عبدالسلام بنعبد العالي - مسألة التراث عند مارتن هايدغر...

كتب هايدغر في "تجربة الفكر": "يظل الأقدم في كل ما هو قديم يلاحقنا، ولا بد أن يدركنا". تفيد هذه الملاحقة مفهوما معينا عن التاريخ لاينحل إلى مجرد حركة صيرورة تقدمية يتجاوز فيها اللاحق السابق، وإنما يغدو، على العكس من ذلك، حركة حاضر يمتد بعيدا نحو الماضي، ولا يكون تذكرا له فحسب، وإنما تنبؤا واستقبالا. لا تتحدد حركة التاريخ عند هايدغر كشيء تم وحصل، مثلما هو الأمر عند هيجل؛ فالتاريخ لا يتم هنا كحصول، والحصول لا يقتصر على انسياب الزمن. إن التاريخ ليس تعاقبا لعصور، وإنما هو اقتراب للشيء ذاته. بيد أن هذا الاقتراب لا يعني إرجاع التاريخ إلى حاضر دائم، إنه، على العكس من ذلك ابتعاد عن الأصول. التاريخ حركة " تفلت من يديها لحظة البداية وتضيّعها". ذلك أن الحاضر لا يحضر. أما الماضي، فهو لا يحضر ولا يمضي. إن الحاضر دوما حاضر "مرجأ، وهو في تباعد دائم عن نفسه. إنه تائه ضال.
النتيجة الأولى التي تتمخض عن هذا المفهوم عن التاريخ هي أن التراث ليس مفهوما زمانيا، فهو لا يتطابق ونمط الزمان الماضي، وهو ليس "شيئا مضى، ليس موضوعا من موضوعات الوعي التاريخي". إنه لا يوجد وراءنا، وإنما " يجيء صوبنا لأننا معرضون إليه ولأنه قدرنا".
وبالمثل لا يعني مفهوم القدر هنا خلودا سرمديا أو جبرية كونية، وإنما يردنا إلى الأصل التاريخي، لا كبداية زمنية و"أصل أول"؛ فالأصل هنا ليس لحظة متميزة من لحظات التاريخ. الأصل ليس مبدأً تفسيريا، إنه ليس مبدأ ولا بداية زمنية، بل إن البداية، على العكس من ذلك، هي الغلاف الذي يحجب الأصل ويغلفه.
إن الأصل لا ينفكّ يبتدئ، إنه الفجر الذي لا ينفجر بغتة، والذي لا يفصح عن مكنونه إلا مساء الفكر؛ فالفجر -كما يقول أحد شراح هايدغر- "يظل معتما بالنسبة لذاته من حيث هو إشراقة أولى، ويأتي الأفول والمغيب كي ينكشف الفجر في حقيقته التي كانت محجوبة". ليس المغيب هنا مكانا تغيب عنده الإشراقة، وهو ليس ثقافة بعينها. فالـ L’Occident ليس وطنا ولا عرقا ولا أمة ولا قومية ولا بلدا، إنه لحظة انكشاففجر لم يكفَّ عن الإشراق. لذا يقول هايدغر عن اليونان "فجر الفكر الأوروبي": "في الوجود التاريخي الأصيل لا نكون لا على مسافة بعيدة، ولا على مسافة قريبة من اليونان. إننا نكون بالنسبة إليهم في التيه والضلال".
هذا التيه يجعل التراث يتصف عند هايدغر بخاصية مزدوجة: فبينما يشكل التراث عند هيجل ذخيرة العقل الواعي بذاته، ولحظات لنمو الفكر، فإنه، في نظر هايدغر، ينبوع وحاجز. فالتراث الذي لا يمكن للفكر أن يتجاوزه إلا بمحاورته، والذي هو الكفيل وحده بأن يمهّد لما لم يفكر فيه، يشكل في الوقت ذاته حاجزا دون ذلك. يقول: " إن التراث الذي يفرض سيادته، بعيدا عن أن يسمح بإدراك ما ينقله، فإنه غالبا ما يسهم، على العكس من ذلك، في تغليفه وحجبه، وهو يحط من محتواه، ويجعل منه مجرد بداهات، فيحول دون بلوغ المنابع الأصلية التي نهلت منها المقولات والمفهومات التقليدية في جزء منها على الأقل".
عندما بلغ هايدغر سن الثمانين كتبت حنة آرندت: "أحدهم.... إذ انفصم الحبل الذي يشده إلى التراث، اكتشف الماضي من جديد...فاستعاد الفكر حيويته، وتمكن من استنطاق الذخائر الثقافية للماضي، تلك الذخائر التي كنا نعتقد أنها ماتت، وهاهي الآن تقدم لنا أشياء تخالف أشد المخالفة ما كنا نعتقده". فوحده الفكر القادر على خلق الانفصال هو الذي يستطيع أن يعيد الوصل ويتمكن من استعادة الذخائر التي حجبها الماضي. يقتضي الحوار مع التراث إذاً تحرير الفكر الذي نُقل إلينا، فيتمكن من العودة إلى ما اختزن فيه وادّخِر، "إلى هذا الذي لم ينفك عن الوجود، هذا الذي يهيمن على التراث منذ بداياته، وكان دوما أسبق منه متقدما عليه، دون أن يفكر فيه بوضوح، ودون أن ينظر إليه كأصل".
ليس استذكار التراث إذاً استرجاعا لمبدأ تفسيري نعلل به تسلسل الوقائـع التاريخية. ولا يتم النظر إلى التراث هنا من خلال فلسفة في التاريخ ترد التاريخ إلى كلية ميتافيزيقية. إن الاسترجاع هنا، استرجاع لهوياتنا من حيث إن ذلك التراث تراثنا المنسي. غير أن النسيان لا يعني الغياب. إنه ليس قوة سلبية. النسيان قدرة إيجابية تغلق من حين لآخر أبواب الوعي ونوافذه، فتحول دون تدفق الماضي وسعيه لأن يحضر ويتجمد ويتطابق. ليس العود إلى التراث إذاً رجوعا إلى ماض تأريخي؛ فالتراث يعنينا ويهم حاضرنا "فيما ينطوي عليه من غموض وما يقوى عليه من طاقة مستقبلية". لكن ذلك لا يعني مطلقا أن الأمر يتعلق "ببعث نفس خالدة" تحيا عبر السنين، وإنما، على العكس من ذلك، "بإبراز نفوس فانية" طالها النسيان وهمشها التاريخ.
إن البحث عن الأصل لا يؤسّس، إنّه يربك ما ندركه ثابتا، ويحرّك ما نفترضه ساكنا، ويجزّئ ما نراه موحّدا، ويفكّك ما نعتبره متطابقا. تقصّي الأصول والحالة هذه هو التقويض الدائم لهويتنا، ذلك أنّ الهوية التي نسعى للحفاظ عليها وإخفائها تحت قناع، ليست هي ذاتها إلا محاكاة ساخرة: فالتعدّد يقطنها ونفوس عدّة تتنازع داخلها والمنظومات تتعارض فيها ويقهر بعضها بعضا. لكن هذه النفوس تظل مكبوتة مقموعة تحت ضغط الشكل الذي يفرض به التراث سيادته. ذلك أن هذا الشكل، بعيدا عن أن يسمح بإدراك ما ينقله، فإنه غالبا ما يسهم، على العكس من ذلك، في تغليفه قامعا محتواه، ليجعل منه مجرد بداهات؛ أي حواجز تخفي ذاتها بظهورها.



* عبد السلام بنعبد العالي كاتب مغربي وأستاذ الفلسفة




أعلى