الشعر عند هايدغر *... ترجمة وتقديم: عبد السلام بنعبد العالي

في سنة 1974 وجّه شابان شاعران إلى جان بوفري اثني عشر سؤالاً فيما يخصّ هايدغر. نُشرت الأجوبة في السّنة نفسها في العدد الخامس من مجلة «لي بيل ليتر»، قبل أن تُنشر منقّحة فيما بعد في كتاب خاصّ. وجان بوفري 1907-1982 فيلسوف فرنسي تميّز بعلاقته الوثيقة مع هايدغر، لعل أكثر دلالاتها شهرة الرّسالة التي وجهـها إليه الفيلسوف الألماني، والتي نشرت فيما بعد تحت عنوان: «رسالة في النزعة الإنسانية».
وقد اطّلع هايدغر نفسه على هذه الأسئلة وعلى الأجوبة التي ردّ بها المفكر الفرنسي، فراسل الشاعرين بصددها، كما راسل صديقه جان بوفري معلّقاً على إجاباته.
ومن بين الأسئلة الموجّهة، كان هناك سؤال خاصّ بالشّعر، وكان على الشكل التالي:
لماذا تساءل هايدغر حول الشّعر؟ وماذا تتميّز به أبحاثه من أصالة نسبةً إلى اللسانيات المعاصرة؟
فكان جواب جان بوفري كالتالي*:
ردّاً على الشقّ الأول من السّؤال، أجيب بكلّ بساطة: لمَ لا؟ لقد أوْلَت الفلسفة اهتمامها للشّعر منذ ما يقرب من مائتي سنة. بل إنّها وفّرت له ملحقة اعتقدت أنّ بإمكانها أن تُسكِنه فيها أطلقت عليها منذ كانط مفهوم الجماليات أو الإستيتيقا Esthétique. وتوجد اليوم «متخصصات في التّزيين والجماليات» تَهَيّأن للاعتناء بالجمال، مثلما توجد كراسي علم الجمال في الجامعات. غير أن الجماليات ليست عند هايدغر إلا النّظرة التي تنظر بها الميتافيزيقا للجميل وللعمل الفني. وحسب الجماليات، إن علاقة الإنسان بهذا النّوع من الأشياء تسمى «افتتاناً» délectation. وهذا اللفظ ذو إيحاء كبير. ويظهر أنه في اللغة الفرنسية من عائلة لفظ Lecture أي قراءة، ومن ثمّ فهو يرتبط بما كان الإغريق يدعونه لوغوس Logos. إلّا أن هذا ليس إلا مظهراً خادعاً أيضاً، إذ إن اللفظ يُشتقّ في الواقع من جذر آخر يقول إن من يفتتن هو بكل بساطة من تغريه شهية الطيّبات. لقد كتب هايدغر في المدخل إلى الميتافيزيقا:
«عند الإغريق الوجود والجمال مترادفان. أما اليوم، فإن الجميل يمتّ بالصّلة إلى مجال الحلواني». وبالطبع، فإن الحلاوة الجمالية في حاجة إلى أن تطعَّم بالتوابل أو الفلافل المتنوّعة! إلا أنها تظل السلعة نفسها. وعندما يتحدث هايدغر عن الشعر، فهو لا يسعى قطّ إلى تجديد علم الجمال، وإنما ليثبت أن العلاقة بالجميل لا يمكن أن توصف بأنها جمالية إلا من وجهة نظر الذاتية، تلك الذاتية التي تفترض، ولنقُلها، حتى وإن لم يكن الأمر ليروق لهوسرل «المعيش». وربّما بهذا تمكَّن هايدغر من أن يكتسب صداقة بعض الشّعراء ويثير فظاظة المدّعين الذين لا يرون في الشعراء إلا مناسبة لأن ينظموا لهم شيئاً من «علم الشّعر»، على حدّ قولهم، وهذا ليس إلا اختناقاً للقصيد مثلما أن اللاهوت عند نيتشه اختناق للاهوتي.
وأصِل الآن إلى الشقّ الثاني من السّؤال. صحيح أن اللسانيات الحديثة تزعم أن الشّعر، باعتباره ظاهرة لغوية، فهو من اختصاصها. أما عن اللغة ذاتها، فإنّها تختزلها بصفة تقريبية إلى العلاقة بين دالّ ومدلول. والأوّل يحيل رمزياً إلى الثاني بفضل اللغة من حيث إنها منظومة دلائل وعلامات. ويعتقد هايدغر أن هذا الأمر اختزال للّغة إلى ما ليست إياه فحسب، إلى ما ليست إيّاه بدْءاً، وخصوصاً بالنّسبة للشّاعر. ولا يستعمل الشاعر دلائل للإحالة إلى مدلولات. وصناعته، كما كان يقول بول إيلوار P. Eluard «هي أن يفسح المجال للرؤية». ويضيف رينيه شار René Char: وهي بذلك «صناعة طلائعية». وهذا يعني أن الشاعر إن كان يلجأ إلى اللغة، فليس ليبعث من جديد ما سبقت معرفته بفضل ألفاظ نُظمت في قضايا، وإنما ليرقى إلى الظهور بما لا يظهر في مستوى الكلام الجاري إلا بشكل ضئيل. وعندما يعجب بودلير بكون فكتور هوغو استطاع أن يقول:
أيها الزمان المنْساب، أيتها الرّوعة الخاسفة
أيتها الشمس التي غربت وراء الأفق!
فإنه كان يحيّي في هوغو شيئاً من بودلير، ولنفهم من ذلك ما كان شاعر آخر قد سمّاه «إبانة للغة الفرنسية» تجمعها اجتماعَ قمة. هذا أمر يعرفه الجميع أتمّ معرفة، بيد أن بادئ الرأي لا يعدّه إلا حالة شاذة، أي أنّه يرى فيه ما يخرج عن القاعدة، ولا يرى فيه بأيّ حال ما يؤسّسها. غير أن هولدرلين يقول:
لكن ما يبقى ويدوم، يؤسّسه الشّعراء.
ينتمي إلى ما يبقى كذلك نزولُ اللغة إلى مستوى الكلام الجاري، كما علّمنا منذ الفجر الإغريقي برمينيدس في قصيدته التي ترفع عالياً قوة تسمية اللغة الإغريقية. ولذا أمكن لهايدغر أن يقول: «ليس الشعر ارتفاعاً بالكلام الجاري. لنعكس الآية. بالأحرى ليس الكلامُ الجاري إلا قصيدة تُنُوسِيت وأنهكَها الاستعمال، فبالكادّ يتمكن من أن يصدر عنها نداء». وتحرص اللسانيات أشدّ الحرص ألا تعكس الآية، وهي تدّعي تحديد الشّعر ليس فحسب انطلاقاً من الكلام الجاري وحده، ولكن بفضل خطاطات تظهر منسجمة مع الكلام الجاري، شريطة فصله بطبيعة الحال عن علاقة أكثر خفاءً من الشّعر نفسه. كان ميكائيل-آنجل يقول: «الطين حياة، والجبس موت، إلا أن الرّخام بعث»! تختزل اللسانيات الرّخام في جبسِ تقسيماتها العلموية، فتزعم انطلاقاً منها التمكّن من رخام اللغة. حقّاً، إن ذلك ليس أمراً محظوراً، إلا أنه سيغدو من الصّعب حينئذ الانفلات من مواجهة أكثر أصالة.


* المصدر:
*Eryck de Rubercy&Dominique Le Buhan, 12 Questions posées à J. Beaufret à propos de M. Heidegger, Aubier, 1983. pp60- 57.
أعلى