحدًا جذبه بالقوة من هناك وشدَّه على الطريق الوعر (إلى خارج الكهف) ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذٍ بالألم والسخط؟ ألن يحس، وقد وقف في نور الشمس، بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئًا مما يُقال له الآن إنه حق؟
– لن يقوى أبدًا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل.
– أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعوُّد إذا كان عليه أن يرى ما هناك (أي خارج الكهف في ضوء الشمس)، إنه سيتمكَّن في أول الأمر (نتيجة لهذا التعود) من النظر في يسرٍ شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، إلى أن يتمكَّنَ أخيرًا من رؤية هذه الأشياء نفسها (أي الموجودات الحقيقية بدلًا من انعكاساتها)، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما «يتجلى» منها في قبة السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلَّع ببصره إلى ضوء النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟
– لا شك في ذلك.
– أعتقد أنه سيتمكَّن في آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب (وسيتمكَّن من النظر) إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها، وفي الموضع المحدد لها، لكي يتأمَّلها ويتعرَّف طبيعتها.
– من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك.
– وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يُجمل القول عنها (أي عن الشمس) فيعرف أنها هي التي تضمن «تعاقب» فصول السنة كما تضمن «مر» السنين وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها (أي الشمس) هي علة كل ما يجده أولئك (المقيمون في الكهف) على نحو من الأنحاء حاضرًا أمامهم.
– واضح أنه سيصل إلى هذا (أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها) بعد أن تجاوز ذاك (أي ما كان ظلًّا وانعكاسًا فحسب).
– ماذا يحدث إذن لو أنه تذكر سكنه الأوَّل وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له، بينما يأسف لأولئك؟
– أسفًا شديدًا!
– فإذا حددت في المكان القديم (بين من كانوا يقيمون في الكهف) جوائز وألوان معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة ثم ما يتبعها أو يتفق مروره معها في وقت واحد، ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه (أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة) سيحس بالشوق إليهم (أي إلى الذين ما يزالون في الكهف) لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة، أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجل غريب فقير»٦ وسيحتمل كل ما يمكن احتماله ويؤثره على اعتناق الآراء (التي يؤمنون بها في الكهف) والحياة كما يحبون؟
– أعتقد أنه سيفضِّل أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة (التي يحيونها في الكهف).
قلت: والآن تفكَّر في هذا، لو حدثَ لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط إليه مرة أخرى وجلس في نفس المكان (الذي كان يجلس فيه)، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟
قال: طبيعي جِدًّا أن يحدث له ذلك.
– فإذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان (من الضوء) قبل أن تعودا سيرتهما الأولى — الأمر الذي سيستغرق منه زمنًا غير قليل حتى يتعود عليه — ألا تعتقد أنه سيعرض نفسه هناك للسخرية، وأنهم سيحاولون إقناعه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينين مريضتين، وأن الأمر لا يستحق أبدًا أن يشقَّ الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمدَّ يديه ليفكَّ عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، (ألَا تعتقد) أنهم لو استطاعوا أن يُمسكوا به ويقتلوه، فسوف يقتلونه حقًّا؟
قال: يقينًا سيفعلون ذلك.٧
•••
ما معنى هذه الحكاية؟ — إن أفلاطون يتولَّى الجواب بنفسه، فهو يقوم بتفسيرها بعد الانتهاء من روايتها مباشرة (٥١٧أ، ٨ إلى ٥١٧د، ٧).
المسكن الشبيه بالكهف هو «صورة»، «المقر الذي يتبدى للنظر» (كل يوم)،٨ والنار المتوهجة في الكهف، فوق رءوس سكانه، هي «صورة» الشمس، وقبة الكهف تمثِّل قبة السماء، تحت هذه القبة يعيش البشر، مرتبطين بالأرض ومقيدين بها، وكل ما يُحيط بهم ويشغلهم هو بالنسبة إليهم «الواقع» أي الموجود، في هذا المسكن الشبيه بالكهف يجدون أنهم «في العالم» وأنهم «في بيتهم» ويجدون كل ما يثقون فيه ويعتمدون عليه.
أمَّا الأشياء التي يسميها «الرمز» وتمكن رؤيتها خارج الكهف فهي صورة ذلك الذي تتقوم به الموجودية التي يختص بها الموجود، وهذا في رأي أفلاطون هو ما به يتجلى الموجود في «مظهره»، هذا المظهر لا يعدُّه أفلاطون مجرد «وجه» من وجوهه،٩ إن «المظهر» في رأيه ينطوي على نوع من «البروز» أو «البزوغ» الذي يجعل كل شيء «يحضر» أو يمثل أو يقدم نفسه، إن الموجود يتبدَّى أو يتجلَّى في «مظهره».
والمظهر في اللغة اليونانية هو «الأيدوس» أو «الأيديا»،١٠ والأشياء التي يغمرها ضوء النهار خارج الكهف، حيث يمتدُّ مجال الرؤية الحرة إلى كل شيء، تصور «المثل» في «الرمز» في صورة عيانية، ولو لم تكن هذه المثل — أي هذه المظاهر المتنوعة التي تتبدَّى بها الأشياء والكائنات الحية والبشر والأعداد والآلهة — نصب عيني الإنسان، لَما أمكنه في رأي أفلاطون أن يُدرك هذا أو ذاك، ويعرف أنه بيت أو شجرة أو إله. إن الإنسان يتصوَّر عادةً أنه يرى أمامه هذا البيت وتلك الشجرة وسائر الموجودات، غير أنه في معظم الأحوال لا يشعر أدنى شعور بأنه لا يرى كل ما يألفه ويعتقد أنه «الواقع» إلا على ضوء «المثل»، ولكن كل ما يتصور الإنسان أنه وحده هو الواقع، كل ما يمكن أن يرى مباشرةً ويسمع ويلمس ويقدر حسابه، يظل في نظر أفلاطون مجرد انعكاس باهت للمثل، أي مجرد ظل، هذا الشيء القريب من الإنسان أشد القرب، هذا الذي يبقى ظلًّا على الرغم من كل شيء، هو الذي يأسر الإنسان ويقيده في حياته اليومية، إنه يحيا في سجن ويترك جميع «المثل» وراء ظهره، ولأنه لا يعلم أن هذا السجن سجن، تجده يتصور أن هذا المجال الذي تدور فيه حياته اليومية تحت قبة السماء هو مجال التجربة والحكم اللذين يحدِّدان مقياس جميع الأشياء والعلاقات، ويضعان القاعدة التي يقوم عليها كيانها ونظامها.
لو فكرنا بلغة «الرمز»١١ وتخيَّلنا الإنسان وقد التفت فجأة إلى النار المشتعلة خلف ظهره في داخل الكهف — هذه النار التي يعكس لهبها ظلال الأشياء التي تمر هنا وهناك — لَوجدنا أنه سيحس على الفور بأن هذا التحول غير المعتاد في الرؤية والنظر إنما هو إزعاج للسلوك المألوف والظن الشائع، بل إن مجرد التفكير في مثل الموقف الغريب الذي يُنتظر من الإنسان أن يتَّخذه في داخل الكهف سيرفض رفضًا باتًّا؛ لأنه هناك في الكهف «يعتقد أنه» يمتلك الواقع امتلاكًا كاملًا واضحًا لا لَبْس فيه، هذا الإنسان الذي يحيا في الكهف متشبِّثًا «برأيه» لن يكون في وسعه أن يحس أدنى إحساس بأن واقعه قد لا يكون إلا ظِلًّا، وكيف يتسنَّى له أن يعرف شيئًا عن الظلال إذا كان لا يُريد أن يعرف أي شيء عن النار المشتعلة في الكهف ولا عن الضوء المنبعث منها، مع أن هذه النار لا تخرج عن كونها نارًا صناعية، ومن المفروض فيها أن تكون مألوفةً لديه. وعلى العكس من ذلك نور الشمس الساطع خارج الكهف، فهو نور لم «يصنعه»١٢ الإنسان، إن الكائنات النامية والأشياء الماثلة١٣ تتجلَّى في نوره الساطع تجليًا مباشرًا دون حاجة إلى تصوُّرها عن طريق الظلال التي تعكسها، والأشياء التي تتجلَّى بنفسها تُعتبر في الرمز صورة «للمثل»، ولكن الشمس في «الرمز» تمثِّل «صورة» ذلك الذي يجعل جميع المثل مرئية، إنها صورة مثال المثل، هذا المثال يسمِّيه أفلاطون «هي توأجاثو» ويُترجَم عادةً ترجمة حرفية لا تخلو من سوء فهم ﺑ «مثال الخير».١٤
هذه الأنواع المختلفة من التطابق التي حصرناها الآن بين الظلال والواقع الذي يجرِّبه الإنسان كل يوم، بين انعكاس ضوء النار في الكهف والنور الساطع الذي يغمر الواقع القريب المألوف، بين الأشياء الموجودة خارج الكهف والمثل، بين الشمس وأعلى المثل (هذه الأنواع المختلفة من التطابق) لا تستنفد مضمون «الرمز»، أجل! إننا لم نتوصَّلْ بعد إلى أخص ما يخص هذا الرمز، ذلك لأنه يروي لنا أحداثًا ولا يقتصر على بيان الأماكن التي يقيم فيها الإنسان والمواقع التي يشغلها داخل الكهف وخارجه، ولكن الأحداث التي يعرضها علينا هي في الواقع مراحل انتقال من الكهف إلى ضوء النهار يعقبها الرجوع من ضوء النهار إلى الكهف.
ماذا يحدث في مراحل الانتقال هذه؟ ما الذي يجعلها ممكنة؟ مِمَّ تستمد ضرورتها؟ ما هي أهميتها؟
إن الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار والعودة من هناك مرة أخرى يتطلَّب من الأعين أن تُغيِّر ما اعتادت عليه فتتحوَّل من الظلام إلى النور ثم من النور إلى الظلام، ستعاني الأعين في كل مرة من الحيرة والارتباك وستكون معاناتها لسببين مختلفين كل الاختلاف: «ستحسُّ الأعين بنوعين من الحيرة والارتباك؛ وذلك لسببين مختلفين».١٥
معنى هذا أن الإنسان يمكن أن ينتقل من جهل لا يكاد ينتبه له، إلى حيث يتجلَّى له الموجود في صورة أكثر ماهوية،١٦ وإن لم ينضج بعدُ ولم يتهيَّأ لمثل هذا الموجود، وقد يمكنه من ناحية أخرى أن ينتزع من موقف المعرفة الماهوية (الأساسية) الذي وصل إليه فيلقي به في مجال يتحكَّم فيه الواقع الشائع المعتاد، دون أن يكون على استعداد للاعتراف بأن ما يألفه ويباشره في هذا المجال هو الواقع، وكما يتحتَّم على العين الجسدية أن تُثابر على تغيير عاداتها في بطء ودأب، سواء أرادت أن تتعود على النور الساطع أو على الظلام الدامس، كذلك يتحتَّم على النفس أيضًا أن تأخذ نفسها بالصبر والتأني حتى تتعوَّد على مجال الموجود الذي تُواجهه وتتعرَّض له، غير أن مثل هذا التعود يتطلَّب أوَّلًا من النفس أن تتحول بكليتها نحو الاتجاه الأساسي الذي تنزع إليه، شأنها في هذا شأن العين التي لا يُمكنها أن ترى الرؤية الصحيحة الشاملة إلا إذا سبق للجسم كله اتخاذ الوضع الملائم لذلك.
لكن لم يتطلب التعود على هذا المجال أو ذاك كل هذا الدأب والصبر والأناة؟ لأن التحول (في الاتجاه) يمس وجود الإنسان، ولهذا يتمُّ في صميم كيانه (ماهيته)،١٧ معنى هذا أن الموقف الأساسي١٨ الذي ينبغي أن ينشأ عن تحول في الاتجاه، لا بد أن ينبثق من علاقة تحمل الكائن الإنساني١٩ بالفعل وتتطور إلى مسلك ثابت، هذا التحول والتغيُّر الذي يؤدي إلى تعود الكائن الإنساني على المجال الذي يوجه إليه هو الذي يؤلف ماهية ذلك الذي يُطلِق عليه أفلاطون اسم «البايديا»،٢٠ وليس من سبيل إلى ترجمة هذه الكلمة، «فالبايديا» — بحسب تحديد أفلاطون لماهيتها — هي «التمهيد لتحول اتجاه الإنسان بكليته وفي ماهيته»،٢١ ولهذا فإن «البايديا» في ماهيتها انتقال، وهذا الانتقال يتم من «الأبايدويزيا»٢٢ إلى «البايديا»، وتبقى «الباديديا» — طبقًا لطابع الانتقال هذا — على علاقة مستمرة «بالأبايدويزيا»، ولعل أنسب كلمة ألمانية يمكن أن تُقابل الاسم اليوناني «بايديا» هي كلمة «التكوين»٢٣ وإن كانت في الواقع لا تفي به وفاءً تامًّا، ويجب علينا بطبيعة الحال أن نرد للكلمة الأخيرة طاقتها التعبيرية الأصلية وأن ننسى ما لحق بها في أواخر القرن التاسع عشر من سوء التأويل، إن «التكوين» يدل على معنيين: فهو من ناحية تكوين بمعنى الصياغة أو التشكيل (الذي يصوغ مادة الشيء ويظهره)،٢٤ ولكن هذا «التكوين» «يكون» (أو يشكل ويصوغ) في نفس الوقت تبعًا لمطابقة مسبقة مع صورة أولية معتمدة عليها، تُسَمَّى لهذا السبب نموذجًا،٢٥ إن «التكوين» تشكيل وصياغة، وهو بالإضافة إلى هذا مدخل إلى صورة معينة، والماهية المضادة «للبايديا» هي «الأبايدويزيا» أي الافتقار إلى التكوين (التشكيل والصياغة) أو نقصه وعدمه، وهذا النقص في التكوين لا يتفتح فيه الموقف الأساسي، ولا يوضح فيه النموذج الذي يمكن الاعتماد عليه.
إن مكمن القوة في دلالة «رمز الكهف» هو أنه يحاول عن طريق الصورة القصصية الحية أن يجعل ماهية «البايديا» (شيئًا) تمكن رؤيته ومعرفته، وفي الوقت نفسه نجد أفلاطون يحاول أن يعصم ماهية «البايديا» من أن تتحول إلى مجرد معلومات تفرغ في النفس التي لم تتهيأ لها كما لو كانت وعاءً فارغًا ينتظر مَن يملؤه، فالواقع أن «التكوين» الأصيل يستولي على النفس ذاتها ويحولها بكليتها، وذلك حين يمهد لهذا بوضع الإنسان في مكانه الماهوي (الأساسي) ويعوده عليه، والعبارة التي يفتتح بها أفلاطون حكاية الكهف في بداية الباب السابع من الجمهورية تبيِّن بوضوح كافٍ أن الهدف من «الرمز» هو تصوير ماهية «البايديا»: «عليك بعد هذا أن تكون لنفسك من التجربة (التي سيقدمها فيما بعد) نظرة في (ماهية) «التكوين» و«عدم التكوين»؛ إذ إنهما أمران (مرتبطان) متصلان بصميم وجودنا الإنساني».٢٦
إن «رمز الكهف» — كما تقول عبارة أفلاطون بوضوح — بصور ماهية «التكوين»، ولكن هذا التفسير الذي نحاول تقديمه للرمز يهدف على العكس من ذلك إلى بيان «نظرية» أفلاطون عن الحقيقة، ألا نحمل «الرمز» عن طريق هذه المحاولة بشيء غريب عليه؟ إن التفسير (في هذه الحالة) مهدد بالانحراف إلى نوع من التأويل المغتصب، ربما يبدو هذا في الظاهر، إلى أن يثبت الرأي القائل بأن تفكير أفلاطون يخضع لتحوُّل (تم في مفهوم) ماهية الحقيقة، بحيث أصبح هذا التحوُّل هو القانون الخفي الذي يعتمد عليه ما يقوله (هذا) المفكر، هذا التفسير الذي فرضته محنة متأخرة يذهب إلى أن «الرمز» لا يقتصر على تصوير ماهية «التكوين» في صورة (حية ملموسة)، بل يُضيف إلى ذلك أنه في نفس الوقت يوسع أفق البصر لكي ينفتح على التحول الذي تم في ماهية الحقيقة، وإذا كان الرمز قادرًا على توضيح هذين الأمرين، ألا يستلزم هذا أن تكون هناك علاقة ماهوية (أساسية) تجمع بين «التكوين» و«الحقيقة»، الواقع أن هذه العلاقة قائمة، وهي تكمن في أن ماهية الحقيقة وأسلوب التحوُّل (في مفهومها) هما اللذان يجعلان «التكوين» من ناحية بنيته الأساسية أمرًا ممكنًا.
١ هذا هو الوصف الشائع له، وقد يُوصَف أيضًا بأسطورة الكهف، ولعل الأصح أن يُقال «أمثولة الكهف».
٢ في الأصل باليونانية: πόλις (المدينة).
٣ راجع: الترجمة العربية للدكتور فؤاد زكريا، من صفحة ٢٤٦ إلى صفحة ٢٤٩، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧م، وراجع إن شئت أيضًا مقال كاتب السطور عن كهف أفلاطون (وتجد به نفس الحوار التالي من الباب السابع للجمهورية) وقد نشر المقال في مجلة «المجلة» عدد أكتوبر ١٩٦٦م، ثم أُعيد نشره في كتاب «مدرسة الحكمة» ص٣١–٤٥، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة، ١٩٦٧م.
٤ يُلاحَظ أن هيدجر نشر النص اليوناني مع الترجمة الألمانية، وقد اعتمدت في مقالي السابق الذكر على النص الأصلي والترجمة المقابلة له، وذلك قبل أن يبعث الزمن والنسيان بمعلوماتي القليلة عن اللغة اليونانية!
٥ أو الاستنارة أو عدم الاستنارة.
٦ أي أنه سيفضل، مثل أخيل، أن يعمل كأجير فقير في عالم العقل العلوي على أن يكون ملكًا متوجًا في عالم الأشباح.
٧ (الجمهورية، ٧، ١٤، ٥١٤أ، ٢ إلى ٥١٧أ، ٧.)
٨ العبارة في الأصل باليونانية: τὴν … δι’ ὄψεως φαινομένην ἕδραν.
٩ أو جانب أو مرأى منه Aspekt ويلاحظ أن «المظهر» الذي تتحدث عن العبارة ليس هو المقابل للحقيقة، وإنما هو «المنظر» الذي يظهر به الموجود نفسه ويتجلَّى للنظر.
١٠ في الأصل باليونانية: ἰδέα ‒ εἴδος (لاحظ أن هيدجر — كما سيوضح هذا فيما بعد — يرمي إلى أن كلمة المثال أو الفكرة «إيديا» تأتي من المظهر أو المنظر الذي يظهر به الموجود، وهي بذلك التي تتيح له أن يظهر أو يوجد على الصورة التي يبدو بها).
١١ أي رمز الكهف الذي تتناوله الدراسة.
١٢ علامتا التنصيص من عندي ولم تَرِدا في النص الأصلي.
١٣ أو الموجودة الحاضرة.
١٤ في الأصل باليونانية: ἡ τοῦ ἀγαθοῦ ἰδέα.
١٥ يذكر المؤلف هذا النص باليونانية في ترجمته الألمانية ويحدِّد موضعه من الجمهورية (٥١٨أ، ٢٥). διτταὶ καὶ ἀπὸ διττῶν γίγνονται ἐπιταράξεις ὄμμασιν.
١٦ أي أكثر حظًّا من الماهية وأقرب إلى الجوهر والأصل والأساس.
١٧ الكلمة الأصلية Wesen من الكلمات التي لا يمل هيدجر تكرارها بمعانٍ وأشكال لا حصر لها، والمعنى الأصلي لها هو الكيان والكينونة والماهية، وقد تعني كذلك الجوهر والأساس والقوام؛ ولهذا تجدني أثقل عليك بذكر المعنى المحتمل بين قوسين!
١٨ أي الموقف الذي يعول عليه ويمكن أن يتخذ مقياسًا ومعيارًا.
١٩ أي تقوم عليها ماهية الإنسان.
٢٠ تترجم عادة بالتربية أو الاستنارة، وإن كان هيدجر سيترجمها بالتكوين أو التهيئة والصوغ والتشكيل.
٢١ في الأصل باليونانية: περιαγωγὴ ὅλης τῆς ψυχῆς (بيري أجوجي هوليس تيس بسيخيس) أي تحول النفس بكليتها، ويُلاحَظ أن ترجمة هيدجر لهذا التعريف الرائع ترجمة تفسيرية لا حرفية.
٢٢ في الأصل باليونانية: ἀπαιδευσία ومعناها الحرفي ضد التربية أو عدم الاستنارة، ولكنها في مفهوم هيدجر عدم التكون والتشكل، أي هي في النهاية عدم الاتجاه إلى حقيقة الوجود كما تتجلَّى وتحتجب في آنٍ واحدٍ كلما ظهر الموجود.
٢٣ الكلمة الألمانية التي يذكرها هيدجر هي Bildung وهي في اللغة العادية تعني التربية والثقافة والتهذيب، كما تعني التكوين والتشكيل والإنشاء.
٢٤ ما بين قوسين زيادة مني لتوضيح مضمون العبارة.
٢٥ يُلاحَظ أن هيدجر يتلاعب هنا بالفعل bilden (يكون أو يصوغ) والاسم Vor-bild (نموذج أو صورة أولية) ولهذا لزم التصرف.
٢٦ العبارة في الأصل باليونانية: Μετὰ ταῦτα δή, εἶπον, ἀπείκασον τοιούτῳ πάθει τὴν ἡμετέραν φύσιν παιδείας τε πέρι καὶ ἀπαιδευσίας. (ميتا تاوتادي، أيبون، أبيكازون، تويشوتو باثاي تين هميتيران فيزين بايداياس تي بيري كاي آبايدويزياس).
* من كتاب: (نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر)
يُعبَّر عادةً عن المعارف التي تصل إليها العلوم في قضايا، وتُقدَّم للإنسان في صورة نتائج صالحة للتطبيق، و«نظرية» أحد المفكرين هي ذلك الذي لم يقُله في ثنايا قوله، وهي ذلك الذي يتعرض له الإنسان بحيث يَهَب له نفسه في سخاء.
ومن أجل أن نجرِّب ذلك الذي لم يقله أحد المفكرين — أيًّا كان نوعه — ونتمكن من معرفته والإحاطة به في المستقبل، فلا بد لنا أن نتفكَّر فيما يقوله، والوفاء بهذا المطلب يقتضي مِنَّا أن نتناول «بالدرس والتحليل» جميع «محاورات» أفلاطون في صورة متَّسقة، ولما كان هذا الأمر مستحيلًا، فإن علينا أن نسلك طريقًا آخر يؤدي بنا إلى ذلك «الجانب» الذي لم يقله أفلاطون ولم يُفصح عنه فكره.
هذا الجانب الذي ظلَّ «مطويًّا»، فلم يقُله أفلاطون؛ يعبِّر عن تحول في تحديد ماهية الحقيقة. وتحقق هذا التحوُّل في ماهية الحقيقة، ومضمونه، وما تأسَّس عليه، هو ما سوف نحاول توضيحه على ضوء التفسير الذي سنقدِّمه ﻟ «رمز للكهف».١
يبدأ الكتاب السابع من «محاورة» أفلاطون عن ماهية «البوليس»٢ بتقديم صورة عن «رمز الكهف» (الجمهورية، ٧، ٥١٤أ، ٢ إلى ٥١٧أ، ٧)،٣ والرمز يروي حكاية، والحكاية تنمو وتتطوَّر في حوار سقراط مع جلوكون، الأوَّل يصورها، والثاني يعبِّر عن الدهشة التي تستيقظ في نفسه، والترجمة التالية٤ توضح النص الأصلي وتشرحه ببعض الإضافات الموضوعة بين قوسين.
سقراط: والآن، قارن طبيعتنا من وجهة التربية٥ بمثل هذه التجربة، تأمَّل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكنٍ أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يُقيمون منذ الطفولة مقيدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم بحيث يبقون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا النظر إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم، بسبب هذه القيود والسلاسل، عاجزون عن التلفُّت حولهم برءوسهم، في إمكانهم مع ذلك أن يُبصروا نورًا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيدين بالسلاسل (أي في ظهورهم) يمتدُّ في الجهة العلوية طريق بُني على طوله — تصور هذا — جدار منخفض شبيه بالحواجز التي يقيمها المهرجون (أصحاب الألعاب البهلوانية والعرائس المتحركة) أمام الناس لكي يعرضوا عليهم ألعابهم.
قال: هذا ما أراه.
– تأمل كذلك كيف يَعْبر الناس على طول هذا الجدار الصغير حاملين مختلف الأشياء، من تماثيل وصورٍ من الحجر والخشب وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظر، ويمر البعض الآخر صامتين.
– صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوع غريب.
قلت: إنهم يشبهوننا، نحن البشر، شبهًا تامًّا، مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينُهم منذ البداية، سواء أكان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم، إلا على الظلال التي تُلقيها النار على جدار الكهف المواجه لهم.
قال: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أجبروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم.
– ولكن ماذا عساهم يَرَوْن من هذه الأشياء التي يحملها الناس (خلف ظهورهم)؟ ألَا يرون هذه «الظلال» نفسها؟
– الأمر كذلك في الواقع.
– لو كان في وسعهم أن يتحدَّثوا مع بعضهم البعض عمَّا يرَوْن، ألا نعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟
– بالضرورة.
– ماذا يكون الأمر إذن لو أن هذا السجن تردَّد فيه صدًى من الجدار المواجِه لهم؟ ألَا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرُّون خلف المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمرُّ أمامهم؟
– لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.
قلت: إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئًا حقيقيًّا سوى ظلال الأدوات (التي يحملها العابرون).
قال: بالطبع هذا أمر ضروري.
قلت: تتبع إذن بنظرتك كيف يفك هؤلاء المساجين من قيودهم ويشفون في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتَفكَّر عندئذٍ كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي، كلما فُكَّت السلاسل عن أحدهم وأُجبر على الوقوف على قدميه فجأة والالتفات برقبته والسير قُدُمًا والتطلع إلى النور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألمًا (شديدًا)، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبل (لو أن ذلك كله حدث له)، فماذا تحسبه يقول لو أن أحدًا أخبره بأن ما رآه من قبل لم يكن إلا عدمًا، وأنه الآن أقرَبُ إلى الوجود، وأن نظره أكثر صوابًا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودًا؟
ولو أن أحدًا عرض عليه الأشياء التي مرَّت عليه واحدًا بعد الآخر واضطره أن يُجيب عن سؤاله عمَّا هو هذا الشيء، ألَا تعتقد أنه سيحار كيف يرد عليه وأنه سيعد ما رآه بعينيه من قبل أكثر حقيقة مما يعرض عليه الآن؟
– بالطبع.
– وإذا أُجبِر أحد على النظر إلى النور (المنبعث من النار)، ألن تؤلمه عيناه ويتمنَّى أن يحولهما عنه ويفر إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يُعرض الآن عليه؟
– الأمر كذلك.
قلت: وإذا حدث أن أحدًا جذبه بالقوة من هناك وشدَّه على الطريق الوعر (إلى خارج الكهف) ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذٍ بالألم والسخط؟ ألن يحس، وقد وقف في نور الشمس، بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئًا مما يُقال له الآن إنه حق؟
– لن يقوى أبدًا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل.
– أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعوُّد إذا كان عليه أن يرى ما هناك (أي خارج الكهف في ضوء الشمس)، إنه سيتمكَّن في أول الأمر (نتيجة لهذا التعود) من النظر في يسرٍ شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، إلى أن يتمكَّنَ أخيرًا من رؤية هذه الأشياء نفسها (أي الموجودات الحقيقية بدلًا من انعكاساتها)، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما «يتجلى» منها في قبة السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلَّع ببصره إلى ضوء النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟
– لا شك في ذلك.
– أعتقد أنه سيتمكَّن في آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب (وسيتمكَّن من النظر) إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها، وفي الموضع المحدد لها، لكي يتأمَّلها ويتعرَّف طبيعتها.
– من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك.
– وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يُجمل القول عنها (أي عن الشمس) فيعرف أنها هي التي تضمن «تعاقب» فصول السنة كما تضمن «مر» السنين وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها (أي الشمس) هي علة كل ما يجده أولئك (المقيمون في الكهف) على نحو من الأنحاء حاضرًا أمامهم.
– واضح أنه سيصل إلى هذا (أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها) بعد أن تجاوز ذاك (أي ما كان ظلًّا وانعكاسًا فحسب).
– ماذا يحدث إذن لو أنه تذكر سكنه الأوَّل وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له، بينما يأسف لأولئك؟
– أسفًا شديدًا!
– فإذا حددت في المكان القديم (بين من كانوا يقيمون في الكهف) جوائز وألوان معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة ثم ما يتبعها أو يتفق مروره معها في وقت واحد، ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه (أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة) سيحس بالشوق إليهم (أي إلى الذين ما يزالون في الكهف) لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة، أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجل غريب فقير»٦ وسيحتمل كل ما يمكن احتماله ويؤثره على اعتناق الآراء (التي يؤمنون بها في الكهف) والحياة كما يحبون؟
– أعتقد أنه سيفضِّل أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة (التي يحيونها في الكهف).
قلت: والآن تفكَّر في هذا، لو حدثَ لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط إليه مرة أخرى وجلس في نفس المكان (الذي كان يجلس فيه)، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟
قال: طبيعي جِدًّا أن يحدث له ذلك.
– فإذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان (من الضوء) قبل أن تعودا سيرتهما الأولى — الأمر الذي سيستغرق منه زمنًا غير قليل حتى يتعود عليه — ألا تعتقد أنه سيعرض نفسه هناك للسخرية، وأنهم سيحاولون إقناعه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينين مريضتين، وأن الأمر لا يستحق أبدًا أن يشقَّ الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمدَّ يديه ليفكَّ عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، (ألَا تعتقد) أنهم لو استطاعوا أن يُمسكوا به ويقتلوه، فسوف يقتلونه حقًّا؟
قال: يقينًا سيفعلون ذلك.٧
•••
ما معنى هذه الحكاية؟ — إن أفلاطون يتولَّى الجواب بنفسه، فهو يقوم بتفسيرها بعد الانتهاء من روايتها مباشرة (٥١٧أ، ٨ إلى ٥١٧د، ٧).
المسكن الشبيه بالكهف هو «صورة»، «المقر الذي يتبدى للنظر» (كل يوم)،٨ والنار المتوهجة في الكهف، فوق رءوس سكانه، هي «صورة» الشمس، وقبة الكهف تمثِّل قبة السماء، تحت هذه القبة يعيش البشر، مرتبطين بالأرض ومقيدين بها، وكل ما يُحيط بهم ويشغلهم هو بالنسبة إليهم «الواقع» أي الموجود، في هذا المسكن الشبيه بالكهف يجدون أنهم «في العالم» وأنهم «في بيتهم» ويجدون كل ما يثقون فيه ويعتمدون عليه.
أمَّا الأشياء التي يسميها «الرمز» وتمكن رؤيتها خارج الكهف فهي صورة ذلك الذي تتقوم به الموجودية التي يختص بها الموجود، وهذا في رأي أفلاطون هو ما به يتجلى الموجود في «مظهره»، هذا المظهر لا يعدُّه أفلاطون مجرد «وجه» من وجوهه،٩ إن «المظهر» في رأيه ينطوي على نوع من «البروز» أو «البزوغ» الذي يجعل كل شيء «يحضر» أو يمثل أو يقدم نفسه، إن الموجود يتبدَّى أو يتجلَّى في «مظهره».
والمظهر في اللغة اليونانية هو «الأيدوس» أو «الأيديا»،١٠ والأشياء التي يغمرها ضوء النهار خارج الكهف، حيث يمتدُّ مجال الرؤية الحرة إلى كل شيء، تصور «المثل» في «الرمز» في صورة عيانية، ولو لم تكن هذه المثل — أي هذه المظاهر المتنوعة التي تتبدَّى بها الأشياء والكائنات الحية والبشر والأعداد والآلهة — نصب عيني الإنسان، لَما أمكنه في رأي أفلاطون أن يُدرك هذا أو ذاك، ويعرف أنه بيت أو شجرة أو إله. إن الإنسان يتصوَّر عادةً أنه يرى أمامه هذا البيت وتلك الشجرة وسائر الموجودات، غير أنه في معظم الأحوال لا يشعر أدنى شعور بأنه لا يرى كل ما يألفه ويعتقد أنه «الواقع» إلا على ضوء «المثل»، ولكن كل ما يتصور الإنسان أنه وحده هو الواقع، كل ما يمكن أن يرى مباشرةً ويسمع ويلمس ويقدر حسابه، يظل في نظر أفلاطون مجرد انعكاس باهت للمثل، أي مجرد ظل، هذا الشيء القريب من الإنسان أشد القرب، هذا الذي يبقى ظلًّا على الرغم من كل شيء، هو الذي يأسر الإنسان ويقيده في حياته اليومية، إنه يحيا في سجن ويترك جميع «المثل» وراء ظهره، ولأنه لا يعلم أن هذا السجن سجن، تجده يتصور أن هذا المجال الذي تدور فيه حياته اليومية تحت قبة السماء هو مجال التجربة والحكم اللذين يحدِّدان مقياس جميع الأشياء والعلاقات، ويضعان القاعدة التي يقوم عليها كيانها ونظامها.
لو فكرنا بلغة «الرمز»١١ وتخيَّلنا الإنسان وقد التفت فجأة إلى النار المشتعلة خلف ظهره في داخل الكهف — هذه النار التي يعكس لهبها ظلال الأشياء التي تمر هنا وهناك — لَوجدنا أنه سيحس على الفور بأن هذا التحول غير المعتاد في الرؤية والنظر إنما هو إزعاج للسلوك المألوف والظن الشائع، بل إن مجرد التفكير في مثل الموقف الغريب الذي يُنتظر من الإنسان أن يتَّخذه في داخل الكهف سيرفض رفضًا باتًّا؛ لأنه هناك في الكهف «يعتقد أنه» يمتلك الواقع امتلاكًا كاملًا واضحًا لا لَبْس فيه، هذا الإنسان الذي يحيا في الكهف متشبِّثًا «برأيه» لن يكون في وسعه أن يحس أدنى إحساس بأن واقعه قد لا يكون إلا ظِلًّا، وكيف يتسنَّى له أن يعرف شيئًا عن الظلال إذا كان لا يُريد أن يعرف أي شيء عن النار المشتعلة في الكهف ولا عن الضوء المنبعث منها، مع أن هذه النار لا تخرج عن كونها نارًا صناعية، ومن المفروض فيها أن تكون مألوفةً لديه. وعلى العكس من ذلك نور الشمس الساطع خارج الكهف، فهو نور لم «يصنعه»١٢ الإنسان، إن الكائنات النامية والأشياء الماثلة١٣ تتجلَّى في نوره الساطع تجليًا مباشرًا دون حاجة إلى تصوُّرها عن طريق الظلال التي تعكسها، والأشياء التي تتجلَّى بنفسها تُعتبر في الرمز صورة «للمثل»، ولكن الشمس في «الرمز» تمثِّل «صورة» ذلك الذي يجعل جميع المثل مرئية، إنها صورة مثال المثل، هذا المثال يسمِّيه أفلاطون «هي توأجاثو» ويُترجَم عادةً ترجمة حرفية لا تخلو من سوء فهم ﺑ «مثال الخير».١٤
هذه الأنواع المختلفة من التطابق التي حصرناها الآن بين الظلال والواقع الذي يجرِّبه الإنسان كل يوم، بين انعكاس ضوء النار في الكهف والنور الساطع الذي يغمر الواقع القريب المألوف، بين الأشياء الموجودة خارج الكهف والمثل، بين الشمس وأعلى المثل (هذه الأنواع المختلفة من التطابق) لا تستنفد مضمون «الرمز»، أجل! إننا لم نتوصَّلْ بعد إلى أخص ما يخص هذا الرمز، ذلك لأنه يروي لنا أحداثًا ولا يقتصر على بيان الأماكن التي يقيم فيها الإنسان والمواقع التي يشغلها داخل الكهف وخارجه، ولكن الأحداث التي يعرضها علينا هي في الواقع مراحل انتقال من الكهف إلى ضوء النهار يعقبها الرجوع من ضوء النهار إلى الكهف.
ماذا يحدث في مراحل الانتقال هذه؟ ما الذي يجعلها ممكنة؟ مِمَّ تستمد ضرورتها؟ ما هي أهميتها؟
إن الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار والعودة من هناك مرة أخرى يتطلَّب من الأعين أن تُغيِّر ما اعتادت عليه فتتحوَّل من الظلام إلى النور ثم من النور إلى الظلام، ستعاني الأعين في كل مرة من الحيرة والارتباك وستكون معاناتها لسببين مختلفين كل الاختلاف: «ستحسُّ الأعين بنوعين من الحيرة والارتباك؛ وذلك لسببين مختلفين».١٥
معنى هذا أن الإنسان يمكن أن ينتقل من جهل لا يكاد ينتبه له، إلى حيث يتجلَّى له الموجود في صورة أكثر ماهوية،١٦ وإن لم ينضج بعدُ ولم يتهيَّأ لمثل هذا الموجود، وقد يمكنه من ناحية أخرى أن ينتزع من موقف المعرفة الماهوية (الأساسية) الذي وصل إليه فيلقي به في مجال يتحكَّم فيه الواقع الشائع المعتاد، دون أن يكون على استعداد للاعتراف بأن ما يألفه ويباشره في هذا المجال هو الواقع، وكما يتحتَّم على العين الجسدية أن تُثابر على تغيير عاداتها في بطء ودأب، سواء أرادت أن تتعود على النور الساطع أو على الظلام الدامس، كذلك يتحتَّم على النفس أيضًا أن تأخذ نفسها بالصبر والتأني حتى تتعوَّد على مجال الموجود الذي تُواجهه وتتعرَّض له، غير أن مثل هذا التعود يتطلَّب أوَّلًا من النفس أن تتحول بكليتها نحو الاتجاه الأساسي الذي تنزع إليه، شأنها في هذا شأن العين التي لا يُمكنها أن ترى الرؤية الصحيحة الشاملة إلا إذا سبق للجسم كله اتخاذ الوضع الملائم لذلك.
لكن لم يتطلب التعود على هذا المجال أو ذاك كل هذا الدأب والصبر والأناة؟ لأن التحول (في الاتجاه) يمس وجود الإنسان، ولهذا يتمُّ في صميم كيانه (ماهيته)،١٧ معنى هذا أن الموقف الأساسي١٨ الذي ينبغي أن ينشأ عن تحول في الاتجاه، لا بد أن ينبثق من علاقة تحمل الكائن الإنساني١٩ بالفعل وتتطور إلى مسلك ثابت، هذا التحول والتغيُّر الذي يؤدي إلى تعود الكائن الإنساني على المجال الذي يوجه إليه هو الذي يؤلف ماهية ذلك الذي يُطلِق عليه أفلاطون اسم «البايديا»،٢٠ وليس من سبيل إلى ترجمة هذه الكلمة، «فالبايديا» — بحسب تحديد أفلاطون لماهيتها — هي «التمهيد لتحول اتجاه الإنسان بكليته وفي ماهيته»،٢١ ولهذا فإن «البايديا» في ماهيتها انتقال، وهذا الانتقال يتم من «الأبايدويزيا»٢٢ إلى «البايديا»، وتبقى «الباديديا» — طبقًا لطابع الانتقال هذا — على علاقة مستمرة «بالأبايدويزيا»، ولعل أنسب كلمة ألمانية يمكن أن تُقابل الاسم اليوناني «بايديا» هي كلمة «التكوين»٢٣ وإن كانت في الواقع لا تفي به وفاءً تامًّا، ويجب علينا بطبيعة الحال أن نرد للكلمة الأخيرة طاقتها التعبيرية الأصلية وأن ننسى ما لحق بها في أواخر القرن التاسع عشر من سوء التأويل، إن «التكوين» يدل على معنيين: فهو من ناحية تكوين بمعنى الصياغة أو التشكيل (الذي يصوغ مادة الشيء ويظهره)،٢٤ ولكن هذا «التكوين» «يكون» (أو يشكل ويصوغ) في نفس الوقت تبعًا لمطابقة مسبقة مع صورة أولية معتمدة عليها، تُسَمَّى لهذا السبب نموذجًا،٢٥ إن «التكوين» تشكيل وصياغة، وهو بالإضافة إلى هذا مدخل إلى صورة معينة، والماهية المضادة «للبايديا» هي «الأبايدويزيا» أي الافتقار إلى التكوين (التشكيل والصياغة) أو نقصه وعدمه، وهذا النقص في التكوين لا يتفتح فيه الموقف الأساسي، ولا يوضح فيه النموذج الذي يمكن الاعتماد عليه.
إن مكمن القوة في دلالة «رمز الكهف» هو أنه يحاول عن طريق الصورة القصصية الحية أن يجعل ماهية «البايديا» (شيئًا) تمكن رؤيته ومعرفته، وفي الوقت نفسه نجد أفلاطون يحاول أن يعصم ماهية «البايديا» من أن تتحول إلى مجرد معلومات تفرغ في النفس التي لم تتهيأ لها كما لو كانت وعاءً فارغًا ينتظر مَن يملؤه، فالواقع أن «التكوين» الأصيل يستولي على النفس ذاتها ويحولها بكليتها، وذلك حين يمهد لهذا بوضع الإنسان في مكانه الماهوي (الأساسي) ويعوده عليه، والعبارة التي يفتتح بها أفلاطون حكاية الكهف في بداية الباب السابع من الجمهورية تبيِّن بوضوح كافٍ أن الهدف من «الرمز» هو تصوير ماهية «البايديا»: «عليك بعد هذا أن تكون لنفسك من التجربة (التي سيقدمها فيما بعد) نظرة في (ماهية) «التكوين» و«عدم التكوين»؛ إذ إنهما أمران (مرتبطان) متصلان بصميم وجودنا الإنساني».٢٦
إن «رمز الكهف» — كما تقول عبارة أفلاطون بوضوح — بصور ماهية «التكوين»، ولكن هذا التفسير الذي نحاول تقديمه للرمز يهدف على العكس من ذلك إلى بيان «نظرية» أفلاطون عن الحقيقة، ألا نحمل «الرمز» عن طريق هذه المحاولة بشيء غريب عليه؟ إن التفسير (في هذه الحالة) مهدد بالانحراف إلى نوع من التأويل المغتصب، ربما يبدو هذا في الظاهر، إلى أن يثبت الرأي القائل بأن تفكير أفلاطون يخضع لتحوُّل (تم في مفهوم) ماهية الحقيقة، بحيث أصبح هذا التحوُّل هو القانون الخفي الذي يعتمد عليه ما يقوله (هذا) المفكر، هذا التفسير الذي فرضته محنة متأخرة يذهب إلى أن «الرمز» لا يقتصر على تصوير ماهية «التكوين» في صورة (حية ملموسة)، بل يُضيف إلى ذلك أنه في نفس الوقت يوسع أفق البصر لكي ينفتح على التحول الذي تم في ماهية الحقيقة، وإذا كان الرمز قادرًا على توضيح هذين الأمرين، ألا يستلزم هذا أن تكون هناك علاقة ماهوية (أساسية) تجمع بين «التكوين» و«الحقيقة»، الواقع أن هذه العلاقة قائمة، وهي تكمن في أن ماهية الحقيقة وأسلوب التحوُّل (في مفهومها) هما اللذان يجعلان «التكوين» من ناحية بنيته الأساسية أمرًا ممكنًا.
١ هذا هو الوصف الشائع له، وقد يُوصَف أيضًا بأسطورة الكهف، ولعل الأصح أن يُقال «أمثولة الكهف».
٢ في الأصل باليونانية: πόλις (المدينة).
٣ راجع: الترجمة العربية للدكتور فؤاد زكريا، من صفحة ٢٤٦ إلى صفحة ٢٤٩، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧م، وراجع إن شئت أيضًا مقال كاتب السطور عن كهف أفلاطون (وتجد به نفس الحوار التالي من الباب السابع للجمهورية) وقد نشر المقال في مجلة «المجلة» عدد أكتوبر ١٩٦٦م، ثم أُعيد نشره في كتاب «مدرسة الحكمة» ص٣١–٤٥، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة، ١٩٦٧م.
٤ يُلاحَظ أن هيدجر نشر النص اليوناني مع الترجمة الألمانية، وقد اعتمدت في مقالي السابق الذكر على النص الأصلي والترجمة المقابلة له، وذلك قبل أن يبعث الزمن والنسيان بمعلوماتي القليلة عن اللغة اليونانية!
٥ أو الاستنارة أو عدم الاستنارة.
٦ أي أنه سيفضل، مثل أخيل، أن يعمل كأجير فقير في عالم العقل العلوي على أن يكون ملكًا متوجًا في عالم الأشباح.
٧ (الجمهورية، ٧، ١٤، ٥١٤أ، ٢ إلى ٥١٧أ، ٧.)
٨ العبارة في الأصل باليونانية: τὴν … δι’ ὄψεως φαινομένην ἕδραν.
٩ أو جانب أو مرأى منه Aspekt ويلاحظ أن «المظهر» الذي تتحدث عن العبارة ليس هو المقابل للحقيقة، وإنما هو «المنظر» الذي يظهر به الموجود نفسه ويتجلَّى للنظر.
١٠ في الأصل باليونانية: ἰδέα ‒ εἴδος (لاحظ أن هيدجر — كما سيوضح هذا فيما بعد — يرمي إلى أن كلمة المثال أو الفكرة «إيديا» تأتي من المظهر أو المنظر الذي يظهر به الموجود، وهي بذلك التي تتيح له أن يظهر أو يوجد على الصورة التي يبدو بها).
١١ أي رمز الكهف الذي تتناوله الدراسة.
١٢ علامتا التنصيص من عندي ولم تَرِدا في النص الأصلي.
١٣ أو الموجودة الحاضرة.
١٤ في الأصل باليونانية: ἡ τοῦ ἀγαθοῦ ἰδέα.
١٥ يذكر المؤلف هذا النص باليونانية في ترجمته الألمانية ويحدِّد موضعه من الجمهورية (٥١٨أ، ٢٥). διτταὶ καὶ ἀπὸ διττῶν γίγνονται ἐπιταράξεις ὄμμασιν.
١٦ أي أكثر حظًّا من الماهية وأقرب إلى الجوهر والأصل والأساس.
١٧ الكلمة الأصلية Wesen من الكلمات التي لا يمل هيدجر تكرارها بمعانٍ وأشكال لا حصر لها، والمعنى الأصلي لها هو الكيان والكينونة والماهية، وقد تعني كذلك الجوهر والأساس والقوام؛ ولهذا تجدني أثقل عليك بذكر المعنى المحتمل بين قوسين!
١٨ أي الموقف الذي يعول عليه ويمكن أن يتخذ مقياسًا ومعيارًا.
١٩ أي تقوم عليها ماهية الإنسان.
٢٠ تترجم عادة بالتربية أو الاستنارة، وإن كان هيدجر سيترجمها بالتكوين أو التهيئة والصوغ والتشكيل.
٢١ في الأصل باليونانية: περιαγωγὴ ὅλης τῆς ψυχῆς (بيري أجوجي هوليس تيس بسيخيس) أي تحول النفس بكليتها، ويُلاحَظ أن ترجمة هيدجر لهذا التعريف الرائع ترجمة تفسيرية لا حرفية.
٢٢ في الأصل باليونانية: ἀπαιδευσία ومعناها الحرفي ضد التربية أو عدم الاستنارة، ولكنها في مفهوم هيدجر عدم التكون والتشكل، أي هي في النهاية عدم الاتجاه إلى حقيقة الوجود كما تتجلَّى وتحتجب في آنٍ واحدٍ كلما ظهر الموجود.
٢٣ الكلمة الألمانية التي يذكرها هيدجر هي Bildung وهي في اللغة العادية تعني التربية والثقافة والتهذيب، كما تعني التكوين والتشكيل والإنشاء.
٢٤ ما بين قوسين زيادة مني لتوضيح مضمون العبارة.
٢٥ يُلاحَظ أن هيدجر يتلاعب هنا بالفعل bilden (يكون أو يصوغ) والاسم Vor-bild (نموذج أو صورة أولية) ولهذا لزم التصرف.
٢٦ العبارة في الأصل باليونانية: Μετὰ ταῦτα δή, εἶπον, ἀπείκασον τοιούτῳ πάθει τὴν ἡμετέραν φύσιν παιδείας τε πέρι καὶ ἀπαιδευσίας. (ميتا تاوتادي، أيبون، أبيكازون، تويشوتو باثاي تين هميتيران فيزين بايداياس تي بيري كاي آبايدويزياس).
* من كتاب: (نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر)