لم يفارق النوم عيني بعد.. إصرار غريب على إزعاجى.. إنّها المرة الخامسة، التي يرن جرس الباب في أقل من دقيقتين.. سألت نفسي: “من القارع؟! من هو هذا الشخص الذي لا يعرف الرحمة ولا الصبر…” تثاءبت بصوت مرتفع… دعكت جفوني، كإناء صدئ لأستجلب اليقظة.. ثم أجبت بصوت عالٍ: “حاضر.. حاضر…” ولكن ليس من مستجيب.. شعرت أنّ مصر كلّها تقرع الجرس.
أدرت المفتاح فى طبلة الباب.. وأنا أتساءل: “لماذا أغلق على نفسي بالمفتاح… أنا أعيش وحيدًا، وليس لدى ثروة… لا شيء لدي يمثّل صيدًا ثمينًا، أو مطمعًا للصوص.. حتى الشقة ذاتها قابعة فى منطقة دون الشعبية بقليل، تبدو بين الأبنية العشوائية كعلبة سردين في وسط كومة قمامة.
ورثت الخوف من أمي…
فتحت الباب، كان الواقف خلفه مجهولًا لي.. لم أرحب به.. ألقى السلام عليّ.. تباطأت فى الردّ، إلّا أنّه احتضنني، وقبّلني، كأنّه يعرفني.. اندهشت من إصراره على احتضاني.. قال: إنّه من طرف سالم أخيك.. انفرجت أساريري قليلًا، وقلت: “اهلًا وسهلًا، خير إن شاء الله!”
“معي رسالة منه.. أوصاني أن تصلك اليوم”
لم أجد بدًا من الترحاب به.. أدخلته إلى غرفة المكتب والضيوف الضيقة.. غرفة ذات غرضين، وهي خالية من الكتب، فيها مكتب خشبيّ متآكل الحواف، وثلاثة مقاعد بأقدام شبه عرجاء وتنجيد خشن من قش الأرز، لاستقبال الضيوف، وعلى الحائط قبالة المكتب لوحة باهتة لأشجار كثيفة.. جرِبت خضرتها من تراكم الأوساخ على سطحها.. اشتريتها من بائع الروبابيكيا مع لوحة المرأة شبه العارية، التى أضعها قبالة السرير فى غرفة النوم.. رحبت به مع شيء من التصنّع.. لكنني شعرت بشيء من الود بدأ يتسرب ناحيته، حيت تعلّق نظري بالرسالة التي يحملها.. لاحظ ذلك.. فناولني إياها.. استأذنت منه لإعداد الشاي.. حاملًا معي الرسالة لأقرأها بعيدًا عنه؛ فأقسم علي ألّا أتعب نفسي.. ولكنني أصريت على أن أقدّم له الضيافة: “نحن فلاحين لا يصح ذلك.. كفاية تعب سيادتك” دلفت الى المطبخ الضيق الذي هو عبارة عن طرقة صغيرة تنتهي بمرحاض بلدي ودش أستخدمه حمّامًا.
خلطت قليلًا من الشاي الفرط بالمياه في براد اختفت معالمه من الخارج، وضعته على موقد البوتوجاز المسطّح، وفتحت الرسالة على عجل، كانت طويلة، لكنها لم تبدأ بالتحيات ولا السلامات، مما يجعلها مريبة، بل انعكس ذلك – للوهلة الأولى – قلقًا مكتومًا ومختلطًا برهبة انتقلت إلي بمجرد النظر إليها، وقلت في نفسي: “ليس هذا أسلوب أخي مدرّس التربية الدينية…” وشرعت في قراءتها:
أخي الغالي
لعلك بخير، أحبّ أن أبلغك أنّ الأمر فى قريتنا أصبح خطيرًا.. اتصلت بك ولم ترد، فأرسلت إليك رسالتي هذه، أرجوك ألّا تحضر فى العيد.. هناك واحد وعشرين حالة كورونا.. الذعر أحاط بالناس، أهل القرية يشعرون أنهم على مسافة أمتار من الموت، البعض يشعر أنّ الفناء التام للقرية أصبح قريبًا، لكنّ الغريب أنّ كورونا لم تظهر في قريتنا إلّا بعد قدوم شخص غريب ومريب. ظنّ الناس – في البداية – أنّه من رجالأامن الدولة، البعض قال: إنّه مندوبٌ لجهة سيادية جاء لدراسة مشروع بجوار القرية، وآخرون قالوا: وصل لدراسة شكاوى الأهالي.
الحيرة تتملك الأهالي، البعض يقسم: إنّ بعض ملامحه تتغير من يوم لآخر، وآخرون يقسمون: إنّ الغريب يظهر فى أكثر من مكان فى وقت واحد.. لا أحد يعرف بدقة.. رأيته مرتين من بعيد، لكنني لا أذكر ملامحه قبل الحظر بسبب جائحة كورونا، كان يجلس على المقاهي المتراصة فى مدخل القرية، يصلّي فى المسجد، ويتحرك في كلّ مكان، على الرغم من ذلك، لم يتفق أحد على ملامحه.. لا تندهش ستعرف سبب ما أحكيه لك.. الشائعة الأكثر تأكيدًا أنّه جاء؛ ليحقّق فى شكاوى أهل القرية ضد بعضهم البعض.. شوهد وهو يسجّل ملاحظات في أوراق صغيرة.. على الفور تغيّرت معاملة العمدة لأهل القرية.. قبل الحظر طاف بسوق القرية. الباعة ارتبكوا ظنًّا أنّه من مديرية التموين.. اختفت السلع الفاسدة.. التزموا بالأسعار.. حتّى مستأجري السوق التزموا لأول مرة بتعريفة الدخول.. كانوا يحصلون على خروج البقرة الواحدة خمسين جنيه، أخذوا عشرة فقط .. سبحان الله.. الشيخ عبد الهادي إمام المسجد ترك التكتوك الذي يعمل عليه، وانتظم فى الحضور للصلوات الخمس هو وعمال المسجد.. لم يكن يحضر إلا صلاة العشاء إن حضر.. ألقى درسًا بين المغرب والعشاء ــ حسب تعليمات مديرية الاوقاف ــ عن الإخلاص للوطن وطاعة أولياء الأمر، وهاجم الإخوان المسلمين بضراوة.. جرجس البقّال صرف التموين كاملًا من دون أي نقص فى السلع أو زيادة في الاسعار.. أعضاء الجمعية الزراعية صرفوا السماد كاملًا، أحرقوا الدفاتر التي فيها حيازات مزورة.. أم ياسمين أوقفت بيع البانجو للشباب.. رحلت عن القرية.
أغرب إشاعة أنه من أولياء الله، جاء ومعه الكورونا كجند من جنود الله ليعاقبنا؛ بعد انتشار الفساد فى القرية عشر حالات طلاق بسبب علاقات آثمة قبل الزواج على الفيس بوك، منهم حالات لم تكمل أسبوع زواج.. يقسم الشيخ رمضان شيخ الطريقة الساداتية أنّ الرجل من العارفين الأولياء الأتقياء.. أهل الخطوة والكرام. قيل: إن الغريب يذهب إلى الشيخ رمضان، زعم الشيخ أن هذا الرجل مندوب الله، المهم.. الجميع يخاف منه.
فكّر جيدًا، أمن الممكن أن نمزّق العقد اياه.. ونعيد ميراث أختك.. أنت تعلم أنه تزوير رسميّ، بعد أن حصلنا على حكم بصحة توقيع والدك المزوَّر.. صحيح أنّ أختك رضيت.. لكن سمعت أن زوجها هددها بأنّه سيبلغ الشرطة.. أرجوك أخبرني ماذا نفعل؟ الكورونا قد تعجّل بنا للقاء الله، وأنا خائف من الحساب.. خائف على أولايى من المال الحرام.. كما أنّ الشخص المريب الذى ظهر فى القرية شاهده عبد المعبود ابن خالك، وهو يقف مع زوج اختك، الأمور دخلت فى بعضها.. لا أحد يعرف هل هو مخبر للحكومة، أو من العارفين بالله، او من أى مصيبة.
الغريب في الأمر أن البعض شاهده فى جلباب بيضاء وطاقية خضراء، تدلّ على أنه من السادة البرهامية، والبعض قال حمراء فهو من اتباع السادة البيومية.. الكلام كثير.. لكن أكثر الناس شاهدوه يرتدى دائمًا بدلة زرقاء ورباط عنق أحمر.
توقّفت برهة عن قراءة الرسالة.. تراجعت بخاطري، ألم يكن القادم بالرسالة يرتدي بدلة زرقاء ورباط عنق أحمر.. زادت دقات قلبى.. ارتبكت .. طويت الرسالة، وخرجت لأتأكد.. لم يكن أحدٌ بالغرفة، لكنّ باب الشقة كان مواربًا، أسرعت أنظر الى السلم.. ثمة شخصٌ يهبط مسرعًا.. وقع أقدامه تدل على ذلك، عمودية السلم لم تسمح لي بتبين ملامحه.. لم أتأكّد من أنه هو!
ما الذى يحدث.. نظرت فى الرسالة، كانت مجرد ورقة بيضاء.. لا يوجد بها كلمة ولو حرف واحد، زادت حدة ضربات قلبي بدأ العرق ينساب من جبهتي.. هل احتضنني ليصيبني بالكورونا؟ هل سينشر فضيحة العقد إياه؟ هل كان هنا فعلًا؟ دارت بي الدنيا تحسّست وجهي، هل أنا يقظ؟! هل لا زلت نائمًا؟ لم أعرف ما يحدث بالضبط.. لكنني سمغت صوت فوران المياه الساخنة على موقد الغاز.
أدرت المفتاح فى طبلة الباب.. وأنا أتساءل: “لماذا أغلق على نفسي بالمفتاح… أنا أعيش وحيدًا، وليس لدى ثروة… لا شيء لدي يمثّل صيدًا ثمينًا، أو مطمعًا للصوص.. حتى الشقة ذاتها قابعة فى منطقة دون الشعبية بقليل، تبدو بين الأبنية العشوائية كعلبة سردين في وسط كومة قمامة.
ورثت الخوف من أمي…
فتحت الباب، كان الواقف خلفه مجهولًا لي.. لم أرحب به.. ألقى السلام عليّ.. تباطأت فى الردّ، إلّا أنّه احتضنني، وقبّلني، كأنّه يعرفني.. اندهشت من إصراره على احتضاني.. قال: إنّه من طرف سالم أخيك.. انفرجت أساريري قليلًا، وقلت: “اهلًا وسهلًا، خير إن شاء الله!”
“معي رسالة منه.. أوصاني أن تصلك اليوم”
لم أجد بدًا من الترحاب به.. أدخلته إلى غرفة المكتب والضيوف الضيقة.. غرفة ذات غرضين، وهي خالية من الكتب، فيها مكتب خشبيّ متآكل الحواف، وثلاثة مقاعد بأقدام شبه عرجاء وتنجيد خشن من قش الأرز، لاستقبال الضيوف، وعلى الحائط قبالة المكتب لوحة باهتة لأشجار كثيفة.. جرِبت خضرتها من تراكم الأوساخ على سطحها.. اشتريتها من بائع الروبابيكيا مع لوحة المرأة شبه العارية، التى أضعها قبالة السرير فى غرفة النوم.. رحبت به مع شيء من التصنّع.. لكنني شعرت بشيء من الود بدأ يتسرب ناحيته، حيت تعلّق نظري بالرسالة التي يحملها.. لاحظ ذلك.. فناولني إياها.. استأذنت منه لإعداد الشاي.. حاملًا معي الرسالة لأقرأها بعيدًا عنه؛ فأقسم علي ألّا أتعب نفسي.. ولكنني أصريت على أن أقدّم له الضيافة: “نحن فلاحين لا يصح ذلك.. كفاية تعب سيادتك” دلفت الى المطبخ الضيق الذي هو عبارة عن طرقة صغيرة تنتهي بمرحاض بلدي ودش أستخدمه حمّامًا.
خلطت قليلًا من الشاي الفرط بالمياه في براد اختفت معالمه من الخارج، وضعته على موقد البوتوجاز المسطّح، وفتحت الرسالة على عجل، كانت طويلة، لكنها لم تبدأ بالتحيات ولا السلامات، مما يجعلها مريبة، بل انعكس ذلك – للوهلة الأولى – قلقًا مكتومًا ومختلطًا برهبة انتقلت إلي بمجرد النظر إليها، وقلت في نفسي: “ليس هذا أسلوب أخي مدرّس التربية الدينية…” وشرعت في قراءتها:
أخي الغالي
لعلك بخير، أحبّ أن أبلغك أنّ الأمر فى قريتنا أصبح خطيرًا.. اتصلت بك ولم ترد، فأرسلت إليك رسالتي هذه، أرجوك ألّا تحضر فى العيد.. هناك واحد وعشرين حالة كورونا.. الذعر أحاط بالناس، أهل القرية يشعرون أنهم على مسافة أمتار من الموت، البعض يشعر أنّ الفناء التام للقرية أصبح قريبًا، لكنّ الغريب أنّ كورونا لم تظهر في قريتنا إلّا بعد قدوم شخص غريب ومريب. ظنّ الناس – في البداية – أنّه من رجالأامن الدولة، البعض قال: إنّه مندوبٌ لجهة سيادية جاء لدراسة مشروع بجوار القرية، وآخرون قالوا: وصل لدراسة شكاوى الأهالي.
الحيرة تتملك الأهالي، البعض يقسم: إنّ بعض ملامحه تتغير من يوم لآخر، وآخرون يقسمون: إنّ الغريب يظهر فى أكثر من مكان فى وقت واحد.. لا أحد يعرف بدقة.. رأيته مرتين من بعيد، لكنني لا أذكر ملامحه قبل الحظر بسبب جائحة كورونا، كان يجلس على المقاهي المتراصة فى مدخل القرية، يصلّي فى المسجد، ويتحرك في كلّ مكان، على الرغم من ذلك، لم يتفق أحد على ملامحه.. لا تندهش ستعرف سبب ما أحكيه لك.. الشائعة الأكثر تأكيدًا أنّه جاء؛ ليحقّق فى شكاوى أهل القرية ضد بعضهم البعض.. شوهد وهو يسجّل ملاحظات في أوراق صغيرة.. على الفور تغيّرت معاملة العمدة لأهل القرية.. قبل الحظر طاف بسوق القرية. الباعة ارتبكوا ظنًّا أنّه من مديرية التموين.. اختفت السلع الفاسدة.. التزموا بالأسعار.. حتّى مستأجري السوق التزموا لأول مرة بتعريفة الدخول.. كانوا يحصلون على خروج البقرة الواحدة خمسين جنيه، أخذوا عشرة فقط .. سبحان الله.. الشيخ عبد الهادي إمام المسجد ترك التكتوك الذي يعمل عليه، وانتظم فى الحضور للصلوات الخمس هو وعمال المسجد.. لم يكن يحضر إلا صلاة العشاء إن حضر.. ألقى درسًا بين المغرب والعشاء ــ حسب تعليمات مديرية الاوقاف ــ عن الإخلاص للوطن وطاعة أولياء الأمر، وهاجم الإخوان المسلمين بضراوة.. جرجس البقّال صرف التموين كاملًا من دون أي نقص فى السلع أو زيادة في الاسعار.. أعضاء الجمعية الزراعية صرفوا السماد كاملًا، أحرقوا الدفاتر التي فيها حيازات مزورة.. أم ياسمين أوقفت بيع البانجو للشباب.. رحلت عن القرية.
أغرب إشاعة أنه من أولياء الله، جاء ومعه الكورونا كجند من جنود الله ليعاقبنا؛ بعد انتشار الفساد فى القرية عشر حالات طلاق بسبب علاقات آثمة قبل الزواج على الفيس بوك، منهم حالات لم تكمل أسبوع زواج.. يقسم الشيخ رمضان شيخ الطريقة الساداتية أنّ الرجل من العارفين الأولياء الأتقياء.. أهل الخطوة والكرام. قيل: إن الغريب يذهب إلى الشيخ رمضان، زعم الشيخ أن هذا الرجل مندوب الله، المهم.. الجميع يخاف منه.
فكّر جيدًا، أمن الممكن أن نمزّق العقد اياه.. ونعيد ميراث أختك.. أنت تعلم أنه تزوير رسميّ، بعد أن حصلنا على حكم بصحة توقيع والدك المزوَّر.. صحيح أنّ أختك رضيت.. لكن سمعت أن زوجها هددها بأنّه سيبلغ الشرطة.. أرجوك أخبرني ماذا نفعل؟ الكورونا قد تعجّل بنا للقاء الله، وأنا خائف من الحساب.. خائف على أولايى من المال الحرام.. كما أنّ الشخص المريب الذى ظهر فى القرية شاهده عبد المعبود ابن خالك، وهو يقف مع زوج اختك، الأمور دخلت فى بعضها.. لا أحد يعرف هل هو مخبر للحكومة، أو من العارفين بالله، او من أى مصيبة.
الغريب في الأمر أن البعض شاهده فى جلباب بيضاء وطاقية خضراء، تدلّ على أنه من السادة البرهامية، والبعض قال حمراء فهو من اتباع السادة البيومية.. الكلام كثير.. لكن أكثر الناس شاهدوه يرتدى دائمًا بدلة زرقاء ورباط عنق أحمر.
توقّفت برهة عن قراءة الرسالة.. تراجعت بخاطري، ألم يكن القادم بالرسالة يرتدي بدلة زرقاء ورباط عنق أحمر.. زادت دقات قلبى.. ارتبكت .. طويت الرسالة، وخرجت لأتأكد.. لم يكن أحدٌ بالغرفة، لكنّ باب الشقة كان مواربًا، أسرعت أنظر الى السلم.. ثمة شخصٌ يهبط مسرعًا.. وقع أقدامه تدل على ذلك، عمودية السلم لم تسمح لي بتبين ملامحه.. لم أتأكّد من أنه هو!
ما الذى يحدث.. نظرت فى الرسالة، كانت مجرد ورقة بيضاء.. لا يوجد بها كلمة ولو حرف واحد، زادت حدة ضربات قلبي بدأ العرق ينساب من جبهتي.. هل احتضنني ليصيبني بالكورونا؟ هل سينشر فضيحة العقد إياه؟ هل كان هنا فعلًا؟ دارت بي الدنيا تحسّست وجهي، هل أنا يقظ؟! هل لا زلت نائمًا؟ لم أعرف ما يحدث بالضبط.. لكنني سمغت صوت فوران المياه الساخنة على موقد الغاز.